مرة أخرى .. هل يقدر أصحاب الفضيلة؟!
إذا كان الأزهر قد نشأ — حسَب ما هو معلوم — كأداة لسلطة الشيعة، فإن ما جرى من تبدُّل السلطة قد أجبره على الانخلاع من مذهب الشيعة ليتبنى مذهب الدولة الجديدة. وإذا كان الأيوبيون — وهم أصحاب الدولة الجديدة — قد قاموا بتحييد الأزهر، بل وحتى إغلاقه عبر إبطال صلاة الجمعة في رحابه، بعد أن أدركوا أنه لا سبيل إلى نجاح خططهم في استئصال المذهب الشيعي من مصر إلا بهذا التعطيل، فإنه يبدو أن الأزهر قد استوعب الدرس من هذه المحنة التي استمرت على مدى مائة عامٍ تقريبًا (١١٧١-١٢٦٧م) وهكذا فإن الأمر لم يقف به عند حدِّ تبني المذهب السنِّي الذي استقدمت الدولة الجديدة الدعاة لينشروه في مصر من مختلف البلاد الإسلامية، بل إنه قد بالغ في التعصب له تكفيرًا، فيما يبدو، عن انتسابه الشيعي السابق.
ولقد جاء المذهب السنِّي إلى مصر بجناحيه (الشافعي) في الفقه، و(الأشعري) في العقيدة؛ حيث كان «الأيوبيون من الغلاة في المذهب الشافعي، وكانوا من أتباع الأشعري.» ولم يختلف عنهم من خلفوهم في احتياز السلطة على مصر من المماليك، الذين أخذ أحد أمرائهم (بدر الدين بيلبك الخازندار الظاهري) على عاتقه أمر استرجاع ما كان للأزهر من نفوذ قبل الأيوبيين. فقد «أنشأ منبرًا ومقصورة رتَّب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعي، ورتب في المقصورة أيضًا مدرسًا للحديث، وسبعة قُرَّاء لتلاوة القرآن الكريم. ورصد الأوقاف الدَّارَّة للإنفاق على تنفيذ هذا البرنامج، واسترد نائب السلطنة للجامع الأزهر الكثير من الأوقاف المحبوسة عليه، والتي كان بعض الناس قد اغتصبوها في أثناء حكم الدولة الأيوبية.» ولقد كان لزامًا أن يرث الأزهر «من هنا التعصب المذهبي الشديد (للشافعي والأشعري) إلى حدِّ الإفتاء بالكفر وعدم صحة الاقتداء بالمخالف في المذهب (العقائدي).» وخصوصًا بعد ما بدا من أن «العلماء قد أصبحوا في هذا العهد وما تلاه من عهود المماليك يعتمدون على الدولة، وما تعطيهم من إعانات، وما تُدره عليهم من غَلَّات أوقاف، أو نِظارات في حياتهم، مما مكَّن للدولة من [ضمان] بقائهم في صفِّها.» وبما يترتب على ذلك من فهم تعصبهم الزائد لمذهب الدولة.
ولقد كان لا بد أن يؤدي هذان العاملان إلى حصول ما جرى من التطابق الكامل بين الأزهر والمذهب؛ على النحو الذي جعل منه (أي الأزهر) مؤسسةً مذهبية بامتياز. وبطبيعته، فإن كل كيان مذهبي لا بد أن ينتهي به الحال إلى وضع الجمود والانغلاق؛ وهو الوضع الذي آل إليه الأزهر فعلًا بحسَب ما ظهر جليًّا لأحد أهم أعلامه في القرن التاسع عشر، وهو الأستاذ الإمام محمد عبده. ورغم ما يلزم قوله من أن بعضًا من رجال الأزهر قد لعبوا أدوارًا سياسية واجتماعية مشهودة انحازوا فيها إلى عوامِّ المصريين في مواجهة اعتسافات السلطة الغاشمة ومظالمها، فإنه يبقى أن ذلك لا يُغيِّر شيئًا من حال الجمود التي كانت عليها المؤسسة. وإذ يبدو أن الجمود هو قرين المذهبية، فإنه يمكن تصور أن أي محاولة لتخليص الأزهر من جموده لا بد أن تربط نفسها بالسعي إلى إخراجه من ضيق المذهبية. وبالرغم من أن بعضًا من رجال الأزهر الكبار، كالأستاذ الإمام محمد عبده وفضيلة الشيخ محمود شلتوت، قد حاولوا ذلك فعلًا وأظهروا قدرًا من الانفتاح على المذاهب المغايرة كجزءٍ من السعي إلى إخراج الأزهر من هذه المذهبية الضيقة. وهكذا فإنه إذا كان الأستاذ الإمام قد انفتح على مذهب المعتزلة (في العقيدة)، وأفتى الشيخ شلتوت بجواز التعبُّد بالمذهب الجعفري (في الفقه)، فإنه يبقى أن هذه الجهود قد ظلت فردية، ولم تؤثر على وضع المؤسسة ككل.
ولسوء الحظ، فإن المذهب (الشافعي/الأشعري) الذي انحاز إليه الأزهر، وتعصَّب له، لم يكن سجنًا له وحده فحسب، بل إنه كان بمثابة سجنٍ ينحبس داخله العالم والإنسان والعقل جميعًا. فإنه إذا كان القول في المذهب الأشعري، في العقائد مثلًا، يُحيل إلى جملة مفاهيم كلية تحكم كل ما يَرِد تحتها من أقوال؛ وبكيفية تجد فيها هذه الأقوال النظام الذي يجعلها قابلة للفهم والتفسير، فإنه يمكن القول بأن مبدأ «الإطلاقية» هو بمثابة الثابت الذي تتمحور حوله كافة الأقوال المنطوقة في إطار المذهب/الخطاب الأشعري. وتعني هذه الإطلاقية أن موجودًا أوحد هو الذي يتفرَّد دومًا بالفاعلية والتأثير الحقيقي، وأن كل ما سواه هو محض موجودات شبحية لا حقيقة لها في ذاتها، بل من حيث هي علامات تدل على هذا المطلق، أو من حيث هي أدوات يستخدمها.
وهكذا يصبح العالم — ضمن هذه الإطلاقية — مجرد علامة، كما يصبح الإنسان مجرد أداة. وإذا كان ليس من معنًى لكون الإنسان «أداة» يستخدمها غيره إلا أنه لا قدرة له ولا فاعلية، فإنه لا معنى لأن يكون العالم مجرد «علامة» إلا أنه لا معنى له في ذاته؛ حيث إن العلامة لا يكون لها معنًى في ذاتها، بل إن معناها يأتي مما يقف وراءها وتُشير إليه. وليس من شكٍّ في أن عالمًا كهذا هو عالمٌ غير محكومٍ بقوانين موضوعية يمكن للعقل أن يكتشفها ويستثمر معرفته بها في تحسين واقعه وتغييره للأفضل. وهكذا فإن حضور العالم كمجرد «علامة» يعني أنه لا يمكن أن يكون موضوعًا لعقلٍ يسعى إلى اكتشاف قوانينه والعلم بها، بقدر ما تكون موضوعًا لعقلٍ يسعى إلى الاستدلال منها على ما يقوم وراءها. وإذن فإنها تفتح الباب أمام تبلور العقل «الاستدلالي» الصوري، وليس العقل «الكشفي» العلمي. وهذا العقل الاستدلالي هو — في جوهره — عقلٌ لاهوتي دائري مغلق، لأنه ينتهي إلى نفس النقطة التي يَبتدئ منها. فإن ما يقوم وراء العلامة يكون هو نقطة البدء والمنتهى أيضًا.
وهكذا فإن الإطلاقية تنتهي إلى عالمٍ بلا معنى، وإنسانٍ بلا قدرة، وعقلٍ دائريٍّ مغلق؛ بما يعنيه من الإفقار الكامل لكلٍّ من العالم والإنسان والعقل. فهل يقدر أصحاب الفضيلة على تفكيك تلك الإطلاقية؟!