تتعدد المذاهب والنظام واحدٌ
عن المذهبية والدين والسياسة
لم يتوقف التاريخ، منذ ابتداء تبلوره، عن ترك بصمته البارزة على جسد
الدين؛ أي دين. فعلى الدوام كان الدين (سواء كان تنزيلًا من ربِّ
السماء أو من إنتاج أهل الأرض) موضوعًا تُمارِس عليه الشروط الاجتماعية
والسياسية تحديداتها الصارمة. ولم يكن الإسلام استثناءً من هذه القاعدة
التي يبدو أنها ليست قابلةً للتخلف أو الفوات أبدًا. فقد كانت السياسة
هي التي أشعلت الحرائق التي لم تنطفئ حتى اليوم في الإسلام. ومن هنا
فإنه إذا كان الشهرستاني قد راح يعدِّد مسائل الخلاف التي ارتبطت نشأة
المذاهب بالتنازع حولها، فإنه قد لوحظ أن هذه الخلافات — التي حصلت بين
المسلمين في أعقاب وفاة النبي الكريم — تنتمي جميعًا إلى مجالَي
الاجتماع والسياسة؛ على النحو الذي أدَّاه إلى اعتبار «خلاف الإمامة هو
أعظم خلاف بين الأمة.» وهو يَرُدُّ أعظمية هذا الخلاف إلى ما جرى من
تقاتل المسلمين عليها بالسيوف؛ «إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة
دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان.»
١
وهنا يلزم التنويه بأن قيمة عبارة الشهرستاني السالفة تأتي من
انطوائها على القاعدة الرئيسة التي تقدر على تفسير «الفكرة المذهبية»؛
والتي تقضي بأن «خلافات السياسة» تتحول إلى «قواعد في الدين». فإنه إذا
كانت السياسة هي التي أطلقت شرارة النار تصارعًا وتقاتلًا بين المسلمين
في صدر الإسلام، فإن استمرار هذا التقاتل بينهم حتى اليوم قد ارتبط بما
جرى من المراوغات التي راحت معها السياسة تخفي نفسها وراء أقنعة الدين.
وقد ارتبط إمكان هذا التخفِّي بحقيقة أن الدين كان هو الإطار الذي
استمدَّ منه المسلمون آنذاك اللغة وأساليب الحِجاج والشواهد النصيَّة
التي يديرون بها معاركهم السياسية؛ وبما أمكن معه للسياسة أن تُحيل
نفسها إلى دين. وإذ يكون «المذهب» — والحال كذلك — هو الإطار الذي جرى
ضمنه هذا التحوُّل للسياسة إلى دين، فإن ذلك يكشف عن حقيقته بما هو محض
إطارٍ تنصهر فيه جملة مواقف اجتماعية وسياسية يُخفيها أصحابها تحت قشرة
سميكة من الدين. وليس من شكٍّ في أن تلك السيرورة من التحولات هي ما
يقف وراء ما صار إليه الشهرستاني (الأشعري/السنِّي) من اعتبار الإمامة
— بحسب ما تقول عبارته — «قاعدة دينية» رغم أن أصول مذهبه تلزمه
باعتبارها «مسألة سياسية». ولعل ذلك يكشف عن أن ما استقر، في التجرِبة
التاريخية للمسلمين، من التعالي بالسياسة إلى حيث تصبح دينًا، قد كان
من القوة بحيث لم يَقدِر أحد كبار منظِّري التقليد السنِّي على مفارقة
هذا المستقِر بخصوصها، ولو اقتضى منه ذلك أن يتنكر لأصول المذهب الذي
ينتمي إليه. وينشأ ذلك عن مفارقةِ أنه رغم أن السياسة تكون هي نقطة
البَدء في تبلور المذاهب العقائدية، فإنها تطلب منها (أي هذه المذاهب)
أن تخفي حقيقة هذا الارتباط على نحوٍ كاملٍ؛ وبحيث لا تُشِفُّ تلك
المذاهب أبدًا عما يكشف روابطها الخفيَّة مع السياسة. ولعل الأصل
المؤسِّس لهذا الإخفاء إنما يتمثَّل فيما يهبه لمطالب السياسة من مطلق
الدوام والرسوخ.
ومن هنا فإنه إذا كان المذهب هو التركيب الذي تنخلع فيه صراعات الناس
من رداء «السياسة» لتتلبس بزي «القداسة». فإنه يكون هو الأداة التي
تنتقل بها تلك الصراعات من وضع «المؤقت» والعارض إلى وضع «المؤبد»
والخالد. ويرتبط ذلك بأن هذه الصراعات تتحول — عبر هذا الانتقال — من
«أحداث» تتحدد بشروط التاريخ وسياقه إلى «معتقدات» عابرة لأسوار الزمان
وتحديداته. وإذ ينتقل المذهب بالخلاف من كونه مجرد «حدثٍ» إلى أن يصبح
«معتقدًا» من خلال ما يقوم به من فكِّ الروابط بينه وبين التاريخ، فإنه
ليس ثمة من سبيل لتحويل المذاهب من بنياتٍ متعاليةٍ يخضع البشر لسطوتها
الباطشة إلى إطارات كاشفةٍ عما يقوم بينهم من التعدد والتنوع واختلاف
الرؤى والمصالح، إلا عبر تفكيك تلك العمليات التي تمكنت عبرها من فك
روابطها مع التاريخ ووضع نفسها كبنيات متعالية يقدِّسها الناس، ولو في
تعارضٍ مع تعاليم الدين نفسه. وحين يدرك المرء أن هذه البنيات المذهبية
المتعالية تتحول الآن — أو تكاد — إلى ألوية يتقاتل المسلمون تحت
راياتها القاتمة، فإنه يلزم التأكيد على أنه ليس من سبيل أبدًا للخروج
من دوائر العنف المذهبي الراهن إلا بالخروج من كهوف الماضي وسراديبه
الخانقة المميتة. وبالطبع فإنه لا سبيل للخروج من هذا الماضي إلا من
خلال السيطرة عليه وتحويله إلى تاريخ له منطقٌ يحكمه، بدلًا من استمرار
حضوره كإطار لنماذج مثالية يقاربها الناس كمعايير يقيسون عليها سلوكهم.
وليس يعني تحويل الماضي إلى تاريخ إلا الوعي بالسياقات التي تحولت فيها
أحداثه إلى معايير مثالية، من خلال ما جرى من الصعود بها إلى السماء
التي تحولت فيها إلى «عقائد»؛ بمثل ما جرى مع الإمامة التي تقدم المثال
النموذجي على تحول ما هو تاريخي من «حدثٍ» إلى «اعتقاد». وتتمثل الآلية
الرئيسة لتحويل الماضي إلى تاريخ في الارتداد بما حدث فيه إلى دنيا
الناس باعتبارها محض «وقائع» يستحيل فهمها خارج المحدِّدات المُنتِجة
لها على الأرض. وهنا يُشار إلى أن الإمامة مثلًا هي من قبيل الماضي
الذي لم يصبح تاريخًا، بل صار معتقدًا يلزم استعادته ورَدُّه إلى دنيا
الناس من السماء التي تعالى إليها. ولعل هذه الاستعادة هي جوهر ما
ينبغي أن ينشغل به المسلمون الآن ليحرروا أنفسهم — ومعهم دينهم — من
ضيق المذهبية وتعصباتها القاتلة.
وإذ يئول ذلك إلى أن «العقيدة» كانت هي الفضاء الذي انفجرت داخله
المذهبية بكل تعصباتها القاتلة، فإن ذلك يرتبط بأنها — أي العقيدة —
كانت هي الساحة التي مارس فوقها المسلمون اختلافاتهم في السياسة. ولقد
كانت السياسة آنذاك مثارًا للفتن والتعصبات؛ حيث لم يكن العرب يمارسون
السياسة، في هذا العهد، إلا بالعصبية. فإذ السياسة — على قول ابن خلدون
— هي «كل أمر تُحمَل عليه الكافَّة.» فإن هذا الحَمْل «لا بد له من العصبية.»
٢ وبالطبع فإن ذلك يرتبط بحقيقة أن العرب كانوا «أكثر بداوة
من سائر الأمم، وأبعد مجالًا في القفر، فصعب انقياد بعضهم لبعض
لإيلافهم ذلك وللتوحش، ورئيسهم مُحتاج غالبًا للعصبية التي بها
المدافعة، فكان مضطرًّا إلى إحسان ملَكَتهم، وترك مراغمتهم (يعني
مُعاداتهم) لئلا يختل عليه شأن عصبيته، فيكون فيها هلاكه وهلاكهم.
وسياسة المُلك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعًا (حاكمًا) بالقهر،
وإلا لم تستقم سياسته.»
٣ وهكذا فإنه إذا كانت طبائع العمران السائد بين العرب قد
قضت بأنه لا سبيل إلى ممارسة السياسة إلا بالقهر، فإن ذلك قد أدى إلى
جعل «العصبية» — بكل ما يصاحبها من معاني القهر والغلبة — هي المُحدِّد
الأهم لممارسة السياسة آنذاك. وليس من شكٍّ في أن هذه الخبرة في ممارسة
السياسة بالعصبية لم تكن لتختفي من عالم العرب على نحوٍ كاملٍ بعد ظهور
الإسلام. بل إن قولًا منسوبًا إلى الإمام علي — يُندد فيه بخصومه
قائلًا: «ألا إن بليَّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم»
٤ — يكشف عن أن ذات الممارسة التي كانت حاضرةً قبل الإسلام
قد عادت، بعد وفاة النبي، على نفس الهيئة التي كانت عليها. وحتى
بالتجاوز عن ذلك، فإنه يبقى أنه كان على هذه الممارسة أن تحضر، مع
الإسلام، مُتخفيةً تحت أردية العقيدة وأستارها الثقيلة التي لا تشفُّ
عما وراءها. ومن هذا ما جرى من تحول «العقيدة» في الإسلام إلى ساحة
تتفجر فوقها تصارعات العصبية ومنازعاتها الدامية.
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كانت «العقيدة» هي الساحة التي تبلورت
فيها «المذهبية» كفضاءٍ للفتن والتعصبات، فإن المذهبية التي تبلورت في
إطار الفقه والشريعة كانت عنوانًا على ضربٍ من المرونة والانفتاح الذي
اتسعت معه لاختلاف أعراف الناس وعاداتهم. ولعل ذلك يرتبط بأنه إذا كانت
«السياسة» هي التي أنتجت التمذْهُب في «العقيدة»، فإن التمذْهُب في
«الشريعة» قد أنتجه تباين الأعراف والتقاليد بين الأمصار التي دخلها
الإسلام. فقد جرى الإقرار بهذا التباين بين الأعراف بوصفه شرطًا
مُحدِّدًا للتفكير في الشريعة، إلى الحد الذي جرى معه اعتبار العُرف
الخاص بكل قومٍ دليلًا شرعيًّا كالنص تمامًا؛ حتى لقد قال أحدهم:
«الثابت بالعرف كالثابت بالنص.» وقد ارتبط ذلك بالنظر إلى الأعراف
كحقائق موضوعية قائمة يستحيل القفز فوقها؛ حيث تتعلق بما يفرض نفسه على
البشر من دون أن يكون في قدرتهم الانفلات من سطوته أو الفرار من نفوذه.
إذ هي تتحول إلى جزءٍ من بناء اللاوعي الثقافي (بدلالتيه الشعورية
والمعرفية) للبشر؛ وعلى النحو الذي تصبح معه جزءًا من البناء الهيكلي
لذواتهم نفسها. إن ذلك هو ما جعل الشريعة تتسع لها لكي لا يقع الناس في
الحرج الذي قد يجدون أنفسهم معه مضطرين لمفارقة الدين ذاته. وعلى العكس
من العرف، فإن السياسة تتعلق بانحيازاتٍ وخياراتٍ تتصارع فيما بينها،
وتقبل أن يتحول المرء من أحدها إلى غيره؛ ولو تحقق هذا التحوُّل قهرًا.
ومن هنا فإن العقائد تتحول إلى ساحات حروب ومنازعة؛ وإلى حدِّ أن
«الله» نفسه يتحول إلى قناعٍ تُغطي به السياسة معاركها التي لا تنتهي
من أجل الهيمنة والإقصاء. ولهذا فإنه إذا كانت ثقافة الإسلام قد اتسعت
لاختلافات الأعراف والتقاليد التي تعبِّر عن نفسها على مستوى الفقه
والشريعة، فإنها لم تتسامح بنفس القدر مع خلافات السياسة التي تعبر عن
نفسها على مستوى العقيدة؛ حيث استحالت هذه الخلافات إلى مُحفزات
للتكفير المتبادل بين الفُرقاء.
وإذ يكون المذهب، في مجال العقائد بالذات، هو الإطار الذي يتخفَّى
فيه «السياسي» وراء «الديني»، فإن ذلك يعني وجوب أن تكون العقائد هي
الساحة التي يتحقق فيها تفكيك هذا النوع من المذهبية الذي لا تزال
آثاره تتداعى في شكل انفجارات دمويةٍ متواترة. ولعل نقطة البَدء في هذا
التفكيك تنطلق من وجوب الوعي بالقاعدة الأكثر مركزية في بناء الثقافة،
على العموم، في الإسلام. وتتمثل هذه القاعدة فيما يبدو من أن الكثير
مما تبلور في حقل النظر — كأبنية نظرية تتضافر فيها شبكة من المفاهيم
ذات طابعٍ معرفيٍّ خالص تجعل لها وجودًا شبه منفصل عن الواقع — كان في
البدء ممارسة سياسية ذات طابعٍ واقعيٍّ. وهكذا فإن ما تبدو عليه
الإمامة في النظر كبناء تتشابك داخله مجموعة مفاهيم (عن النص والوصية
والعصمة والغيبة والرجعة والمهدوية والولاية والظاهر والباطن والأدوار
والأكوار وغيرها) تتضافر فيما بينها في خلق عالمٍ يكاد ينفصل عن
الواقع، لا يلغي حقيقة أن هذا البناء المفاهيمي المُعقد هو المُعادِل
في عالم النظر لممارسة انطلقت من الواقع في البدء. ومن هنا إمكان
الانتهاء إلى ما يمكن أن يكون قانونًا يثبته التحليل، وبمقتضاه يبدأ
الأمر كممارسة سياسية ذات طابعٍ عمليٍّ، في الواقع، ثم سرعان ما يتم
التعالي بها، في الثقافة، إلى مفاهيم ومقولات ذات طابعٍ نظريٍّ. ويكاد
هذا التعالي أن يعكس ما لاحظه ابن خلدون من التفاوت بين مراتب السيف
والقلم في الدول. فإنه إذا كان «السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة
يستعين بهما على أمره، فإن الحاجة في أول الدولة تكون إلى السيف، ما
دام أهلها في تمهيد أمرهم، أشد من الحاجة إلى القلم؛ لأن القلم في تلك
الحال خادمٌ فقط منفذ للحكم السلطاني.»
٥ وهكذا فإن كون السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة لم
يمنع ابن خلدون من ترتيب العلاقة بينهما على النحو الذي يكون فيه القلم
تابعًا للسيف. وهنا يلزم التنويه بأن تبعية القلم للسيف لا تقف فقط عند
مجرد أن اشتغاله يكون لاحقًا على اشتغال السيف، بل ومن حيث إنه يكون
مطلوبًا في مرحلة استقرار الدولة ليقوم لصاحبها — ولكن في مجال النظر —
بنفس ما كان يقوم به السيف؛ حيث يصبح «آلته التي بها يستظهر على تحصيل
ثمرات مُلكه، والنظر في أعطافه، وتثقيف أطرافه، والمباهاة بأحواله.»
٦ وإذن فإن القلم هو مجرد آلة تؤدي لصاحب الدولة نفس المهام
التي يؤدِّيها السيف، ولكنه فقط يتعالى بها من المجال الذي تكون [فيه]
موضوعًا لممارسة واقعيةٍ إلى حيث تكون موضوعًا لتفكير ونظر. ويرتبط هذا
التعالي بمهام السياسة إلى حيث تصبح ذات طابعٍ نظريٍّ مجرد، بالسعي إلى
منحها سِمَتَي الديمومة والرسوخ التي يُضفيها النظر على موضوعاته. وحين
يضيف المرء إلى ذلك أن الدين كان هو القشرة التي يتغطَّى بها هذا
النظر، فإن ذلك يعني أنه السعي إلى إضفاء القداسة على المفاهيم
للارتفاع بها إلى مقام «المطلقات» التي يستحيل تحدِّي سلطتها
أبدًا.
ومن حسن الحظ، أن السياقات التي ابتدأ تبلور العقائد الإسلامية
داخلها، في القرن الأول الهجري، إنما تتكشَّف — أو تكاد — عن الفاعلية
شبه المطلقة لقاعدة تخفِّي «السياسي» وراء قناع «الديني»؛ سواء على
صعيد الفِرق المتصارعة الأسبق في النشأة، أو حتى على مستوى الصيغ
العقائدية التي تحاربت بها هذه الفرق. فإن نظرة مدققة على مجرد
التسميات التي جرى إطلاقها على الفرق الأولى (خوارج – شيعة – مرجئة -
معتزلة وغيرها) تكشف عمَّا يسكن هذه التسميات من حمولاتٍ سياسيةٍ
ثقيلة. إذ تبدو هذه الفرق جميعًا مُنتسبة إلى مواقف سياسية هي الأصل في
اشتقاق التسمية الخاصة بكل واحدة منها. وتكاد هذه المواقف جميعًا أن
ترتبط بالحدث الأكثر مركزية في التاريخ السياسي والثقافي للمسلمين؛
والذي هو حدث الفتنة من دون جدالٍ. فإذ مضى الشهرستاني إلى «أن أول من
خرج على أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب — رضي الله عنه — جماعة ممن
كان معه في حرب صفين.»
٧ فإنه كان بذلك يرد تسمية «الخوارج» إلى موقفٍ يتعلق برفض
جماعة من المنخرطين في جيش الإمام عليٍّ (كرَّم الله وجهه) للخيارات
السياسية التي وجد نفسه مُضطرًّا للأخذ بها. وفي مقابل هؤلاء الذين
خرجوا على الإمام عليٍّ اعتراضًا على خياراته السياسية، فإنه كان هناك
من «شايعوا عليًّا — عليه السلام — على الخصوص.»
٨ وهم «الشيعة» الذين اكتسبوا تسميتهم من مشايعتهم (أو
مناصرتهم) للإمام في مواجهة الخارجين عليه. وبخصوص «المرجئة»، فإنهم قد
اكتسبوا تسميتهم من «الإرجاء» الذي هو — في جوهره — موقفٌ في تقييم
التداعيات المترتبة على أحداث الفتنة. فإذ قيل: إن الإرجاء هو «تأخير
صاحب الكبيرة إلى القيامة، فلا يُقضى عليه بحكمٍ ما في الدنيا؛ من كونه
من أهل الجنة، أو من أهل النار.»
٩ فإن ذلك يعني تعلقه بالسعي إلى إسكات ما يؤدي إلى إذكاء
الصراع بين المسلمين نتيجة اشتجارهم حول توابع الفتنة؛ وهو هدفٌ
سياسيٌّ بالطبع. وحين يدرك المرء أن تسمية «المعتزلة» قد نشأت، بدورها،
من الموقف الذي اعتزل فيه واصل بن عطاءٍ مجلس أستاذه الحسن البصري إثر
اختلافهما حول نفس مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة التي نشأ منها
«الإرجاء»، فإن ذلك يعني أن نشأتها تعكس الارتباط بتوابع الفتنة
أيضًا.
والحق أن اختراق السياسة للعقائد لم يقف عند مجرد ما تركته من بصمةٍ
بارزةٍ على تسميات الفرق العقائدية، بل إنها تتعدَّى إلى ما تطفح به
الصيغ العقائدية المبكرة نفسها من حمولة سياسيةٍ ملفتة. فإن هناك من
الشواهد ما يُفيد بأن حمولة السياسة في هذه الصيغ العقائدية كانت ثقيلة
إلى الحدِّ الذي جعل البعض يربط هذه الصيغ، على نحوٍ مباشر، بالأدوار
التي كانت تؤدِّيها في منازعات السلطة وحروبها. من ذلك مثلًا ما أورده
القاضي عبد الجبار المعتزلي من أن «رأي المُجْبِرة قد حدث من معاوية،
لما تولى على الأمر ورآهم لا يأتمرون بأمره، فجعل لا يُمكنه حُجَّة
عليهم، وأوهم أن المُنكِر لفعله قد ظلمه، فقال: لو لم يرني ربي أهلًا
لهذا الأمر ما تركني وإياه، ولو كره الله ما نحن فيه لغيَّره … (ومن
هنا) أن الجبر نشأ في بني أمية وملوكهم، وظهر في أهل الشام، ثم بقي في
العامة وعَظُمت الفتنة فيه.»
١٠ أو ما قاله أحدهم، في الرد على سؤال الخليفة العباسي
المأمون: ما الإرجاء؟ من أنه «دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم
وينقصون من دينهم.»
١١ وإذ يحيل ذلك إلى أن كلًّا من «الجبر» و«الإرجاء» قد
ارتبطا بأداء أدوارٍ سياسيةٍ في خدمة أصحاب السلطة من خلفاء الأمويين
والعباسيين (تتمثل فيما يصيبون بهما من دنياهم)، فإنه يمكن المصير إلى
أن ما ورد منسوبًا إلى الحسن البصري من «قول في وصف القَدَر» قد ارتبط،
في المقابل، بالدور الذي يلعبه هذا القول في خدمة المناوئين لهذه
السلطة الجبرية/الإرجائية.
فإذ ينبني الجبر على تصوير البشر خِلوًا من القدرة، فإن الدور
السياسي له يتمثل فيما يؤديه من خدمة مزدوجةٍ للسلطة. فهو يئول — من
جهة — إلى أن يرفع عن «الحاكم» عبء المسئولية عن أفعاله، وبما يمنع عنه
أن يكون عُرضة لأي مساءلةٍ أو حساب، في مقابل ما ينتهي إليه — من جهة
أخرى — من ترسيخ عجز «المحكوم» على النحو الذي لا يعرف معه إلا محض
الخضوع والإذعان. وبالطبع فإن عقيدة تُنتِج «حاكمًا» غير قابلٍ
للمحاسبة، و«محكومًا» لا يرى في نفسه إلا القصور والخُلُوَّ من القدرة
كانت هي العقيدة النَّموذجية للأمويين الذين شاع عن خلفائهم سعيُهم
للانخلاع من مسئوليتهم عن أفعالهم بما يجعلهم غير قابلين للمساءلة
والحساب. ومن هذا ما تورده المصادر من قول معبد الجهني مخاطبًا الحسن
البصري: «يا أبا سعيد؛ هؤلاء الملوك (الأمويون) يسفكون دماء المسلمين
ويأخذون أموالهم، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله.»
١٢ وإذ يحيل ذلك إلى ما أتاحه الجبر للأمويين من جعل أعمالهم
ليست من فعلهم وإنما من فعل ربهم (بما يرفع عنهم عبء المساءلة
والمحاسبة عليها)، فإنه لم يكن من سبيل لمقاومتهم إلا بما أشاعه الحسن
البصري من «قولٍ في وصف القدر» جعله ينتهي من قراءة قوله تعالى
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ إلى القطع بأن «الله تعالى جعل فيهم (أي الناس)
من القدرة ما يتقدمون بها ويتأخرون، وابتلاهم لينظر كيف يعملون، وليبلو
أخبارهم. فلو كان الأمر كما يذهب إليه المخطئون (ممن ينفون القدرة عن
الإنسان) لما كان لهم أن يتقدموا ولا يتأخروا، ولما كان لمتقدمٍ أجرٌ
فيما عمل ولا على متأخرٍ لومٌ فيما لم يعمل، لأن ذلك بزعمهم ليس منهم
ولا إليهم، ولكنه من عمل ربهم.»
١٣ وهكذا فإنه إذا كان ملوك الأمويين قد روَّجوا القول في
الجبر لما ينتهي إليه من إخلائهم من المسئولية عن أفعالهم (خدمة لمطالب
السياسة)، فإن البصري يرد إليهم — بقوله في القدر — هذه المسئولية بما
يترتب عليها من وجوب المحاسبة (عبر اكتناه منطق القرآن).
والحق أن حضور السياسة لم يقف عند الدور البارز الذي لعبته في تشكيل
الفرق والصيغ العقائدية الأولى، بل تجاوز إلى دخولها الحاسم — وهو
الأخطر — في تشكيل الطريقة التي اشتغل بها العقل في فترة التكوين
الأولى. فقد ترتب على حدث الفتنة أن انقسم المسلمون — كما هو معلوم —
إلى فرق متصارعة (أمويين وشيعة وخوارج … إلخ)، وراحت كل واحدة منها
تخوض معركتها في مواجهة الأخرى، لا بالسيوف والرماح وحدها، بل وكذا من
خلال ما تثبته لنفسها ولرموزها من فضائل ومناقب بأحاديث ترفعها إلى
النبي نفسه. فهذا «الاختلاف السياسي والتعصب للمذاهب جعل كثيرًا من
الغالين في مذاهبهم يستبيحون لأنفسهم أن يؤيدوا ما عندهم بأحاديث
يَرْوُونها كذبًا عن رسول الله
ﷺ.»
١٤ وهكذا يتضافر «الاختلاف السياسي والتعصب للمذاهب» في فتح
الباب أمام التحارب بالروايات؛ وهو الأمر الذي كان لا بد أن يؤثر على
بناء العقل ذاته في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ تشكُّله البدئي. فقد
كان لا بد أن يؤدي ما لاح من أن الرواية قد أصبحت هي السلاح الأفعل في
حسم حروب السياسة، إلى أن تصبح الرواية أيضًا هي الأداة الأفعل في حسم
معارك العقل. ومن هنا فإن السياسة كانت هي الأصل في تشكيل عقل التفكير
بالرواية الذي تحققت له السيادة في الإسلام؛ ولا يزال هو العقل الغالب
حتى اليوم.
ولقد انعكست هذه الطريقة في التفكير بالرواية — التي لعبت السياسة
الدور الأبرز في تشكيلها — على المذهبية؛ وذلك من حيث أدت بها إلى أن
تكون أكثر انغلاقًا وتعصُّبًا. فمن الثابت أن المذهبية ترتبط، على
العموم، بطبيعة التفكير السائد في إطارها؛ بمعنى أنه كلما كان التفكير
أكثر عقلانية، فإن المذهبية تكون أقل خطرًا وعدوانية. وفي المقابل،
فإنه كلما كان هذا التفكير أكثر انبناءً على سطوة المرويات، فإن
المذهبية تكون أكثر خطرًا وعدوانية. ويرتبط ذلك بأن التفكير بالرواية
هو، في جوهره، تفكيرٌ ذو طابعٍ إخضاعيٍّ وقمعي؛ حيث تحضر الرواية
كسلطةٍ يلزم أن يخضع لها العقل من دون تفكيرٍ أو سؤال لأنها تكون
موصولة بأصحاب القداسات. وهكذا فإن مذهبًا يخاطب حامليه بالمرويات
المسكونة بالقداسات، إنما يختلف بالكلية عن مذهبٍ آخر يُخاطب في
المنتسبين إليه عقولهم. إذ في حين تكون الرواية، في الأول، سلطة إملاءٍ
وإخضاع، فإن العقل يكون، في الثاني، أداة محاورة وإقناع. وابتداء من
الارتباط الضروري بين طبيعة البناء الشعوري والذهني للفرد وبين سلوكه
تجاه الآخرين، فإنه يمكن المصير إلى القاعدة التي تقضي بأنه حين يكون
«الإخضاع» هو المُحدِّد الرئيسي للأبنية الشعورية والذهنية للمنتسبين
إلى مذهبٍ ما، فإن ذلك يؤدي إلى تحديد ردود أفعالهم نحو خصومهم على
نحوٍ تكون فيه أكثر رفضًا وتعصبًا. وأما حين يكون منطق المحاورة
و«الإقناع» هو المحدد الرئيسي للأبنية الشعورية والذهنية لمنتسبي
المذهب، فإن ردود أفعالهم تجاه الآخرين تكون أكثر قبولًا وتسامحًا.
ولعل في ذلك تفسيرًا لحقيقة أن المذاهب التي يغلب عليها التفكير
بالرواية والنص في الإسلام هي الأكثر ضيقًا بالآخر ورفضًا له. وتكاد
الحنبلية أن تكون هي المثال الأبرز في الإطار.
إن ذلك يعني أن «المذهبية» — في حضورها الأخطر — تكاد أن تكون ساحة
لتفاعل جملة عناصر؛ فيها السياسي والديني والعقلي. فثمة «السياسة» التي
لا تحضر على نحوٍ مباشر، بل عبر التخفِّي وراء «الدين» الذي يحضر بما
هو جملة من المرويات المنسوبة إلى مصادر السيادة العليا فيه؛ وبما يئول
إلى تكريس «عقل» التفكير بالرواية. وتكاد السياسة أن تكون هي مركز هذه
العملية التفاعلية؛ حيث تبقى هي المُحدِّد للكيفية التي تحضر بها
العناصر الأخرى. وإذ كانت السياسة — فيما قبل تشكُّل المذاهب في
الإسلام — ذات طبيعةٍ تسلطية؛ ابتداء مما قاله ابن خلدون من أن «سياسة
المُلك والسلطان قد اقتضت — بسبب ما كان عليه العرب من خشونة البداوة —
أن يكون السائس وازعًا (حاكمًا) بالقهر، وإلا لم تستقم سياسته.» فإنها
تحدد ماهية الدين على نحوٍ يكون فيه ساحة لاستبعاد الإنسان على مستوى
القدرة والفعل، كما تحدد طريقة في التفكير بالرواية على نحوٍ يئول إلى
استبعاده على مستوى التفكير والعقل. والجدير بالاعتبار هو ما يبدو من
أن إيغال المذهب في الانبناء بالمرويات لم يكن يدفع به إلى السير في
مسارات أكثر انغلاقًا وتعصبًا فحسب، بل وكان يهبه قاعدة أوسع من
الجمهور التابع. وينشأ ذلك بالطبع عن حقيقة أن جمهور العوامِّ إنما
يصدِّقون بطرق الخطابة، ولا يقدرون على استيعاب الطرق الإقناعية
البرهانية؛ بما يعنيه ذلك من أن المرويات التي يُستحسن أن يكون
لقائليها نسبٌ يربطهم بالسماء تبقى هي السبيل الميسور إلى التأثير في
جمهور العوامِّ على النحو الذي يسهل معه إخضاعهم.
وهنا يلزم التنويه بأن اشتغال عناصر (السياسة والدين والعقل
والجمهور) بحسب النظام البنيوي — الذي تكون فيه السياسة بطبيعتها
التسلطية هي المُحدِّد لكيفية حضور الدين والعقل والجمهور — هو ما يؤسس
لكل بناءٍ مذهبيٍّ ذي طابع تعصبيٍّ، بصرف النظر عن المضمون الذي يشتغل
تحت مظلة هذا النظام البنيوي العميق. وتبعًا لذلك فإنه يلزم التمييز في
الأبنية المذهبية بين أنظمتها العميقة من جهة، وبين المضامين التي
تشتغل من خلالها هذه الأنظمة من جهة أخرى. وبحسب هذا التمييز، فإنه
يجدر ملاحظة أن الأبنية المذهبية ذات الطبيعة التعصبية تتماثل على
مستوى النظام البنيوي العميق الذي يحكمها جميعًا، وذلك فيما يتباين
المضمون الخاص بكل واحدٍ منها عن الآخر. وإذ يحيل ذلك إلى أن التباين
بين تلك الأبنية المذهبية المتعصبة لا يجاوز أبدًا حدود السطح إلى ما
يرقد تحته من نظام بنيوي يظل هو الفاعل فيها جميعًا، فإنه لن يكون
غريبًا أن تتماثل، على مستوى النظام العميق، مذاهب تتقاتل في الواقع
بسبب ما يقوم بينها من التباين على مستوى المضمون. وكمثال، فإنه يمكن
الإشارة إلى أن التقاتل الجاري في عالم الإسلام اليوم بين التشكيلين
المذهبيين الأكثر نشاطًا وتعصبًا؛ وهما التشكيل الصفَوي الشيعي
والتشكيل الوهَّابي السنِّي، لا يقدر على إخفاء ما يقوم بينهما من
التماثل على مستوى النظام العميق، رغم كامل التباين بينهما على مستوى
المضمون طبعًا.
وإذ يتعلق الأمر بتشكيلات صُغرى (الصفَوي والوهَّابي) تتحقق داخل
وَحَداتٍ مذهبيةٍ كبرى (الشيعي والسنِّي)، فإن ذلك يعني أن المذاهب —
أو الوحدات الكبرى — ليست وحداتٍ صمَّاء جامدة، بل إنها تتسع لضروب من
التشكيلات الصغرى التي تتباين فيما بينها بحسب تحولات الوعي والواقع
ونوع المصالح المتصارعة. ولعل مثالًا على تباين التشكيلات الصغرى داخل
وحدة مذهبية كبرى يتبدى في التباين القائم ضمن حدود المذهب السنِّي بين
التشكيل الوهَّابي من جهة، وبين التشكيل الإصلاحي المصري الذي طوَّره
الشيخ محمد عبده من جهة أخرى. وبالمثل فإنه يمكن الإشارة إلى التباين،
داخل المذهب الشيعي، بين ما قال «علي شريعتي» إنه التشكيل الشيعي
العَلَوي أو التشيُّع الأحمر، في مقابل التشكيل الشيعي الصفوي أو
التشيُّع الأسود. لكنه يلزم التنويه بأنه إذا كان المذهب السنِّي قد
اتسع، كوحدة كبرى، للعديد من التشكيلات الصغرى المتباينة داخله، فإن
«علي شريعتي» يمضي إلى قراءة التشيُّع بحسب منطق التحول من الحركة إلى
النظام. حيث إنه «للتشيُّع — عنده — حقبتان تاريخيتان بينهما اختلاف
كامل؛ تبدأ الأولى من القرن الهجري الأول حيث كان التشيُّع مُعبرًا عن
الإسلام الحركي في مقابل الإسلام الرسمي والحكومي، وتمتد هذه الحقبة
إلى أوائل العهد الصفوي، حيث تبدأ الحقبة الثانية التي تحوَّل فيها
المذهب الشيعي من تشيُّع حركة ونهضة، إلى تشيُّع حكومة ونظام.»
١٥ إن ذلك يعني أن ديناميكيات العلاقة بين المذهب، كوحدة كبرى
تتسع لتشكيلات أصغر داخلها، ليست واحدة في كلا المذهبين الشيعي
والسنِّي؛ حيث يبقى «التجاور» بين تشكيلات متناقضة هو الآلية التي
تشتغل بها التشكيلات الصغرى داخل المذهب السنِّي، وذلك فيما يكون
«التحول» من الحركة إلى النظام هو الديناميكية التي يقترحها «شريعتي»
لاستيعاب ما جرى في المذهب الشيعي. ولكن هذا التباين في الديناميكيات
الحاكمة للعلاقة بين المذهب، كوحدة كبرى، وبين التشكيلات الجزئية
الصغرى التي تتبلور داخله لا يلغي الحقيقة القاضية بإمكان الحديث عن
نظامٍ بنيوي واحد يتحكم في بناء تشكيلين (صفوي ووهَّابي) ينتميان إلى
ما يُقال إنهما المذهبان الأكثر تعارضًا في الإسلام. ورغم ما يئول إليه
كل ذلك من خطأ الإسراف في التعميم الجارف عند الحديث عن المذهبين
السنِّي والشيعي، فإنه يبقى وجوب اكتناه ما يقوم من التماثل بين
التشكيلين الوهَّابي السنِّي والصفوي الشيعي اللذين يكاد الاختلاف
بينهما أن يتحول الآن إلى فتنة تحترق بها ديار المسلمين
وأوطانهم.