أزمة الثقافة ومستقبل التعليم في مصر
تبدو العلاقة بين الثقافة والتعليم ذات طبيعةٍ مركَّبة؛ وذلك من حيث إن الواحد من طرفي هذه العلاقة يكون مُحددًا للآخر ومُتحددًا به في آنٍ معًا. فإذ لا يكاد أحد يجادل في أن الثقافة تكون محددة لنظام التعليم السائد في محيطها، فإن التعليم يكون من زاويته هو أحد أهم أدوات التأثير فيها؛ بما يجعله مُحددًا لها على نحوٍ ما. وبحسَب ذلك فإنه إذا كانت الثقافة تعاني من أزمة ما، فإن هذه الأزمة لا بد أن تنعكس على نوع التعليم السائد؛ وعلى النحو الذي يكون معه هذا التعليم موضوعًا للأزمة بدوره. بل إن هذا التعليم سوف يكون، هو نفسه، أحد أدوات هذه الثقافة المأزومة في تثبيت ذاتها، واستمرار أزمتها. وبطبيعة الحال، فإن مستقبل الواحد من هذين الطرفين (التعليم والثقافة) سوف يكون — والحال كذلك — موقوفًا على نوع المستقبل الذي سيكون للآخر.
ولعل «طه حسين» قد أدرك هذا الترابط الصميم بين التعليم والثقافة، وأدار عليه كتابه المهم «مستقبل الثقافة في مصر» الذي تتبدى قضيته الرئيسة في أن سعي مصر إلى دخول العصر الحديث، على نحوٍ فعَّالٍ، يستلزم منها أن تمتلك الوسيلة المؤدية لذلك وهي النظام التعليمي الحديث. ومن هذا ما مضى إليه من أنه «إذا كنا نريد الاستقلال العقلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني، فنحن نريد وسائله بالطبع، ووسائله أن نتعلم كما يتعلم الأوروبي، لنشعر كما يشعر الأوروبي، ولنحكم كما يحكم الأوروبي، ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي، ونُصرِّف الحياة كما يُصرِّفها.» ولعله أدرك أن ما تريده مصر من النظام التعليمي الحديث (أو الوسيلة التي تتعلم بها كما يتعلم الأوروبي) لا بد من أن يرتكن على رؤيةٍ ثقافية تبرره وتسمح له أن يكون فعَّالًا. وهكذا فإنه قد راح يطرح رؤية للثقافة في مصر أصبحت فيها مصر منتمية إلى «البحر» الذي يربطها بأوروبا في القديم والحديث، وتنأى بها عن الصحراء التي تربطها بعالم العروبة والإسلام. فإنه «ليس بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم، وتأثرت به، فرق عقلي أو ثقافي ما. وإنما هي السياسة والاقتصاد تدور بين هذه الشعوب مواتيةً هذا الفريق، ومعاديةً ذلك الفريق. فلا ينبغي أن يفهم المصري أن بينه وبين الأوروبي فرقًا عقليًّا قويًّا أو ضعيفًا. وإنما كانت مصر دائمًا جزءًا من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها.»
وإذن، فإن الرائد الكبير قد راح يفترض نظامًا ثقافيًّا ترتبط فيه مصر بأوروبا لكي يبني عليه، ليس فقط إمكان أن تستوعب نظام التعليم الحديث، بل وإمكان أن يكون مُنتجًا كذلك. وإذا كانت مصر قد انخرطت بالفعل في ممارسة التعليم على الطريقة الأوروبية — باعتبار أن «التعليم عندنا، على أي نحوٍ أقمنا صروحه ووضعنا مناهجه وبرامجه منذ القرن الماضي، على النحو الأوروبي، ما في ذلك شك ونزاع. فنحن نكوِّن أبناءنا في مدارسنا الأولية والثانية والعالية تكوينًا أوروبيًّا لا تشوبه شائبة. فلو كانت عقول آبائنا وأجدادنا شرقية مخالفة في جوهرها وطبيعتها للعقل الأوروبي، فقد وضعنا في رءوس أبنائنا عقولًا أوروبية في جوهرها وطبيعتها وفي مذاهب تفكيرها وحكمها على الأشياء» — فإن ما يحدث في مصر الآن ينطق بأن ما يسكن رءوس أبنائها ليس شيئًا من «العقول الأوروبية في جوهرها وطبيعتها ومذاهب تفكيرها وحكمها على الأشياء.» بقدر ما إن عقل الصحراء هو ما يسكن تلك الرءوس، ويسوقها إلى حيث يبغي ويريد.
والحق أن أحدًا لا يقدر على الادِّعاء بأن نظام التعليم الحديث قد آتى أُكُله في مصر. فإنه إذا كانت غاية التعليم الحديث أن «نُنشئ لمصر الحديثة أجيالًا من الشباب كرامًا أعزَّاء أُباة للضَّيْم، حُماة للحُرَم، ولا يتعرضون لمثل ما تعرض له بعض أجيالنا السابقة من الذِّلة والهوان.» بما يعنيه ذلك من القصد إلى بناء المواطن الحديث الذي هو الفرد الحر صاحب الإرادة والقادر على التفكير المستقل، وبحيث يكون قادرًا على اتخاذ قراره بنفسه، فإن أحدًا لا يستطيع الزعم— وخصوصًا مع ما يصدمه به الواقع من تلك القُطعان المنفلتة التي لا تسلك إلا بمنطق السمع والطاعة — بأن هذه الغاية قد تحققت في مصر على مدى القرنين الفائتين، وإلى الآن.
ولعل ذلك يرتبط بأن النظام الثقافي الذي وضع طه حسين مصر داخله — والذي ترتبط فيه مصر بأوروبا — لم يكن هو النظام الذي يشتغل بالفعل تحت سطح النظام التعليمي الحديث. بل إنه يبدو — وللمفارقة — أن النظام الثقافي النقيض الذي ترتبط فيه مصر بالصحراء (التي تصلها بعالم العروبة والإسلام) كان هو النظام المهيمن والفاعل بقوة. وبالطبع فإن ذلك ما تؤكده أي ملاحظةٍ لطبيعة العقل الفاعل الآن في مصر؛ والذي يحمل كل سمات عقل الصحراء من طريقة في التفكير تتمحور حول الاتباع (لقولٍ أو أصلٍ أو نَموذج)، ومن التسرُّع في الحكم على الأشياء بما يظهر له منها. وليس من شكٍّ في أن هاتين السمتين هما ما يحددان، وعلى نحوٍ حاسمٍ، طريقة اشتغال العقل المصري الراهن. إن ذلك يعني أن عجز النظام التعليمي الحديث عن بلوغ غايته في إنتاج المواطن الحديث في مصر، إنما يرتبط بحقيقة أن ما يرقد تحته هو نظام الثقافة التقليدي الذي لا يزال يحتفظ لنفسه بمركز السيادة. وبالطبع فإن ذلك يؤشر على أن نظام الثقافة المتوسطي الذي ترتبط فيه مصر بأوروبا — بحسب طه حسين — قد كان افتراضًا، بأكثر من كونه تعبيرًا عن واقعٍ قائمٍ بالفعل.
ويترتب على ذلك أن الأزمة المتمثلة في عجز النظام التعليمي القائم في مصر عن إنتاج «المواطن الحديث»، إنما تنشأ عن هيمنة نظام الثقافة التقليدي الذي يعمل بالأحرى في اتجاه إنتاج القطعان الهائجة التي تحارب الآن بعنف لإعادة إنتاج «رعية العصور الوسطى». إن ذلك يعني أن مستقبل التعليم في مصر هو مشروطٌ بتفكيك وتجاوز النظام الثقافي التقليدي المهيمن. وعلى العموم، فإنه يمكن المصير إلى أنه لن يكون ممكنًا، من دون إنجاز هذا الفعل التفكيكي — وهو الدور الذي ينبغي أن تقوم عليه كلية الآداب بالذات — الدخول بمصر إلى العصر الحديث، على نحوٍ حقيقيٍّ.