آليات الخطاب الأشعري في إنتاج المركزية داخل الثقافة
إذا كان التعالي بالذات إلى مقام «المقدس»، في مقابل التدنِّي
بالآخر/الخصم إلى حضيض «المدنَّس»، هو آلية الخطاب الرئيسة في إنتاج
مركزيته داخل الثقافة؛ فإن الخطاب قد راح يحقق هذا التعالي عبر ضروب من
التمييز والاحتكار والمخايلة. ومن المفارقات، أن الخطاب قد ابتدأ مسيرة
إنتاجه، الذي لم يتوقف، للتعالي بذاته من إهدار المبدأ الأهم في الأصل
الجوهري الذي يدعي أنه ينبني عليه؛ وأعني به أصل الوحي. فإنه إذا كان
الوحي هو أصل كل حياة في الإسلام، فإنه قد جرى تصوره — بحسب هذا الخطاب
— خِلوًا، هو نفسه، من أي حياة؛ وأعني من حيث لم يَقدر الخطاب على
تصوره كينونةً حيَّةً تَمُور — ككل حياة — بضروب من الاختلاف، الذي
يدخل في تركيب الوحي من حيث يكون أداته في فضِّ شَفرة ذاته، وانكشاف
ممكناته. بل تصوره بنية مغلقة لا مجال فيها لأي آخَرية أو اختلاف.
وبالطبع فإن هذا الإقصاء للاختلاف — الذي كان لا بد أن يئول إلى تصور
الوحي أصلًا ثابتًا، أو حتى جامدًا — إنما يرتبط بتصوره، أدنى إلى أن
يكون إهدارًا للوحدة وتضييعًا للذات، وليس سبيلًا للكشف عن ثراء
الكينونة وتنوُّع الممكنات. وضمن هذا التصور للاختلاف، فإن مقاربة
للوحي تئول إلى فهمٍ مغاير لفهمٍ قائمٍ ومهيمن، لن تكون تجليًا لأحد
الممكنات المنطوية في باطنه، بل انحرافًا وابتعادًا — من الخارج — عن
وحدة أصلية، لا سبيل إلى استعادتها إلا عبر إزاحة هذا الفهم/الانحراف
وطرده. وإذن فإنه الانقسام بين وحدة الأصل وثباته من جهة، وبين ضروب من
الانحراف والافتراق التي لم تتوقف للآن من جهة أخرى. ومن هنا فإن صيغة
المأثور النبوي،
١ الذي يوظفه الخطاب لإقصاء خصومه، لا تتحدث عن الاختلاف
(بما هو جزء من البِنية الباطنية للوحي)، بل عن الافتراق (بما ينطوي
عليه من الصورية والتحقق في الخارج). وبالرغم من أن الدلالة الظاهرة
للافتراق، في المأثور، هي التفرُّق؛ بمعنى الانقسام، فإن دلالة
«التباعد» — الذي يبدو أكثر صورية وخارجية — لا تفارق فضاء المأثور،
لأنه حين يجعل (النجاة) في التمسك بالأصل، فإنما ليقرن (الهلاك)
بالتباعد عنه. وبالطبع فإن التباعد لا يكون عن الوحي/الأصل فقط، بل،
وأيضًا، عن «الجماعة» التي كان لا بد أن تتماهى مع هذا الأصل لا محالة.
وإذن فإنه الانقسام والتباعد، صوريان وخارجيان، ينتجهما الخطاب، لا بين
«أصل الهدى والاستقامة» وبين «بدعة الهوى والضلالة»، بل وبين «أهل
السُّنة والجماعة» في مقابل «أهل الأهواء والجهالة». وغنيٌّ عن البيان،
أن الخطاب قد راح — ضمن هذا الانقسام — يتماهى مع مقدس الأصل/الجماعة،
في مقابل الانتقام من خصومه بطردهم إلى مدنس الهوى والضلالة. ورغم ما
يبدو من طابعٍ مجاوز لهذا الانقسام، فإن تفكيكًا له ليتكشَّف عن مضمون
اجتماعيٍّ وسياسي يتخفى تحت سطح لغته المثقلة بإيحاءات «الديني»
ومراوغاته. إذ الحق أن عباراتٍ ينثرها الخطاب على سطحه — من قبيل: «وما
ظهرت البدع والضلالات في الأديان إلا من أبناء السبايا، كما رُوي في
الخبر … (أو أن أحدهم) كان مولًى، وقد جرى على منهاج أبناء السبايا
لظهور أكثر البدع منهم.»
٢ — لَتكشف عن أن تمييز الخطاب ضد خصومه إنما يتجاوز
«الديني» إلى ما تحته. والملاحظ أن الأمر يتجاوز ما تُجَلِّيه هذه
العبارات من قِران البِدعة بالعُجمة، إلى ربطهما بوضاعة المنزِلة في
التَّراتُبية الاجتماعية، وذلك بحسب ما يظهر من حديث الخطاب عن أحد
خصومه أنه «إنما كان يَنظِم الخرز في سوق البصرة، وليس كما يموِّه
المعتزِلة على الأغمار ويُوهِمون أنه كان نظَّامًا للكلام الموزون
والشعر المنثور.»
٣ وإذن فإنه صراع التعالي والتدني، وقد اتخذ الخطاب من كنية
أحد خصومه ميدانًا له، ليجري عليه ذلك الاصطراع الرمزي بين نمطين من
النَّظْم؛ أحدهما متعالٍ يختص به ذَوو المكانة والشرف، والآخر مُحتقَرٌ
يشتغل به أولئك المهمشون عرقيًّا واجتماعيًّا في الأدنى.
ولقد جرى إنتاج هذا الانقسام وتثبيته، بكل ما يترتب عليه من ضروب
التماهي والإزاحة والتمييز والحط، في ضرب من الأدبيات، التي شاعت
الكتابة فيها حتى بلغت ذروتها في القرن الخامس الهجري؛ أعني أدبيات
الفِرق والمِلل والنِّحَل. ولعل بلوغ هذا النوع من الكتابة — بما يتسم
به من نبرةٍ تمييزية وإقصائية عالية — لذروته في القرن الخامس بالذات،
إنما يرتبط بتمام تشكُّل الخطاب، ثم سعيه، بالتالي، إلى تأسيس هيمنته
وسيادته العليا داخل الثقافة آنذاك. ومن هنا إمكان النظر إلى هذا النوع
من الكتابة، كأحد تجليات إنتاج الهيمنة؛ وذلك من حيث راحت تستهدف، لا
مجرد عرضِ، أو حتى دحض آراء الخصوم، بل تبديعهم وتكفيرهم، إلى حدِّ
اعتبارهم، لا مجرد مخالفين يمكن أن يتسع لهم فضاء الثقافة، بل منحرفين
— أو حتى مارقين — لا بد من طردهم خارج حدود الأمة والملة معًا.
٤
والحق أن هذه الكتابة، التي كان لا بد أن تخضع لتوجيه الأقوى
ورقابته، قد جعلت من مسألةٍ تبدو فرعية، كتسميات الفِرق وألقابها،
مجالًا لتأكيد هيمنة الأقوى وتأبيدها. فإذ تبلورت تسميات الفرق الأسبق
تاريخيًّا (خوارج وشيعة ومعتزلة ومرجئة … إلخ) ابتداء من الانتساب إلى
وقائع وأحداث من طبيعة سياسية وتاريخية؛ وبما يعنيه ذلك من الانتساب
إلى المجال السياسي الذي لا يمكن المخايلة بقداسته، بل يمكن — على
العكس — القطع بدنسه ودونيته، فإن ما سيجري لاحقًا — وابتداءً من القرن
الرابع الهجري — من نسبة الفِرق إلى رموز وأشخاص (الأشعرية والماتريدية
مثلا) إنما يقصد إلى إسباغ القداسة على مقالات هذه الفرق؛ وذلك ابتداءً
من التعالي بهؤلاء الرموز إلى مقام تنسرب فيه القداسة إليهم عبر
التقاطع مع نبيٍّ أو صحابي.
٥ وهكذا فإنه، وفيما راح يجري الانحطاط بالفِرق المنتسبة إلى
المجال التاريخي والسياسي إلى حضيض المدنس، ابتداءً من دونية السياسي
ودنسه، فإنه راح يجري التعالي، في المقابل، بالفِرق المنتسبة إلى أشخاص
ورموز إلى فضاء المقدس؛ وذلك ابتداءً من قداسة تنسرب إلى هؤلاء الأشخاص
عبر خطابٍ نبوي، أو من الانتساب إلى صحابي. وهنا يُشار إلى أن انتساب
الأشعرية إلى رؤيا للأشعري أثناء نومه، أتاه فيها الأمر المُقدس من
النبي
ﷺ: «صنِّف وانصر هذه الطريقة التي أمرتك بها، فإنها ديني
وهي الحق الذي جئت به.»
٦ إنما يستهدف المخايلة بقداستها، وذلك عبر جعلها نتاج نوع
من الأمر النبوي الذي لا بد أن تنسرب قداسته إلى ما ينتج عنه. والحق أن
الأمر قد راح يتعدَّى حدود «الأمر النبوي» إلى حدِّ اعتبارها (أي
الأشعرية) موضوعًا لخطاب إلهي.
٧ وهو الأمر الذي يتعالى بها إلى تُخوم قداسة «الأمر
المُوحَى به من الله». وإذن فإنه الأمر يعود عبر النبي إلى الله، على
نحوٍ يجعل من الأمر/الرؤيا يتلقاها الأشعري على رأس القرن الرابع
تحقيقًا لوعدٍ إلهيٍّ سابق. والحق أن مخايلة الأشعرية بالتماهي مع
الوحي لا تتأتى فقط من أن سبيل الأمر بها كان «الرؤيا الصادقة» التي
هي، حسب المأثور عن النبي، «جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.» بل
ومن أن هذه الرؤيا قد تحققت للأشعري — تمامًا كالحال مع ابتداء النبي
بالوحي — عند سن الأربعين تمامًا. وهنا يتكشف الحرص الأشعري على تعميق
مخايلة القداسة المُشار إليها، عبر تأكيد التماثل بين الأشعري وبين
النبي، لا كمجرد طريقةٍ ونَص، بل وحتى كتجرِبةٍ وشخص.
وبالطبع فإنه لن يكون غريبًا مع مَوْضَعة هذه الهيمنة وتثبيتها داخل
الثقافة أن يمضي أحدهم إلى أنه «لم يكن — بحمد الله ومنِّه — في
الخوارج ولا في الروافض ولا في الجهمية ولا في القَدَرية ولا في
المجسِّمة، ولا في سائر أهل الأهواء الضالة قَطُّ، إمامٌ في الفقه، ولا
إمام في رواية الحديث، ولا إمام في اللغة والنحو، ولا موثوق به في نقل
المغازي والسير والتواريخ، ولا إمام في الوعظ والتذكير، ولا إمام في
التأويل والتفسير. وإنما كان أئمة هذه العلوم على الخصوص والعموم من
أهل السنة والجماعة.»
٨ وهكذا تخلو كافة العلوم التي عرفتها الثقافة آنذاك من أحدٍ
ينتمي إلى هؤلاء «المبتدعين» الذين «لم يكن لواحدٍ من متقدميهم تصنيف
يظهر ويُتداول، وهل كان لهم علم حتى يكون لهم فيه تصنيف؟ بلى قوم من
متأخريهم تكلفوا جَمْع شُبَه يخادعون بها القوم عن أديانهم، وصنفوا
فيها تصانيف أكثرها لا يوجد إلا بخط المصنِّف. إذ كان الاشتغال بنقلها
من قبيل تعطيل الوقت بالمَقت.»
٩ بل إنه حتى إذا ظهر تصنيف لأحد هؤلاء المبتدِعة، فإنه «لا
يتداوله إلا مخذول»
١٠ مثله؛ بما يعني تفاهةَ وضآلةَ شأن دائرة متلقي
الخطاب/الخَصم ومتداوليه أيضًا. وإذ مضى الأشاعرة، على هذا النحو، إلى
الانحطاط بهذا الخطاب/الخصم، وإلى حدِّ تنزيله إلى حضيض البدعة
المقترنة بالدنس؛ وذلك لاعتبارهم الإقرار، ولو بشيء من مفرداته،
«تدنُّسًا …، ومن كان متدنسًا بشيء منه لم يَجُز الاعتماد عليه في
رواية أصول اللغة وفي نقل معاني النحو، ولا في تأويل شيء من الأخبار،
ولا في تفسير آية من كتاب الله تعالى.»
١١ فإنهم كانوا يطردون هذا الخطاب ومتداوليه خارج حدود
الثقافة كليًّا، ومن غير تمييز بين أيٍّ من حقولها المعرفية.
بل إنه وعلى فرض التمييز داخل الثقافة الإسلامية بين (عقلي) كالطب
والحساب والهندسة، وبين (ديني) كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم
التفسير وعلم الباطن،
١٢ فإن أحدًا لا يجادل في أن السيادة، ضمن حدود الثقافة التي
سادت في الإسلام، لم تكن أبدًا للعقلي، بقدر ما كانت للديني. ومن هنا
فإن الغزالي لم ينس أن يُلحق إشارته للعلوم العقلية بالتأكيد على أن
الانشغال بها «ليس من غرضنا.»
١٣ وبالطبع فإن الضمير في (غرضنا) لا يعود إلى الغزالي كمجرد
شخصٍ، بل كحُجَّة أو سلطة عليا داخل الثقافة بأسرها. وإذ السيادة
العليا داخل الثقافة الإسلامية هي — هكذا — للديني دون سواه، فإن
الأشعرية كانت — لا محالة — تقصد إلى ترسيخ هيمنتها داخل الثقافة عبر
التأكيد على مركزية وأولية العلم الذي تسيَّدته داخل دائرة هذا الديني
الذي هو بدوره صاحب السيادة العُليا داخل الثقافة بأسرها؛ وأعني به علم
الكلام (أو أصول الدين) الذي تتأتى مركزيته من أنه «هو المتكفل بإثبات
مبادئ العلوم الدينية كلها، فهي جزئيةٌ بالإضافة إلى (علم) الكلام،
فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة، إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات.»
١٤ وأما أولية هذا العلم فإنها ترتبط بحقيقة «أنه ما من علمٍ
من العلوم الجزئية إلا وله مبادٍ تؤخذ مسَلَّمة بالتقليد في ذلك العلم
(الجزئي)، ويُطلب برهان ثبوتها في علم آخر (لا بد أن يكون كليًّا حتمًا).»
١٥ وغنيٌّ عن البيان أنها الأولية هنا، لا بالمعنى التاريخي،
بل بالمعنى المعرفي؛ وذلك لأن ثمة من العلوم الجزئية — داخل ثقافة ما —
ما يكون قد انبثق تاريخيًّا قبل انبثاق هذا العلم الكلي، وذلك بالرغم
من أنه يجد كل ما يؤسسه معرفيًّا في هذا العلم اللاحق. وإذ يرتقي ذلك
كله بعلم الكلام (أو أصول الدين) إلى أن يكون صاحب السيادة العليا داخل
دائرة العلم الديني الذي يتسيَّد، هو نفسه، الثقافة بأسرها؛ فإن ذلك
يعني أن الأشعرية تضع نفسها — ابتداء من تسيُّدها داخل هذا العلم — في
مركز السيادة العليا داخل الثقافة في الإسلام.
ولقد راح الخطاب الأشعري يحتلُّ فضاء العلم بأسره، محققًا للسيادة
داخله، ابتداء من مجرد «التعريف» الذي صكه الخطاب للعلم؛ والذي ينبني
على الاستبطان المراوغ لآليات التعالي والإقصاء. فإن قراءة للتعريف،
الذي صار فيه ابن خلدون إلى «أنه علم يتضمن الحِجاج عن العقائد
الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدِعة المنحرفين في
الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السُّنة»
١٦ لَتكشف عن لغة منحازة تطفح بنوازع التسلط والهيمنة على
نحوٍ طاغٍ. فإذ هو (التسلط والإقصاء) يتحقق من خلال وصمة «الابتداع
والانحراف» تطال كافة المغايرين، فإن الهيمنة تتبدى زاعقة في احتكار
«العقائد الإيمانية»، التي يُخفي الخطاب، وراء ما يدَّعيه من اختصاصه
بالمُحاججة عنها، سعيه إلى الاحتياز الكامل لها. إذ العقائد التي
يختصُّ الخطاب بالمحاججة عنها ليست منظومةً عقائدية، من بين منظومات
متباينة، أو حتى متعارضة؛ ولكن من غير أن يعني تبايُنها، الذي يرتبط
بكون كل واحدة منها مشروطةً برؤيةٍ مؤطِّرة لها، أنها — أو بعضها —
تفقد جدارة الإقامة في حقل الإيمان. فالعقائد تتباين، لا على نحوٍ
تعاقبيٍّ ضمن التاريخ العام للدين فحسب، بل وأيضًا على نحوٍ تزامني ضمن
الزمان الخاص بدين معيَّن. وفي الحالين فإن التباين يرتبط بحقيقة أن كل
نظام عقائديٍّ يتأطر، كأي نظام ساهمت الفاعلية الإنسانية في إنتاجه،
بمضمون هذه الفاعلية وما يحددها. فالأصل المفارق للعقائد لا يمنع أبدًا
أن شروطًا، تتعلق ببناء كل من الوعي والواقع الإنسانيين، تلعب دورًا
حاكمًا في صوغ هذه العقائد. وبالطبع فإن التباين، في تصور العقائد
وصوغها، لا يكون انحرافًا وتباعدًا عن هذا الأصل ذي الطابع المفارق،
بقدر ما هو التحدُّد بشروط يكاد التباين أن يمثِّل صميم ماهيتها. لكن
الخطاب إذ يلحُّ على تصور التباين، لا تحدُّدًا بشروط تقوم خارج الأصل،
بل انحرافًا وتباعدًا عنه، فإنما ليؤسس لضرب من المطابقة بينه وبين
«العقائد الإيمانية»، وعلى نحوٍ يستحيل معه تصور أي نوع من الحضور
لعقائد إيمانية خارج حدوده. حيث لا وجود البتَّة خارج هذه الحدود إلا
للابتداع والانحراف والضلال. والحق أن مراوغة هذه المطابقة التي ينتجها
الخطاب، إنما تقوم كاملةً في مجرد إضافة «الألف واللام» إلى لفظة
«إيمانية»، الواردة في التعريف، وليس تعريتها عنها؛ فهي الإضافة التي
تجعل المحاججة، لا عن عقائد «إيمانية»، بل عن العقائد «الإيمانية».
وإذن فإنه المأزق، في الثقافة، وقد أنتجته مجرد «الألف واللام»؛ على
نحوٍ يتكشَّف عن الدور الحاكم لِلُّغة في العالم.
والحق أن كون المحاججة قد تبلورت من «الصراع في الإسلام وعليه»؛ أعني
من الصراع ينبثق داخله، وفي قلبه، قصد الاحتياز عليه والتماهي معه،
وليس من «الصراع مع الإسلام وضده»؛ أعني من الصراع يأتيه من خارجه قصد
هدمه، لمما يؤكد على أنها كانت محاججة عن عقائد «إيمانية» تقبل جميعها
الاندراج تحت مظلة الإسلام الجامعة، وبحيث لا يكون التنكر لإحداها
تنكرًا للإسلام، وليس عن العقائد «الإيمانية» التي يصبح الخروج عليها
خروجًا على الإسلام نفسه. ولعل إدراكًا لحقيقة أن السياسة، متبدية في
«الإمامة» وما تفرع عنها من مسائل القدر ومرتكب الكبيرة وغيرها من
مسائل ذات حمولةٍ سياسيةٍ زاعقة، كانت هي الإطار الذي تبلور العلم
بأسره داخله، لمما يقطع بأن المحاججة فيه قد نشأت من «الصراع في
الإسلام وعليه». وإذ السياسة — هكذا — هي إطار الانبثاق وحقل التبلور
والانبناء، فإن ذلك يعني أن المحاججة تخفي موضوعها الجوهري، وهو «مواقف
السياسة» خلف قناع «عقائد الإيمان» الشكلي. وبالطبع فإنها إذ تخفي
وتقنِّع السياسي الذي يخصها وراء سمو «الإيماني»، فإنما لتُلقي
بالسياسي الذي يخص غيرها إلى هاوية «البدعي والضلالي».
وإذ التعريف ينبني — في شطريه — على آليتي المحاججة والرد، فإنه إذا
كانت آلية «المحاججة» تنطوي على السعي إلى إخفاء السياسي وراء الديني،
فإن آلية «الرد» تتكفل، للمفارقة، بالكشف عن هذا السياسي الذي يجري
السعي إلى إخفائه. لأن الخطاب إذ يعيِّن من يرد عليهم بأنهم «المبتدعة
المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنَّة.» فإنه كان يؤكد
على أن المحاججة ليست عن «عقائد الإيمان»، بل عن اعتقادات من يسمُّون
أنفسهم «السلف وأهل السنَّة»؛ بما يعنيه ذلك من أن الخطاب ذاته يقطع
بكون محاججته قد تبلورت من «الصراع في الإسلام وعليه». وهو في هذا
الصراع لا يكتفي، في محاججته عن عقائده في مواجهة ما يغايرها، بتجريد
هذه العقائد المغايرة من وصف الإيمان، بل ويجري إلصاق وصمة «الابتداع
والانحراف» بالقائلين بها. وإذ يمارس الخطاب على هذا النحو؛ أعني
مستبدلًا «الانحراف» بالمغايرة والاختلاف من جهة، و «الابتداع» بالرأي
والاجتهاد من جهة أخرى، فإن استخدامه لهذه اللغة الموحية دينيًّا، إنما
يرتبط بالسعي إلى إكمال دائرة الإقصاء لكل اجتهاد مغاير، لا من العالم
الذي كانوا يتصارعون عليه، بل وعن حدود الدين الذي كانوا يديرون
تصارعهم فوق ساحته.
وإذن فالأمر لا يتعلق، في العمق، بالمحاججة عن العقائد الإيمانية، أو
حتى عن عقائد إيمانية، بقدر ما يتعلق بالانحياز لمواقف سياسية تتقنَّع،
في صراع الهيمنة والإقصاء، وراء رفعة الديني وقداسته. ومع صرف النظر
عمَّا يخفيه الخطاب ويضمره من التحيُّزات، وعما يشتغل به من الأقنعة،
في لعبة الإقصاء والهيمنة، فإنه يبقى أنه نجح في إنتاج ما يبتغيه من
السيادة الكاملة داخل العلم؛ أعني علم العقائد. وابتداءً من المركزية
الكاملة لهذا العلم داخل دائرة «الديني» الذي يحوز، بدوره، مركز
السيادة العليا داخل الثقافة، فإن الخطاب يكون — عبر هذا الترقي من
العقائدي إلى الديني إلى الثقافي — قد حقق سيادته ومركزيته داخل
الثقافة في الإسلام.
وابتداءً من حقيقة أن العقل — الذي هو مقولة ثقافية لا بيولوجية —
إنما يتحدد، سواء بمعناه الفردي أو المجاوز للفرد، بنظام الثقافة التي
يتشكل داخلها؛ فإن بناء العقل في المجال الثقافي للإسلام كان لا بد أن
يتحدد بالنظام الأشعري الذي احتل وهيمن على هذا المجال تمامًا. إن ذلك
يعني أن الآليات التي يشتغل بها هذا العقل، ومجال المعقولية الذي يؤطر
حدود المعنى داخله، إنما يجدان ما يؤسسهما ضمن حدود النظام الأشعري.
وإذ يظل العقل عاجزًا — عبر هذا الانبناء — عن التفكير خارج حدود هذا
النظام الذي يتحدد به ويتشكل داخله؛ فإنه لن يكون غريبًا أن يظل العقل
يُعيد إنتاج الأشعرية كنظامٍ وبنية، حتى وهو منهمكٌ في تقويضها كمضمون ومحتوى.
١٧