سيكولوجيا القتل الرمزي
ثمة روايتان ذائعتان عن انخلاع الأشعري من الاعتزال، تتكشف قراءتهما، لا عن مجرد الاختلاف بين عناصرهما فقط، بل وعن دوران الواحدة منهما ضمن فضاء يُغاير بالكلية ذلك الذي تدور فيه الأخرى. إذ فيما تجري أحداث إحداهما في فضاء المفارقة والتسامي الذي يرمي إلى المخايلة بعلوٍّ وقداسة، سوف يُستفاد منهما — لا محالة — في تكريس الهيمنة وتثبيت السيادة، فإن أحداث الأخرى — وهي الأهم — تنطلق مما يجري في دهاليز نفسٍ تُعاني جُرحًا غائرًا وأزمة دفينة يبدو أنها كان لا بد أن تئول إلى «الثورة» التي أجلاها ذلك المشهد المحتدم للرجل ينخلع، على منبر المسجد الجامع في بغداد، من ثوبه في عنف عارمٍ، لا ليُعبِّر — رمزًا، حسب الادعاء — عن إرهاصات عقيدة تنتصر، بل ليتخفف من «مكبوتات» ظلت لسنوات مقموعةً، وقد آن لها أخيرًا أن تنفجر. وهكذا فإن قراءة للروايتين تتجاوز سطحهما إلى ما يعتمل تحته، لتتكشَّف عن أن «ثورة المكبوت» بما تنطوي عليه من دلالةٍ نفسية، وليست أبدًا «حيرة المرتاب الذي تكافأت عنده الأدلة» بما تحيل إليه من دلالةٍ عقلية، قد كانت هي الأصل فيما جرى للأشعري. وفي كلمة واحدة، فإن ما جرى للرجل لم يكن من قبيل «التطور» الذي يمكن إرجاعه إلى مغامرة «عقل»، بل كان من قبيل الانقلاب والتحوُّل الذي لا تفسير له إلا في مكبوتات النفس.
تحكي إحدى الروايتين — بحسب السبكي — أن الأشعري «كان أولًا قد أخذ عن أبي علي الجبائي، وتبعه في الاعتزال. يُقال: أقام على الاعتزال أربعين سنة، حتى صار للمعتزلة إمامًا، فلما أراده الله لنصر دينه، وشرَح صدره لاتِّباع الحق، غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يومًا، ثم خرج إلى الجامع وصعِد المنبر، وقال: يا أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أُعرِّفه بنفسي: أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله تعالى لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائبٌ مقلع، متصدٍّ للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم. مَعاشر الناس: إنما تغيَّبت عنكم هذه المدة؛ لأني نظرت فتكافأَتْ عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء على شيءٍ، فاستهديت الله تعالى، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما أنخلع من ثوبي هذا. وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به، ودفع الكتب التي ألَّفها على مذاهب السنة إلى الناس.»
ولعل نقطة البدء في تحليل تلك الرواية تنطلق من الوعي بما تنطوي عليه، ككل رواية، من «حدث» تدور حوله من جهة، و«سياق» يتأطر فيه هذا الحدث من جهة أخرى، وأنهما يتجاوبان في إنتاج ما تستهدفه الرواية من دلالة «الإقصاء والإعلاء». وإذا كانت عناصر «السياق» — الذي صنعه الراوي — تتوزع على بداية الرواية ونهايتها، فإن ما يَرِد — في البداية — من «أخذ (الأشعري) عن الجبائي المعتزلي، واتباعه له على الاعتزال لمدة أربعين سنة» إنما يتجاوب مع ما أورده الراوي في نهاية الرواية من «انخلاعه عن الثوب والرمي به». فإن الأخذ (بما يستبطنه من دلالة الاحتياج بالمعنى المعرفي والنفسي) في البداية، إنما يتبعه الرمي والإلقاء (بما يعكسه من دلالة الاستغناء وعدم الحاجة) في النهاية، تمامًا بمثل ما إن الاتباع (بما يحمله من دلالة الخضوع) سوف يتلوه الانخلاع (بما ينطوي عليه من دلالة التحرر والانعتاق)؛ بما يعنيه ذلك من الربط بين الجبائي، والاعتزال على العموم، وبين الثوب (يُرمى ويُطَوَّحُ به بعد الانخلاع منه). ومن جهة أخرى، فإن ما أورده الراوي، في نهاية الرواية من «دفع (الأشعري) لكتبه المؤلفة على مذهب السنة للناس» كقرين لفعل انخلاعه عن الثوب، إنما يتجاوب مع ما أورده في بداية الرواية من «أن الله قد أراده لنصر دينه (وكأنه لم يكن قبل ذلك ناصرًا لدين الله، بل لدين المعتزلة الذين ليسوا على دين الله تبعًا لذلك) وشرح صدره لاتباع الحق (بعد أن كان على الباطل المعتزلي)؛ بما يعنيه ذلك من الربط بين مذهب السُّنة وبين دين الله وطريق أهل الحق. وفي كلمة واحدة، فإن سياق الراوي يكاد يُكرس ما سيسعى الحدث إلى ترسيخه وتوظيفه من الربط بين الاعتزال والثوب (وقد استحال إلى خرقة تُرمى بعد الانخلاع منه) من جهة، وبين مذهب السنة (الأشعري) ودين الله من جهة أخرى.»
وغنيٌّ عن البيان أن هذا الذي أنتجته عناصر السياق التي تتوزع على بداية الرواية ونهايتها، هو ما سوف ينتجه الحدث بدوره، ولكن على نحوٍ أكثر عمقًا بالطبع. ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الحدث الذي تدور حوله الرواية هو فائض العنف الذي تطفح به تفاصيله، والذي لم يقف عند حدِّ الإعلان عن نفسه (قولًا) يرمي به الأشعري خَصمه؛ أعني من خلال مفردات الصدِّ والرد والفضح بالعصيان والضلالة، بل راح يحقق نفسه (فعلًا) من خلال رمزية الانخلاع من «الثوب» وتطويحه. فإن انخلاعًا من الثوب على هذا النحو من الحدَّة والعنف، لا يمكن أن يكون نتاج حَيرةٍ أو ترددٍ انتهى إليه صاحبه بعد أن «نَظَرَ فتكافأت عنده الأدلة ولم يترجح شيء»، بقدر ما هو التجلي الأقصى لجُرحٍ غائر في أعماق «نفس» طالت معاناتها مع تجرِبة أليمةٍ، وآن لها أن تنعتق أخيرًا من ضغوط تفاعلاتها القاسية. إذ الحق أن قراءة للحدث في ضوء ما هو معروفٌ من سيرة الأشعري، من فقدانه المبكِّر لأبيه، واقتران أمه بشيخ معتزلة البصرة في عصره، المُشار إليه في مطلع الرواية، والذي صار للأشعري — منذئذٍ — لا مجرد إمام طريقة في الكلام تتعالى «بالعقل»، بل «أبًا بديلًا» تتفاعل تداعيات حضوره الجارح في أعماق «النفس»، إنما يحيل إلى أزمةٍ دفينةٍ ظلت تتفاقم حتى بلغت ذروتها في هذا المشهد الأخير؛ أعني مشهد انخلاعه من ثوبه على منبر المسجد. إنها أزمةُ — أو بالأحرى عقدة — احتلال مكان «الأب» الذي قام به «الجبائي» بزواجه من «الأم»، والتي ظلت تنطوي عليها دخائل نفس الأشعري حتى بلوغه الأربعين التي تمكَّن عندها من القتل الرمزي لهذا الأب الدخيل. ولعله ليس ثمة من تفسير جِدِّيٍّ لانخلاع «الأشعري» الأعنف عن الاعتزال بعد أن صار إمامًا له، بحسب الرواية، إلا بوصفه تمثيلًا لهذا القتل الرمزي لذاك الأب – الدخيل (الجبائي)، وهو تفسير يكتسب قيمةً مضاعفة من قدرته على استيعاب كل ما قيل من مبررات لهذا الانخلاع باعتبارها من قبيل «المناسبات» التي تطفو على سطح هذا العامل الحاسم الذي يُحفزها في العمق. فإذ تماهى «الاعتزال» في لاوعي «الأشعري» — وكان ذلك لازمًا — مع هذا الأب (الجبائي) الدخيل، فإن ما استخدمه في خطبة انخلاعه عن الاعتزال (المتماهي في اللاوعي مع من احتل مقام الأب)، من مفردات الفضح والوصم والإدانة، لم يكن إلا ضربًا من القتل القولي باللسان، وليس الدموي الذي لم يكن ليقدر عليه، لهذا الأب المقنَّع. ولعل هذا القتل الرمزي يكتسب دلالته من خلال تأكيد «الأشعري» — الذي يفتقد إلى مبررٍ ظاهرٍ — في نفس خطبته على انتسابه لأبيه الأصيل (فلان بن فلان)، فيما يبدو وكأنه التأكيد على موت الأب – الدخيل من خلال هذا الاستدعاء لأبيه الأصيل.
والحق أن هذه السيكولوجيا؛ أعني سيكولوجيا القتل الرمزي، هي ما يمكن أن يفسر كل عناصر رواية الانخلاع الذي لم يقف — ودائمًا حسب الرواية — عند حدِّ الإعلان بأنه تائبٌ مقلعٌ عن مذهب المعتزلة وكاشفٌ لفضائحهم، بل وأضاف إلى ذلك انخلاعه من ثوبه مطوِّحًا به بعد أن قام بتمزيقه، وهو الفعل الذي لا يمكن اعتباره مجانيًّا أو خاليًا من المعنى أبدًا. إن معناه الكامن يتأتى من أن ما يبدو فضحًا ووصمًا (وهو المعادل للقتل القولي) لم يكن كافيًا لإبراء «الأشعري» من جُرحه الغائر الكامن، بل إن رغبته الدفينة قد ظلت تتوق إلى قتلٍ (فعليٍّ) لا يطيقه ولا يقدر عليه. لكن ما لا يقدر عليه الوعي من القتل الفعلي الدموي لا بد أن يجد لنفسه مخرجًا، ولو على نحوٍ رمزيٍّ. ومن هنا ذلك الانخلاع من (الثوب) الذي يكاد أن يتبدى، في الرواية، كمعادلٍ رمزي كامل (للأب). وإذن فإنها سيكولوجيا الإحلال ثانية؛ أعني إحلال «الثوب» محل «الأب» الذي كان قد تماهى، بدوره، مع الاعتزال من قبل. والحق أن هذا الإحلال التخييلي للثوب محل الأب مما يبدو ممكنًا وقابلًا للفهم تمامًا، وذلك مع الوعي بحقيقة تماثلهما في أداء نفس الدور الوظيفي الذي يتمثل في إشباع حاجات الستر والحماية على كلا المستويين النفسي والجسدي. ومن هنا إمكانية أن يحلَّ الواحد منهما محل الآخر، وهي الإمكانية التي يسَّرت للوعي إشباع رغبة القتل الفعلي الكامنة في اللاوعي. وأعني أنه إذا كانت الرغبة الكامنة هي القتل الفعلي للأب المعتزلي — الذي احتل مكان الأب الأصلي — فإن الوعي عبر آلية الإحلال قد راح يتسامى بهذا القتل الذي يريده قتلًا فعليًّا «باليد» بعد أن كان من قبل قوليًّا «باللسان»، فاستبدل بالأب الثوب الذي كان عليه أن يصبح موضوعًا لفعل القتل باليد تمزيقًا وتطويحًا، فبدا — هكذا — وكأن الوعي قد حقق القتل فعليًّا باليد، لكنه راح يحققه رمزيًّا في الثوب، وليس دمويًّا للشخص. وبهذا يكون الوعي قد فتح الباب لاكتمال دائرة قتل الأب، (قوليًّا) عبر مماهاته مع الاعتزال، و(فعليًّا) عبر الإحلال الرمزي له في الثوب.
وإذ يبدو أن هذه السيكولوجيا الخَلاصية التي اتسعت لضروب من القتل القولي والفعلي — الذي يبقى قتلًا رمزيًّا على أي حالٍ — قد اقتضت ضرورة التغطية عليها بما يتسامى على دنس اللاواعي والمكبوت، بل ويتعالى إلى عالم القداسة والملكوت، فإن ذلك — بالضبط — هو ما ستتكفل به الرواية الثانية التي ستكون موضوعًا لتحليل يستكمل الكشف عن الأصل النفسي في تحولات الأشعري.