التجديد بين «التقديس» و«التجريس»
تتوقف جوهرية الحاجة لتجديد التراث على تعيين طبيعة الوضع الذي تواجهه الآن مصر — والعرب عمومًا — من جهةٍ، وعلى بيان نوع العَلاقة بين هذا الوضع وبين التراث من جهة أخرى. وبخصوص الوضع الذي يُجابهه العرب الآن، فإنه يبدو أنهم يواجهون أزمةً ممتدة على مدى قرنين منذ مطالع القرن التاسعَ عشرَ وحتى الآن، وأن هذه الأزمة تتعلق — على نحوٍ جوهريٍّ — بطبيعة النظام الذي يشتغل به عقل العرب. ولعل الارتباك الحاصل في المشهد الممتد على مدى السنوات الأخيرة، منذ اندلاع ما يُسمَّى بثورات الربيع العربي، لمما يؤكد على الطابع العقلي للأزمة العربية المسيطرة. فقد كان العرب يتصورون أن أساس أزمتهم يكمن في «النظام السياسي»؛ الأمر الذي يعني أن خروجهم من الأزمة مشروطٌ بإسقاط هذا النظام. لكنه بدا أن إسقاط «النظام السياسي» لم يتمخض عنه التغيير المطلوب للخروج من الأزمة؛ وبما كان لا بد أن يدفع في اتجاه التأكيد على أن «النظام العقلي» هو حجر الأساس في بناء الأزمة العربية. وغنيٌّ عن البيان أن «التراث» الخاص بأي جماعةٍ أو أُمَّةٍ هو بمثابة الإطار الذي ينشأ «العقل» ويتبلور داخله. وهكذا فإنه إذا كان عقل العرب الراهن يشتغل بطريقة يكون معها خاضعًا لسلطة أصلٍ أو نَموذجٍ جاهزٍ، فإن هذا العقل هو النتاج المباشر لما ساد في التراث الإسلامي من طريقة في التفكير بالأصل أو النص. وليس من شكٍّ في أن هذا العقل المهيمن يظل هو المحدِّد لكل ما يغلب على الممارسة العربية الواقعية من التقليد في الدين، والاتباع في المعرفة، والإذعان في السياسة، والأبوية في الاجتماع، والتبعية في الاقتصاد.
وترتيبًا على ما سبق، فإنه يمكن استنتاج أنه إذا كان الخلاص من الأزمة العربية الراهنة مشروطٌ بنقد عقل العرب وتفكيكه على النحو الذي يفتح الباب أمام انبثاق عقلٍ جديدٍ، فإن التراث — الذي تحققت له السيادة في الإسلام — سوف يكون هو الساحة الرئيسة التي يتحقق فوقها هذا العمل النقدي. إن ذلك يعني أن تجديد العقل، الذي هو الشرط اللازم للخروج من الأزمة، هو أمرٌ موقوفٌ بالكلية على نقد التراث. وبالطبع فإن المعيار الذي سيعيِّن حدود المسموح والممنوع في هذا النقد لن يكون إلا ما يؤدي إلى فتح الباب أمام عقلٍ عربيٍّ جديدٍ.
وهكذا فإن نقطة البَدء في التجديد إنما تنطلق من الوعي العميق بالجوهر العميق للأزمة التي يعيشها العرب أولًا. فمن دون هذا الوعي سيظل كل تجديدٍ مجرد ثرثرة يدير فيها بعض الناس ألسنتهم بمفرداتٍ فارغةٍ وخاليةٍ من المعنى. وإذا جاز أن الأزمة الراهنة تضرب بجذورها — كما سبق القول — في طبيعة النظام العقلي المهيمن، فإن ذلك يستدعي أساليبَ في الاشتغال ذاتَ طابعٍ معرفيٍّ. لكنه يبدو — ولسوء الحظ — أن غياب الوعي بهذه الطبيعة العقلية للأزمة العربية الراهنة قد جعل البعض — من الذين لا يقدرون على الخروج من دائرة «التقديس» — لا يجاوز بالتجديد حدود تحديث اللغة وأساليب القول، بينما لا يعرف الآخرون — من الذين اختاروا أن يُقِيموا تجديدهم على آلية «التجريس» — إلا أن يصبُّوا لعناتِهم على بضع نصوصٍ وشخوصٍ يجري التعامل معها خارج أي سياقاتٍ معرفية وتاريخية. وبالطبع فإن ذلك يعني أن التجديد «تقديسًا» أو «تجريسًا» لن يكون قادرًا على إخراج العرب من أزمتهم، بل إنه سوف يؤدي إلى مفاقمتها للأسف. حيث الأمر يستلزم تجاوز مواقف «الدفاع» تقديسًا أو «الهجوم» تجريسًا التي هي مواقف انفعالية بالأساس، إلى «النقد» الذي هو فعلٌ معرفيٌّ يعني الوعي بالحدود المعرفية والتاريخية التي تؤطر الظاهرة المدروسة؛ سواء كانت التراث أو غيره. إن الوعي بتلك الحدود يجعل المرء لا يطلب من الظاهرة أن تُعطيه ما لا تقدر على أن تقدمه له، كما تجعله لا يحمِّلها مسئولية ما لا يصح تحميله عليها.
ولسوء الحظ، فإن التقارع الحاصل بين الفرقاء المتحاربين بالتقديس أو التجريس قد أدى إلى تغييب النقاش حول المسائل الكبرى التي لا سبيل للخروج من الأزمة إلا بنقدها وتجديد القول فيها. وهكذا فإن هؤلاء الفرقاء قد انهمكوا — على نحوٍ كاملٍ — في استعادة العراك القديم حول «الجَرح والتعديل»؛ بحيث بدا وكأن رفع الغُمَّة عن كاهل الأمة موقوفٌ على مجرد جَرح «راوٍ» أو «تعديل» رواية. لم يعد الأمر متعلقًا بفحص السياقات التي أدت إلى تحول «المنظومة الخبرية» بأسرها إلى سلطة لها قوة إلزام الوحي، واقتصر الأمر على جَرح بعض الرواة وتعديل بعض الأخبار. والحق أن المشكلة ليست في مجرد تضعيف «خبر» بعينه أو في جَرح الناقل له، بل في تحول المنظومة الخبرية إلى قوة لها سلطة الوحي وإلزامه.
وضمن هذا السياق فإنه يلزم التنويه بأن إرهاصات هذا التحول قد بدأت بعد غياب جيل الصحابة الذين تَميَّز تفكيرهم بسمتين جوهريتين سرعان ما غابَتا على نحوٍ كاملٍ. تتمثل السمة الأولى في «الإقلال من الرواية»، إلى حدِّ معاقبة من يُكثرون منها بمثل ما عاقب عمر بن الخطاب أبا هريرة لإكثاره من الرواية. وأما السمة الثانية فإنها تتعلق بإلحاحهم على النظر إلى ما يصدر عنهم من تقريرات على أنها مجرد آراء تخصهم، وليس لها قوة إلزامٍ مطلقة. وللغرابة، فإن هاتين السمتين قد غابَتا عن تفكير اللاحقين الذين لم يكتفوا بالإكثار من الرواية، بل ونظروا إلى تقريرات الصحابة لا على أنها آراء تخصُّهم، وإنما باعتبارها إجماعاتٍ لها نفس قوة إلزام الوحي ذاته. ولقد بدأ هذا التحول في الحصول قبل ظهور البخاري بوقتٍ طويلٍ، ولم يكن البخاري إلا متجاوبًا — بكتابته لصحيحه — مع الاحتياج لتدوين تلك المنظومة الخبرية وحراستها، بعد أن كانت قد تحوَّلت عند السابقين عليه إلى أصلٍ كالوحي.
وهكذا فإن البخاري لم يكن هو الذي حوَّل المنظومة الخبرية إلى سلطة، بقدر ما إن عمله كان، هو نفسه، نتاج تحوُّلها إلى سلطةٍ. وإذن فالبخاري هو ذروة سيرورة تاريخية ابتدأت قبل ما يزيد على أكثر من قرنٍ على ظهوره، ولم يكن هو صانعَ هذه السيرورة. وبالطبع فإن فعل التجديد ينبغي أن يسعى إلى تفكيك الكيفية التي أصبحت معها المنظومة الخبرية أصلًا كالوحي، وليس الانشغال ببعض مَرويَّاتها ورُواتها؛ وهو للأسف ما ينهمك فيه مجددو مصر، أو بالأحرى مثرثروها.