كبارُ السن حكماء وليسوا ضُعَفاء الذاكرة: طريقةُ التفكير تؤثِّر على الذاكرة
حصل جون جوديناف، أستاذ الهندسة الميكانيكية وعلوم المواد في جامعة تكساس في أوستن، على العديد من الجوائز عن عمله في تطوير البطاريات. في عام ٢٠١٤ حصل على جائزة تشارلز ستارك دريبر عن إسهامه في اختراعِ بطارية أيون الليثيوم. وفي عام ٢٠١٧ تقدَّم للحصول على براءةِ اختراع نوع جديد من البطاريات. كما أنه لطالما كان من الأشخاصِ المنتظَر فوزهم بجائزة نوبل في الكيمياء.
هل يحدث للمُسنِّين بعضُ التدهور في العمليات المعرفية، مثل حل المشكلات ومدة الاستجابة والذاكرة، مع العمر؟ أجل.
«لحظة نسيان ككبار السن؟» ليس بالضبط
قبل بضعِ سنوات كنت في طريقي إلى اجتماعٍ في برينستون بولاية نيو جيرسي، التي تبعُد عن مسكني في ماساتشوستس. كان أمامي يوم حافل — من تدريس فصول وحضور اجتماعات وغسيل ملابس قبل المغادَرة، وهكذا. وأخيرًا غادرت المنزلَ الساعة التاسعة مساءً — متأخِّرة عما كنت أنوي — فكنت عندئذٍ بالطبع في عجلةٍ للذهاب.
كنت قد تقدَّمت كثيرًا في الطريق، بفضل قلَّة الزحام نسبيًّا في آخرِ المساء، وفي الساعة ١١ مساءً كنتُ على جسر تابان زي (حيث قطعت نصفَ مسافة رحلتي) حين اتصل زوجي بارت ليطرح عليَّ سؤالًا. سألني: «هل كنتِ تَقصدين أن تتركي حقيبةَ سفركِ على الفراش؟».
آمم، لا، قطعًا لم أرِد أن أترك حقيبةَ السفر على الفراش. كان الخبر سيئًا لا سيما أنه كان من المحال أن أستدير وأعود أدراجي في تلك الساعة لآتي بها. كذلك كان هذا مؤسفًا للغاية لأنني كنت قد قرَّرت الذهابَ في رحلتي الليلية المتأخِّرة بالسيارة مرتديةً سروالًا رياضيًّا وقميصًا رثًّا — وكان ميعاد الاجتماع الساعة الثامنة صباحًا.
طلبت من بارت أن يبحث على الإنترنت ليرى أي المتاجر ستكون مفتوحة في منطقة برينستون قبل الثامنة صباحًا، مدركة أنني لن أستطيع حضورَ الاجتماع في لباسي الحالي. ربما تستطيعون تخمينَ ما وجده: الخيار الوحيد للحصول على ملابسَ جديدة قبل الساعة الثامنة صباحًا كان وولمارت. (وهذا خير مثال على المثل القائل المُضطر يركب الصَّعب.)
وصلتُ الفندق بعد الساعة الواحدة صباحًا بقليل وطلبت أن يُوقظُوني بالاتصال الساعة السادسة صباحًا. وذهبت إلى وولمارت وخلال ٣٠ دقيقة كنتُ اشتريتُ لباسًا كاملًا لليوم، من مجموعة مايلي سايرس (في تغيير عن ملابسي التقليدية).
حين قصصت هذه القصةَ المحرجة على زملائي أثناء الغداء — بعد أن استأذنت للخروج من آخرِ اجتماعات اليوم حتى أستطيع التوجُّه إلى المركز التجاري لشراء المزيد من الملابس لاجتماعات الأيام التالية — لم يستطِع زملائي كبْتَ ضحكاتهم (وقد صاروا يسألونني في كل الاجتماعات التالية ما إذا كنت تذكَّرت حقيبة السفر). لكنَّني كنت في الأربعينيات حين حدث هذا الموقف؛ لذلك فقد عزا الكل نسياني إلى كوني مُجهَدة في العمل ومتعبة ومثقلة بالأعباء.
لنفترض أن ذلك الموقفَ حدث وأنا في الستينيات أو السبعينيات أو الثمانينيات. هل تتخيَّلون التفسيرات التي كانت ستُقدَّم؟ إنما هذا مثال بسيط على كيف أننا من المُمكِن أن نفسِّر نفس الموقف تفسيراتٍ مختلِفة لتُناسِب الصورَ النمطية التي نتمسَّك بها. إن طريقة تفكيرنا حيال الأم العاملة المشغولة تخبرنا بأن النسيان ينتج عن محاولةِ التوفيق بين العديد من الأدوار المختلفة. وبالمثل، حين يضيع من طلاب الجامعة بطاقاتُ هوية أو مفاتيح أو هواتف محمولة (وهو ما يحدث كثيرًا جدًّا)، لا يفترض أحد أنهم يعانون بحقٍّ فقدانَ ذاكرة. على النقيض، طريقة تفكيرنا حيال النسيان لدى كبار السن تفترض أنه ناشئ عن خَرَف.
وكما ستَعرفون في هذا الفصل، لا تؤثِّر هذه الصور النمطية على الطريقة التي نرى بها ذلك السلوك ونفسِّره فحسب وإنما من الممكن أن تؤثِّر كثيرًا على ذاكرة كبار السن أيضًا. فمجردُ تذكيرِ كبار السن بالصور النمطية المتحاملة على المسنين، مثل التدهور المفترض في الذاكرة مع السن، من الممكن أن يُؤدِّي إلى أداءٍ متراجع في اختبارات الذاكرة، وهو ما يؤكد تلك الصور النمطية بالطبع. هذه العملية التي يتحقَّق فيها ما نخشاه تنجم عن تهديد الصور النمطية، كما شرحت في الفصل الأول.
مخاطر الصور النمطية السلبية المرتبطة بالشيخوخة
مع الإشارات المتواصلة إلى «لحظات النِّسيان ككبار السن» في حياتنا اليومية، منها رسائل في المجلات والبرامج التلفزيونية والأفلام، يكون من المنطقي أن يعتري كبارَ السن القلقُ بشأن أداء ذاكرتهم. ينهال علينا الإعلام يوميًّا بصورٍ سلبية عن التقدُّم في العمر، فيدفعنا إلى الاعتقاد بأن الشيخوخة مُرادف لأن نُصبح أكثرَ نسيانًا وأقل جاذبية وأقل نشاطًا وأقرب للموت. لكن كما كشفت الأبحاثُ عن مخاطر الصور النمطية إضافةً إلى صورٍ نمطية سلبية أخرى، فمن الواضح أن تذكيرَ كبار السن بفقدان الذاكرة المزعوم الذي يَحدث مع التقدُّم في العمر يضعِف أداء الذاكرة بالفعل.
رغم أن مثل هذه النتائج تُعزِّز فحسب أكثرَ تصوراتنا سلبيةً عن تأثير الشيخوخة على القدرات الذهنية؛ فإن هؤلاء الباحثين يشيرون إلى أنها لا تعني بالضرورة ضمنًا أن كبار السن غيرُ قادرين على الاضطلاع بمهامِّ الحياة اليومية. إلا أنهم يرون أن كبار السن من أجل الحفاظ على مستوياتٍ معقولة من الأداء، ربما يُضطرُّون للاتكال أكثرَ على مساعدة أدوات التذكير بجانب الأصدقاء والأسرة.
ما زالت مثل هذه الاكتشافات تقضي على أكثرِ تصوُّراتنا سلبيةً عن آثار الشيخوخة على القدرات الذهنية. بدلًا من دعم الرأي القائل بأن التغيُّرات البيولوجية تؤدِّي إلى خسائرَ حتمية، تفيد هذه الاكتشافات بأن درجةَ فقدان الذاكرة خاضعةٌ إلى حدٍّ ما لسيطرة البيئة والفرد.
كان المقال الثالث حياديًّا لا يحتوي على معلوماتٍ محدَّدة عن ارتباط الذاكرة بالشيخوخة.
وبعد ذلك أتمَّ المشاركون كلُّهم اختبارَ ذاكرة معياري حيث ظلُّوا يستظهرون قائمة من ٣٠ كلمة لمدة دقيقتين، ثم كتبوا ما استطاعوا تذكُّره من الكلمات.
وجد الباحثون أن أداء الشباب كان مُرتفعًا نسبيًّا بصرف النظر عن المقال الصحفي الذي قرءوه. إذ تذكَّروا ٦٠ في المائة من الكلمات في المتوسِّط، دون أن يتغيَّر الأداء مطلقًا حسب المقال الذي قرءوه على وجهِ التحديد.
لكن هل تستطيعون أن تُخمِّنوا ما الذي اكتشفه الباحثون مع كبار السن؟ ربما مثلما توقَّعتم بالفعل، كان أداء كبار السن في اختبار الذاكرة أسوأ إذا كانوا قد قرءوا المقالة المؤكِّدة للآثار السلبية للتقدُّم في العمر على الذاكرة. ما حدَث على وجه التحديد أن كبار السن الذين قرءوا المقالة المُحايدة أو الإيجابية تذكَّروا ٥٧ في المائة من الكلمات، فيما تذكَّر أولئك الذين قرءوا المقالة السَّلبية ٤٤ في المائة فقط من الكلمات.
تدُلُّ هذه الدراسة على تأثير قراءة مقالة واحدة عن الذاكرة على أداء أشخاصٍ مُسنِّين في اختبارٍ بسيط يَعقبها. فهل تستطيع أن تتخيَّل الآثارَ الفعلية لسماع تلك الصور النمطية باستمرار؟ وأن ترى كيف يمكن لتلك الصور النمطية نفسها أن تُؤدِّي لتدنِّي عمل الذاكرة لدى كبار السن؟ هذا مثال حي على طريقة تفكيرنا.
لماذا شكلُ الاختبار مُهم؟
إلا أن الباحثين أعطَوا المجموعات المختلفة معلوماتٍ مختلفة بدرجة طفيفة عن طبيعة هذا الاختبار — وهذا هو العامل الرئيسي الذي تغيَّر في هذه الدراسة.
فقيل لإحدى المجموعات التي ضمَّت شبابًا ومُسنِّين إنهم سيخضعون لاختبار ذاكرة، وإن على المشتركين «تذكُّر» أكبر عدد ممكن من العبارات التي جاءت في القائمة. إذ قيل للناس في هذه المجموعة بالحرف: «يُهمنا أن نعرف في هذه التجربة مدى قوة ذاكرتكم»، و«سنقيس قدرتكم على تذكُّر هذه المعلومات في المرحلة الثانية».
على النقيض، قيل للناس في المجموعة الأخرى إنهم لا بدَّ أن «يطلعوا» على أكبرِ عدد ممكن من العبارات في القائمة، لكن لم تُستخدم كلمة «ذاكرة». وقيل للناس في هذه المجموعة التعليمية: «يُهمنا أن نعرف في هذه التجربة قدرتكم على الإلمام بالمعلومات» و«سوف نختبركم في هذه المعلومات في المرحلة الثانية».
بعد ذلك حصل المشاركون كلُّهم على نفس الاختبار، حيث كان عليهم قراءة قائمة تضمُّ معلوماتٍ عامة وتحديد ما إن كان كلٌّ منها خطأً أم صوابًا. وكان الباحثون قد أدخلوا تغييراتٍ على بعض الجمل الأصلية ليجعلوها خاطئة، مثل «يحتاج بيض النعام نحو ستِّ ساعات لسلقِه»، ثم حسَب الباحثون الأداءَ في هذا الاختبار لكلٍّ من الشباب والمسنِّين في المجموعتين المختلفتين.
وكما توقَّع الباحثون، أدَّى نوع الإرشادات التي تلقَّاها الناس عن الاختبار إلى اختلافات كبرى في الأداء. حين وصَف الباحثون الاختبارَ بأنه يقيس القدرة على التعلُّم، لم يظهر اختلافٌ في الأداء بين المسنين والشباب. لكن حين صاغ الباحثون الاختبارَ باعتباره يُركز على الذاكرة، كان أداء كبار السن أسوأ كثيرًا من أداء الشباب. وتدُلُّ هذه النتائج على أنه ليس بالضرورة أن يكون أداء المسنين في اختبارات الذاكرة أسوأ من الشباب. فالمُسنُّون في واقع الأمر لا يؤدون أداءً سيئًا إلا حين يخشون تأكيدَ الصورة النمطية المرتبطة بالتقدُّم في العمر من ضَعف مهارات الذاكرة في فئتهم العمرية.
تكشف هذه الدراسة عن آثارٍ طفيفة نسبيًّا، لكن مهمة لصياغة الاختبار على أداء الذاكرة في اختبارٍ للذاكرة القصيرة الأجل في تجربة نفسية.
حصل نصف المشاركين في كلٍّ من هاتين المجموعتين على مقالٍ مفبرك بعنوان «الذاكرة والمسنين». شرح هذا المقال معلوماتٍ عن القصور العام في الذاكرة الذي يلحَق بكبار السن، مثل عدم تذكُّر المواعيد، ونسيان أين تركوا الأشياء العادية (المفاتيح والنظارات … إلخ)، والاحتياج لمن يُذكِّرهم باستمرار وحاجتهم إلى قوائم في جداول زمنيةٍ ودفاتر ملاحظات لمساعدتهم على التعامل مع مشكلات الذاكرة. حصَل المُشاركون الآخرون كذلك على مقالٍ ليَقرءوه — «القدرات العامة والمسنون» ركَّز بوجهٍ أعمَّ على التدهور المعرفي مع التقدُّم في السن لكن دون التطرُّق إلى الذاكرة على الإطلاق. وفي النهاية، أعطى الباحثون المشاركين كلَّهم اختبارَ ذاكرة معياري يُستخدَم في تشخيص الخرَف.
تُوضِّح النتائج التي توصَّلوا إليها القُدرة الهائلة للتوقعات على الإخلال بأداء الذاكرة. فما حدث تحديدًا أن ٧٠ في المائة من الأشخاص الذين اعتقدوا أنهم «الطرف الأكبر سنًّا» في مقياس العمر وقرءوا المقال الذي وصف مشكلات الذاكرة المُرتبطة بالتقدُّم في السن، انطبقت عليهم المعايير الإكلينيكية للخرف. على النقيض من ذلك، لم تَنطبِق المعايير التشخيصية للخرف إلا على ١٤ في المائة فقط من أولئك الذين كانوا في المجموعات الثلاث الأخرى، بما في ذلك أولئك الذين اعتقدوا أنهم في «الطرف الأكبر سنًّا» من مقياس العمر لكنهم قرءوا مقالًا لا يركِّز على مشكلات الذاكرة الناجمة عن التقدُّم في السن. وكان الأمر مُماثلًا في مجموعات المقياس «الأصغر سنًّا»، بصرف النظر عن المقال الذي قرءوه.
حتى الإشارات اللاواعية تؤثِّر على أداء الذاكرة
أثبتت الأبحاث التي ذكرتها حتى الآن آثارَ كلٍّ من المعلومات السلبية الواضِحة الصريحة عن ارتباط الشيخوخة بالذاكرة والطُّرق الأكثر خفاءً لصياغة اختبار حول أداء الذاكرة. لكن ما يستدعي الانتباه على وجه الخصوص هو أنه حتى الإشارات الباطنية، أي الإشارات التي تتطور على مستوى اللاوعي، التي تذكِّر المسنِّين بهذه الصورة النمطية السَّلبية من الممكن أن تضعِف أداء الذاكرة.
لتقصي آثار تلك الإشارات على الذاكرة لدى كبار السن، من الممكن أن يُعطي الباحثون المشاركين محفِّزاتٍ لا واعية. في هذا النوع من الدراسات، تظهر الكلماتُ لفترة وجيزة جدًّا على شاشة كمبيوتر بحيث يُثار المشاركون من دون أن يَصيروا واعين للكلمات بعينها أو يتدبَّروها على مستوى الوعي. عندئذٍ يمكن للباحثين أن يتحقَّقوا مما إن كان بإمكان تلك المثيرات اللاواعية أو الباطنية أن تُؤثِّر على السلوكيات.
بعد التعرُّض لأحد هذَين النوعين المتمايزين من المثيرات، أتمَّ المشاركون كلهم مجموعة من اختبارات الذاكرة لقياس أنواع مختلفة من الذاكرة. فقد عُرِض، مثلًا، على الناس سلسلة من سبع نقاط على ورقة لمدة ١٠ ثوانٍ ثم طُلِب منهم إعادة رسم ذلك الشكل. وفي اختبارٍ آخر، قرأ الباحث قائمة من الكلمات ثمَّ طلب من المشاركين تدوينَ أكبرِ عدد يمكنهم تذكُّره من الكلمات.
بعد ذلك راح الباحثون يبحثون كيف كان أداء الناس الذين تعرَّضوا لأنواع مختلفة من المثيرات في اختبارات الذاكرة هذه (ولتتذكر أن هذه المثيرات كانت أقصرَ من لمح البصر). فاكتشفُوا أن الناس الذين تعرَّضوا لمثيراتٍ سلبية مرتبطة بالشيخوخة كان أداؤهم في اختبارات الذاكرة أسوأ من أولئك الذين تعرضوا لمثيراتٍ إيجابية مرتبطة بالتقدُّم في السن.
علاوة على التحقُّق من تأثير المُثيرات اللاواعية على الذاكرة، أجرى الباحثون تجربةً للتحقُّق مما إن كانت هذه المُثيرات ستُؤثِّر كذلك على مواقف الناس وصورها النمطية عن الشيخوخة. فقرأ كل المشاركين قصةً عن امرأة في الثالثة والسبعين من العمر تُدعى مارجريت تَنتقِل للعيش مع ابنتها البالغة وتحضر حفلًا من أجل لمِّ شمل طلاب الجامعة. وطُلِب من المشاركين كتابةُ أكبر قدرٍ يمكنهم تذكُّره من تفاصيل هذه القصة كجزء من اختبار للذاكرة. لكن طُلب منهم أيضًا أن يُدلُوا بأفكارهم وآرائهم في مارجريت، وهو ما كان اختبارًا لما لديهم من الصور النمطية عن الشيخوخة.
كتب أحد الأشخاص الذين تعرَّضوا للمُحفِّزات الإيجابية عن التقدُّم في السن قائلًا: «مثال نموذجي بعض الشيء لجدة تُحاول التأقلُم مع وضعٍ جديد بعد حدث مأساوي. مشغولة بمصلحة أبنائها وأحفادها. يروق لهما مَن هم في نفس سنها.» على النقيض، كتب أحد الأشخاص الذين تعرَّضوا للمثيرات السلبية عن التقدُّم في السن: «صارت مسنَّة وكثيرة النسيان، وهذا شيء طبيعي لدى أغلب كبار السن.» وكتب آخر في مجموعة المثيرات السلبية عن التقدُّم في العمر كلمتين فقط: «مرض ألزهايمر».
باختصار، تُعطينا هذه الدراسة دليلًا مهمًّا بحق على أن الصور النمطية السلبية عن الشيخوخة تؤثِّر على ذاكرة كبار السن وانطباعاتهم عن الشيخوخة — وأن هذه العملية قد تقع حتى عند إعطاء الإشارات السلبية من دون إدراكٍ واعٍ.
كم من العمر تشعر أنك بلغته؟
تذكيرُ الناس بالصور النمطية السَّلبية المرتبطة بالشيخوخة، ولو على مستوى اللاوعي، لا يؤثِّر على الذاكرة فحسب، لكنه قد يؤثِّر أيضًا على ما يشعر به الناس جسديًّا. فمجرد الخضوع لاختبار ذاكرة من الممكن أن يجعل كبار السن يشعرون بأنهم أكبر حتى من سنهم.
فيما بعدُ أتمَّ كبار السن اختباراتٍ قصيرة تُقيِّم الوظائف المعرفية والذاكرة المعيارية. انطوى اختبار الذاكرة هذا على قضاء دقيقتين في مطالعة ٣٠ اسمًا ثم كتابة أكبر عدد يتذكَّرونه من تلك الكلمات. ثم سأل الباحثون المشاركين عن السن الذي شعرُوا بأنهم بلغوه.
رغم أن كبار السن كانوا قد أفادوا في البداية بأنهم يشعُرون بأنهم بلغوا ٥٨٫٥ سنة؛ فإن سنَّهم التخيُّلي زاد بعد إتمام هذه الاختبارات بما يقرب من خمس سنوات، فكان ٦٣٫١٤ سنة. وهذه النتيجة جديرةٌ بالاهتمام بشدة؛ لأنها تُثبت كيف يمكن لمجرد الخضوع لاختبارٍ قصير مدتُه خمس دقائق أن يجعل الناس يَكبَرون خمس سنوات تقريبًا كما يبدو! من الواضح أن الخضوع لاختبار ذاكرة يلقي الضوء على صورٍ نمطية شائعة عن الشيخوخة في مجتمعنا، وهو ما يُؤدِّي بدوره لشعور كبار السن بأنهم أكبرُ حتى من سنهم. بل إن أبحاثًا لاحقة قد كشفت في الواقع أن مجرَّد قراءة إرشادات اختبار الذاكرة — دون حتى الخضوع فعلًا للاختبار — قد أدَّى إلى نتائجَ مشابهة على السن الذي يتصوَّره المسنُّون. يعتقد الباحثون أن هذه التصرفات تنشِّط الصور النمطية السَّلبية عن التقدُّم في السن، مما يجعل كبار السن يشعرون بأنهم أكبر سنًّا.
في متابَعةٍ للدراسة الأولى، تحقَّق الباحثون مما إذا كان إتمام اختبار ذاكرة من ذلك النوع سيكون له تأثير مُماثل على شبابٍ أصغر سنًّا. فقد يكون مجرد الخضوع لاختبارٍ على كل حال هو ما يجعل الناس يشعرون بالتعب أو القصور الذهني، وهو ما يُؤدي بدوره لشعورهم بأنهم أكبر سنًّا. إلا أن نتائج دراسة المتابعة هذه لم تَكشف عن تأثيرٍ لذلك الاختبار على العمر الذي تصوَّره الشباب. بعبارة أخرى، اختبارات الذاكرة لا تؤثِّر على العمر الذي يتصوره الشباب لأنفسهم على الإطلاق.
لهذه النتائج أهمية عملية بالغة لأنه، كما ستعلمون لاحقًا في هذا الكتاب، للعمر الذي يتصوره المرء أثرٌ على الحالة الصحية.
نتيجة الصور النمطية المتحيِّزة ضد المسنِّين على أرض الواقع
أحد أوجه القصور الرئيسية في كل الدراسات التي أفردتها حتى الآن هو أنها تُجرى في بيئةٍ مختبرية محكومة. وربما تكونون قد تساءلتم بالفعل عما إذا كانت الاكتشافات التي ذكرتها عن تأثير المثيرات السلبية عن التقدُّم في العمر لها أي آثار على أرض الواقع. بعبارة أخرى، حتى إذا كانت التذكرة بتلك الصور النمطية تؤثِّر على أداء الذاكرة القصيرة الأجل في تجربة نفسية، فهل لهذه الصور النمطية تأثيرٌ على ما يصيب كبار السن في حياتهم اليومية؟
بوجه عام، المشاركون في هذه الدراسة غيرُ مألوفين نوعًا ما. إذ يكادون يكونون في تمام عافيتِهم؛ فقد كان تقديرهم لحالتهم الصحية على مقياسٍ من واحد إلى خمسة ٤٫٥١، حيث خمسة تُساوي صحة ممتازة. كما أنهم حصلوا على نوعٍ جيد من التعليم؛ إذ أتمَّ ٧٧ في المائة منهم التعليم الجامعي.
تحقَّق الباحثون من درجات المشاركين المبدئية على مقياسٍ لتقدير الصور النمطية عن الشيخوخة. طلب هذا المقياس من المشاركين تقييمَ اتفاقهم مع جملٍ مختلفة، مثل «كبار السن شاردو الذهن» و«كبار السن لا يستطيعون التركيز جيدًا».
بعد ذلك قيَّم الباحثون ذاكرةَ المشاركين في مرحلةٍ مُتقدِّمة من الكِبر، بعد أن بدءوا الدراسة في الأصل بثمانية وثلاثين عامًا وأتموا تقييمًا للحالة الصحية والصور النمطية عن التقدُّم في السن. وأجرَوا اختبار ذاكرة معياريًّا حيث يرى الناس شكلًا هندسيًّا لمدة ١٠ ثوانٍ ثم يُطلب منهم رسم تلك الصورة.
وأخيرًا تحرَّى الباحثون السؤال الأساسي عما إذا كانت الصور النمطية عن الشيخوخة تؤثِّر على أداء الذاكرة مع مرور الوقت بالمقارنة بين درجات اختبار الذاكرة الذي خضعوا له في مرحلة متقدمة من العمر بين أولئك الذين كانت لديهم صورٌ نمطية إيجابية عن الشيخوخة في مُقابل الذين كانت لديهم صور نمطية سلبية عنها حين بدءوا هذه الدراسة. مثلما توقَّعتم على الأرجح، كان أداء أصحاب أكثر الصور النمطية سلبية عن الشيخوخة في اختبار الذاكرة أسوأ من أداء أصحاب الصور النمطية الأكثر إيجابية. في الواقع، تبيَّن أن كبار السن — من سن ٦٠ فما فوق — الذين كان موقفهم من الشيخوخة سلبيًّا في البداية كانوا أكثر تدهورًا بنسبة ٣٠ في المائة في أداء الذاكرة مع الوقت مقارنةً بمن كان لديهم صور نمطية أكثر إيجابية في البداية.
هذه النتائج غاية في الأهمية؛ لأن الباحثين وضعوا في الحسبان العديد من العوامل الأخرى التي من الممكن أن تفسِّر تدهورَ الذاكرة مع الزمن، منها السن والاكتئاب والتعليم والحالة الاجتماعية وعدد من الحالات المزمنة استنادًا إلى سجلات المستشفيات والعِرق والحالة الصحية حسب التقدير الشخصي والنوع الجنسي. باختصار، تقدِّم هذه الدراسة دليلًا مهمًّا على أن اعتناقَ آراء سلبية عن الشيخوخة لا يؤدِّي إلى انخفاضٍ قصير الأجل في أداء الذاكرة داخل البيئة المختبرية فحسب وإنما يترك آثارًا مُستمرة على الذاكرة بمرور الوقت.
للثقافة أهميتها
من المهم أيضًا أن نشير إلى أن المسنين في الثقافات التي تنظر إلى التقدُّم في السن نظرةً أكثرَ إيجابية لا يظهِرون نفسَ النوع من التدهور في أداء الذاكرة مع التقدُّم في السن. هذا الاكتشاف معناه أن تغيير الصور النمطية الثقافية السلبية عن الشيخوخة في العديد من الثقافات الغربية قد يثمر عن تحسُّن الإدراك لدى المسنين.
رغم أن الموقف إزاء الشيخوخة في الولايات المتحدة سلبي إلى حدٍّ ما، لا سيما فيما يتعلَّق بتأثير الشيخوخة على الذاكرة، فإن بعض الثقافات تَعتنِق اعتقادات أقل سلبية بكثير عن الشيخوخة. ففي الصين، على سبيل المثال، يُنظر إلى المتقدِّمين في السن نظرةً أكثر إيجابية عن النظرة للشباب، خصوصًا فيما يتعلَّق بالحكمة. وللثقافة الصينية تاريخ طويل من إظهار الاحترام لكبار السن والنظر إليهم بإعجاب وإجلال.
وكما تنبَّئوا، كان أداء الشباب في كلٍّ من الصين والولايات المتحدة ممتازًا في جميع اختبارات الذاكرة، ولم يكن ثمَّة فرْق قائم على الثقافة. غير أن أداء كبار السن في الولايات المتحدة كان سيئًا جدًّا في تلك الاختبارات مقارنةً بكبار السن في الصين.
خلاصة القول
أرجو أن تكونوا فهمتم الآن العواقبَ الخطيرة للصور النمطية السَّلبية المرتبطة بالشيخوخة عن الذاكرة وكيف أن تلك الصور النمطية لها تأثيرٌ بالغ على القدرات المعرفية يفوق أيَّ عمليات بيولوجية طبيعية. لكن ما يدعو للتفاؤل هو أن الناس الذين لا يخضعون لحتمية الشيخوخة يستطيعون مقاومةَ التبِعات الضارة التي تتحقَّق ذاتيًّا للصور النمطية السلبية عن الشيخوخة. في الواقع، مجرَّد التعرف على تلك الصور النمطية وتأثيرها من الممكن أن يؤثر تأثيرًا إيجابيًّا للغاية في تحسُّن أداء الذاكرة مع تقدُّمنا في العمر. وقد ختم الشاعر هنري وادزورث لونجفيلو قصيدته، «تحية مُحتضَر»، بالأبيات التالية:
الشيخوخة من وجهة نظرِ لونجفيلو فرصةٌ مليئة بالآمال. إذا كنت بدأت تشعر الشعورَ نفسه، فإليك بعض الاستراتيجيات البسيطة التي يمكنك استخدامها للحفاظ على مهاراتك المعرفية، بل وتقويتها، مهما كانت سنُّك.
واصِل تعلُّم مهارات جديدة
لدينا كلِّنا ميلٌ للمُداومة على روتينٍ مريح ومألوف. لكن الناس الذين يتَّخذون خطواتٍ متروية للاستمرار في تعلُّم مهارات جديدة يظلُّون حادِّي الذهن حتى حين يَهرَمون. بعبارة أخرى، وظائف المخ إما أن تستخدمها أو تفقدَها.
كما توقَّعتم على الأرجح، أبدى كبار السن الذين تعلَّموا مهارات جديدة تحسنًا في الوظائف المعرفية عن أولئك الذين في المجموعتين الأخريين. تُوضِّح هذه الدراسة أهميةَ أن تحفِّز نفسك، مهما يكن عمرك، على مجابهة تحدياتٍ ذهنية وتتعلم أشياء جديدة. وهذا النوع من التحفيز الذهني له دور كبير في مساعدة الناس على الاحتفاظ بمستويات مرتفعة من نشاطهم المعرفي حتى في السن المتقدمة. وكما تقول دينيس بارك، مؤلِّفة هذه الدراسة والباحثة في جامعة تكساس في دالاس: «لا يكفي أن تخرج وتفعل شيئًا ما فحسب — من المهم أن تخرج وتفعل شيئًا غير مألوف وينطوي على تحدٍّ ذهني، فذلك من شأنه أن يحفِّزك ذهنيًّا واجتماعيًّا بدرجة كبيرة.»
وبناءً على ذلك، إن كنت تُريد أن تحتفظ بلياقتك الذهنية مع تقدُّمك في العمر، حثَّ نفسك على الاستمرار في التعلُّم — التحِق بفصل تعليمي، انضم لأحد أندية القراءة، سافر إلى أماكنَ جديدة. فالأوان لا يَفُوت أبدًا على تنمية مهارات جديدة، ومن الجائز أن يغيِّر هذا النوع من التنشيط الذهني رأسك فعليًّا.
غيِّر من رؤيتك
الوعي المتنامي بمخاطر تذكير المسنين بالصور النمطية السلبية المرتبطة بالشيخوخة حدا بالباحثين على استكشاف استراتيجيات للتغلُّب على هذه النتائج السلبية. ومما يبعث على التفاؤل أن بعض الدراسات أثبتَت أن مجرَّد إحداثِ تغيير بسيط في الكلمات يمكن أن يساعد المسنِّين على إظهار أداء قوي فيما يتعلَّق بذاكرتهم، حتى في مواجهة مخاطر الصور النمطية.
غير أن الباحثين أضافوا فيما بعدُ لمسةً إبداعية لهذا النوع النمطي من دراسات الذاكرة. فتحديدًا، أُخبر نصف المشاركين أنهم سيتلقَّون جائزة على كل كلمةٍ يتذكَّرونها بشكل صحيح؛ أي إنهم سيحصُلون على رقاقتَي بوكر إضافيتَين، يمكن أن تُدفع نقودٌ كمقابل لها في نهاية الدراسة. وأُعطي المشاركون الآخرون ١٥ دولارًا في البداية ثم قيل لهم إنهم سيخسرون ثلاث رقاقات بوكر على كل كلمة يَنسونها، أي إنهم سيُصبحون مدينين بالنقود للباحثين في نهاية الدراسة. وبذلك صار تركيز نصف المشاركين على حفظ المزيد من الكلمات، بينما ركَّز النصف الآخر على عدم نسيان الكلمات.
حين راح الباحثون يتحقَّقُون فيما بعد من أداء هؤلاء المسنِّين في اختبار الذاكرة، وجدوا تباينًا شديدًا في الدرجات مع اختلاف صياغة اختبار الذاكرة. فما حدث تحديدًا أن كبار السن الذين أُعطوا فرصة الحصول على نقودٍ إضافية نظير حفظ المزيد من الكلمات كان أداؤهم أقلَّ في اختبار الذاكرة هذا؛ فقد كانت درجاتهم أقل بنحو ٢٠ في المائة من أولئك الذين لم يُخبروا بأي معلومات عن الصور النمطية للشيخوخة. على الجانب الآخر، كان أداء كبار السنِّ الذين قيل لهم إنهم سيخسرون نقودًا على الكلمات التي ينسونها أفضل حتى من أولئك الذين لم يُخبروا بمعلومات عن الصور النمطية المرتبطة بالشيخوخة.
تشير هذه النتائج إلى أنه قد يكون من الأساليب السهلة لتحسين أداء الذاكرة لدى كبار السن عند الخضوع لاختبارات فحص الخرف مثلًا أن يركِّز المعالجون الذين يجرون تلك الاختبارات على أهمية ألا يرتكبوا أخطاء بدلًا من تشجيع الناس على تذكُّر أكبرِ عدد ممكن من الكلمات. وربما يستطيع كبار السن تحسينَ أداء ذاكرتهم بمجرد التركيز على عدم النسيان بدلًا من التذكر.
غيِّر صورك النمطية
-
الممثل والمخرِج كارل راينر، الذي نشر مؤخرًا كتابه، «منشغلًا عن الموت»، في عمر السادسة والتسعين.
-
استشارية العلاقات الجنسية، روث ويستهايمر، التي أصدرت في سن التسعين سيرةً ذاتية في شكل رواية مصوَّرة للأطفال بعنوان «الجَدة ذات الشطحات: القصة المذهلة للدكتورة روث».
-
كلينت إيستوود، الذي كان في الثالثة والثمانين حين أخرج فيلم «القناص الأمريكي»، الذي رُشِّح لجائزة الأوسكار لأحسن فيلم عام ٢٠١٥.
-
روث بادر جينزبيرج التي ما زالت، وهي في الثمانين، تعمل قاضيةً معاوِنةً في المحكمة العليا الأمريكية.
تغيير طريقة تفكيرك إزاء التقدُّم في السن يقرِّبك أكثرَ فأكثرَ من حياةٍ أفضل وعمرٍ أطولَ. لذلك متى سمِعت من الآن بصورة نمطية سلبية عن الشيخوخة أو خطرت لك، فكِّر بالأحرى في الشخصيات الإيجابية التي يُقتدى بها من كبار السن الذين يدرِّسون ويكتبون ويمثِّلون ويُخرِجون ويمارسون القانون في أعلى محكمة في البلاد.