الإيمان بالأرواح مرض
الإيمان بالأرواح برهان على عقدة نفسية تحتاج إلى العلاج السيكلوجي. وأذكر أني دُعيت قبل سنوات في الإسكندرية إلى بيت أحد الموظفين لرؤية الأرواح التي شرعت منذ أشهر تكسر أطباق المائدة وأكواب الشراب وتلقي بالأواني النحاسية على بلاط المطبخ، وذهبت فوجدت شظايا الأطباق، بل وجدت زهرية عظيمة لا يقل ثمنها عن سبعين جنيهًا وهي محطمة قد تناثرت أجزاؤها.
وقد مات رب هذا البيت، وكذلك ربته، ولذلك أستطيع أن أفسر هذا التكسير في الآتي:
ذلك أننا حين نكظم غيظنا نجد أننا ننفجر في يقظتنا فنتناول أقرب الأشياء إلينا فنقذف به ولا نبالي أن ينكسر، وكلنا يعذر هذا الكظم ويعمل على مواساته وتهدئته.
وإلى هنا لا نجد شيئًا غريبًا.
ولكن يحدث كثيرًا أننا نكظم الغيظ ثم نضغط أنفسنا خشية النقد أو الضرر الذي يعود علينا إذا أفرجنا عما في صدورنا بالسب أو الضرب أو الكسر، وعندئذٍ يكمن الغيظ، فإذا استولى علينا النوم جاءت الأحلام لتفريج هذا الغيظ المكظوم، فنحلم بأننا نضرب خصمنا أو أننا نراه في الطين والوحل ملوثًا يمشي في هوان وذلة، وهذا الحلم يريحنا بعض الشيء.
ولكن هناك من الناس مَن يحلمون فينهضون ويمشون ويؤدون أعمالًا على غير وجدان؛ أي إنهم يفعلون كل ذلك وهم في استغراق النوم، فإذا كان هناك غيظ مكتوم فإن هذا المغيظ قد ينهض في نومه ويكسر آنية البيت، يفعل كل ذلك وهو نائم فإذا استيقظ لم يذكر شيئًا.
وفي الصباح يقول سكان البيت إن الأرواح قد حطمت الآنية.
أذكر مثلًا الزوجة التي تكره زوجها وتريد الطلاق، ولكنها تجد أن المجتمع لا يقرها على ذلك، فهي مغيظة كاظمة، وهي تحلم مرة بأنها انفصلت من زوجها، وتحلم مرة أخرى بأنها تزوجت غيره وهنأت بزواجها، وتحلم مرة ثالثة هذا الحلم الذي يحركها فتنهض وتحطم الأثاث، وهو أثاث البيت الذي تكرهه، ثم تعود إلى فراشها وقد هدأت نفسها ونسيت كل شيء.
فنحن هنا إزاء عقدة نفسية أدت إلى بعض التدمير المنزلي. وقد شهدت أنا بالإسكندرية، كما قلت، هذه العقدة التي ولت فصولها حين انتهت بزواج جديد وانتهى بذلك كسر الأطباق.
وهذا الذي يُقال عن الأرواح التي تشفي الأمراض لا يختلف كثيرًا عما ذكرت؛ فإن المريض كاظم، وأيما كظم يحدث لنا! إن لم تفرج عنه، يندس في النفس ويكمن، والأحلام تفرج عنه بعض الشيء، ولكن المريض يلجأ إلى العقيدة التي يجد فيها أحيانًا ميناء السلام، ونعني أية عقيدة.
فإن الذي يشكو الصداع من ارتفاع الضغط في الدم قد يؤمن بأن الترمس هو دواؤه الناجع، وهو يأكل بضع حبات منه كل مساء أو كل صباح.
والذي يشكو المرض السكري قد يؤمن بأن شراب الخروب هو أنجع دواء، وهو يملأ البيت بالخروب.
والذي يشكو الأرق قد يؤمن بأن رائحة النعناع تجلب إليه النوم.
والعجيب في كل ذلك أن المرضى يجدون بعض الراحة في كل هذه «الأدوية»؛ وذلك لأنهم يرتاحون إلى عقيدتهم، والراحة النفسية تؤدي إلى شيء من الراحة الجسمية، بل تؤدي إلى تخفيف الآلام.
والتجاء المرضى إلى الأرواح هو عقيدة تخفف بعض آلامهم؛ لأن المريض ما دام يؤمن بأنه سيُشفى ويوقن بأن الشفاء مؤكد فإنه يُشفى إذا كان مرضه نفسيًّا، ويُشفى شفاء تامًّا، أما إذا كان مرضه جسميًّا فإنه يجد الراحة النفسية التي تزيل آلام مرضه أو تخففها، ولكنها لن تزيل المرض.
وأخيرًا هناك ما يُسمى «العمى السيكلوجي»، وهو أن يكون أمامي شيء أو إنسان لا أحب أن أراهما، وعندئذٍ لا أراهما. كما أن هناك ما يُسمى «الصمم السيكلوجي» وهو ألا أسمع شيئًا لا أحب أن أسمعه مع أن جاري يسمعه.
وعكس ذلك يحدث، فإذا كنت أعتقد أني سأرى شيئًا أو إنسانًا فإن من المؤكد أني سأراه وإن لم يكن حاضرًا، وإذا كنت أعتقد أني سأسمع شيئًا فإني سأسمعه وإن لم يكن هناك ما يُسمع.
بل إني أستطيع أن أؤلف صورة أو أسمع صوتًا لأيما شيء يُحس، وذلك للعقيدة التي تبعث في نفسي رغبة تشبه العاطفة كي أصدِّق.
لنفرض أني مريض أشتهي الشفاء، وأنا أعتقد أن «الروح» ستأتي إلى الغرفة المظلمة وستقول لي إنني سأشُفى، فالعقيدة تبعث في نفسي الرغبة في التصديق، وأيما صوت يحدث أمامي أفسِّره بأنه يقول «أنت ستُشفى».
وعندئذٍ أخرج وأنا مرتاح وأشهد بأني سمعت الروح تتكلم.
وهذا عبث.
لماذا يترك الناس التفكير المنطقي ويعمدون إلى العقيدة؟
إن في الإجابة على هذا السؤال التفسير المقنع للتعلق بالأرواح؛ ذلك أن المؤمن بالأرواح «يعتقد» وقد يتعقل، وهذا الاعتقاد برهان على أن في نفسه حاجة ملحة إلى الإيمان بعقيدة يعتمد عليها كما لو كانت جدارًا يستمسك به أو عصا يستند إليها.
والتعقل لا يحدِث انفعالًا إلا الأقل الذي لا نكاد نحسه.
ولكن العقيدة تحدث انفعالًا قويًّا؛ إذ هي لا ترجع إلى منطق العقل الذي لا يعتمد على المعاينة والرؤية وإنما ترجع إلى الحاجة النفسية حين نحس الشك أو الخوف أو الزعزعة فنلجأ إلى عقيدة معينة نستند إليها كما لو كانت الدواء الوحيد الباقي لنا.
ومن هنا السهولة في مناقشة أحد الناس في شأن يتعلق بمنطق العقل وإقناعه بتغيير رأيه إذا كان مخطئًا، ولكن من هنا أيضًا الصعوبة في إقناع رجل يتعلق بعقيدة وحمله على تغيير هذه العقيدة؛ إذ هو منفعل بها؛ خوفًا أو أملًا أو نحو ذلك، وهو يحس أن تخليه عن عقيدته يزعزع كيانه وهو لا يطيق هذه الزعزعة.
وأي إنسان يعتقد في شيء ما إنما يثبت بهذا الاعتقاد أنه يعالج به مركبًا أو عقدة نفسية يمكن السيكلوجي بالتحليل أن يعرف مصدرها ويعيِّن أسبابها، ولكن الأغلب أن هذا الإنسان يرفض التحليل للوقوف على أصول عقيدته؛ لأن كيانه النفسي مرتبط بها.
فالمجنون الذي يعتقد أنه ملك على مصر أو مدير أو محافظ لإحدى المديريات أو المحافظات لن تستطيع أن تقنعه بأنه مخطئ؛ لأنه مرتاح إلى هذه العقيدة، بل كذلك هذا الرجل الذي يزعم أن الأرض ليست كروية وإنما هي مسطحة، فإن جميع البراهين التي تصفع بها عقله لا قيمة لها إزاء استمساكه بعقيدته، وكذلك المؤمن بالأرواح.
العقيدة عاطفة، والعاطفة قريبة من الجنون الذي يغشى العقل ويُظلِمه بل يلغيه؛ ونحن لذلك نغضب بل نحنق حين يجادلنا أحد في عقيدة نعتنقها؛ لأنها تثير في أنفسنا عاطفة لا نتحمل نارها.