سيكلوجية الصحافة
الصحافة، مثل الرسم أو الموسيقى أو الشعر، موهبة، ولكننا لا نعني أن الإنسان «يُولد» صحفيًّا؛ لأن المواهب، بل العبقريات أيضًا، ليست وراثية، وإنما هي تُكتسب بالبيئة والنشأة والتربية والحاجة الاجتماعية.
والصحفي الموهوب، عندما تسأل عنه أيام صباه ثم شبابه، تجد أن غرامه بالصحافة كان يشغل ذهنه ويستنفذ نقوده ويستولي على دروسه ويُقلِق عائلته، فإنه حوالي الثانية عشرة مثلًا، كان يجمع الصحف ويغلِّف المجموعات من المجلات، ويعرف الكثير من التفاصيل عن حياة المحررين والمخبرين والكتاب، فإذا تقدمَتْ به السن وجدْتَ أنه يراسل الصحف والمجلات قبل أن يبلغ السادسة عشرة ويحاول زيارة الصحفيين ويكتب المقال ويشتري الكتب التي يسترشد بها عن حرفة الصحافة.
ولا عبرة بالقول بأنه كان في تلك السن فجًّا يكتب السخافات ويؤلِّف الهذر من القصص أو المقالات، فإن فجاجته هنا طبيعية منتظرة لأنه مبتدئ، ولكن العبرة بأنه يسير على الطريق الواضح، وهو أنه «يهوى» الصحافة، وأن لها في قلبه مكانًا لا يشغل مثله أي موضوع آخر.
وهنا السؤال السيكلوجي: لماذا «يهوى» الصحافة دون غيرها من الحرف؟
إن أهواءنا لا تطرأ مفاجئة، وإنما هي تتكون وتنمو وتتبلور، وهي في الأغلب تبدأ في تكونها أيام الطفولة، ثم يكون لها من أيام الصبا ما يغذيها إذا وجدت الغذاء. فإذا وصلنا إلى سن الشباب عمدنا إلى التوفيق بين الهوى والمصلحة، أو بين نزعاتنا الفردية والملاءمة الاجتماعية، وعندئذٍ نختار من الحرف أو الصناعات أو الأعمال الكاسبة ما يتفق والهوى القديم الذي نشأ أيام الطفولة ونما أيام الصبا.
قد يكون هذا «الهوى» رذيلة لم تجد التربية السليمة لمعالجتها، مثال ذلك طفل نشأ على حب القسوة وكان في طفولته يهوى قتل الفراخ في أسابيعها الأولى؛ فإذا لم يجد التربية السليمة لمعالجة هذا «الهوى» فإنه يتجه نحو «السادية»؛ أي القسوة في الاشتهاء الجنسي. وهذا بالطبع مرض، ولكن ليس ضروريًّا أن يصل السادي إلى درجة المرض الذي يحتاج إلى علاج؛ إذ هو، بضغط الظروف التي تُربِّيه، يتسامى بالسادية فيحترف العسكرية ويدعو إلى القتال، أو يحترف الطب ويجد في الجراحة ما يلائم ساديته مع المنفعة الاجتماعية؛ ذلك لأن في الجراحة من شق البطون أو تمزيق الأعضاء أو بتر السيقان قسوة تنزع إلى السادية، ولكنها سادية متسامية قد ارتفعت من مستوى المرض إلى مستوى المنفعة.
السادية في أصولها الغشيمة تعذيب للمرأة وقت الاتصال الجنسي. وهي، بالتسامي، حرفة أو عمل يحتاج إلى شيء من القسوة ولكنه يخدم المجتمع.
ولكن السادية، مع ذلك، أصيلة في جميع الناس بلا استثناء، ولكن بدرجات منخفضة لا نكاد نحس بها؛ فإن في الاتصال الجنسي بين السويين شيئًا منها، وكثير منا يحب أن يرى القتال بين الحيوانات أو يحب قراءة القصص التي تحفل بالقتل والخطف والغدر، فإننا نحس هنا لذة سادية لنا فيها نصيب المتفرج وليس نصيب المشترك.
ولكن هذه العاهة النفسية قد تفدح حتى لَيقتل الرجل، المريض، شريكته في الاتصال الجنسي وقت الاتصال.
وجميع الأمراض النفسية أصيلة في نفوسنا سواء أكنا أصحاء أم مرضى، وإنما يختلف المريض من السليم بالكم وليس بالكيف. وليس مَن نسميه «مجنونًا» يهذي بأنه ملك مصر، أو بأنه يركب الجواد ويطير به في الهواء، أو بأن القطار يدوسه ويفتت أعضاءه، وليس هذا المجنون المريض طرازًا آخر غير طرازنا نحن السويين؛ فإننا نشترك معه على الأقل بأننا نسلك سلوكه وقت الأحلام حين يتسلط عقلنا الباطن على عقلنا الواعي.
و«المجنون» يختلف منا فقط في أننا لا نخضع لهذا التسلط سوى دقائق وقت الحلم، أما هو فيبقى طوال السنين وربما طيلة حياته وعقله الباطن يتسلط على عقله الواعي.
وهناك، إلى جنب السادية، عاهة نفسية جنسية أخرى تفدح أحيانًا حتى تقود صاحبها إلى السجن أو المارستان، هي ما يُسمى «العرض».
وقبل أن نذكر «العرض» نحتاج إلى أن نقول إن العاهات النفسية كثيرًا ما تتبلور في الاتصال الجنسي، فإن السادية تظهر على أسوأها في هذا الاتصال، و«العرض» كذلك يتبلور ويظهر على أوقحه في الرغبة الجنسية؛ لأن «العارض» يبدي أعضاءه التناسلية قهرًا واضطرارًا بحيث يقع تحت طائلة العقاب على العمل الفاضح.
ولكن هناك أيضًا العارض الخفيف الذي يتجاوز المواقف الجنسية فيرتفع إلى الملاءمة الاجتماعية، فإن «حب الظهور» هو إلى العرض بمثابة فن الجراحة إلى السادية.
وذلك الرجل الذي يهوى الخطابة، أو الصحافة، أو المسرح، أو السينما، هو عارض أيضًا من حيث لا يدري، قد ارتفع بعاهة جنسية أصيلة في جميع الناس فاقتصر منها على حب الظهور في حِرَف تحتاج إلى هذه الخصلة الأخلاقية.
فالصحافة، من الناحية السيكلوجية، يمكن أن تُسمى عرضًا متساميًا.
ولكن الصحافة، مثل الجراحة، تحتاج إلى درس وتعب وتنقيب.
وهذا الدرس نفسه يعود إلى مركبات عديدة، فهناك الصحافة اليسارية التي تتسم بالثورة أو التمرد على الأوضاع الاجتماعية أو الفنية أو السياسية أو المعارضة للنظم والعادات، وأعظم مَن ينجح فيها هو ذلك الشخص الذي لم يسعد بحياته العائلية، فإنه ينشأ متمردًا في المجتمع، ونعني هنا أن يكتسب هذا الاتجاه منذ طفولته حين لم يكن يجد الحرية في البيت فصار بعد ذلك ينشدها في الوطن.
ونحن في كل ما ننشد من أمان وفي كل ما نتجه إليه من خطط إنما نستوحيه — كما سبق أن أشرنا — من حيث لا ندري أو ندري، من أيام طفولتنا، نستوحيه خامًا بدائيًّا، ثم، بعد أن نتعلم ونتسامى بعاداتنا الفكرية الأولى، ننشد نظامًا يتفق وما تولَّد في نفوسنا من ميول طفلية.
والصحفي يأخذ في درس الموضوعات التي تتصل بهذه الميول، وهو قد يأخذ من الصحافة بالناحية الخبرية، أو بالترجمة، أو بالعلوم والآداب، أو بشئون المرأة، أو شئون الشباب، وهو في كل ذلك يستند إلى اتجاهات أصيلة تنهض على مركبات قديمة في كيان شخصيته.
وهنا نحتاج إلى أن ننتقل من الأساس السيكلوجي «العرضي» إلى أساس سيكلوجي آخر، فإن هناك طرازين من الناس: أحدهما الطراز الانطوائي الذي يتسم بوجه مستطيل نحيف وقامة مديدة نحيفة ورأس لا تصلع فروته، والطراز الانبساطي الذي يتسم بوجه مستدير سمين مليء باللحم ورأس يبدأ فيه الصلع، منذ سن الخامسة والعشرين، من الجبهة ويسير نحو الحلق في نظام كأنه مرسوم، بحيث لا يصل الانبساطي إلى سن الخمسين أو حتى الأربعين إلا ويكون أعلى رأسه في صلع تام. وهذا إلى أن الانبساطي يسمن ويستكرش وهو في الأغلب ليس مديد القامة مثل الانطوائي.
هذا هو الرسم الكروكي لكل من الطرازين في اللحم والعظم، أما الرسم النفسي فيتلخص في أن الانطوائي يتأمل أكثر مما يتحرك، ويجد أكثر مما يهزل، وينفرد أكثر مما يجتمع، وهو إذا دخل في الصحافة كتب المقالات وألَّف الكتب وعلَّق على الأخبار وفق المبادئ والمذاهب، وبكلمة أخرى هو فيلسوف الصحافة المتأمل المفكر المتمذهب.
أما الانبساطي فيحب الحركة وينتقل ويتعب كي يتحرى حقيقة الخبر، وهو خفيف الروح كثير الدعابة والهزل، وهو يرى على الدوام مجتمعًا، يأتنس بحديث الأصدقاء ويكره الانفراد، وهو لا يميل إلى القراءة والتأمل، وهو في الصحافة كاتب الخبر لا يطيق قراءة المقال ولا يعرف كيف يكتبه.
وجرائد الأخبار والصور هي الجرائد الانبساطية التي قد تسرف فتنشر لنا أخبارًا أو صورًا تنأى عن التحفظ والوقار.
وجرائد المقالات والتعليقات هي الجرائد الانطوائية، قد تسرف فتتجنب رواية الأخبار وتحتقر قيمة الصور فيعزف عنها جمهور القراء.