الاستقلال هو الشرط الأول للشخصية
الشخصية شيء نعرفه ونلمسه في بعض الأفراد، ولكننا لا نعرف كيف نعين تعريفه.
فقد ذكر المؤرخون أن إخناتون كان أول شخصية في التاريخ؛ وذلك لأنه رفض الانسياق وراء التقاليد والإيمان بما يؤمن به المجتمع المصري القديم، وآثر استقلاله الفكري فكفر بالآلهة وآمن بآله واحد.
ونحن نرى هنا علامة أولى، بل علامة كبرى من علامات الشخصية وهي استقلال الفكر، استقلال السلوك، الجرأة على التصريح بالرأي الخاص ولو خالف هذا الرأي مزاعم الجماهير أو مزاعم الخاصة.
وفي القرن الرابع نجد في مصر خلافًا مذهبيًّا كاد يكون شجارًا، ذلك أن أحد المصريين — هو الأسقف أثناسيوس — ارتأى رأيًا في الدين يخالف آراء الكافة من رجال الدين في الدولة الرومانية الشرقية، واستمسك برأيه وثبت عليه، فقال له أحد الأساقفة: إن العالم كله ضدك.
وهنا نجد موقفًا مشابهًا لموقف إخناتون هو أن الشخصية تحتاج إلى شرط لا غنى عنه هو استقلال الرأي.
ونحن حين نعجب بأبي بكر أو عمر، أو بغاندي أو نهرو، أو بإبراهام لنكولن أو ثورو، إنما يكاد ينحصر إعجابنا في أن كلًّا من هؤلاء كان مستقلًّا في رأيه لا يبالي ولا يخشى ما يقوله الآخرون.
بل إن استقلال ثورو قد ارتفع إلى حد العمل؛ فإنه كان يقول بضرورة «العصيان المدني» وعمل بهذا القول، فرفض أن يؤدي الضرائب، وحُبس لذلك.
وكل هؤلاء الذين ذكرنا، نصفهم بأنهم كانوا يمتازون بشخصيات قوية؛ لأنه كانت لهم ميزة الاستقلال في الرأي.
والشخصية بطبيعتها اجتماعية.
وليس هناك مع ذلك مَن ينكر أن هناك اختلافات في الكفاءات الوراثية تعين وتميز بين الشخصيات الانبساطية، ولكن المجتمع هو الذي يعين ٩٩ في المائة من الشخصية.
أي إننا نكتسب الشخصية من الوسط الاجتماعي الذي نعيش فيه، ومن الحوادث التي نتلقاها في حياتنا ونستخلص منها عبرة لأخلاقنا وحكمة لسلوكنا.
ولذلك هناك المجتمعات الحرة التي تتيح للفرد أن يستقل ولا يخشى الموت أو ما يقارب الموت من المقاطعة، وهذه المجتمعات تبني شخصيات أفرادها.
أما حين يكون المجتمع تقليديًّا ينكر حرية الفكر ويجعل للعادات في اللباس، والسلوك، والعيش، قواعد لا يجوز تخطيها، فإنه يهدم الاستقلال ويعطل نمو الشخصيات.
إننا نذكر نابليون بحروبه، ولكن هناك موقفًا واحدًا وقفه يجعلنا، حين نذكره، نعزو شخصيته إليه دون هذه الحروب.
ذلك أنه حين عزم على أن يكون «إمبراطورًا» احتاج إلى أن يجعل البابا، زعيم الكاثوليكية في العالم، يضع التاج على رأسه، ولكنه في اللحظة الأخيرة تذكَّر استقلاله، فنهض وحمل التاج بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، كأنه أراد أن يعلن للعالم أنه مستقل.
وفي أيامنا يؤكد سارتر استقلال الشخصية البشرية، وأن أول شرط لهذا الاستقلال أن نؤمن بما نعتقد نحن، وليس بما يعتقد غيرنا من التقاليد الاجتماعية أو العقائد الغيبية، وهذا الاستقلال هو أعظم ما يجذب إليه الشبان في فرنسا بل في أوروبا.
وحين يحيا الشعب في نهضة تكثر الشخصيات فيه؛ لأن النهضة تدعو إلى الانطلاق من القيود واستشعار الحرية، وكلاهما يعمل للتفكير المستقل ثم لبناء الشخصية؛ ولذلك نجد شخصيات مستقلة، بل مسرفة في الاستقلال أيام النهضة الأوروبية، مثل باركيلوس وجاليليو وعشرات غيرهما.
باركيلوس الطبيب الإيطالي يحمل مؤلفات جالينوس وابن سينا ويحرقهما علنًا في ميدان المدينة ويصيح في الشعب بأن القدماء لا قيمة لهم.
وجاليليو يُجبر على الاعتراف بأن الشمس تدور حول الأرض فإذا وصل إلى الباب ليخرج يقول: بل الأرض هي التي تدور.
كلاهما له شخصية قاعدتها الاستقلال في الفكر والرأي.
ولكن الاستقلال في الرأي لا يعني عناد الجاهل أو تعنت الأبله؛ ذلك أن الشخصية تحتاج إلى المعارف التي تستقطر منها حكمة العيش وسداد القصد، وقد تكون هذه المعارف مقصورة على شئون التجارة وعندئذٍ نجد التاجر الذي يمتاز بشخصيته، وقد تتجاوز ذلك إلى الآداب والفلسفات، وعندئذٍ نجد المفكر الذي يستقل في فكره ورأيه بشخصيته العالية.
وأعظم الشخصيات بالطبع إنما تنشأ في وسط يتسم بالمعارف السليمة السديدة وبالاختبارات الثانية العديدة.
وقوة الاختبارات ووفرة المعارف تكوِّنان الشخصية.
ولذلك نحن لا نجد شخصية للمرأة التي تقصر وجودها بل حياتها على شئون البيت لا تعرف المجتمع أو الثقافة أو حتى الضيافة. ولكن المرأة المصرية التي خرجتها جامعاتنا في العشرين سنة الأخيرة تمتاز بشخصية؛ لأن لها رأيها المستقل وأهدافها الشخصية التي قد تخالف مألوف المجتمع.
إن الوسط الاجتماعي، بقدر ما يتيح للأفراد من استقلال، وأيضًا بقدر ما يتيح لهم من اختبارات ومعارف مختلفة، يكوِّن الشخصيات.
فوسط المدينة لهذا السبب أدعى إلى تكوين الشخصيات من وسط الريف.
وأحب أن أكرر أن الشخصية لا تعني العناد أو التعنت؛ فإن هذين المعنيين يثبان إلى أذهاننا حين نذكر الاستقلال الذي كثيرًا ما يكون ثباتًا على رأي، لكن نحن واهمون هنا؛ لأنه إذا كان الثبات على رأي سديد يدل على شخصية قوية فإن المرونة كذلك تدل على عقل يقظ، وهذه المرونة هي التي تهيئ الفرد لمواجهة المواقف الجديدة حتى يتغير ويتطور.
أين شخصيتك أيها القارئ؟ أين استقلالك؟
إن الدنيا تتغير بالشخصيات المستقلة التي تأبى الخضوع والاستسلام لعادات الأسلاف وتقاليد القرون. الشخصيات التي تثبت على الرأي الشخصي الناضج ولكنها أيضًا تتغير وتتطور بمقتضى الظروف.