السعادة هي أن تمارس الحياة
منَّا مَن يمارس التجارة أو الزراعة، ومنَّا مَن يمارس المحاماة أو الطب أو وظيفة ما في الحكومة أو الهيئات الحرة.
ونحن كي نمارس فنًّا أو صناعة أو حرفة، نحتاج إلى أن ندرسها ونعرف أسرارها ونمهر فيها، وعلى قدر دراستنا يرتفع مقدار كسبنا منها أو تفوقنا فيها.
ولكن الذي ننساه أن قيمتنا الإنسانية واستمتاعنا وسعادتنا، بل صحتنا النفسية، تحتاج جميعها إلى أن نمارس المحاماة أو الطب أو الزراعة أو الصناعة، وكما تحتاج هذه الصناعات إلى مهارة وحذق، كذلك تحتاج ممارسة الحياة إلى مهارة وحذق، وهذا نهمله، وإهمالنا لممارسة الحياة هو في النهاية إهمال للصحة النفسية، والتربية الذاتية، وحكمة العيش، والفلسفة التطبيقية.
وهذا المجتمع الاقتنائي الذي نعيش فيه يكسبنا أهدافًا ويعين لنا أساليب تجعلنا نُكبِر من شأن الثراء والاقتناء، فنتعب ونكد حتى ننجح، ولكن هذا النجاح في الثراء والاقتناء فقط وليس في الحياة.
وهذا الرجل الذي كنا نعده مستقيمًا فاضلًا يخرج من بيته إلى عمله ويعود من عمله إلى بيته، يدخر ويقتني منزلًا ويمضي شيخوخته بطريركيًّا يسوس عائلة تكاد تكون رهطًا، هذا الرجل لم يعد المثل الأعلى لنفوسنا الحرة وعقولنا المستطلعة؛ إذ هو رجل عرفي عاش حياة سلبية يتوقى فيها ويحتجز ولا يقدم ويغامر ويشتبك، وبكلمة أخرى لم يمارس حياته.
إنما نمارس حياتنا حين نعي أن فراغنا ١٨ أو ١٦ ساعة، بينما عملنا لا تزيد مدته على ٦ أو ٨ ساعات. وبناء على ذلك نعني بفراغنا العناية الكبرى. فنعرف كيف نقرأ الصحيفة والكتاب، ونشتبك في شئون السياسة والاجتماع، ونناقش فلسفة سارتر وماركس، ونحاول أن نفهم الذرَّة ونعرف سطح المريخ، ونختبر الدنيا بالسياحة ونختبر المرأة بالحب، ونجرؤ على أن نفهم هذا الكون، ونجرؤ على أن نستكنه الظلام الذي خيَّم على أبي نواس والمركيز دوساد كما خيم على نفوس آلاف المجرمين، ونحاول أن نصلح هذا الفساد.
إنما نمارس الحياة حين نسيح. ولا نعني بالسياحة تلك الوثبة الجوية إلى قُطرٍ ناءٍ نمضي فيه أسبوعًا وأسابيع في رؤية سينمائية للمدن وللمسارح. وإنما نعني أن يمضي كل إنسان من عمره عامًا أو أعوامًا في فرنسا أو الهند، وفي الصين أو ألمانيا، وفي السودان أو تركيا.
أليس هذا الكوكب ملكنا؟ فكيف إذن نغادره بالموت قبل أن نراه ونختبره؟ قبل أن نعرف مشروعاتهم الكبرى في زراعة صحاريه، وفي تغيير المجاري، وفي استغلال قطبيه، وفي تربية الأسماك وفي خبطاته، وفي إنماء ثرواته، وفي تعميم التعليم والثقافة، وفي مكافحة الحرب والمرض والجهل والفقر.
إن ممارسة الحياة فن على كل منا أن يتعلمه بنفسه، وأن يقدِّر الفرص المتاحة له كي يجرؤ ويستطلع ويختبر، وأعظم أنواع الاختبار وأجملها وأسماها هو الحب الذي ينتهي بالزواج فيبني حصنًا من السعادة الدنيوية.
وشبابنا يهملون دراسة الحياة ثم يعجزون عن ممارستها، وقصارى مجهودهم في الدنيا أن يمارسوا صناعة للارتزاق. وقد ضيَّق علينا الاستعمار والاستبداد معًا حين منعا عنَّا إنشاء المصانع، حتى صار الارتزاق مشكلة، ونشأ التعطل فأصبح الهم والاهتمام الأولان لكل شاب الحصولَ على عمل للارتزاق، وحتى أصبح الاتجاه للنشاط وانبعاث الهمة والطموح مقصورة جميعها على لقمة العيش لا أكثر.
وأسوأ من الشاب الفتاة، على الرغم من القلة الصغيرة التي تعلمت من نسائنا واحترفت الحرف لا تزال الملايين من فتياتنا ونسائنا يحتجزن في البيت كأنه هو كل ما ينبغي أن تُطلَق فيه طاقتهن البشرية، وكأن هذه الدنيا بما فيها من علم وصناعة، وعمل وسياحة، وفلسفة وسياسة، كأنها لا قيمة لها عندهن، فهن في احتجاز منزلي قد أدى إلى احتجاز ذهني.
وليس المنزل، في تطوره الأخير، مما يستوعب نشاط المرأة. بل هو لا يستوعب نصف نشاطها. ويجب لذلك أن يكون لكل امرأة نشاط خارجه هو نشاط الحياة الحية المتسائلة المستطلعة الدارسة المشتبكة في شئون كوكبنا؛ لأن ما ينطبق على الرجال في ممارسة الحياة ينطبق على المرأة.
وهذا الدستور الجديد الذي منح المرأة حق الانتخاب قد فتح كوة لها على الدنيا. وهي كوة صغيرة بلا شك، ولكنها سوف تتسع بل تتراحب إلى ميادين ثم إلى آفاق في المستقبل، وعندئذٍ يزول عنها حجاب العقل كما زال عنها حجاب المنزل.
وأخيرًا يجب أن أقول إن الفرق بين رجل سعيد سليم النفس، وبين رجل بائس مريض النفس، هو أن الأول كثير الاهتمامات العليا التي ترفعه من الشئون العادية اليومية إلى قمم الأفكار حتى يحس بأن هذا العالم كله هو قريته التي يعرف ناسها وشوارعها ويهتم بإصلاحها وإنمائها. أما ذلك البائس الذي لا يدري أحيانًا، لفرط بؤسه، أنه بائس، فهو ذلك الذي لا يهتم إلا بعمله ولقمته. وهو جدير عندما يموت أن يُكتب على قبره: «وُلد إنسانًا ومات بقالًا.»
أنت أيها القارئ إنسان قبل أن تكون موظفًا أو صانعًا أو فلاحًا أو محاميًا أو مهندسًا أو بقالًا، فأحي إنسانيتك وغذِّها بالاهتمامات العالية، واذكر أن من حقك أن تستقطر آخر قطرة من السعادة على هذا الكوكب؛ إذ ليس لك كوكب آخر تعيش فيه وتنشد فيه السعادة؛ لأن المريخ لا يزال حلمًا لما يتحقق احتلاله على أيدي البشر.