لا تكن في حرب باردة مع نفسك
كثيرًا ما دعوت إلى الأخذ بأساليب الحضارة الغربية العصرية وأهدافها، وقد يعتقد مَن يقرأ قولي في هذا الموضوع أني مغرم بهذه الحضارة لا أعرف ما هو أسمى منها، وهذا وهمٌ أعذر القارئ عليه.
ذلك أن ما يدفعني إلى القول بالأخذ بالحضارة الغربية العصرية أنها حضارة عدوانية مسلحة في السلم والحرب، وأننا إذا لم نجارها استطاعت أن تهزمنا وتكتسحنا، بل تبيدنا كما تفعل الآن مع الزنوج في أفريقيا، وأكبر أسلحتها هو الصناعة التي يجب أن نعجِّل بل نهرول في الأخذ بها.
ولكني مع ذلك لا أعمى عن العيب الأصيل في هذه الحضارة، وهي أنها انفرادية اقتنائية تزاحمية عدوانية شعارها الذي تعمل به هو: تنازع البقاء، والبقاء للأقوى، وأنا وحدي، والموت للمتخلفين.
وهذا النظام الانفرادي الذي تحاول جميع الطبقات الواعية أن تنتقل منه إلى نظام تعاوني اشتراكي هو الأصل في جميع أو معظم أمراضنا النفسية، وفي جميع ما نعاني من هموم وتوترات ومخاوف قد تحملنا على الإجرام أو تردينا في مهاوي الجنون أو تدفعنا إلى الهروب والنسيان بالخمور والمخدرات.
هذا النظام الانفرادي هو الذي يشيع القلق بيننا؛ لأننا نخشى التخلف والإفلاس والفقر والجوع، فنمتلئ همومًا تزيغ عيوننا وعقولنا عن رؤية الحياة كما يجب أن تُرى بقيمها الإنسانية الحقيقية بدلًا من القيم الاجتماعية الزائفة التي تمليها علينا هذه الحضارة؛ ولذلك عندما نقول بالأخذ بالحضارة الأوروبية العصرية يجب ألا ننسى هذه العيوب الأصيلة فيها، وإنما تدعو إليها مؤقتًا كي نحتمي من عدوانها، سلاح بسلاح، ثم نسعى لإيجاد المجتمع الاشتراكي الذي يريحنا من مآسيها وفظاعاتها.
كلنا مهموم. والهموم سموم تأكل أعصابنا وتفشي أمراض النفس والجسم في أشخاصنا وتقصر أعمارنا؛ فإننا نحيا، بحكم الأخلاق التي يمليها علينا المجتمع الانفرادي الحديث، في طموح يرهقنا ولا نستطيع أن نتحمل مسئولياته، ونطمع في الثراء أو الجاه بأكثر مما نطيق، ونعاني ألوانًا من الحسد والغيرة فنحقد، وكثيرًا ما نكظم، وليس شيء يحطم الجسم والنفس مثل الكظم. وأحيانًا نستسلم لخرافات تثير في نفوسنا عواطف زائفة قد تنتهي بموتنا أو دمارنا أو جنوننا.
•••
اعتبر هذه الموتة التي نشأت عن روح الاقتناء.
شاب قبطي أورثوذكسي أحب فتاة قبطية بروتستنتية وشرع يهيئ الوسائل للزواج منها، ولكن أمه كانت أورثوذكسية متعصبة لمذهبها، أو هي كانت تعتقد ذلك، فحاولت أن تمنع ابنها من إتمام هذا الزواج، ولكنه أبى وأصر على إتمامه، فقصدت الأم، حماة المستقبل، إلى الفتاة واعتذرت إليها عما قامت به من محاولات للتعويق وقبَّلتها، وعادت إلى منزلها، وتم الزواج.
وحدث بعد ذلك أنه في صبيحة اليوم التالي للعرس أن استيقظت الحماة وهي عمياء لا ترى شيئًا، وبعد أيام حدث لها فالج، وفي نهاية الأسبوع ماتت.
فما هو التفسير؟
التفسير أنها كانت تنظر إلى ابنها بروح الاقتناء كما لو كان عزبة تملكها وتحب أن تحرس عليها حتى لا تضيع منها، روح الاقتناء هي الروح العامة للحضارة الانفرادية التي أخذنا بها الحضارة الاقتنائية؛ ولذلك رُعِبت الأم عندما أحست أنها ستفقد ابنها بالزواج، ووجدت، بل اختارت، من حيث لا تدري، العلة السطحية الوهمية، وهي أن الفتاة ليست أورثوذكسية مثلها ومثل ابنها.
•••
واعتبر هذه الموتة الثانية.
كان عاملًا فقيرًا في مصنع، وارتقى لكثرة ما يبذل من مجهود أحق أن يقوم به رجلان بل ثلاثة بدلًا من واحد، وبكلمة أخرى كان يرهق نفسه ويهتم ويقلق، إرهاق وقلق أحدثا له زيادة في ضغط الدم فصارت الصغائر تبدو له كبائر ثم ذات صباح مات بانفجار في المخ.
فما هو التفسير؟
كلنا يطمح إلى النجاح، وهذا الطموح فضيلة إذا مارسناه في اعتدال بلا إسراف، ولكن النجاح ماء مَلِح يزيد عطشنا؛ ولذلك أرهق هذا الرجل نفسه كي يستزيد من النجاح، فكان يجهد ويعمل أكثر مما يتحمل حتى زاد ضغط الدم على درجة الاعتدال، وانتفخت الشرايين حتى انفجرت.
ومجتمعنا، كما يدعونا إلى الاقتناء، يدعونا كذلك إلى الطموح وأحيانًا يقتلنا، أو نحن نقتل أنفسنا بالعطش إلى الاقتناء وبإحساس الطموح المسرف. وفي كليهما قلق وهم يحدثان إرهاقًا يؤدي إلى توترات ومخاوف لا نطيقها.
•••
كل منا لهذا السبب، في حرب باردة مع نفسه، إلا أولئك الحكماء الذين عرفوا كيف يقنعون وكيف يسوسون أعصابهم وينظرون إلى الحياة النظرة الفلسفية ويسلكون السلوك الحكيم.
لقد قام «بافلوف» بتجارب على الكلاب نستطيع أن نستخرج منها حكمة لحياتنا في هذه الحضارة التي ترهقنا وتقلقنا. ذلك أنه علَّم طائفة من الكلاب أن تنتظر تقديم الطعام بعد رنين من الجرس يبلغ ٥٠ رنة في الدقيقة، فإذا زاد الرنين إلى مائة رنة فَهِم الكلب أن الطعام لن يُقدم إليه.
٥٠ رنة تعني طعامًا.
١٠٠ رنة تعني «لا طعام»؛ أي حرمانًا.
وكرر بافلوف هذا الدرس للكلاب حتى فهمته واستقرت عليه، ثم قام بتجربة أخرى تتصل بنا نحن البشر؛ وذلك أنه جعل الجرس يدق ٧٥ رنة ثم يقف. فلا هو يؤذن بالطعام ولا بالحرمان فماذا حدث؟
حدث القلق عند الكلاب من الشك، فصارت تعوي وتتضور كأنها تبكي وتتألم.
•••
نحن في الحضارة العصرية نعيش في قلق الشك لا نعرف هل سننجح أم نخيب؟ هل نثري أم نفلس؟ هل نمرض أم نبقى في صحتنا؟ هل نحيا أم نموت؟ وكذلك لنا شكوك بشأن أولادنا وأصدقائنا.
نعيش في الحضارة العصرية على درجة ٧٥ رنة في الدقيقة، لا طمأنينة بالطعام ولا يقين بالحرمان؛ ولذلك نحس القلق الذي يزيد، بقوة خيالنا، إلى مخاوف وأمراض نفسية خطيرة.
وهذا القلق يجعلنا مكروبين، ضائقين، متوترين.
والتوترات ترهقنا لأنها تحملنا على أن ننفق من قوة أعصابنا على العمل الصغير أكثر مما يستحق؛ لأن المتوتر كالمتعجل المهرول الذي يحاول ربط حذائه فيخطئ ويكرر المحاولة؛ أي إنه ينفق قوته سدى.
وقد وجد بافلوف أن الكلاب القلقة التي ألح عليها بدرجة ٧٥ رنة تقصر أعمارها وتمرض بأورام مختلفة ويسقط شعرها وتُصاب بما يشبه الروماتزم في مفاصلها؛ أي إنها تبكر في الشيخوخة.
أي إن القلق العصبي عند الكلاب — ويقابله القلق النفسي عندنا — يعرضننا للأمراض الجسمية وينقص أعمارنا.
كيف نسوس أعصابنا ونحن نعيش في حضارة تبعث في نفوسنا الشك والقلق وتحملنا على التوترات التي لا تنقطع؟
يجب أن يدرس كل منا حياته ويعرض للسنين التي مضت من عمره والسنين التي ينتظرها، ثم يؤلف من هذه الحياة نظامًا معقولًا بعد أن يقيس كفاءاته إلى مقدار ما يواجه من ظروف، وعندئذٍ يعرف ويستقر على سلوك معين ترتاح إليه نفسه.
فنظامنا الاجتماعي الحاضر يمجد الأنانية ويملأنا بروح الطمع والاقتناء، ويبعث في نفوسنا عواطف المباراة والحسد والغيرة، ونحن في حاجة إلى شيء من هذه العواطف كي نجد ونكسب حتى نعيش، ولكن يجب أن نفعل هذا بلا إسراف حتى لا نرهق؛ أي يجب أن نحد طموحنا فلا نطلب النجوم التي لن ننالها.
وتوترات النفس تؤدي إلى توترات الجسم، والعلاج الأول للتوترات هو النوم الذي وصفه نيتشه بأنه سيد الفضائل، ولكن يجب أن ننام كي نستيقظ؛ لأن النوم ليس غاية إنما هو وسيلة لأن نصحو ونجد وننتبه ونفهم، وإذا كان النوم حسنًا وافيًا صارت يقظتنا حسنة وافية.
وأقل من النوم في الراحة هو الاسترخاء للعقل والجسم.
ويجب أن نلجأ إليه من وقت لآخر، بل يجب ألا ننام إلا بعد الاسترخاء؛ أي يجب ألا نطلب النوم ونحن في التوتر نحس الكرب والضيق؛ لأن نومنا عندئذٍ لن يكون استجمامًا؛ إذ هو سيمتلئ بأحلام الكابوس، فنتشاجر ونتساب في النوم، ونستيقظ مرهقين متعبين.
قد يرد القارئ بأنه لا يتمالك توتراته قبل النوم، وجوابي هنا: «اكذب على نفسك»؛ أي في اللحظات الأخيرة وأنت تشرع في النوم، وقد تمددت واسترخيت على الفراش، قل مثل هذه الكلمات الإيحائية أو ما يقابلها من ظروف حالتك: «أنا مرتاح، في استرخاء تام، سأنام نومًا عميقًا مريحًا إلى الصباح.»
قل هذه الكلمات نحو عشرين مرة وثق أن عقلك الباطن يسلم بها؛ لأنك عندئذٍ لن تكون نائمًا فقط بل منومًا أيضًا تقبل الإيحاء.
ولكن تذكر أن الاستجمام السيكلوجي الأصيل يقتضي تخلصك من همومك وتوتراتك، ولن يكون هذا إلا إذا راجعت حياتك ووزنت كفاءتك وفلسفت، والفلسفة هنا لا تنقص ضرورتها لك عن الخبز.
لا تكن في حرب باردة مع نفسك، فإن نفسك هي إنسانة جسمك، ولا تثر في نفسك عواطف الطموح المسرف، والحسد والغيرة، والرغبة الجامحة في النجاح والاقتناء.
ثم ما ينتج عن هذه كلها من عواطف القلق والخوف إذا لم تتحقق، ثم التوترات فالانهيار.
قاوم روح الحضارة الانفرادية فلا تتركها تكتسحك، وفكِّر في الحب والقناعة، وخذ بفضائل عليا جديدة، وأعظمها أن النجاح الصحيح هو صحة النفس والجسم، مع النمو في الثقافة والتوسع في الوجدان، والحب للطبيعة والناس، والاعتماد على العقل دون الانسياق مع العواطف.
وأخيرًا لا تنس أن غذاء نفسك هو الفنون، فتعلم فنًّا ومارسه، وكن ذكيًّا، وأعلى أنواع الذكاء هو الإنسانية.