سيكلوجية الشيخوخة
النصيحة العامة المألوفة للشباب هي أن يأخذوا بحكمة الشيوخ في التبصر والاعتدال والتأمل والبعد عن الرعونة والمغامرة، وكل هذه بلا شك تُعد فضائل في بعض الأحوال، ولكنها ليست كذلك إذا أخذنا بحرفيتها في كل الأحوال؛ فإن هناك من المواقف ما يحتاج إلى المغامرة التي تشبه الرعونة. ولنضرب مثلًا بالثورات التي لا يتسع الوقت فيها للاعتدال المسرف أو التبصر البعيد. وكثير مما نعزوه إلى الشيخوخة من الفضائل إنما يُشتق في النهاية من الركود والجبن، كما أن كثيرًا من رعونة الشباب أو مغامراته إنما يُشتق في النهاية أيضًا من النشاط والشجاعة.
وعلى كل حال يبدو لي كأننا قد أكثرنا من النصح للشباب بالأخذ بحكمة الشيوخ، وقد آن لنا أن ننصح للشيوخ بأن يأخذوا بحكمة الشباب. وأعظم ما يبرر لنا هذا الانقلاب أن الشيوخ السعداء هم الذين يحتفظون بمقدار كبير من نشاطهم وشبابهم، وإن يكن نشاط الذهن وشباب النفس فقط. في حين أن الذين يكابدون أحزان الشيخوخة وأعباءها إنما هم الذين قد شاخت نفوسهم وركد نشاطهم.
ولكن الذي يجب أن نذكره أن النفس والذهن، كلاهما يحتاج إلى نشاط الجسم وحيوية الأعضاء؛ إذ ليس مفر من أن تركد نفوسنا إذا ركدت أجسامنا.
قد يُقال إننا، في الشيخوخة، نستطيع أن نهنأ بالحياة التأملية، نقرأ ونفكر ونتفرج. وليس شك أن هذا كله حسن؛ فإن المداومة على الاهتمام بالصحيفة اليومية في سن الثمانين أو التسعين تبعث النشاط في الذهن، وكذلك الشأن في القراءة؛ أي الدراسة، ولكن حياة التأمل هي في النهاية حياة الركود، متى ركدنا بالجسم ركدنا أيضًا بالذهن.
وهنا حكمة الشباب التي يجب أن يأخذ بها الشيوخ، وضرورة النشاط بحيث تبقى أعضاء الجسم في حركة العمل التي تتطلب السعي على القدمين والذهاب والإياب وتحمل المسئوليات اليومية أمام المكتب أو غير ذلك من ضروب النشاط في النفس والذهن، فتبقى الأهداف القديمة والمطامع السالفة والعادات المألوفة قبل الستين والخمسين من العمر ماثلة حية غير معطلة.
إن صاحب المتجر أو المكتب أو المصنع الذي يكف عن الذهاب إلى مقر عمله في الصباح، عندما يظن أنه قد بلغ سن الشيخوخة، يشرع فعلًا في الشيخوخة، ويبدأ في حياة التفرج والتأمل الراكدين بدلًا من حياة العمل والتفكير النشيطين، وهو يكاد ينقطع عن الدنيا بأهدافه وإحساسه. ومثل هذه الحال تملأ نفسه غمًّا وأسفًا، وهي جديرة بأن تنتهي به إلى ألوان مختلفة من أمراض النفس، وأولها أن يجتر ماضيه اجترارًا فيذكر ويعيد الذكرى بما حدث له قبل نصف قرن، وقد يذكر خصوماته القديمة فيبتئس بها ويتعس.
وكثيرًا ما ترى هؤلاء الشيوخ وقد آثروا العزلة والانفراد، يكرهون الاجتماع والزيارات، وعندئذٍ ينكفئون على أنفسهم ويحدِّثون أنفسهم بكلمات مهموسة أو مجهورة. ونحن نعزو ذلك فيهم إلى خرف الشيخوخة، وما بهم من خرف سوى أنهم معطلون جسميًّا فأصبحوا معطلون ذهنيًّا.
إن للعمل اليومي في مواعيده — من طاقة واستعداد، ودراسة ومسئولية — نظامًا يحمل رجل السبعين والثمانين على أن يأخذ في حياته بنظام آخر ينأى به إلى الاستهتار في الطعام والشراب؛ فهو يأكل بقدر، وهو يدخن أو يشرب القهوة أو الشاي بقدر. يلحظ في كل ذلك مصلحة عمله وقدرته، وهذا بخلاف الشيخ الذي عطل عن العمل فإنه يستهتر في طعامه وشرابه؛ إذ ليس عنده من الواجبات ما يحمله مسئوليات تحثه على الاحتفاظ بصحته ويقظة ذهنه وسلامة عضلاته.
ومن هنا سرعة الانهيار الذي نجده في موظفي الحكومة الذين يُحالون على المعاش في سن الستين؛ فإن هذه السن تُعد في أيامنا من أطوار الشباب التي ننتظر فيها الصحة والنشاط، ولكن الموظف الذي وجد نفسه فجأة قد انقطع عن السعي كل صباح إلى مكتبه، وأنه لا يستقبل من يومه عند يقظته سوى الركود أو القعود على المقهى للتمطي والتثاؤب وحديث القيل والقال مع المعارف والأصدقاء، أو «قتل» الوقت بألعاب الحظ السخيفة، هذا الموظف لن تمضي عليه شهور بل أيام حتى يحس بنهاية حياته وأنه «زائد» على المجتمع يستهلك ولا ينتج، فتنهار نفسه ثم ينهار جسمه.
وأنا أنصح لموظفي الحكومة لهذا السبب بأن يستعدوا لمعاشهم بأن يتعلموا أو يمارسوا هواية ما منذ سن الأربعين، حتى إذا بلغوا الستين وجدوا فيها عوضًا عن وظيفتهم السابقة، فيبقى كل منهم على نشاطه السابق له أهداف يحيا لها وبها.
يجب ألا تعني كلمة معاش مماتًا؛ إذ هي تحمل معنى العيش؛ أي البقاء، ولا بقاء بغير عمل وسعي وحركة واشتباك في شئون المجتمع والإنسانية والسياسة والإنتاج؛ أي يجب على الموظف أن يهتم بالدنيا والناس والأشياء وأن تتعدد اهتماماته، ويكون منها اهتمام مفرد هو هوايته الخاصة التي يمارسها لا للتسلية ولكن للارتقاء والإنتاج.
يجب على الموظف ألا يرضى بأن يكون متفرجًا في الدنيا فقط بعد أن يبلغ سن المعاش.
ومع أني أعتقد أن هناك تسعين في المائة على الأقل من الموظفين الحكوميين يمكنهم أن ينهضوا بأعمالهم ويؤدوا واجباتهم إلى سن السبعين بل أكثر؛ فإني لا أستطيع أن أقول بهذا الرأي؛ لأن شبابنا في حاجة إلى الوظائف الحكومية؛ إذ إن أعمالنا الحرة لا تستوعبهم، والأعمال الحرة هي الصناعة والتجارة وقد حرمناهما إلى وقت قريب.
وهناك ميزة للعمل الحر على الحكومي؛ لأن العامل الحر، سواء أكان موظفًا أم مالكًا، يمكنه أن يبقى عاملًا إلى ما بعد الستين؛ ولذلك يحتفظ بصحته النفسية والجسيمة؛ لأن تنظيم عمله يؤدي، كما قلت، إلى تنظيم حياته، وهو يبلغ الشيخوخة دون أن يشيخ، أو هو، بكلمة أخرى، شيخ ولكنه ليس شائخًا.
ومع التناقض في هذا التعبير نستطيع أن نقول إننا وجدنا في اختباراتنا شبانًا في السبعين والثمانين، بل أحيانًا في التسعين، ينهضون في الصباح المبكر ويؤدون الأعمال التي تحتاج إلى قوة العضلات وصحوة الذهن، وهم في العادة نحفاء، بل إني لا أذكر أني رأيت رجلًا سمينًا قد بلغ التسعين.
ومن أعظم الأمثلة الحية على شباب الشيوخ الأستاذ أحمد لطفي السيد؛ فإنه يوشك على التسعين ومع ذلك يحتفظ بنشاط ذهنه ويؤدي عمله الحكومي، يقصد إليه كل صباح ويعود منه بعد الظهر لا يبدو عليه أي عناء أو إرهاق، وهو من حيث الجسم لا تكاد أعضاؤه تتماسك، ولكن نفسه قوية عضلية، وهي تشع صحتها على الجسم. وإني أعرفه منذ أكثر من خمس وأربعين سنة، ولا أذكر أنه سمن قط أو استكرش؛ إذ هو كان على الدوام نحيفًا إلى حد الهزال، وقد ساعدته هذه النحافة على استبقاء شبابه، كما أن عاداته في العيش معتدلة بعيدة عن الإسراف الذي كثيرًا ما يرهق الصحة الجسمية، ولكن نحافة جسمه واعتدال عاداته ليسا شيئًا إلى جنب نشاطه الذهني، وأنه يعمل كل يوم عملًا يحمله على نظام الحركة والتفكير في المسئوليات، وهنا الحياة الحية.
ولي صديق آخر في منتصف العقد التاسع من عمره هو الأستاذ عزيز خانكي؛ فإنه يقصد إلى مكتبه كل يوم ويؤدي أعماله في مواعيدها، وهو نشيط الذهن؛ لأنه نشيط الجسم، يحضر في المحاكم ويدرس القضايا ويؤلف الكتب ويقرأ ويناقش ويشتبك في شئون المجتمع، هو شاب لم يشخ.
ومع كل هذا الذي ذكرت عن ضرورة النشاط الجسمي والذهني وضرورة القيام بعمل يستتبع المسئوليات ويعين المواعيد، أحب أن أنبه إلى أن إيقاع الشيخوخة يجب أن يكون أبطأ من إيقاع الشباب. فإذا كان الشباب يستطيع الاستغناء عن راحة القيلولة مثلًا نحو ساعة بعد الظهر فإن الشيخ يحتاج إلى هذه الراحة أكبر الحاجة.
ولكن الراحة يجب أن تكون ساعة واحدة في النهار وليست ٢٤ ساعة في اليوم.