أوديب صبيًّا
هذا الفصل هو «محضر» أو محاضر تحقيق للمعالجة النفسية أحب أن أنقل النقط البارزة فيها؛ كي يقف منها القارئ على أسلوب البحث وتحري الحقائق ووسائل العلاج كما يمارس كل ذلك المختصون في المعالجة النفسية، وأنا أنقله عن كتاب «حقول جديدة في المعالجة النفسية» للدكتور دافيد ليفي من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة.
ولست أهدف من ذلك إلى طرافة البحث وإنما إلى منفعة القارئ في استبصاره بالمرض النفسي، كيف ينشأ خفيًّا متسللًا وكيف ننبش عنه حتى نخرجه ونطرده، وأنا هنا ناقل محايد.
موضوعنا هنا صبي بلغ الثالثة عشرة من عمره؛ أي سن المراهقة. كان إلى هذا السن متقدمًا في دروسه بل متفوقًا، كما كان على أخلاق سوية، مهذب اللفظة والإيماءة يحبه زملاؤه كما يحبه معلموه، يواظب على استذكار دروسه ويلعب مع سائر التلاميذ ويؤانسهم ويلتذ الحياة المدرسية والحياة البيتية أيضًا.
ولكن بعد هذه السن؛ أي في الشهور التي أعقبت المراهقة وهو لا يزال دون الرابعة عشرة، تغيرت أخلاقه وساء سلوكه فتخلف في الدراسة، وبعد أن كان مهذبًا في كلماته وإيماءاته صار وقحًا تجري على لسانه كلمات جنسية بذيئة بل فاحشة، كما كان يشير بيده إشارات دنسة. وشكاه زملاؤه إلى ناظر المدرسة، وهدده هذا بالعقوبات الصارمة، وتكررت الشكاوى وتكررت العقوبات. وأخيرًا فكَّر الناظر في فصله من المدرسة، ولكنه قبل هذا القرار الحاسم، رأي أن يستشير أمه ويبحث معها هذه الحال الجديدة التي طرأت على الصبي.
وجاءت الأم، وجرى الحديث بينها وبين الناظر، وأنكرت هي اللغة البذيئة التي قيل لها إن ابنها يستعملها مع زملائه؛ إذ كانت هي لا تعرف من ابنها سوى أنه مهذب كامل، ولكنها اعترفت بتخلفه وأسفت على ذلك، وزعمت في النهاية أن ابنها إنما «فسد»؛ لأنه اختلط بصبيان لم يتهذبوا، وأنه تعلم منهم عاداته السيئة الجديدة.
وهدد الناظر الأم بفصل ابنها من المدرسة، وهذا أخطر ما يمكن أن يقع بصبي في سن الثالثة عشرة، وتركته الأم وهي ترجوه أن يتريث وأن يعطي ابنها فرصة أخرى لعله يعود إلى استقامته السابقة.
وعادت الأم إلى بيتها، وعادت الرحمة إلى قلب الناظر.
وفكَّر الناظر في الفحص الطبي النفسي على الصبي، وهو يرجو أن يجد به علة يمكن أن تُشفى فلا يحتاج إلى فصله.
والعادة — ولا تنساها هنا أيها القارئ — أنه قبل الفحص الطبي النفسي عن المريض أيًّا كان يجب أن يُفحص جسمه؛ إذ لعل هناك مرضًا خفيًّا هو الذي أحدث التخلف عند هذا الصبي؛ فقد كان ذكيًّا ثم صار بليدًا، فلماذا؟
جاء الطبيب ففحص عن الحلق والأنف، عن الزوائد واللوز، فلم يجد شيئًا، وفحص عن عينيه فلم يجد شيئًا، ثم فحص عن النقص الفيتاميني فلم يجد شيئًا، ثم فحص عن الدم فوجد هناك شبهة بأن الصبي يحمل في جسمه جراثيم المرض الزهري المعروف باسم السفلس. وسأل الطبيب واستقصى، فعرف أن والد الصبي مات بالنقطة وهو في حوالي الأربعين من العمر، وأن أمه أجهضت مرتين أو ثلاثًا قبل وفاة زوجها بدون إرادتها، فرجح من هذه الظروف أن الأب كان مصابًا بالسفلس وأنه ترك جراثيم المرض في ابنه، وأن الزعزعة النفسية الأخيرة التي ظهرت في الصبي إنما تعود إلى بدايات من الشلل الذهني الذي يبدو أحيانًا في مَن يحملون جراثيم هذا المرض.
وهنا وجد الناظر والمعلمون أنهم إزاء بصيص من نور يجب أن يتعقبوه إلى نهايته، لعل فيه الحل لحالة الصبي، ولعلهم يجدون الشفاء القريب، وطلبوا من أطباء آخرين الفحص عن الدم.
ولكن هذا الفحص الثاني أوضح لهم أن الصبي برئ من هذا المرض الزهري براءة تامة. وهنا نفض الجميع أيديهم من شبهة المرض الجسمي؛ أي مرض السفلس.
وعاد البحث إلى المرض النفسي.
وجاء أولهم — أول الأطباء النفسيين — وبحث وفحص.
وانتهى إلى تقديم تقرير قال فيه إن التفسير لتخلف الصبي واضح حين أخذت البلادة مكان الذكاء عنده؛ فقد كان الصبي إلى سن الثالثة عشرة قوي الذاكرة يفكر بذاكرته، وكانت دروسه كلها إلى هذه السن استذكارًا فقط، فلما ارتقى إلى الصفوف العليا حيث الدروس تحتاج إلى التصور أكثر مما تحتاج إلى الاستذكار قصر وتخلف، فالمسألة إذن طبيعية، فإنه وصل إلى حدود ذكائه وليس له علاج.
ولكن هذا اليأس لم يرضِ أحدًا: لأننا إذا فرضنا أن التخلف «طبيعي»، فكيف نفسر البذاء والفحش في الكلمات والإيماءات الجنسية الوقحة؟ وهي كلمات وإيماءات لم يكن يعرفها هذا الصبي قبل الثالثة عشرة من عمره.
وأُعيد الفحص النفسي على يد طبيب آخر.
وانتهى هذا الطبيب الآخر إلى هذه المقدمات والنتائج: هذا الصبي هو وحيد أمه؛ أي إنه نشأ مدللًا، لم يُصدم قط في طفولته بما يُصدم به الطفل حين يجد له أخوة في البيت، وكان لهذا السبب مهذبًا يبتسم ويأتمن الدنيا التي رسمتها له أمه في طمأنينة وسلام. فلما ذهب إلى المدرسة وجد أجلافًا كبارًا من التلاميذ يعتدون عليه، كما وجد حركة وصخبًا. فدافع عن نفسه بالكلمات والإيماءات البذيئة؛ لأنها تكسبه سيطرة سهلة. ولو أن هذا الصبي كان قد أُرسل إلى مدرسة «خاصة» من مدارس الأثرياء حيث يجد في الوسط الجديد ظروفًا تشبه وسطه القديم في البيت، لما تخلف في الدراسة ولما لجأ إلى البذاء والفحش.
ولكن هذا التفسير لم يقنع أحدًا؛ إذ هو تفسير سطحي واضح السطحية.
وجيء بالطبيب الثالث. وبحث وفحص. وانتهى هذا إلى القول بأن بالصبي بداية شيزوفرينيا. ويعني هذا المرض أن المريض ينفصل من الدنيا، نفسيًّا، انفصالًا تامًّا أو كالتام. فيهمل الواقع ويستسلم لخيالاته وأحلامه؛ وذلك لأنه يكره الواقع ولا يطيقه.
وإنما كره هذا الصبي الواقع؛ لأنه خرج من بيته وهو مدلل عند أمه لا يجد أية صعوبة في الدنيا. كل شيء وُفر له. ووضِع في مدرسة يجد فيها الصدمات تلو الصدمات من الدروس إلى المعلمين إلى الزملاء الأجلاف من التلاميذ، فشرع يتخيل ويحلم؛ أي شرع يتكاسل ويتثاءب. وربما ينتهي بالانفصال التام من الواقع … أي الجنون.
ولكن الأم والناظر والمعلمين وسائر الأطباء النفسيين لم يقتنعوا بهذا التفسير بل عدوه سخافة؛ لأن الشيزوفرينيا لا تصيب الصبيان لمثل هذه الأسباب الصغيرة بل التافهة. وفي كل إنسان منا قدرة على التكيف للأوساط الجديدة إذا لم يكن الاختلاف بينها وبين الأوساط السابقة كبيرًا فادحًا.
وجيء بالطبيب الرابع، فبحث وفحص وانتهى بأن عند الصبي «مركب نقص»؛ ذلك أنه نشأ وحيدًا في نعومة ورفاهية وسهولة، ثم فوجئ بوسط المدرسة وما فيه من خشونة ومشاق وصبيان كبار، فأراد أن يتعوض عن نقصه بوقاحة اللفظة وفحش الإيماءة.
ولكن هذا التفسير لم يقنع أحدًا أيضًا.
وأخيرًا جاء الطبيب الخامس، جاء وهو يسير بخطوات كأنها وثبات من المرح والغبطة، وهو يقول: «وجدتها»!
ماذا وجد؟ وجد «مركب أوديب».
والتفتت العيون وانتبهت العقول … الولد يعشق أمه.
قال الطبيب: إن الصبي كان سويًّا إلى سن المراهقة حين شرع بعد ذلك في النشاط الجنسي الانفرادي، يقفل على نفسه الغرفة ويستسلم للخيالات الجنسية. ويكاد جميع الصبيان يفعلون ذلك في هذه السن، ولكن الذي وجده هذا الطبيب عند هذا الصبي أن خيالاته كلها وقت هذا النشاط كانت ترتكز في أمه، والصبي ينكر ذلك حين يكون في وعيه، ولكنه حين تسلط عليه الأسئلة وهو في الاسترخاء؛ أي حين يستسلم لعقله الباطن، يعترف بأن أمه هي موضع نشاطه الجنسي الانفرادي.
وأخذ الطبيب يشرح: وضعت الأم ابنها قبل ١٣ سنة. وكان عمرها وقتئذٍ ٢٢ سنة شابة حلوة، تضم الطفل إلى صدرها فيجد الطراوة والنعومة، وفي كل طفل نوازع جنسية مبهمة تعم الجسم كله تقريبًا، ثم تتحيز مكانها المعروف بعد ذاك في سن المراهقة. ولما مات الأب رأت الأم في ابنها «رجل البيت» الذي يقوم مقام والده، وكانت أيام والده تقدم له فطوره وهو في السرير، فلما مات والده صارت تفعل مثل ذلك مع الابن، أليس هو الذي أخذ مكان أبيه في البيت.
ولما بلغ الصبي سن المراهقة وجد أن قامته تعلو قامة أمه، كما لو كان زوجها وليس ابنها.
ذكريات الطفولة، ذكريات النفس، قد انتعشت أيام المراهقة.
ولكن ماذا في كل هذا مما يلقي شعاعًا على حالته الحاضرة في تخلفه عن دروسه، وفي غرامه بالكلمات والإيماءات المفاجئة التي حملت ناظر المدرسة على التفكير في طرده من المدرسة؟
الصبي ابن وزوج، هذه حالة لا تُطاق.
هو بين حب وكفاح: حبه لأمه الذي لا يقدر على رده، والذي يتضح له من خيالاته وقت نشاطه الجنسي الانفرادي، وكفاحه حين يحاول أن يطرد من ذهنه هذا الحب الذي يعرف أنه دنس ونجاسة، وأن علاقته بأمه يجب أن تقتصر على الاحترام.
والصبي في عجزه يحاول في تعب وحيرة أن يحل اللغز.
وهو يحله بأسلوب الأطفال أو الصبيان: فإنه يدافع عن نفسه بكلمات فظة بذيئة عن الشئون الجنسية.
وإذن هو في اختلاط ذهني يعطله عن الدرس، وهو في بذاء جنسي يدافع به عن موقفه السري.
ولكن ما هي نصيحة الطبيب هنا بعد هذا التشخيص؟
ينصح الطبيب بإرسال الصبي إلى مدرسة داخلية عدة سنوات حتى ينسى صورة أمه، أو ينصح للأم بأن تتزوج وتعقب له أخوة ينزعون منه موقف التدليل السابق الذي أدى إلى إحساسه الجنسي الحاضر.
وإلى هنا أقف، ولا أعلِّق؛ لأني أحب أن يختمر هذا الموضوع، كما نقلته في أمانة، في ذهن القارئ بلا تدخل مني. وعلى القارئ أن يذكر أن البؤرة في سيكلوجية فرويد هي «مركب أوديب»؛ أي حب الصبي لأمه حبًّا جنسيًّا.
وأنا هنا ناقل محايد لا أكثر.