كيف نتعلم السعادة
نتعلمها بأن نُسعد الناس كيما نسعد نحن. وذلك الذي يستهلك سعادته دون أن يشرك فيها غيره لن يحصل على كل ما يستحق أو يطلب منها؛ ذلك لأن الأنانية وحدها لا تسعدنا، إنما الذي يسعدنا أننا نحس أننا مشتركون مع غيرنا.
وقد يكون هذا الاشتراك شخصيًّا حين يسعدنا مثلًا أن نسعد أمهاتنا أو أبناءنا أو أصدقاءنا، أو حين نسعد طفلًا يتيمًا أو أسرة بائسة. ولا تزال في ذهني صورة سيدة أرملة مات زوجها ولم يعقب، فتبنت عملًا خيريًّا هو العناية بمعهد للصبيان اليتامى كانت تهتم بهم وتتعب وتعرق من أجلهم كما لو كانت أمهم التي تسعد بسعادتهم، وكانت سعيدة حقًّا.
وهناك نوع آخر من السعادة لا نعرف فيه شخصًا معينًا أو أشخاصًا معينين نسعدهم ونسعد بسعادتهم، وذلك حين نحس اندغامنا في قوميتنا ووطننا، أو فيما هو أكبر من ذلك؛ أي الإنسانية. فنخدم مبدأ وندعو إلى مذهب، ونكافح ونتعب لأننا قد رسمنا حالًا مثلى للوطن أو للإنسانية نهدف إلى تحقيقها، ولا نبالي ما نلاقي من آلام في سبيلها.
هذه هي السعادة الكبرى التي لا نبالي أن نفقد سعادتنا الصغرى في سبيلها. فالهموم الشخصية مثل الإثراء، والنجاح، وتحقيق الملذات الشخصية، كل هذا لا قيمة لها عندئذٍ في جنب هذا الأمل الكبير الذي يغمرنا.
وعندما نصل إلى هذه الحال العالية يكون لارتقاء الصين، أو انتصار السلام، أو ظهور دواء للسرطان، أو هزيمة الجهل والفقر والمرض في مصر، أو زوال الاستعمار، أو نحو ذلك، ما يملأنا سعادة لا تُقدَّر بجانبها أية سعادة شخصية أخرى، وعندئذٍ نفكر بالعقل العام والاعتبارات العالمية.
ولكن يجب أن نتدرب على السعادة منذ طفولتنا، التدريب الذي يفهم منه الصبي والشاب كيف يتجاوز شخصه إلى أمه، ثم بعد ذلك يتدرب على سعادة أرفع وأكبر، وهي كيف يتجاوز بحبه أسرته إلى وطنه، ثم إلى العالم؛ أي إلى الإنسانية.
ألَّف ألدوس هكسلي الأديب الإنكليزي (الأمريكي الآن) كتابًا عن الميسكالين.
والميسكالين مادة مخدرة تُستخرج من جذور الككتوس الذي نعرف من أنواعه في مصر «التين الشوكي»، ولكنه يختلف عن المخدرات، كما يزعم ألدوس هكسلي الذي جرَّبه جملة مرات.
ذلك أن المواد المخدرة تخدِّر عقولنا وأجسامنا معًا، أما الميسكالين فيخدر الجسم فقط، ويجعل العقل على يقظة كبيرة، ولكنها ليست يقظة التفكير المنطقي وإنما هي يقظة وجودية حتى لنرى النور أضوأ، والزهر أنضر، والإحساس بالرضى كاملًا، وهذا مع استرخاء يجعلنا سعداء.
ونعني هنا السعادة المصنوعة المجلوبة، بل السعادة الزائفة.
ويقول ألدوس هكسلي إن هذا الميسكالين يمتاز على جميع المخدرات والخمور من حيث إنه لا يطفئ العقل، وأيضًا لا يضر.
وواضح أن الرجل السعيد حقًّا، الذي تنبع السعادة من قلبه كما لو كانت إشعاعًا نفسيًّا، لا يحتاج إلى الخمور أو المخدرات أو الميسكالين. وكلنا يعرف هؤلاء السعداء الذين لا يحتاجون حتى إلى فنجان من القهوة أو الشاي، فضلًا عن المخدرات أو الخمور. وقد كان برنارد شو كذلك.
كان كذلك لأنه كان سعيدًا بأن أسعد غيره. وكان سعيدًا أيضًا بأن اعتنق الاشتراكية منذ شبابه وجعل منها كفاحًا لخير الإنسانية. فأصبح إطار نفسه العالم الكبير، وليس شخصه الصغير. كما أنه كان فنانًا يلتذ صناعته ولا يسأمها.
وكثيرون منا قادرون على ذلك إذا تدربوا على الحب والخدمة، وإذا اعتنقوا المذاهب الإنسانية التي تغمر نفوسهم بل تغنى فيها نفوسهم، ولكن منا مَن يعجزون عن ذلك أيضًا؛ ولذلك يلجئون إلى الخمور أو المخدرات.
كثيرًا ما أتأمل السعداء الذين — كما قلت — تنبع سعادتهم كما لو كانت إشعاعًا من نفوسهم، فأجد فيهم هذه الصفات التالية:
إنهم غير أنانيين؛ فإن الأناني الذي يتعب كي يثرى ويقتني ليس سعيدًا؛ لأنه في الأغلب يحيا في جوٍّ من البغض يثير في نفسه أيضًا بغضًا. فلا يجد ذلك الحب الذي يستمتع به غير الأنانيين. ثم إن أنانيته لا تعرف حدودًا، فهو دائم الاهتمام والهم، يحاول الزيادة في الاقتناء، مثل أحد الأشخاص في قصة لتولستوي ما زال يقتني ويثرى حتى خطر له أن يخرج كي يعرف حدود أرضه الواسعة، فشرع يسير فيها، ويشتري زيادة عليها كلما استراح في مكان منها، حتى مات قبل أن يصل إلى نهايتها. وقلَّ أن تجد رجلًا ثريًّا مفرطًا في الثراء في عصرنا وظروفنا إلا وهو مريض نفسيًّا وجسميًّا؛ لأن مشاكل الإثراء كثيرة مرهقة لا يتحملها مَن يفرط في مطامعه.
ولكننا نجد السعداء حيث نجد الحب للغير، وحيث الإنسانية والفن والرسالة، فالأم التي تحب ابنها سعيدة بهذا الحب، ولكنها تبتئس إذا جعلت هذا الحب أنانية، كأن ابنها بعض مقتنياتها التي تخشى ضياعها حتى ليعود اهتمامها به همًّا وقلقًا، وهي تحدد طاقاته وتحول دون نموه النفسي والعقلي بهمها وقلقها.
والفنان سعيد بفنه؛ لأنه يرتقي به ويجد فيه الجمال أو الكفاح المنشود.
وصاحب الرسالة سعيد برسالته، وهو يكبر بها وينضج مهما استهلكت من قواه ومهما عانى من فقر وحرمان بسببها.
ورجال المذاهب والمبادئ سعداء أيضًا؛ لأنهم يهدفون منها إلى خير الإنسانية.
وخلاصة القول أننا حين نهدف إلى السعادة يجب أن نتجاوز نفوسنا وأشخاصنا وأنانياتنا إلى ما هو أعلى منها جميعًا.