النفس السليمة في المجتمع السليم
كان المثل الروماني يقول: «العقل السليم في الجسم السليم.»
وبعض الناس يظن أن هذا المثل حكمة، مع أنه يخلو من الحكمة، ولو عُكس لكان أقرب إلى الصحة؛ ذلك أننا نجد الكثيرين من المرضى بالدرن أو السكر أو النقرس أو الروماتزم لا تؤثر أمراضهم في سلامة عقولهم، بل لعل هذه الأمراض تزيد عقولهم يقظة.
ولكن العقل المريض كثيرًا ما يؤدي إلى مرض الجسم. كما نرى مثلًا في مَن يتوهم وهمًا خاصًّا يجعله يعزف عن الطعام، أو هو يخشى الإفلاس أو الموت فيبقى في قلق يؤدي إلى هزال الجسم.
والعقل مع ذلك ليس كل شيء؛ لأننا لا نسلك في الحياة بما لنا من عقل دائمًا، وإنما بما لنا من نَفْس.
نحن نستطيع بالعقل أن نجمع أو نطرح الأرقام ونحل مشكلة حسابية أو كيمائية.
ولكننا بالنَّفْس نحل مشكلة زوجية؛ لأننا هنا لا نعتمد على منطق الأرقام وإنما على القيم الروحية — أي الإنسانية — أو الاجتماعية، وما تحمل من معاني الشرف والمروءة والخدمة.
ما هي النفس؟
هي كياننا الاجتماعي، وهي العقل والعاطفة معًا، وهي موقف معين نتخذه نحو الكون والدنيا، وهي مجموعة عقائدنا الموروثة والمكسوبة، وهي القيم الروحية والأخلاقية التي نحترمها ونتعلق بها، وهي إحساساتنا الفنية وأذواقنا، وكل هذه تنتهي بتعيين اتجاه عواطفنا ومنهج العيش الذي نحيا به.
والنفس لذلك أكبر من العقل.
ولكن هذه النفس إنما تتكون بالمجتمع.
وإذا لم يكن هناك مجتمع نعيش فيه، فليس هناك نفس؛ أي ليس هناك عواطف اجتماعية أو عقائد أو قيم أخلاقية أو إحساسات فنية … إلخ.
ولكن هذه النفس تمرض أحيانًا بالجنون أو الإجرام أو الشذوذ الجنسي، وهذه الأمراض جميعها هي استجابة النفس لوسط اجتماعي معين.
ذلك أن المجتمع السليم يجب أن يخلو، أو يكاد يخلو، من الأمراض النفسية.
ولكن إذا كان المجتمع قد أفشى الفاقة فبعث الحرمان فإنه يحيل عددًا كبيرًا من الأفراد إلى مجرمين يخطفون ويسرقون ويغتالون.
وإذا كان هذا المجتمع قد أفشى الخوف والقلق من المستقبل فإن أفراده يفرون منهما إلى الخمر أو إلى أي مخدر آخر أسوأ من الخمر.
وإذا طغى الخوف والقلق فإن أفراده يفرون إلى الجنون، بحيث يخترع كل منهم، وهو على غير وجدان بما يفعل، جنونًا معينًا يرتاح إليه ويستقر عليه حتى يقضي سائر عمره وهو سكران بخمر نفسه يغيب بها عن أسباب القلق والخوف.
وإذا كان هذا المجتمع يفصل بين الجنسين ويجعل الزواج مع ذلك مستحيلًا إلا بعد سن الثلاثين فإن النفس المحرومة عندئذٍ تشذ، وتتفشى العاهة النوَّاسية بين الجنسين.
وهذا كلام واضح لا تجدي فيه المكابرة بالجدل العابث أو المغالطة الماكرة، فالإجرام والجنون والعاهة النواسية هي جميعها أمراض نفسية تعود إلى أحوال معينة في المجتمع، تعود إلى مجتمع غير سليم.
فإذا توافر العمل والكسب للجميع زالت جرائم السرقة والاغتيال والنصب.
وإذا توافر الاختلاط بين الجنسين وأمكن الزواج في سن مبكرة زالت العاهة النواسية.
قلنا «زالت»، ولكن هذا لا يعني أنه قد يكون هناك واحد أو اثنان في المائة يقعون في أحد هذه الأمراض لأسباب أخرى محلية، مثل نظام العائلة أو نشوء مركَّبات سيئة أيام الطفولة أو نحو ذلك.
ونترك الأمراض وننظر فيما نسميه الإحساس الفني في الأديب أو الفنان، ولنسأل أولًا: لماذا يختلف الفن بين أمة وأخرى؟
لماذا يكون للألمان مثلًا ألحان موسيقية وأغانٍ ورقص تختلف كلها عما عندنا من ألحان وأغانٍ ورقص؟
السبب أو الأصل لهذا الاختلاف واضح، وهو أن جميع هذه الفنون تعتمد على عواطف واتجاهات نفسية في أبناء الشعب، وهذه العواطف والاتجاهات اكتسبها هؤلاء الأبناء من المجتمع الذي يعيشون فيه، وإذا تغير المجتمع تغير الرقص والألحان والأغاني.
مجتمعنا يختلف عن المجتمع الألماني؛ ولذلك ففنوننا الثلاثة هذه تختلف عما يضارعها عند الألمان.
وقد ورثنا نحن فنوننا الثلاثة هذه من الاتجاهات النفسية التي عاشت بها مجتمعاتنا في الألفين من السنين الماضية، وهي — أي هذه الفنون التي نسميها منحطة — تعبر عن مجتمعاتنا المنحطة في الألفين من السنين الماضية. اعتبر الرقص مثلًا، فإن الراقصة المصرية في التفاتها إلى البطن والكتفين وفي ثني أعضائها وميوعتها تمثل الأنوثة الحيوانية؛ لأن المجتمع المصري مضى عليه ألفان من السنين وهو يعامل المرأة كما لو كانت أنثى فقط.
ثم اعتبر الغناء الباكي المتنهد الحزين، فهو يمثل المجتمع المصري الذي سحقه المستبدون والمستعمرون في الألفين من السنين الماضية، ومعنى هذا أن أبناء هذا المجتمع يبكون بكاء سريًّا في نفوسهم، ولذلك يرتاحون إلى المغني أو الملحن الذي يعبِّر عن هذا البكاء في الغناء أو اللحن.
الفنون اجتماعية، وعبقرية الفنان اجتماعية؛ لأن الفنان هو الذي تتبلور في نفسه عواطف المجتمع الذي يعيش فيه فيعبِّر عنها بالأسلوب الفني الذي يرتاح إليه أبناء هذا المجتمع، فما دام أبناء المجتمع يبكون ويتنهدون فعليه هو أن يحسن البكاء ويتقن التنهد.
لقد كانت أسمهان تمثلنا تمثيلًا عبقريًّا في البكاء والتنهد؛ ولذلك يقول عنها محبوها إنها أفضل من جميع المغنيات.
ونستطيع أن نذكر مثالين من الأدب العربي القديم، وأن نعين البواعث الاجتماعية التي ألهمته فإن عندنا كتابين عظيمين في هذا الأدب: أحدهما «الأغاني» الذي أُلِّف للملوك والأمراء والأثرياء، وهو خمر ونساء في واقع الخمر والنساء وليس في أحلامهما. والثاني هو «ألف ليلة وليلة» الذي أُلِّف للعامة بلغة العامة وهو خمر وطعام ونساء، ولكن ليس عن الواقع وإنما عن الأحلام؛ أي أحلام الفقراء المحرومين الذين كانوا يشتهون ولا يجدون.
الأول يصف لنا الحياة الواقعة في مجتمع المترفين، والثاني يصف لنا الحياة الحالمة في مجتمع المحرومين.
ولا عجب أن يُقرأ الثاني كثيرًا في مصر …
ومع هذا الذي قلت يجب أن أعترف بأن هناك ساخطين على الرقص واللحن والغناء في مصر، وأن هناك محاولات لتغيير هذه الفنون الثلاثة.
ولكني أَعُدُّ هؤلاء الساخطين منحرفين عن المجتمع المصري؛ وذلك لأنهم نشئوا في الثقافة أو الحضارة الأوروبية أو تعوَّدوهما؛ أي إنهم نشئوا في مجتمع آخر فأخذوا بعواطفه وإحساساته.
ولكن هذه الفنون لن تتغير إلا إذا تغير المجتمع المصري.
إلا إذا تغيَّر في نظرته للمرأة وتقبل راضيًا مركزها الاجتماعي الجديد باعتبارها إنسانًا، وليست أنثى فقط، إنسانًا له حق الإقدام والاستقلال والتعلم والاختيار.
وإلا إذا اختلط الجنسان من المهد إلى اللحد بحيث لا يعرف أحد الجنسين الانفصال عن الآخر ولو لأسبوع واحد في حياته.
وإلا إذا نظرنا إلى الحياة نظرة الاستبشار والتيمن وكففنا عن الخوف، وإلا إذا توافر العمل والكسب لشبابنا وفتياتنا حتى لا يقلقوا.
لقد رأيت الرقص الهندي حيث يرقص الرجال مع النساء، وفهمت منه، بل أيقنت، أن المجتمع الهندي قد تغيَّر.
وأنا أستنتج هذا التغير في المجتمع الهندي بهذا الرقص الجديد أكثر مما أستنتجه باختيار شقيقة نهرو رئيسة لهيئة الأمم.
إن النفس السليمة لا تكون إلا في المجتمع السليم. وهذه الفنون الجميلة هي في صميمها، فنون نفسية، وهي مريضة عندنا؛ لأن المجتمع مريض.