نحن نفكر بأفواهنا
هذا مقال في الفلسفة، أو في السيكلوجية — إذا شئت — ولكنه مع ذلك ليس ألغازًا؛ لأني واثق أن كل مَن يقرأه سيفهمه.
وعنوان المقال «نحن نفكر بأفواهنا» قد نقلناه عن تريستان نازارا، ومعناه أننا نفكر بالكلمات التي تنطق بها ألسنتنا، وإذا لم تكن لنا كلمات نفكِّر بها فإننا عندئذٍ لن نستطيع التفكير إلا بمقدار ما يفكِّر الثور أو الجمل.
فقد انتهى المفكرون المتعمقون إلى أن الناس والأشياء والطبيعة والكون ليس لها أي معنى أو مغزى إلا في وجداننا وكلماتنا.
والمعنى من عبارة «وجداننا» هو كيف أجد نفسي في هذه الأشياء؟!
ما هي صلتي بها؟ ما قيمتها عندي؟ ما هي أبعادي منها أو أبعادها مني؟ كيف أفهمها؟
الاعتقاد العام بين الناس أننا نعبِّر عن أفكارنا بالكلمات، كأن اللغة وسيلة للتعبير عن التفكير.
ولكن اللغة أكبر من ذلك؛ فإنها عند كثير من الناس كل التفكير الذي يفكرونه، وعندنا جميعًا هي التي تكيف التفكير وتكسبه طرازه وشكله، بل أحيانًا توجده.
ونمونا الفكري وتطوره هما نمو اللغة وتطورها.
ونحن نعيِّن سلوكنا مع الناس في صور أخلاقية، مثل المروءة، الإنسانية، الحب، البغض، الشماتة، وهي جميعها صور تثير عواطفنا وتوجهنا وتكيف إحساسنا وتصرفنا، وإذا فقدنا هذه الكلمات فإننا نفقد أيضًا هذه العواطف والإحساسات ولا يبقى إلا مقدار ما يجد ثور أو جمل منها.
وكذلك الصور الذهنية، مثل السياسة، الدبلوماسية، الثقافة، التطور، العلم، فإننا ما كنا لنجد هذه الصور في أذهاننا لولا هذه الكلمات.
إننا نقول: أمس وغد، ورجل شهم ورجل نذل، وحنان الأم وعقوق الابن، وجميع هذه المعاني نفقدها لولا هذه الكلمات التي تعينها وتربط أذهاننا بها.
بل إن للكلمات أكثر من التعيين والربط؛ إذ هي تصوغ وتكيِّف، بل هي تستحدث في نفوسنا عواطف وعادات عاطفية ما كنا نجدها لولاها؛ فإن كتَّاب القصص عندنا قد جعلوا عاطفة الحب شيئًا مألوفًا، بل هم صاغوا أسلوب الحب، وذلك مما ألفوا من هذه القصص التي شرحوا فيها، بكلمات معينة، هذا الأسلوب.
وقد نعترض بأن الحب كان موجودًا من تأليف القصص، وهذا صحيح، وإن يكن وجوده وقتئذٍ شيئًا يكاد يكون شاذًّا مخجلًا. وكلمة الحب كانت من كلماتنا قبل تأليف القصص العصرية، ولكن الكلمة شاعت في أيامنا وأثارت عاطفة كانت راكدة كامنة، كما عينت لنا هذه القصص صيغة الحب كيف يكون وكيف يسلك المحبان.
وقد سبق لي أن قلت إن كلمات الدم والعرض والثأر قد عينت أسلوبًا من الاغتيال والقتل في بعض مديريات الصعيد الأعلى، وإن جرائم القتل والاغتيال هذه كان يمكن أن تنقص، بل تزول، لو أن هذه الكلمات كانت قد مُحيت من لغة السكان في قنا وسوهاج.
وهناك مَن يزعمون أن اللغة مرآة للأفكار، ولكن الواقع أنها أكبر وأخطر من ذلك؛ إذ هي من ناحيةٍ صياغةٌ للأفكار، وهي من ناحيةٍ أخرى تفسيرٌ للأفكار. فكلمة الحب الآن تُفسِّر عاطفة كانت موجودة قبل مائة أو ألف سنة في مصر، ولكن التفسير تغيَّر؛ ولذلك تغيَّر أسلوب الحب، والفضل في هذا لكتَّاب القصص.
أسلوبنا في التفكير هو في صميمه أسلوبنا في التعبير؛ لأننا لن نستطيع أن نفكر بأكثر مما تعطينا الكلمات من معانٍ، وعلى قدر النقص في معاني الكلمات يكون النقص في تفكيرنا.
كيف نفكر؟
عندما نتأمل طفلًا لم يتعلم اللغة بعدُ نجد أنه يعبر (أي يفكر) بأصوات وحركات نفهم منها حالته، فنسمع صوتًا يدل على حركة في حنجرته ونجد تعبيرًا في وجهه ورفسات من قدميه وإشارات بيديه.
هذه هي لغتنا الأولى؛ أي هذا هو تفكيرنا الأول، فإذا كبرنا تكلمنا؛ أي اقتصرنا على حركتي الحنجرة واللسان وتركنا حركات الأيدي والأقدام، ولكن حركاتنا اللغوية هذه نتعلمها من الكبار ولا نخترعها؛ ولذلك على قدر ما في الكلمات التي ننطق بها، بحركات اللسان والحنجرة، يكون تفكيرنا.
وبهذه الحركات، بهذه الكلمات، قد أصبحت لنا ثقافة؛ أي نحو عشرة آلاف أو عشرين ألف كلمة (حركة في الحنجرة واللسان) صرنا نفهم بها الدنيا والحياة، ولكن هذه الكلمات أيضًا قد حبستنا في نطاق لا نخرج منه؛ إذ صاغت لنا الفكرة وبعثت لنا العاطفة وكيَّفت الاثنتين.
ولذلك قال وبتجشتين: «حدود لغتي هي حدود عالمي.»
- الأولى: أن أتفاهم مع الآخرين بالحديث.
- الثانية: أن أتفاهم مع نفسي حين أخلو وأقول إني أفكر.
والحقيقة أنني أستحضر الكلمات التي تعيِّن تفكيري وتصوغ إحساسي.
- والغاية الثالثة: هي أن اللغة تعيِّن موقفي من الناس والأشياء والدنيا والكون، وهي هنا فلسفة وعلم وأدب وفلكيات وطبيعيات … إلخ. واللغة هنا تزيد وجداني؛ أي كيف أجد نفسي في كل هذه الأشياء؛ أي كيف يزداد وجودي في إحساسي وفكري وتعقلي.
إن جوليان هكسلي يقول: «إن تطور الإنسان قد وقف بسبب اللغة»، ويكاد يكون صادقًا.
ذلك أن الزواحف حين شرع بعضها يجرِّب الوثوب في الهواء؛ كي يأكل الفراش الطائر صار جلدها حول أجسامها ينبت ريشًا فصارت طيورًا.
ولكننا نحن لن نطير؛ لأننا بما عندنا من ثقافة (أي كلمات) قد عرفنا كيف نطير بالحديد والنار. فالثقافة البشرية؛ أي اللغة البشرية، قد قامت مقام التطور العضوي في أجسامنا، فلن تكون لنا أجنحة وكذلك لن نستطيع الإقامة في البحار كما فعلت القياطس والسلاحف بأنواعها؛ لأننا بثقافتنا الخاصة بصنع السفن قد استغنينا عن ذلك.
فالارتقاء الثقافي؛ أي اللغوي، قد عاق وسوف يعوق التطور العضوي، ولكني أعتقد مع ذلك أن كبر المخ في الإنسان يعود إلى اللغة؛ لأن هذا العضو احتاج إلى أن يكبر كي يحتفظ بالصور العديدة التي أوجدتها الكلمات: فالتطور الجسمي قد أُوقف ولكن التطور المخي لن يقف.
من أحسن ما في سارتر، صاحب الوجودية، عنايته باللغة ومواصلة البحث في ممكناتها، فهو يقول إن صناعة الكاتب هي الكلمات؛ أي الأفكار، وهو أيضًا يقول: «أنا لا أثق بما لا يمكن التعبير عنه.» وهو يعني أننا ما دمنا نعجز عن التعبير فإننا نعجز عن التفكير.
ولكن أحسن ما قاله سارتر عن اللغة هو هذه الكلمات التالية التي أضعها أنا في صيغة السؤال: «هل نحن نتغير ثم نجر اللغة خلفنا ونغيرها، أم إننا نحس وجدانًا لغويًّا جديدًا يجعلنا نرى الدنيا على غير ما كانت عليه قبلًا فنتغير؟»
واعتقادي أن هذا هو سؤال القرن العشرين في الفلسفة، وإجابتي عليه، وهي إجابة تجريبية وقتية، هي أن التفاعل اللغوي من المؤلفين العديدين يضفي على الكلمات القديمة معاني جديدة، ثم تعود هذه الكلمات بمعانيها الجديدة فتُحدِث طرزًا جديدة في الفكر والعاطفة، فيكون التجدد الاجتماعي أو الثقافي.
وبكلمة أخرى نحن نجر اللغة، وهي أيضًا تجرُّنا.
ولكن إذا سلمنا بهذا فإننا نحتاج إلى أن نعالج حياتنا ومجتمعنا وفلسفتنا وأخلاقنا من الكلمات المريضة التي تُحدِث لنا طرزًا مريضة من الأخلاق والاجتماع والحياة والفلسفة.