اللغة أعظم أدواتنا الاجتماعية
أعتقد أن أعظم ما سوف يشغل الفلاسفة في السنين القريبة القادمة هو اللغة، وأن الكتب ستؤلَّف بالمئات عن قيمة الكلمات في الأخلاق والتوجيه الاجتماعي والتفكير المنظم.
وأعتقد أيضًا أن تطورنا القادم الذي سوف نسيطر عليه ولا نتركه للطبيعة، سيتناول اللغة باعتبارها الوسط الاجتماعي الأول والأخطر في حياة الإنسان، وأن الوقت ليس بعيدًا حين تسن الحكومات قوانين تلغي بها بعض الكلمات التي تبعث على الجريمة والزيغ الأخلاقي باعتبار أن هذه الكلمات هي علة الجريمة أو الزيغ.
وقد التفت السيكلوجيون إلى اللغة. ولكنهم لم يستوفوا كل ما فيها من خطورة اجتماعية وذهنية وأخلاقية.
وأنا هنا أومئ أكثر مما أعبر؛ وذلك كي أستوعب في إيجاز بدلًا من أن أتخصص في إسهاب.
وأول ما أومئ إليه أن الأستاذ محمود تيمور ألَّف درامة بلغتين إحداهما العربية الفصحى، والثانية العربية العامية، وجمعهما في مجلد واحد كما لو كانت إحداهما ترجمة للأخرى.
وهو بهذا العمل قد كشف عن مرض اجتماعي أصيل في بيئتنا العربية؛ لأن كلمات اللغة أفكار، وحين تكون لنا كلمتان فإن معنى هذا أن لنا فكرتين؛ أي إن لنا طبقتين لكل منهما أفكارها وأخلاقها وأسلوب عيشها.
وهذا دمار في مجتمعنا، ويجب أن نحاكم المسئولين عن هذا الدمار الفكري والأخلاقي والاجتماعي، كما يجب أن نبادر بعلاجه.
والمسئولون هنا هم أولئك الذين لا يزالون ينأون عن الشعب ويربئون بالأدب أن يكون شعبيًّا؛ لأن الشعب عندهم هو العامة، وهم من الخاصة، فيجب أن تكون لهم لغة خاصة وأن يكون للشعب لغة العامة.
نحن المصريين عند هؤلاء أمتان: أمة متعلمة تتذوق الآداب والفنون ولها لغة راقية تؤدي التعبير عنها، وأمة أخرى جاهلة جافة لا تتذوق الآداب والفنون ويجب لذلك أن نكتب لها، إذا كتبنا، بلغتنا العامية الجاهلة الجافة.
فأي منطق هذا يا ناس؟ وفي أي بلد، غير مصر، توجد مثل هذه الظاهرة؟
أليس الأحرى بالأديب أن يكتب بالكلمة السهلة والأسلوب الميسر اللذين يفهمهما الشعب؟ وأليس هدف الديموقراطية في الحكم يجب أن يقابله هدف الأديب في الديمقراطية في الأدب؟
إن حكومتنا تسن قوانينها بلغة واحدة للشعب كله، وهي لم ترَ حاجة قط لأن تترجمها إلى اللغة العامية كما فعل الأستاذ تيمور في قصته، فلماذا لا نكتب بلغة ميسرة مفهومة للشعب كله؟
أول هذه التطورات هو التحول من اعتبار النفس البشرية مخلوقًا مستقلًّا منفصلًا منعزلًا، إلى اعتباره كائنًا اجتماعيًّا قد كونته صلاته الاجتماعية وخصته بهذه الوظيفة. والثاني هو التحول من اعتباره كائنًا ثابتًا تام التكوين إلى اعتباره كائنًا ينمو ويتحرك ويتفاعل ويتطور. والثالث هو التحول من النظرة الساذجة التي تعتبر اللغة وسيلة مستقلة لنقل المعاني إلى اعتبارها وظيفة من وظائف التكوين والتفاعل الاجتماعي.
- (١)
ليس الإنسان مستقلًّا كما يقول سارتر، وإنما هو مكوَّن ومؤلف بصلاته الاجتماعية.
- (٢)
الإنسان ليس كائنًا ثابتًا وإنما هو متطور متفاعل.
- (٣)
ليست اللغة لنقل المعاني فقط، وإنما هي أيضًا للتفاعل الاجتماعي.
كما نستعمل نحن الكلمات ونتسلط عليها كذلك الكلمات تستعملنا وتتسلط علينا، بل هي تستعملنا أكثر مما نستعملها نحن.
نحن لا نفكِّر بالأفكار وإنما نفكر بالكلمات.
ونحن لا نخترع كلمات اللغة، بل نرثها من مجتمعنا.
ونحن مقيَّدون في تفكيرنا، وموجَّهون به، بما تحمل هذه الكلمات من المعاني.
وصحيح أننا أحيانًا نخترع الكلمات، كما هو الشأن في العلوم والفنون، ولكن هذا قليل جدًّا بالمقارنة إلى ما نرث، ثم نحن نخترع الكلمات كي نعيَّن بها ونوضح بها المعاني المضطربة في أذهاننا.
لأن الفكرة تبقى مضطربة غامضة مشتبهة حتى نصوغها في كلمة، فتتعين لها حدود ويتضح لها معنى.
ولن يستطيع أحد أن يفكِّر بلا كلمات إلا إذا استعان على ذلك بعلامات الخرس … ولذلك يُسمى علم اللغة الجديد علم العلامات؛ أي السيمائية؛ لأن كلمة سيما تعني علامة.
لقد كبرت عقولنا باللغة … بالكلمات.
والفرق الأساسي بيننا وبين الشمبنزي، ليس أن مخَّنا أكبر من مخه، بل لأننا ننطق ولنا لغة، وهو أخرس ليست له لغة.
بل أعتقد أن مخنا أكبر من أمخاخ الشمبنزي وغيره من الحيوانات؛ لأن لنا لغة وليست لها لغة.
المخ البشري كبير نتيجة اللغة، وليس العكس.
فكما أن عنق الجمل طالت كي يصل إلى العشب كذلك كبر مخنا كي يحتوي معاني الكلمات؛ إذ ما الذي كان يبعث على كبر المخ في الإنسان سوى حاجته إلى استيعاب وتسجيل وتقليب المعاني؟
الوظيفة تسبق العضو.
وظيفة التعبير — اللغة — أوجدت المخ.
وتطورنا القادم سوف يكون لغويًّا مخيًّا؛ أي إن المخ سيكبر.
اللغة أعظم أدواتنا الاجتماعية، وهي أخطر في حياتنا من جميع المؤسسات الأخرى، مثل العائلة أو الدولة أو القوة المادية أو أي شيء آخر.
بل ماذا أقول؟
إن جميع هذه الأشياء، العائلة والدولة والقوة المادية، هي ثمرة اللغة لقد اخترعنا كلمات العائلة والبرلمان والمجتمع؛ كي نوجد الأفكار التي تدل عليها.
وما يعانيه الشعب من قلق اجتماعي منبِّه بشأن الطلاق والزواج وتعدد الزوجات وتربية الأطفال إنما يرجع إلى أن كلمة «عائلة» قد اندست في وجدانه وصارت جزءًا من كيانه النفسي، وهي من مخترعاتنا؛ ولذلك لا تجد لها أصلًا في أي معجم عربي.
- (١)
الأول أننا أحيانًا، بل كثيرًا، نسمي الشيء ونخترع الكلمة لا لتدل على حقيقة هذا الشيء، وإنما لتدل على إحساسنا نحن نحوه وما نكسبه من هذا الشيء من قيمة فيما يتعلق بحياتنا؛ ولهذا السبب كثيرًا ما نتعرف إلى الأشياء بالعقيدة وليس بالمعرفة، فالبياض طهارة، والبومة شؤم، وموجات الضوء ألوان … إلخ.
- (٢)
والثاني أننا حين نتأمل الأشياء في هذه الدنيا أو هذا الكون، إنما نفعل ذلك ونحن نجمد هذه الأشياء؛ أي نقفها عن تدفقها، وبهذا التجميد تتغير حقيقتها في عقولنا.
ولا يمكن أن تدل الكلمات؛ أي الأسماء، على أشياء إلا بعد تجميد هذه الأشياء.
ولذلك نحن لا نفهم الأشياء على حقيقتها؛ أي على تدفقها وتطورها، ولكننا نفهمها ثابتة مجمدة على غير حقيقتها.
وعلم السمائية هو العلم الجديد الذي يحاول الكشف عن الأخطاء التي نقع فيها؛ لأن الكلمات لا تنقل إلينا الصورة الحقيقية للأشياء.
كل شيء في هذا الكون في تدفق.
وكي تكون اللغة خادمة أمينة للمجتمع والإنسان يجب أن تكون هي أيضًا في تدفق؛ أي في تطور.
للكاتب الفرنسي لافارج رسالة عنوانها «اللغة والثورة» وصف فيها التطورات التي سرت في اللغة الفرنسية فيما بين ١٧٨٩ و١٧٩٤ أيام الثورة.
ذلك أنه اختُرعت كلمات جديدة لتأدية المعاني الجديدة في الثورة الفرنسية الكبرى، كما أن كلمات قديمة كانت تعبِّر عن النظام الإقطاعي قد أُميتت.
وفي الثورات تظهر الكلمات الجديدة على قدر التطورات.
واللغة هي أداة الإنتاج الذهني والتغيرات الاجتماعية.
اللغة هي الوجدان الفكري للأمة، ونحن نبقى في ذهول فكري إلى أن نعين أفكارنا بالكلمات.
ألا تعرف أنه عندما يضطرب أحد الشبان وتختلط عليه إحساساته وأفكاره ويجد الشبهات والمخاوف نطلب إليه أن يعين كل ذلك باللغة؟ أي نطلب إليه أن يكتب ويوضح بالكلمات جميع إحساساته وأفكاره، وقد يكون في عمله هذا كل الدواء الذي يحتاجه أو معظمه.
كذلك نحن في اضطراب الثورات نحتاج إلى مَن يعيِّن لنا، باللغة، اتجاهاتنا ويقشع عنا ضباب المخاوف والاشتباهات.
أين لافارج المصري الذي يؤلِّف لنا رسالة عن «اللغة والثورة»؟
ما دام هناك تغير وتطور قد أحدثته الثورة فيجب أن تكون هناك كلمات جديدة توجِّه وتسجِّل وتنير.
•••
في الخمسين أو الستين سنة الماضية اخترعنا كلمات غيَّرت مجتمعنا وأخلاقنا.
وقد أشرت إلى كلمة «عائلة» التي نقلنا بها معنًى أوروبيًّا يقلقل مجتمعنا ويجعلنا نتحدث ونطالب بالإصلاح في شئون الزواج والطلاق والنفقة وتعدد الزوجات وحضانة الأولاد … إلخ.
إنها كلمة تقلقنا قلقًا مقدسًا.
وإلى جنب هذه الكلمة اخترعنا كلمات: مجتمع، وصحافة، وتطور، وحكومة، ونقابة، وثقافة، واستقلال، وبرلمان، وعلم، وشخصية، ووجدان … إلخ.
وقد سبق لقاسم أمين أن أوجد كلمات «سفور» و«حرية المرأة» فصارت الكلمات حقائق.
وبعض هذه الكلمات عربي قديم ولكننا أكسبناه معاني جديدة وبعضها مخترَع، وقد أكسبتنا هذه الكلمات حياة ذهنية جديدة وأخلاقًا جديدة؛ أي أعطتنا «وجهة نظر» جديدة للكون حتى لأكاد أقول إنها زادت ذكاءنا.
ومهمتنا — نحن المفكرين والأدباء والعلماء — اختراع كلمات جديدة تحمل شحنات اجتماعية عن النهضة والتمدن والفكر تجعل شعبنا يحيا الحياة العصرية، ويكتسب «وجهة نظر» جديدة للإنسان والمجتمع والكون.