الكتب العظيمة التي تربينا
لا ينقص عدد الخطابات التي وصلت إليَّ منذ أقل من عام بشأن الكتب التي يجب أن يقرأها شبابنا ويستنيروا بها عن مائة خطاب.
وجميع هؤلاء المراسلين شبان؛ فإنهم جميعًا يصفون تعليمهم السابق، ثم يبرزون ما يحسون به من نقص، ويسألون عن العلاج. وهم جميعًا يذكرون أعمارهم كأنهم يرجون أن يهتدوا إلى برنامج ثقافي للسنين القادمة من حياتهم.
وهذه الحال تدل على زعزعة نفسية قد أحدثت قلقًا وتساؤلًا واستطلاعًا. ومصدر هذه الزعزعة هو هذا التناقض القائم بين أسلوب العيش الذي نتبعه في مجتمعنا وبين ما تعلمناه وأخذنا به من عادات ذهنية قد أورثتنا إياها ثقافات كثيرًا ما تُحدِث لنا الحرج والبلبلة.
ومن هنا هذه الرغبة الحادة في بعض الشبان حين يسألون: ماذا نقرأ؟ أي كيف نستقر ونهدأ؟ كيف نجعل عاداتنا الذهنية توائم أسلوب عيشنا؟
وفي كل إنسان سليم النفس طاقة تطورية، وهي تحتاج إلى الغذاء المنظم بالكتب العظيمة والاختبارات العالية ومباشرة الطبيعة بالسؤال الحر والجواب الحر والاستعداد للتغير والارتقاء.
ولكن النفس البشرية كثيرًا ما تمرض فتجمد وتجحد التطور؛ أي تجحد الحياة وتنتحر.
وحال شبابنا في مصر، في زعزعتهم وبلبلتهم، لا تختلف كثيرًا عن حال الشباب في أمريكا، وإن كان المستوى يختلف.
ففي مصر نجد حضارة غربية تطورية تكتسح أو تسود حضارتنا الموروثة أفكارًا وأشياء، كما نجد معارف تصطدم بعقائد فنتبلبل، وأحيانًا نحتمي من هذا الاكتساح أو السيادة بأن نختصم الغربيين فندعو إلى القناعة وننكمش في محارنا أو قواقعنا، أو نكبر من شأن حضارتنا، وهي الفلاحة، فنقول إنها روحية، أو نقول إننا شرقيون وهم غربيون، وكأننا قد فصلنا النوع البشري قسمين.
وفي أمريكا يجد الشباب مشكلة قريبة في موقفها من مشكلتنا، ولكنها لا تطابقها؛ فهناك يبدو التناقض واضحًا بين العيش والفكر، وقد لا يدري القارئ المصري أن الأمريكيين يعيشون من حيث المواد والإنتاج، في القرن الحادي والعشرين؛ فإن الأمريكي — في المتوسط — يتسلط على قوة لا تنقص عن خمسين أو ستين حصانًا يوجهها للإنتاج المادي في بناء منزل أو طائرة أو سيارة أو إنتاج زراعي أو صناعي.
ولكنه من حيث الثقافة لا يختلف عن غيره في أقطار العالم الأخرى. ومن هنا هذا التناقض الذي يحدث عنده البلبلة والزعزعة والتساؤل: ماذا أقرأ كي أفهم وأهدأ؟ أي ماذا أفعل كي أجعل أفكاري تلائم الحضارة التي أعيش فيها؟
ومن هنا أيضًا هذا الاهتمام الذي يقارب الهم باختيار الكتب في الولايات المتحدة. فقبل أكثر من ستين سنة أوصى الدكتور إليوت بطبع مائة مجلد زعم أنها تكفل للإنسان العصري بأن يكون مثقفًا، وبعض هذه المجلدات يحتوي على عدة كتب.
وقبل نحو خمس عشرة سنة نبعت في جامعة شيكاغو ظاهرة ثقافية جديدة في شخص الأستاذ هتشنس، فإنه جعل «الكتاب» أساس المناقشة الحرة بغية التثقيف العالي، ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا حمل الجامعات الأخرى على اتباع خطته، ووضع هو وأعوانه أسماء لنحو مائة كتاب قيل إنها تكفل للقارئ أن يكون إنسانًا راشدًا ناضج الذهن، ولكن خطة هتشنس كانت تحتوي نظرة ونبرة.
فأما النظرة فهي قيمة الكتاب في تخريج الرجل المثقف، وأن الجامعات كانت قد أهملت هذا العامل الأول في التربية الذهنية، فيجب أن تعود إليه.
وأما النبرة فهي كيف ندرس الكتاب؟
ومن هنا كانت المناقشات الحرة بين جماعة من الطلبة يحاولون استخراج العبرة والدلالة من الكتب في الحضارة العصرية، وأسلوب العيش، ونظام المجتمع، واستقلال الذهن وحرية الضمير.
ولكن الحضارة الأمريكية تتغير في موادها وإنتاجها، كيفًا وكمًّا، بسرعة تحتاج إلى إعادة النظر في النظرة والنبرة مرة على الأقل كل عشر سنوات.
والمحقق أن الأمراض النفسية كثيرة في الولايات المتحدة، والذي لا شك فيه أن بعض هذه الكثرة تُعزى إلى التناقض بين الثقافة (أي ما نفكر فيه)، وبين الحضارة (أي ما نعيش عليه من عائلة ومجتمع ومصنع ومزرعة ومكتب).
وهذا الاختلاف الذي يكاد لا ينقطع بين الأمس واليوم في طرق العيش يحمل الأمريكي على أن يبحث عن مراسٍ جديدة غير مراسيه القديمة، وهو ينشدها في «الكتاب».
ماذا يجب أن يقرأ، وأن يعرف، وأن يعتقد؟
وأسوأ ما يلاقيه الشاب الأمريكي أنه يجد أن عقائده تناقض معارفه، وأسوأ من هذا أيضًا أن يقول المشرفون على ثقافته الباحثون عن المراسي: «إن العقيدة أروح ولكن القلق أشرف»، كما هي كلمات برتراند راسل.
أليس هناك، في الولايات المتحدة، من الأسرَّة لمرضى النفس في المستشفيات ما يزيد على الأسرة لمرضى الجسم؟
الشك، القلق، الهم، النيوروز …
ليس هناك عقائد يرتاحون إليها.
وإذن أين «الكتاب» الذي يقرؤه الشاب حتى لا يحتاج إلى سرير في مستشفى الأمراض العقلية؟ أين الكتاب الذي يصالح بين عقله وقلبه؟
وهنا يثب علينا مشروع جديد، هو محاولة جديدة لإيجاد الطمأنينة الذهنية باختيار الكتب.
ويتقدم إلينا هتشنس الذي كان قد بعث الكتاب في جامعة شيكاغو وتتقدم إلينا هيئة التحرير لأعظم كتاب ظهر في العالم وهو «الموسوعة البريطانية» التي تحوي المعارف البشرية، ويعاونهم جميعهم هيئات وأفراد بغية تعيين الكتب التي يجب أن نقرأها كي نطمئن.
ماذا أقول؟
كي نطمئن أم كي نقلق؟
هل يرضى الرجل المثقف أن ينزل عن قلقه الذي يثير استطلاعه؟ واجتمع هؤلاء جميعًا إلى السنة الماضية واختاروا ٥٤ مجلدًا تحوي ٧٤ مؤلفًا؛ لأن بعض المجلدات يحوي كتابين أو ربما ثلاثة كتب وطُبعت هذه الكتب طبعًا ليس فاخرًا ولكنه متقن؛ لأن الثقافة ليست ترفًا وإنما هي ضرورة، ويبلغ ثمن هذه المجموعة ١٢٠ جنيهًا.
هل هذا كثير؟
إننا نقدِّر سعادتنا بالدخل المالي، فلماذا لا نزيد عليه دخلًا آخر هو الدخل الذهني؟
ارتقاء أذهاننا بالقلق أحيانًا، وبالطمأنينة أحيانًا أخرى، وبزيادة الوجدان والتعقل، وبتربية شخصيتنا حتى نحس أننا في تطور وارتقاء واستقلال ونضج.
لا، ليس المبلغ كبيرًا على القادرين، ولو كانت هناك حكومات ديمقراطية حقًّا لأتاحت للعاجزين اقتناء هذه الكتب بعُشر هذا الثمن أو بلا ثمن.
إن ثمن «الموسوعة البريطانية» سبعون جنيهًا، وقد اقترحت في كلمة سابقة ترجمتها إلى لغتنا حتى تحدث نهضة أصيلة وحتى يستحيل «الشرق العربي» إلى «الغرب العربي»، ولكن أحدًا لم يقدِّر اقتراحي هذا.
ولنعد إلى المشروع الجديد.
قلت إن الذي يبعث على القلق عند الشاب الأمريكي هو التناقض بين ما يفكر فيه؛ أي ما اكتسب من ثقافة، وبين ما يعيش به؛ أي ما يكتنفه ويلابسه من حضارة.
ولذلك فإن المشروع الجديد يهدف إلى التوفيق بين الثقافة والحضارة فكيف يكون هذا؟
هذه الحضارة الأمريكية تقوم على العلم والصناعة.
وإذن نحن نجد أن من هذه المجموعة ٢٠ مجلدًا فقط في الأدب، و٥٢ مجلدًا في العلم.
وهناك مجلدان اثنان للفهرست، ولكن أي فهرست؟
فهرست الأفكار البشرية، العائلة، الحرب، الحب، المجتمع، الاستعمار، الطب، الكيمياء … إلخ.
والآن ما هو موقف شبابنا من كل هذا الذي ذكرنا؟
إنهم أيضًا في زعزعة وبلبلة وقلق، وهم يحتاجون إلى أن نذكر لهم المؤلفات التي ينبغي أن يقرءوها كي يجدوا التوفيق الذي يهدِّئ، والمعرفة التي تقلق وتطمئن، والنظرة الفلسفية إلى الكون الذي عينه لنا أينشتين، والنظرة البيولوجية التي وجهنا إليها داروين، والعلم الذي يثير والفلسفة التي تبصر.
أين هي المؤلفات التي ترشدهم إلى كل ذلك في اللغة العربية؟ أين هو غذاء الطاقة التطورية في نفوسهم؟
وجوابي أني لا أعرفه، لا أعرف الكتب العربية العظيمة التي يمكن أن ترشد شبابنا إلى الحياة الصالحة التي يُسعدون بها أنفسهم ويسعدون بها غيرهم.
هل يمكن أحدًا أن يدلني عليها؟