مدح أهل البيت
نشأة العطف على أهل البيت – مقتل الحسين – النوح في يوم عاشوراء – الصلاة على الحسن والحسين في بعض الخطب المنبرية – مصرع ابن السكيت – دسائس الأمويين ضد الحسن بن علي – المبالغة في بكاء الحسين – أشياع علي في حضرة معاوية وغيره من الخلفاء – مدح شعراء الفاطميين لأهل البيت ليس من التصوف.
***
-
(١)
وُلِد العطف على أهل البيت منذ اليوم الذي خُذِل فيه عليٌّ، وكان يرى نفسه صاحب الحق في الخلافة الإسلامية، وبلغ العطف أشُده يوم قُتل، وأتيحت بقتله الفرصة لقيام الخلافة الأموية، ثم تأصلت جذور ذلك العطف في أفئدة المسلمين بعد قتل الحسين رضي الله عنه وما تلاه من أحزان أهل البيت.
والواقع أن دماء أهل البيت كانت هزت قلوب المسلمين، ويكفي أن نتصور ما حدَّث به الفيروزابادي في مادة «سور» من القاموس المحيط؛ إذ قال:وسورين: نهر بالري وأهلها يتطيرون منه؛ لأن السيف الذي قُتل به يحيى بن زيد بن علي بن الحسين غُسل فيه.
والتطير من نهر غُسل فيه سيف قُتل به رجل من أهل البيت يمثل أقصى معاني التصوف في حب أسباط الرسول.
-
(٢)
ومقتل الحسين خاصة من الحوادث التي شغلت خواطر المسلمين أجيالًا طوالًا، ولو كان التصوير من الفنون التي شجعها الإسلام لملأت صورة الحسين أقطار الأرض، كالذي وقع في صورة المسيح التي تزدان بها الكنائس الصغيرة والكبيرة والمنازل في مختلف البقاع النصرانية.
ولكن الحماسة التي عدمت مكانها في مجال التصوير انتقلت إلى الخطب والرسائل والقصائد، ومن ملاحظات المسيو بلانشو Blanchot في كتاب Les Elapes de la Peinture أن الحسين عند المسلمين يُذكِّر بأدونيس عند اليونان، وتتلخص هذه القصة في أن أفروديت إلهة الجمال كان لها ابن وسيم الطلعة نضير الشباب اسمه أدونيس، فخرج يومًا يتصيد فهاجمه خنزير بري فقتله، ونبتت من دمه شقائق النعمان، ثم مضى اليونان يحيون ذكراه في كل ربيع، فيبكون ويندبون، وأمامهم تابوت يمثل نعش أدونيس.١وكذلك فعل المسلمون في ذكرى الحسين، فكانوا يحيون ذكراه يوم عاشوراء حتى لنجد صاحب كتاب النجوم الزاهرة يقول في أخبار سنة ثمانٍ وتسعين وثلثمائة:في يوم عاشوراء عمل أهل الكرخ ما جرت به العادة من النوح وغيره، واتفق يوم عاشوراء يوم المهرجان، فأخَّره عميد الجيوش إلى اليوم الثاني مراعاة للرافضة. هذا ما كان ببغداد، فأما مصر فإنه كان يُفعل بها في يوم عاشوراء من النوح والبكاء والصراخ وتعليق المسوح أضعاف ذلك.
وقد كانت عادة النوح على الحسين في يوم عاشوراء تجري في القاهرة إلى زمن قريب، وكنت أسمع بأخبار ذلك وأنا طالب في الأزهر فلا أصدق؛ لأني كنت أقضي يوم عاشوراء بين أهلي في الريف، فبقيت في القاهرة عمدًا في أحد الأعوام، ورأيت الموكب بعيني، وكان الشيعة يطوفون حول مسجد الحسين رضي الله عنه وأجسامهم مخضبة بالدماء، وقد اختفى هذا المنظر منذ غلبت المدنية الحديثة، ولكني شهدت منذ أعوام قلائل حفلة في حي الحمزاوي، فرأيت الناس يبكون ويصرخون وهم يسمعون سيرة الحسين في ليلة عاشوراء.
-
(٣)
وقد أُضِيفت الصلاة على عليٍّ وابنيه الحسن والحسين إلى الصلاة على رسول الله في طائفة من الخطب المنبرية؛ فقد خطب أبو المنيع قرواش بن المقلد خطبة الجمعة بالقاهرة رابع المحرم سنة إحدى وأربعمائة بحضرة الحاكم، فقال:
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله … اصطفاه واختاره لهداية الخلق، وإقامة الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، وهدى من الضلالة … صلى الله عليه وعلى أول مستجيب له عليٍّ أمير المؤمنين، وسيد الوصيين.
وقال في الخطبة الثانية بعد حمد الله والثناء على نبيه:اللهم وصلِّ على وليك الأزهر، وصفيِّك الأكبر، علي بن أبي طالب أبي الخلفاء الراشدين المهديين، اللهم وصلِّ على السبطين الطاهرين الحسن والحسين.
وحدثني السيد فوزان السابق وكيل حكومة الحجاز بالقاهرة أنه وجد في أحد مساجد المغرب وثيقة زواج ذُكرت فيها الصلاة على الحسن والحسين، وأنه رشا خازن تلك الوثيقة وأخذها منه. جرى هذا الحديث منذ ثلاثة عشر عامًا بمنزله في عين شمس وبحضرة المرحوم الشيخ عبد الباقي سرور نعيم، وقد مازحته يومئذٍ فقلت: أترى الوهابيين يجيزون الرشوة؟
-
(٤)
ولو مضينا إلى المكاتب المبثوثة في حي الأزهر واشترينا طائفة من الخطب المنبرية لرأينا في أكثرها خطبة ثابتة ليوم عاشوراء، ورأينا مؤلفي تلك الخطب يزعمون أن النبي ﷺ أوصى بأن يوسِّع الرجل على أطفاله في يوم عاشوراء، وأكاد أجزم بأن أهل الريف في مصر يحتفلون بذلك اليوم احتفالهم بعيد الأضحى من حيث التوسع في المطاعم. وفي مصر نوع من الحلوى اسمه «عاشوراء» يؤكل في ذلك اليوم، ويتخيره ناس للفطور في رمضان حتى الأرمن واليونان يقدمونه لزبائنهم في القهوات!
-
(٥)
وسنرى كيف يكون مدح أهل البيت مما يتبارى فيه الكُتَّاب والشعراء، وسنرى كيف يحرص الشريف الرضي على إحياء يوم عاشوراء من كل عام بقصيدة يبكي فيها الحسين.٢وسنرى طوائف من المآسي تقع لبعض العلماء بسبب التعصب للحسن والحسين، فقد حدثنا ياقوت٣ أن ابن السكِّيت كان خرج إلى سُرَّ مَن رأى فصيَّره عبد الله بن يحيى بن خاقان إلى المتوكل، فضم إليه وُلْده يؤدبهم، وأسنى له الرزق، ثم دعاه إلى منادمته، فنهاه عبد الله بن عبد العزيز عن ذلك، فظن أنه حسده، وأجاب إلى ما دُعي إليه. فبينما هو مع المتوكل يومًا جاء المعتز والمؤيد، فقال له المتوكل: يا يعقوب، أيما أحب إليك: ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فذكر الحسن والحسين رضي الله عنهما بما هما أهله، وسكت عن ابنيه، وقيل إنه قال له: إن قنبر خادم علي أحب إليَّ من ابنيك. فأمر المتوكل الأتراك فسلُّوا لسانه، وداسوا بطنه، وحُمل إلى بيته، فعاش يومًا وبعض آخر ومات، ووجَّه المتوكل من الغد عشرة آلاف درهم ديته إلى أهله، ولما بلغ عبدَ الله بن عبد العزيز الذي نهاه عن المنادمة خبرُ قتله أنشد:نَهَيْتُكَ يَا يَعْقُوبُ عَنْ قُرْبِ شَادِنٍإِذَا مَا سَطَا أَرْبَى عَلَى كُلِّ ضَيْغَمِفَذُقْ وَاحْسُ إِنِّي لَا أَقُولُ الْغَدَاةَ إِذْعَثَرْتَ لَعًا بَلْ لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
ولهذا الخبر دلالة على ما كان تمكن في صدور الناس من حب أهل البيت والتصوف في ذلك الحب؛ فابن السكيت كان يخفي التشيع إخفاءً شديدًا، بحيث خُدع فيه المتوكل، وعهد إليه بتأديب ولديه، ولكن الشراب يفضح المكتوم من أخبار السرائر والنفوس، فلما أخذت منه الكأس أعلن ما كتم، وصرَّح بأن قنبر خادم علي أحب إليه من ابني المتوكل، فاستهدف للقتل.
-
(٦)
ولا ينبغي أن ننسى أن الشعراء والخطباء والقُصَّاص لوَّنوا قتل الحسين رضي الله عنه بألوان شعرية، ألم يقل قائلهم: إن الدم كان يجري من ذلك الفم الذي طالما قبَّله الرسول؟
إن هذه اللمحة هي وحدها صورة شعرية تهيج ما غفا من المشاعر والأحاسيس.
-
(٧)
ولنتذكر أن بني أمية قاوموا هذه الصور الشعرية، ولكنهم لم يفلحوا، فقد ظل الناس يحبون الحسين. أما دسائس الأمويين ضد الحسين فقد ظفرت ببعض النجاح، ألم يستطيعوا أن يشيعوا في المشرق والمغرب أن الحسن لم يكن صالحًا للملك، وأنه كان رجلًا مفتونًا بحب النساء؟
ومن العجيب أن بني أمية حاربوا الحسن بلباقة سياسية منقطعة النظير، فقد كانوا يودون اتهامه بضعف الأخلاق، وحب الإثم والفسوق، فلما عزَّ عليهم ذلك قالوا: إنه لم يكن يتمتع بالنساء إلا عن طريق الحلال، فكان يتزوج المرأة ليلهو بها يومًا أو بعض يوم، ثم يطلقها ليبحث عن امرأة أفتن وجهًا، وأنضر شبابًا.
ومن العجيب أيضًا أن الهاشميين لم يقاوموا هذه الدسيسة، وأعجب من ذلك أن يعدُّوها من مفاخر ذلك السيد المزواج!
ومن طريف الفكاهات أني كنت نشرت كلمة في جريدة البلاغ عن شواطئ الإسكندرية قلت فيها: «إن أجسام المِلاح في تلك الشواطئ تغرس الشوق إلى الاعتزاز بالقومية المصرية»، فعاتبني الشيخ محمد الحكيم المصحح بجريدة البلاغ، وقال: هذه دعوة إلى المجون.
وكنت أعرف أن العمامة الخضراء التي تزين رأسه ستغنيني في إقناعه، فالتفتُّ إليه وقلت: حتى أنت يا سليل الحسن بن علي، تنكر الدعوة إلى تقديس الجمال؟! فابتسم، وطابت نفسه، وانشرح صدره، وترحم على جده، وانطلق يحدِّث عن نوادره مع النساء.
وقليل من التنبه كافٍ لتعريفنا بخطر هذه الدسيسة في عالم السياسة، فإن الرجل الذي يشغل نفسه بسياسة المرأة يعسر عليه أن يتفرغ لسياسة الدولة، وهذا المغمز لا يزال معروفًا في ميادين النضال السياسي، ولو شئنا لضربنا لذلك الأمثال.٤ -
(٨)
نجح الأمويون في تشويه سمعة الحسن من الوجهة السياسية، ولكنهم لم ينجحوا في تشويه سمعة الحسين؛ ولذلك رأينا الشعراء يُبدِئون ويعيدون في الثناء على هذا الشهيد، ورأينا منهم من يتمثل مصرعه في الأحلام. روى الثعالبي عن أحد معاصريه قال: أخبرني علي بن بشر أنه كان له جدٌّ لأم يُعرف بكولان، وكان هو من أهل الأدب والكتابة، وحسن الشعر والخطابة، قال لي: حججت سنة من السنين، وجاورت بمكة حرسها الله، فاعتللت علة تطاولت بي، وضاق معها خُلقي، ثم صلحت منها بعض الصلاح، ففكرت في أني عملت في أهل البيت تسعًا وأربعين قصيدة مدحًا، فقلت: أكملها خمسين، ثم ابتدأت فقلت:
بني أحمد يا بني أحمدثم أُرتِج عليَّ فلم أقدر على زيادة، فعَظُم ذلك عليَّ، واجتهدت في أن أكمل البيت فلم أقدر، فحدث لي من الغم بهذه الحالة ما زاد على غمي بإضاقتي وعلتي، فنمت اهتمامًا بالحال، فرأيت النبي ﷺ، فجئت إليه، فشكوت ما أنا فيه من الإضاقة، وما أجده من العلة، وأخرى من القلة، فقال لي: تصدَّق يوسع الله عليك، وصُمْ يصح جسمك. فقلت له: يا رسول الله، وأعظم مما شكوته إليك أنني رجل شاعر أتشيع، وأخص بالمحبة ولدك الحسين، وتداخلني له رحمة لما جرى عليه من القتل، وكنت قد عملت في أهل بيتك تسعًا وأربعين قصيدة، فلما خلوت بنفسي في هذا الموضع حاولت أن أكملها خمسين، فبدأت قصيدة قلت فيها مصراعًا وأرتج عليَّ إجازته، ونفر عني كل ما كنت أعرفه، فما أقدر على قول حرف. قال: فقال لي قولًا نحا فيه إلى أنه ليس هذا إليَّ، لقول الله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، ثم قال لي: اذهب إلى صاحبك. وأومأ بيده الشريفة إلى ناحية من نواحي المسجد، وأمر رسولًا أن يمضي بي إلى حيث أومأ، فمضى بي الرسول إلى ناس معهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له الرسول: أخوك وجَّه إليك بهذا الرجل فاسمع ما يقوله. قال: فسلمت عليه، وقصصت عليه قصتي كما قصصت على النبي ﷺ، فقال لي: فما المصراع؟ فقلت: «بني أحمد يا بني أحمد» فقال للوقت قل:بكت لكمو عمد المسجدبِيَثْرِبَ وَاهْتَزَّ قَبْرُ النَّبِيِّأَبِي الْقَاسِمِ السَّيِّدِ الْأَصْيَدِوَأَظْلَمَتِ الْأُفْقُ أُفْقُ الْبِلَادِوَذُرَّ عَلَى الْأَرْضِ كَالْإِثْمِدِوَمَكَّةُ مَادَتْ بِبَطْحَائِهَالِإِعْظَامِ فِعْلِ بَنِي الْأَعْبُدِوَمَالَ الْحَطِيمُ بِأَرْكَانِهِوَمَا بِالْبَنِيَّةِ مِنْ جَلْمَدِوَكَانَ وَلِيُّكُمُ خَاذِلًاوَلَوْ شَاءَ كَانَ طَوِيلَ الْيَدِقال: ورددها علي ثلاث مرات، فانتبهت وقد حفظتها.٥ -
(٩)
ومن أقوى مظاهر التصوف في حب أهل البيت ما كان يقع من أنصارهم في حضرة معاوية، ومن شواهده ما وقع من أبي الطفيل، وكان معاوية يتشهى أن يراه فلم يزل يكاتبه ويلطف له حتى قدم عليه، فجعل يسائله عن أمر الجاهلية، ودخل عليه عمرو بن العاص ونفرٌ معه، فقال لهم معاوية: أما تعرفون هذا؟ هذا خليل أبي الحسن! ثم قال: يا أبا الطفيل، ما بلغ من حبك لعلي؟ قال: حب أمِّ موسى موسى، قال: فما بلغ من بكائك عليه؟ قال: بكاء العجوز الثكلى والشيخ الرَّقُوب، وإلى الله أشكو التقصير!
قال معاوية: إن أصحابي هؤلاء لو كانوا سُئلوا عني ما قالوا فيَّ ما قلت في صاحبك!
قالوا: إذن والله لا نقول الباطل.
فقال لهم معاوية: لا والله، ولا الحق تقولون!٦وحدثوا أن معاوية كان يسمر مع جماعة من بني أمية، فذكر اسم الزرقاء ابنة عدي بن قيس الهمدانية، وكانت شهدت مع قومها بصفين، فقال لجلسائه: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال: أشيروا عليَّ في أمرها، فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها. قال: بئس الرأي أشرتم به عليَّ، أيحسن بمثلي أن يُتحدَّث عنه أنه قتل امرأة بعدما ظفر بها؟ وكتب إلى عامله بالكوفة، فأوفدها إليه، ثم قال لها بعد الترحيب: أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: أنَّى لي بعلم ما لم أعلم؟! قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصَّفين تحضين على القتال، وتوقدين الحرب، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين! مات الرأس، وبُتِرَ الذَّنَب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غِيَر، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذٍ؟ قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أُنسِيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: «أيها الناس! ارعَوُوا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشَّتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عند قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء صماء، بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها! إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشد أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه.
أيها الناس! إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرًا يا معشر المهاجرين على الغصص، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة الحق ودمغ الحق الباطل، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف وأنَّى، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء! ولهذا اليوم ما بعده.»
ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليًّا في كل دم سفكه.
فقالت: أحسن الله شارتك، وأدام سلامتك، فمثلك بشر بخير وسرَّ جليسه.
قال: أويسرك ذلك؟
فقالت: نعم والله لقد سررت بالخبر، فأنى لك بتصديق الفعل؟!
فضحك معاوية وقال: والله لَوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته! اذكري حاجتك. فقالت: يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي ألَّا أسأل أميرًا أعنت عليه أبدًا.٧وحدثوا أيضًا أن معاوية حج فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون، يقال لها دارمية الحجونية، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأُخبِر بسلامتها فبعث إليها فجيء بها. فقال: ما جاء بك يا ابنة حام؟ فقالت لست لحام، إن عبتني، أنا امرأة من بني كنانة. قال: صدقتِ، أتدرين لمَ بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك. قالت: أما إذ أبيت فإني أحببت عليًّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر، وطلبك ما ليس لك بحق، وواليت عليًّا على ما عقد له رسول الله ﷺ من الولاء وحبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى، قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعَظُم ثدياك، وربتْ عجيزتك! قالت: يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك، لأبي! قال معاوية: يا هذه اربعي فإنا لم نقُل إلا خيرًا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تمَّ خلق ولدها، وإذا عَظُم ثدياها تروَّى رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رَزُن مجلسها، فرجعت وسكنت، ثم قال: يا هذه، هل رأيت عليًّا؟ قالت: إي والله! قال: فكيف رأيته؟ قالت رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك! قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم، والله! فكان يجلو القلوب من العمى، كما يجلو الزيت صدأ الطست. قال: صدقتِ، فهل لك من حاجة؟ قالت: أوَتفعل إذا سألتك؟ قال: نعم. قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها. قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر. قال: فإن أعطيتك ذلك، فهل أحلُّ عندك محلَّ علي بن أبي طالب؟ قالت: سبحان الله! أو دونه! فأنشأ معاوية يقول:
إِذَا لَمْ أَعُدْ بِالْحِلْمِ مِنِّي عَلَيْكُمُفَمَنْ ذَا الَّذِي بَعْدِي يُؤَمَّلُ لِلْحِلْمِخُذِيهَا هَنِيئًا وَاذْكُرِي فِعْلَ مَاجِدٍجَزَاكِ عَلَى حَرْبِ الْعَدَاوَةِ بِالسَّلْمِثم قال: أما والله لو كان علي حيًّا ما أعطاك منها شيئًا!
قالت: لا والله، ولا وَبَرة واحدة من مال المسلمين!٨ -
(١٠)
ولهذه المواقف الثلاثة نظائر كثيرة في الأدب العربي، وهي تحتمل ثلاثة فروض:
- الفرض الأول: أن تكون صحيحة، وهي عندئذٍ شاهد صحيح على التصوف في حب علي، والوفاء للميت بمثل هذه الصورة لا يكون إلا من قلوب عامرة بالإخلاص، ولا سيما إذا تذكرنا أن ذلك الميت انهزم في ميدان السياسة وانهزم ناصروه، وتمت لعدوه الغلبة فاستأثر بالحول والطول.
- والفرض الثاني: أن تكون من وضع العلويين، وهي عندئذٍ صورة من أهوائهم في حب أهل البيت.
- والفرض الثالث: أن تكون من وضع الأمويين، ويكون الغرض من وضعها تزكية آل حرب ووصفهم برجاحة الأحلام، فهي أيضًا صورة لما كان مفروضًا من وفاء بعض الناس لأهل البيت، والفرض الأخير لا يمكن قبوله في جميع الحالات؛ ففي بعض المواقف قذفٌ لآل حرب، ورميٌ بالبغي والفسوق، وتذكيرٌ بمخازيهم في الجاهلية والإسلام، وفي هذه الحال لا يُقبَل غير الفرض الثاني؛ لأن معاوية مهما حلم فعنده هيبة الملك، وهي كفيلة بأن تقف سفه الخطاب عند الحد المعقول.
-
(١١)
ويشبه هذه المواقف ما أنطق به الرواة الخليفة المأمون في مدح علي بن أبي طالب، وأغلب الظن عندنا أن ذلك مصنوع بأيدٍ هاشمية، وهذا الصنع له دلالته على أي حال، فحماسة الشيعة كانت في البداية حماسة سياسية، ثم انقلبت إلى حماسة روحية، فهم يُبدِئُون ويعيدون في مدح أهل البيت بقلوب غمرها التصوف العميق.
-
(١٢)
على أن هذه المواقف ليست كل شيء، فهناك شعراء قضوا أعمارهم في الدفاع عن أهل البيت، ولقوا في ذلك من المحن والمكاره ما يدل على نصيبهم من صدق الوجدان، أمثال: الكميت، ودعبل، وأبي الطفيل، وهناك شعراء لم يقفوا حياتهم على هذا الفن، ولكن كانت لهم فيه مواقف موصولة بصدق اليقين، أمثال: الشريف الرضي، ومهيار، وسيكون لهؤلاء مكان في هذا الكتاب.
-
(١٣)
وهناك شعراء أطالوا القول في مدح أهل البيت، وهم شعراء الدولة الفاطمية، ولكن هؤلاء صِدْقُهم مشوب بروح النفع؛ لأن الفاطميين كانوا أقاموا مُلكًا عظيمًا في مصر والمغرب، وانتصارهم كافٍ لتشكيكنا في عواطف من مدحوهم من الشعراء.
وليس معنى ذلك أن مدح المنتصر يخلو من الصدق، لا، ولكن معناه أنه بعيد من التصوف لأنه متهم بحب النفع، وهيهات أن يقف مثل ابن هانئ الأندلسي في صف شاعر مثل الكميت!
إن أمثال ابن هانئ يمدحون أهل البيت وهم محميون بقوة الفواطم، والمنافع تجري حولهم من كل جانب، أما أمثال أبي الطفيل والكميت فكانوا يمدحون أهل البيت والدنيا من حولهم مظلمة، والأنس في قلوبهم مفقود، فهم أوفياء يائسون، والوفاء من اليائس خُلُق عظيم.
وفي هذه الحقيقة ما يغنينا عن الجواب إذا سُئِلنا عن إغفال كثير من الشعراء الذين مدحوا أهل البيت، إن علامة التصوف هي الشجاعة، والشجاعة لا يُحتاج إليها إلا في مواطن الخوف، وهي عندئذٍ دليل على حفظ العهد وصدق اليقين.
وأغلب الظن أن ساسة العصر الحاضر سيكون حظهم في التاريخ كحظ الساسة في العصور الماضية؛ فإن صور النضال السياسي تتشابه في أكثر الأجيال، وكذلك تتشابه حظوظ السياسيين في التاريخ.