المثالية الألمانية
ما المثالية الألمانية؟
يمكن تفسير الذات الحديثة على أنها — حسب عبارة كانط — «تمنح التشريع» لكلٍّ من الطبيعة (ممثلةً في العلوم) والذات نفسها (ممثلةً في حرية الإرادة الأخلاقية)، وأيضًا على أنها مُبتلَاة بإحساسٍ ﺑ «الضياع» ناتج عن ارتيابها في اللاهوت وفي الأدوار والهويات التقليدية. وقد سعى كانط إلى إثبات فكرة حرية الإرادة عن طريق وضع الحرية في مجال لم يكن خاضعًا لقوانين الطبيعة. وفي الوقت نفسه، كان يتعذَّر على المعرفة البشرية بلوغ الطبيعة «في ذاتها»؛ فكيف إذن تتصل الطبيعة في حدِّ ذاتها بحرية الإنسان؟ تهدف «المثالية الألمانية»، التي ظهرت في تسعينيات القرن الثامن عشر، إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الذاتي والموضوعي في ضوء دعاوى كانط. كيف تتصل قدرتنا «التلقائية» على «منح التشريع» للطبيعة بالطبيعة التي يُمنَح لها التشريع؟ إن هذه القدرة يجب — على نحوٍ ما — أن تمنحها لنا الطبيعةُ نفسها؛ لأننا كائنات طبيعية. لكن على النقيض من سائر عناصر الطبيعة لا يمكن للقدرة أن تظهر؛ لأنها هي التي تجعل التفكير في الطبيعة بطريقةٍ موضوعية «كمظهر» ممكنًا على أية حال. وما تظهر له الأشياء لا يمكن أن يكون شيئًا كالذي يظهر تمامًا، وهذا يعني أن الدعاوى بشأن قدرتنا التشريعية لا يمكن أن ترتكز على دليل موضوعي عن العقل، كالذي يمكن الحصول عليه من علم النفس؛ لأن ذلك العلم نفسه يعتمد أيضًا على تلك القدرة. وعليه، فإن الفكرة التي تراها المثالية الألمانية ضمنيةً لدى كانط، هي أن المعرفة التي تعتمد على تلقائية الحكم والفعل الإرادي التلقائي يمكن النظر إليهما على أنهما يشتركان في المصدر نفسه، ويتعذَّر الوصول إلى هذا المصدر بنوع البحث المتَّبَع في العلوم، وتقود هذه الفكرة إلى احتمالين أساسيين يشتركان في نقاط معينة.
يرى أحد الاحتمالين «الذاتية» — «الأنا» بالمعنى الواسع جدًّا لها في المثالية الألمانية — على أنها أساس وجود «عالم» في المقام الأول، وليسَتِ الفوضى اللامتَّسِقَة؛ ومن ثَمَّ فإن «الذاتية» هي ما يولِّد أشكالًا قادرة على البقاء تصبح من خلالها الطبيعة شيئًا حيًّا ومفهومًا، ودون «الضوء» الذي يُضفِيه التفكير على الطبيعة، ستكون الطبيعة عصيَّةً على الفهم لنفسها. ويمكن الاستدلال على أهمية هذا النوع من المقارَبة بفكرة أن المادة التي تتألَّف منها الكائنات الحية تُستبدَل أثناء حياتها، دون أن تصبح شيئًا مختلفًا. والفكرة هي أن هذا يوحي بسيادة نوع معين من مفهوم «العقل» — بالمعنى الذي ينشئ أشكالًا مفهومة — على الطبيعة؛ فدون فاعلية العقل لا شيء محدَّدًا يمكن أن يظهر من الأساس. وهكذا يصبح جوهر الفلسفة هو فاعلية الذات، وليس تفسير العالم الطبيعي الموضوعي.
والاحتمال الآخَر هو أن كلًّا من فاعلية العقل والحرية متأصِّل في «إنتاجية» الطبيعة. فالطبيعة مرة أخرى ليست مجرد نظامٍ موضوعي من القوانين؛ لأنها «تنتج» الذاتية، التي عن طريقها تعرف نفسها وتصبح متمتعة بحرية الإرادة، بدلًا من البقاء منغلقةً على نفسها. ومع ذلك، فإنتاجية الطبيعة لا تقع في النهاية في نطاق سيطرتنا، حتى إن تفكيرنا «يحدث»، وهو ليس بالشيء الذي ندفع أنفسَنا عن وعي إلى القيام به. وما إن يظهر التفكير حتى توجد درجة من حرية الإرادة في التفكير. والسؤال هو: ما مدى الحَسْمِ الذي تكون عليه حرية الإرادة هذه؟ فالذات المفكِّرة هنا ليست شفافةً تمامًا لذاتها، وتعتمد إلى حدٍّ ما على شيء «غير واعٍ».
يشترك كلا الاحتمالين في فكرة أنه على الرغم من أن التغيُّرات في الطبيعة تحدِّدها القوانين، فإن فكرة أن الطبيعة مُهَيْكَلةٌ من الأساس، وديناميكية لا ثابتة، لا تتحدَّد على هذا المنوال نفسه. تتعلق الأفكار المتصلة بالبديل الأول بسالومون ميمون (١٧٥٤–١٨٠٠) ويوهان جوتليب فيشته (١٧٦٢–١٨١٤)، بينما تتعلَّق الأفكار في البديل الثاني ﺑ «فلسفة الطبيعة» لفريدريش فيلهيلم جوزيف شيلينج (١٧٧٥–١٨٥٤). ويحاول جورج فيلهيلم فريدريش هيجل (١٧٧٠–١٨٣١) تجاوُزَ الفروقِ بين هذين البديلين عن طريق وصف العلاقة بين الذاتي والموضوعي بطريقة جديدة، كما سنرى. ومنذ نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، سيبرهن شيلينج على أن وصف هيجل للمثالية عاجز عن فهم الملامح المحورية للوجود الإنساني.
في الحداثة، من الصعب أن تصمد فكرة الانتماء إلى كلِّ ذي معنى، ويعني التمدُّن أن الاتصال المباشِر بالطبيعة يميل إلى الانحسار بالنسبة إلى شرائح كبيرة من السكان. ويتزايد أيضًا خضوع الطبيعة لآثار تحليل العلم لعناصرها، وهذا الخضوع يعطي أولويةً لمَوْضَعَة المناهج على الطرق الأخرى لفهم العالم. والنتيجة يمكن أن تكون كبتًا لجوانب معينة من ذواتنا، مثل الحاجة إلى التعامل مع العالم على أنه ذو مغزًى في جوهره؛ وسيسمي عالم الاجتماع ماكس فيبر فيما بعدُ هذا النهجَ في تفريغ المعنى من الطبيعة ﺑ «التحرُّر من أوهام» العالم. لكن — كما يتضح الآن من الأزمة البيئية — توجد على الأرجح حدودٌ لقدرة البشر على إخضاع الطبيعة، ويبدي شيلينج بالفعل ملاحظاتٍ نقديةً عن الآثار المدمرة لاعتبار البيئة مجرَّد موضوع للأهداف البشرية في نهاية القرن الثامن عشر. وبالمثل، يطالِب بيانٌ رسمي موجَز — غالبًا ما يُشَار إليه ﺑ «البرنامج الأقدم لنظام المثالية الألمانية» عام ١٧٩٦ (مؤلِّفه شيلينج أو هيجل أو صديقهما الشاعر فريدريش هولدرلين ١٧٧٠–١٨٤٣) — ﺑ «ميثولوجيا العقل»، وسيعمل هذا على مواءمة رؤية العالم العلمية الجديدة مع الأشكال الرمزية الموظَّفة في حياة الناس اليومية. فما يخبرنا به العلم الحديث يجب أن تصاحِبه قرارات بشأن ما ينبغي فعله عن طريق إيجاد طرق لإيصال وتقييم المعرفة تُشرِك التخيُّل الجمالي والأخلاقي لجميع مستويات المجتمع، على النحو الذي قد انتهجه علم الأساطير في المجتمعات التقليدية. وعلى الرغم من أنه سيُنظَر إلى هذه الرؤية على أنها متعذِّرة التحقيق، فإن التناقضات التي أحدثتها لا تزال ظاهرةً في إخفاق القدرة التكنولوجية المتزايدة للجنس البشري على إيجاد عالم أكثر عدلًا وإنسانية.
تحاوِل أيضًا المثاليةُ الألمانية حلَّ التناقضات التي تنشأ عن تآكُل النظام الذي تمثِّله فكرةُ أن سلطة الملك مستمَدَّة من الإله، فضرب عنق الملك في كلٍّ من الثورتين الإنجليزية والفرنسية يلخِّص تغيُّراتٍ وقعت في طبيعة الشرعية المميِّزة للحداثة؛ إذ يجب أن يُؤسَّس النظام الآن بحرية بمعرفة البشر، من دون احتكامات إلى سلطة أعلى. ولكن المصالح البشرية متشعبة بطبيعتها، ولا سيَّما عندما يزداد الحِراك الاجتماعي كنتاجٍ لظهور الرأسمالية، فكيف إذن يمكن شرعنة السلطة بوجه عام؟ فالثورة الفرنسية تمارس الإرهاب باسم العقل، وتشي الطرق التي يمكن بها للمبادئ العالمية أن تؤدي إلى اللاإنسانية بالحاجة إلى مناهج جديدة لتصالح الفرد والمجتمع. وتتضح الصعوبات التي ينطوي عليها هذا التصالح في حقيقة أن عمل هيجل على هذه القضية في «فلسفة الحق» (١٨٢٠) قد قُرِئ على أنه أول دفاع شمولي عن سلطة الدولة التي تعلو على الفرد. ومع ذلك، فالأمور ليست بهذه السهولة، وكما يرى هيجل فدون نظام اجتماعي يحكمه القانون لن تكون للفرد حقوق من الأساس؛ فالحقوق تعتمد على الإقرار بأن القانون يُطبَّق على النفس وعلى الآخَرين. ويأتي فهم اعتماد المصطلحات المتعارضة على بعضها — كالحال بين «الإرادة العامة» للدولة وإرادة الفرد — في صميم الفكر المثالي الألماني الذي يسعى إلى التغلُّب على التناقضات الاجتماعية والفلسفية التي نشأت من نهاية النظام الإقطاعي.
مصادر المثالية الألمانية
إن المثالية الألمانية ليست مشابِهة لمثالية بيركلي التي فيها «الوجود إدراك». ومع ذلك، فإن أحد مصادرها هو التساؤل عمَّا إن كان كانط — على الرغم منه — مثاليًّا بركليانيًّا. يرفض كانط المثالية؛ إذ إنه على الرغم من أننا نعرف الأشياء من خلال الطريقة التي ندركها بها، فإنها لا تزال موجودة «في ذواتها»، فكيف مع ذلك ترتبط المظاهر بالأشياء في ذواتها؟ في عام ١٧٨٩ شكَّكَ فريدريش هاينريش جاكوبي (١٧٤٣–١٨١٩) في دعوى كانط أن الأشياء في ذواتها تسبِّب المظاهر. فبالنسبة لكانط، يربط السبب مظهرًا بآخَر يخلفه بالضرورة، والأشياء في ذواتها لا تظهر؛ ولذا لا يمكن — حسب كانط نفسه — أن يقال عنها إنها تسبِّب المظاهر. وهذا على ما يبدو يطرح الاختيار بين بديلين: إما التخلص من الأشياء في ذواتها بالكلية عن طريق تبنِّي مثالية شاملة، وإما التخلِّي عن المثالية المتعالية، مع خطر العودة إلى الميتافيزيقا «الدوجماتية» التي انتقدها كانط. ويشكِّل التغلُّب على ما هو محل نزاع في هذا البديل إحدى المهام الجوهرية للمثالية الألمانية.
توضِّح تساؤلات جاكوبي عن اتجاه الفلسفة في هذا الوقت السببَ في أن اهتمامات المثاليين الألمان أكثر من كونها مجرد اهتمامات إبستمولوجية. وقد نشأ ما يُسمَّى «جدل وحدة الوجود»، الذي بدأ عام ١٧٨٣، حول دعوى جاكوبي عن أن كاتب حركة التنوير جي إي ليسينج قد أقرَّ بكونه إسبينوزيًّا، وكان إسبينوزا قد حُرم كنسيًّا من قِبل الكنيسة اليهودية الهولندية بسبب الإلحاد عام ١٦٥٦، وكان الإلحاد لا يزال غير مقبول للسلطات الحاكمة في ألمانيا في القرن الثامن عشر. وفي نهاية القرن، فقَدَ فيشته عملَه الأكاديمي نظرًا لاعتباره ملحدًا؛ فإله إسبينوزا ليس هو خالق العالم والمشرِّع له، بل مجموع الطبيعة المنظم: فالإله والطبيعة سواء. وفي نظام إسبينوزا، تعتمد ماهية الأشياء على عدم كونها أشياءَ أخرى، لا على شيء متأصِّل في ذواتها. وكل شيء «يقيِّد بشروطٍ» الأشياءَ الأخرى، وهي بدورها تقيِّده. ويرى جاكوبي أن هذا يؤدِّي إلى تسلسُل من «شروط الشروط»، لا يمكن تبرير أيِّ تفسير فيه على نحوٍ قاطع؛ ومن ثَمَّ فالمعرفة الأساسية تتطلب شيئًا «غير مشروط». وبالنسبة لجاكوبي، هذا هو الإله الذي يجعل التفاصيل أجزاءً ذات معنًى لعالمٍ نستثمر فيه معرفيًّا وأخلاقيًّا وعاطفيًّا، لا مجرد أجزاء من نظام ميكانيكي. ويتوقف تسلسُل التفسيرات — في رأي جاكوبي — عن طريق إدراك أن «إيماننا/اعتقادنا» في الحقيقة لا يمكن تبريره بمصطلحات معرفية (والتي تؤدِّي إلى التسلسُل الموصوف توًّا)؛ ولذا يتوجَّب عليه اللجوءُ إلى علم اللاهوت. ولكن إذا كان غير المشروط سيكون بمنزلة تفسير فلسفي (أي تفسير لا يرى الإله على أنه تفسيرٌ لعالم الشروط)، فالمرء ينتهي إلى موقف متناقض من «تحتم اكتشاف شروط لغير المشروط»؛ لأن التفسير هو بدقة إيجاد شروط الشيء.
ولذلك، فالمثالية الألمانية تحاول إيجاد طرق جديدة لتفسير «غير المشروط» أو «المطلق»؛ ففي العلم الحديث، تُفسَّر الأشياء عن طريق طلب شروط للشروط. وفي اعتقاد جاكوبي أن هذا يعني أنه لا توجد شرعية نهائية للعلم؛ فالمرء بإمكانه دومًا أن يسعى وراء تفسيرات سببية، لكن لا يمكن أن يوجد سبب نهائي لفعل هذا. علاوة على ذلك، فالعلم لا يمكنه أن يؤدِّي وظيفتَه إلا في عالَمٍ قد كشف نفسه بالفعل على أنه مستساغ ومفهوم «قبل» أن نطلب أوصافًا علمية له. (وهذه النقطة ستشكِّل لاحقًا جوهرَ فكرِ هايدجر.) ويعتبر جاكوبي ما ينشأ عن مذهب إسبينوزا «عدمية»؛ لأنه لا يقدِّم وصفًا للكيفية التي يكون بها الوجود قابلًا للفهم من الأساس، فيجب أن يُوضَع سبب الانخراط في النشاط العلمي في نطاق الفعل البشري. لكن المشكلة هي كيف يمكن شرعنة الفعل، وهذه هي المشكلة التي سيكون حلها هو فهم «المطلق».
ومن ثَمَّ، يمكن فهم المثالية الألمانية على أنها استكشاف لفكرة أن الذاتية «غير مشروطة». وفي محاولاته خلال الفترة ما بين ١٧٨٩ و١٧٩٠ تقريبًا لجعل كانط أكثر إقناعًا لجمهور أعرض من الناس، أصرَّ كارل ليونهارد راينهولد على أن الفكر في حاجة لأساس إذا كان يتعيَّن تجنُّب تسلسُلٍ من النوع الذي وصفه جاكوبي، ورأى أن «حقيقة الوعي» لم تكن نفسها مشروطة؛ لأنها أساسًا هي ما يمكِّننا من أن نكون مُدرِكين للشروط. وأكَّد ميمون على أن تمييز كانط بين القابل والتلقائي تتعذَّر استمراريته، فوجود العالم الموضوعي مستنبَط من السببية المفترضة للأشياء في ذواتها؛ لكنَّ مقولة السببية تعتمد على الذات وليس على الموضوع، وما هو مسبَّب هو إدراكات «الذات». وعليه، فإن علاقة الذات-الموضوع تستلزم فقط نوعين من الوعي: لاوعيًا ذاتيًّا وعالمًا موضوعيًّا منفصلًا، ويظهر العالم موضوعيًّا؛ لأن ما ينتج إدراكات «العالم الخارجي» هو الجانب «اللاواعي» من الذات. إن فكرة هامان أن القابل والتلقائي لا يمكن أن يكونَا منفصلين بالكلية فكرةٌ فاصلة بالنسبة إلى المثالية الألمانية. وإذا كانت القابلية السلبية والتلقائية الفاعلة في الظاهر درجتين مختلفتين في الحقيقة لنفس «الفاعلية»، فإن الفجوة بين الذات والعالم يمكن سدُّها، وعندئذٍ سيُنظَر إلى الوعي على أنه وعي «بالعالم» بمعنيين: فهو ينتمي إلى العالم كشيء ينبثق من الطبيعة، كما أنه يجعل العالم موضوعَ المعرفة والفعل. والسؤال هو: كيف يُفسَّر هذان المعنيان؟
فيشته
إنَّ الفرض المحوري لفيشته هو أن فاعلية الإرادة الحرة للذات هي جوهر الفلسفة، فيمكن للذات فهم العالم بطريقة موضوعية، لكن لا يمكن أن تكون هي نفسها موضوعًا. وبالنسبة لفيشته، فإن الذات حرة الإرادة يجب ألَّا تُقيَّد بأي شيء خارج عنها؛ فلو كانت قابلةً للتفسير من خلال ما يقيِّدها لَكانت مجرد موضوعٍ تحدِّده القوانين الطبيعية. ويمكن تصوُّر الذوات البشرية مجرد روبوتات شديدة التعقيد، ومع ذلك — بالنسبة إلى فيشته — فقدرة الذوات على «التأمُّل» هي التي تؤكِّد على أن هذا لا يمكن أن يكون واقعَ الأمر؛ فما يمكننا من التأمُّل في معرفتنا وفعلنا ليس أية علة من النوع الذي نقابله في الطبيعة، بل حريتنا. ومن ثَمَّ، تنطوي «الأنا» التي يمكنها التأمُّل على شيء «مطلَق»، غير مقيَّد بأي شيء خارج ذاته. وفي التأمل، يُظهِر الذاتي جزءًا من «نفسه» في شيء موضوعي، لكنه لا يفعل ذلك مدفوعًا بشيء موضوعي. والموقف الذي يقرِّر فيه المرء أن يكون ناقدًا لنفسه يمكن أن يوحي بالمراد هنا، فالمرء بفعله ذلك «يردع» نفسه من أجل إعلاء قيمة الدلالة الموضوعية لما يتحتم عليه فعله، وبعبارة فيشته، فإنه يُنظَر إلى العملية الأساسية على أنها «الأنا المطلق» الذي لا ينطوي على شيء يعتمد على شيء غيره، مقسمًا نفسه ومؤسِّسًا بذلك العلاقة بين الذاتي والموضوعي، الأنا واللاأنا.
لا يزال المعلقون على فيشته غير متفقين على ما يعنيه بالضبط؛ فكيف على سبيل المثال ترتبط الذوات البشرية الفردية — التي ربما نادرًا ما تمارِس حريتها في الحقيقة — بالمبدأ التوليدي للذاتية المضمن في «الأنا المطلق»؟ يصف فيشته «الأنا» بأنها «عمل-فعل»، في مقابل «حقيقة». ﻓ «الأنا» هي بداية مطلقة؛ لأنها لا تُستمَد من شيء سوى نفسها، وإلا فحرية الإرادة وَهْم. لكنه في دعواه أن «الوعي بشيء خارجنا ليس قطعًا سوى نتاج قدرتنا على التفكير»، يجعل «الوعي» بالشيء خارجنا هو وحده نتاج قدرتنا على التفكير، وليس الشيء نفسه؛ ولذا يمكن النظر إليه على أنه يقدِّم شكلًا من أشكال المثالية المتعالية لكانط. لكن كيف يمكن للمرء أن يفهم «الأنا» في الفلسفة من دون تحويلها إلى موضوع؟ وجواب فيشته أن هذا يحدث عن طريق «حدس عقلي»، «أعرف من خلاله الشيء؛ لأنني أقوم به»، بدلًا من معرفته كشيء موضوعي. ويدور كثير من التطور التالي للمثالية الألمانية حول تداعيات هذا المصطلح.
والسبب هو أن ذلك الحدس العقلي يتعلَّق بالطريقة التي تصف بها الفلسفة اتصالَ العقلِ بالعالم؛ فقد رأى كانط الحدس العقلي على أنه نوع من الفكر المميِّز للإله، الذي يخلق الموضوع الحقيقي عن طريق التفكير فيه؛ وكان هذا يعني أنه أنكَرَ إمكانَ وجودِ ذلك الحدس لدى عقول محدودة مثل عقولنا. وبالنسبة لفيشته، فإن التزامن في الحدس العقلي لفعل التفكير مع ما يُفكَّر فيه هو ما يتغلَّب على فكرة الفجوة بين العقل والعالم. ولكن أليس هذا — كما سيعترض جاكوبي — ضربًا من النرجسية يعكس فيه التفكير نفسَه أمام نفسه فحسب؟ يبدو أن الأهمية التي وضعها فيشته على الذات لا تترك مجالًا لأي استقلال لعالم الطبيعة، الذي يصبح مجرد موضوع للفاعلية البشرية. وعلاوة على ذلك، فإن تبرير التأكيد على «الأنا» يعتمد على فعل الحدس البشري الذي يمكن الوصول إليه فقط عبر فعل التأمُّل، فكيف يتصل تأمُّل ذات واحدة بتأمُّل ذات أخرى؟ إن تأكيد فيشته على حرية الإرادة الفردية يعكس التغيُّرات الاجتماعية والسياسية الحيوية في العالم الحديث، لكنه أيضًا يُوحي بالأخطار. ومن شيلينج إلى هايدجر وما وراءهما، يُنظَر في الغالب إلى مشكلات العالم الحديث على أنها تتصل بدافع الذات إلى الهيمنة على ما يعارضها.
شيلينج
بعد أن طرح في البداية موقفًا قريبًا من موقف فيشته، يخلص شيلينج إلى اتهام فيشته باختزال الطبيعة في كونها موضوع الغايات البشرية، بينما ينبغي فهمها أيضًا على أنها مصدر للمعنى والغاية. وفي نهاية القرن الثامن عشر، رُبِط تطوير إعلاء جديد لقيمة جمال وعظمة الطبيعة غير البشرية بالبحث عن الاهتداء في عالَمٍ يتزايد النظر إليه على أنه يفتقر إلى الأسس اللاهوتية، وكان ظهور علم الجمال في النقد الثالث لكانط وثيقَ الصلة أيضًا بإعادة تقييم علاقات الجنس البشري بالطبيعة، فليس مصادفةً إذن أن يحاوِل شيلينج في أعماله أن يطوِّرَ مفهومًا جديدًا للطبيعة، ويرى الفن على أنه طريقة لفهم العلاقة بين العقل والعالم.
وهنا يظهر انقسام في الفلسفة الألمانية بين النظريات التي تسعى إلى وصف تصوُّري كامل لكيفية اتصال العقل بالعالم والمناهج التي تحتكم إلى الأشكال اللاتصورية من «الحدس»، وخطورة الأخيرة أنها يمكن أن تؤدِّي إلى إهمال الحجة العقلية، لكن توجد أسباب جِدِّيَّة لأنواع معينة من الاحتكام إلى «الحدس». ويؤكد شيلينج في كتابه «نظام المثالية المتعالية» (١٨٠٠) أن الأعمال الفنية هي التجسيد الموضوعي ﻟ «الحدس العقلي». وإذا كان الحدس العقلي واقعًا داخل الذات، كحال المعرفة عن طريق الفعل لدى فيشته، فمن غير الواضح كيف يمكن أن يلعب دورًا تسويغيًّا في الفلسفة. وبالنسبة لشيلينج، يتطلَّب إنتاج الفن إنتاجيةً غير واعية تأخذ الفنان إلى وراء ما تحكمه قواعدُ الوسيط الفني الموجودة. وعن طريق إظهار هذه الإنتاجية اللاواعية في شيء موضوعي يمكن إدراكه على نحو واعٍ، يُظهِر الفن ما لا يمكن للفلسفة أن تقوله؛ ومِن ثَمَّ فإن الفن هو «أداة» الفلسفة، وهو وسيط سهل المنال للعامة يعبِّر عن كيفية اتصال الواعي باللاواعي. وإذا نظرنا إلى عمل فني على أنه موضوع للمعرفة يجب أن تحدِّده التصوُّرات، فلن نفهم كيف يمكنه تغييرُ علاقة الذات بالعالم؛ فالفن يمكنه فعل هذا لأنه يمكن دومًا تفسيره بطرق جديدة، وهذا يجعل معنى الفن «لا مُتعيَّنًا» على نحوٍ ما؛ لأنه لا يمكن تقريره بصورة قاطعة. ولكن بدلًا من أن يكون إخفاقًا فلسفيًّا، يُظهِر هذا اللاتعيُّن — الذي يجعل العمل «لا متناهيًا» على نحوٍ ما — كيف يمكن السمو فوق عالم المعرفة المتناهية، دون إطلاق دعاوى فلسفية «دوجماتية».
لا يؤيِّد شيلينج فكرة الفن كتوفيقٍ بين الذاتي والموضوعي، ويرى أنه لو وُجِد تناغم بين الذاتي والموضوعي فإن الحرية ستكون مجرد جزء من الغرض العام للطبيعة، وسيكون كل شيء مقرَّرًا سلفًا. ومن حوالي عام ١٨٠٩ فصاعدًا، يخلع شيلينج على فكرة الحرية صفةَ الراديكالية عن طريق رؤيتها من حيث إمكانية فعل الشر، من خلال التأكيد على إرادة المرء على نحوٍ لا تحكمه الأعراف الموجودة. ودون هذه الإمكانية، فإن «جوهر» الحرية — الذي يتطلَّب شعورًا بانفتاح محتمل — يكون مفتقدًا. لا ينكر شيلينج الضروريات في الفكر العقلاني ولا يتوقَّف عن محاولة تطوير فلسفة منهجية، ومع ذلك فهو يشكِّك في فكرة أن العقل يمكنه تفسير وجود ذاته؛ ولذا يقدِّم احتمالًا أساسيًّا في التفكير الذي هو على خلافٍ مع مشروع المثالية للتوفيق بين العقل والعالم.
بعيدًا … عن الإنسان وفاعليته التي تجعل العالم قابلًا للفهم، فإن الإنسان نفسه هو الأكثر استعصاءً على الفهم، وهو ما يدفعني باستمرار إلى القول بتعاسة كل الوجود … إنه — أي الإنسان — يدفعني بدقة إلى السؤال اليائس الأخير: لماذا يوجد أي شيء من الأساس؟ ولماذا لا يوجد عدم؟
إنه يظن أن محاولة هيجل لحلِّ مشكلات الفلسفة الحديثة من حيث الكيفية التي بها يتمكَّن «الإنسان وفاعليته من جعل العالم مفهومًا» تخفق في مجابهة التنافر بين الفكر والوجود الذي يمتدُّ إلى صميم محاولاتنا لفهم أنفسنا. وهذا الشعور بالتنافر يقود شيلينج إلى تأمُّلات جديدة عن كيفية اتصال الفلسفة بأشكال التفكير الميثولوجي السابقة على الفلسفة، وعن علاقة الفلسفة بالدين.
هيجل
يرى هيجل أنه لا يمكن التسليم جدلًا بالحدس العقلي في بداية نظام فلسفي كأساس تبنى عليه البقية، وإنما يمكن الوصول إليه فقط بعد أن تكون الفلسفة قد عايَشَتِ الطرق التي يتفاعل فيها الفكر والواقع وعبَّرت عنها، وهذه الطرق يمكن أن تتراوح بين ردود الأفعال البدائية للكائنات الحية تجاه بيئتها وأعلى أشكال التفكير التصوري، الذي تتأمل فيه الفلسفة في الكيفية التي من خلالها أصبحت هي نفسها ممكنة. ويتمثَّل العامل الفاصل في تقييم فلسفة هيجل هنا في بيان ما إذا كان هذا ردًّا كافيًا على ما تتضمنه قضية الحدس.
بالنسبة إلى هيجل، فإن فهم «السبب» في أن دعاوى معينة للحقيقة يتبيَّن زيفها أمرٌ يقلب المذهب الشكي ضد نفسه، وهذا لأن المعرفة لا يمكن أبدًا أن تبدأ من شيء «مباشِر»، بمعنى شيء لا يحتاج أن يرتبط بأي شيء آخَر ليكون على ما هو عليه. فتوصيفات النظام الشمسي، على سبيل المثال، لا تبدأ بمعطيات «مباشِرة» تُفسَّر بعد ذلك في نظرية، بل تبدأ بتفسير ميثولوجي «متوسط» بالفعل لطبيعة الأجرام السماوية. واكتسب هذا التفسير صبغةً أكثر منهجيةً في علم الفلك البطلمي، ثم تغيَّرَ مجددًا عندما أوضح كوبرنيكوس وجاليليو طبيعة النظام الشمسي المتمركزة حول الشمس. فالنظرية الأكثر معقوليةً تنشأ عن كشف النقائص في النظرية السابقة، وليس عن الوصول المباشِر إلى الحقيقة.
ويسمِّي هيجل هذه العملية «النفي المعيَّن»؛ فالنظريات المفندة لا تُطرَح جانبًا، بل تسمح بوضع نظريات أفضل. فالفلسفة توضِّح كيف أن كلَّ فهم معين لشيء ينطوي على قصور يقود إلى وصف أكمل. وفي النهاية، يؤدِّي إظهار أوجه القصور تلك إلى التعبير في نظام فلسفي عن كل الطرق التي يمكن بها للأشياء أن ترتبط بعضها ببعض. ويبلغ هذا النظام ذروته في «الفكرة المطلقة»؛ أي بيان السبب في أن كلَّ الحقائق الجزئية تعتمد على علاقاتها بحقائق أخرى لتبريرها، ومن ثَمَّ لا توجد دعاوى إيجابية حاسمة حتى يتم إظهار أوجه القصور في كل الدعاوى الجزئية.
يتعقَّب كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» الهياكل المتضمنة في كيفية «ظهور» العقل. وتتضح طبيعة هذا المنهج من فكرة أن العقل يَظهر، لا كونه الشيء الذي يظهر له العالم. ولعل النظر إلى الطريقة التي يمكن بها للذات أن تكون على اتصال حقيقي بالموضوع هو الأسلوب الخطأ لتناول نظرية المعرفة. ويستخدم هيجل مجازًا تعلُّم السباحة؛ فإذا لم يدخل المرء إلى الماء فلا يمكنه تعلم السباحة، وبالطريقة نفسها لا تتسنى للمرء المعرفة دون الانغماس بالفعل فيما ينبغي معرفته. ويعطي كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» وصفًا تتبعيًّا للعلاقات التاريخية بين الذات والموضوع، الأمر الذي رآه كانط في صورة مقولات سرمدية للفكر؛ فلكي يتطور الفكر من الأساس يتحتم أن يكون شيء ما مفقودًا. وحتى على المستوى الغريزي، يكون جوهر علاقة الشيء المفتقِد ﻟ «غيره» حاضرًا، فالكائنات الحية تحتاج طعامًا وتحتاج إلى التكاثُر، ودون وجود «الآخَر» لا يمكنها الوجود؛ ومن ثَمَّ يكون كل شيء في جانبٍ منه هو نفسه وليس نفسه في ذات الوقت: فالطعام الذي تأكله ليس أنت، لكنه يُصبِح أنت. والتغلب على احتياجٍ ما يعني أن الذات تعتمد على الموضوع، لكن هذا الاعتماد ليس في حدِّ ذاته أساسَ مزيدٍ من التطوُّر. ولكن، فقط عندما يتطور وعي مستدام بالاعتمادية تنشأ الفكرة في شكل — مثلًا — ذكرى ما يلبي الحاجة.
وقد أشار تيري بينكرد إلى تصوُّر هيجل على أنه وصف ﻟ «السلوك الاجتماعي للعقل»؛ إذ يشرح كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» كيف يسمح الاعتماد بأنواع جديدة من العلاقات بين الناس والأشياء. ومن منطلق الموقف الذي ترى فيه النفس الآخَر دومًا على أنه تهديد — يقصد هيجل هنا مقولة هوبز «حرب الجميع ضد الجميع» التي تسبق العلاقات القانونية — تنشأ القدرة على افتراض أن الآخَر له حقوق كما لي حقوق. وفي الواقع، فمن دون الإقرار المتبادَل بين النفس والآخَر، لن يكون للحقوق أي وجود ملموس من الأساس. وفي فقرة شهيرة من كتاب «فينومنولوجيا العقل/الروح» عن «السيادة والعبودية»، يستهلك السيد منتجات العبد الذي قد أخضعه لنفسه؛ فالاعتماد الناتج للسيد على العبد يمكِّن الأخير من تطوير قدرته على معالجة العالم، إلى الحد الذي يمكن أن يكون فيه أقوى من السيد. فالفقرة نموذج للكيفية التي تغيِّر بها علاقاتُ القوة بين الذاتية الناسَ وعلاقاتهم بالعالم، كما أنها تأمل تاريخي في كيفية تَجلِّي هذا النموذج في زوال الأرستقراطية الإقطاعية في الثورة الفرنسية.
يوضِّح هذا المزيج من التجريد النظري والإحالة المادية للتاريخ فكرةَ هيجل في أن الفلسفة هي «تجسيدٌ لفكر عصرها»، وليست تمثيلًا حقيقيًّا خالدًا للعالم. لكن ثمة دوافع متصارعة لدى هيجل بين (أ) فكرة أن الفكر تولِّده تفاعلات تاريخية جزئية بين الناس والعالم، وهي طريقة لقراءة كتابه «فينومنولوجيا العقل/الروح»، و(ب) هدف إعطاء وصف فلسفي حاسم لهياكل كل تلك التفاعلات، وهو ما يقدِّمه في «علم المنطق» (١٨١٢–١٨١٦). فالأول ربما يشير إلى «نهاية الفلسفة»؛ لأنها لم تَعُدْ تتطلب وصفًا للطبيعة النهائية للأشياء، والأخير يصرُّ على ضرورة أن يكون الوصف نفسه المسجِّل للحقيقة على مدى التاريخ صادقًا على نحوٍ لا يخضع للتغيُّر التاريخي. وتعتمد التفسيرات المختلفة لهيجل على الجانب الذي يُنظَر إليه على أنه جوهري في فلسفته.
غالبًا ما يُنظَر إلى هيجل على أنه مفكِّر نظري جدًّا؛ وهو ما أدَّى إلى تجاهُله في معظم الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية حتى وقت قريب، لكن قضية «المباشرية» تعطي صورةً مختلفة، فكثير من الفلاسفة التحليليين اعتبروا أن «معطيات الحس» هي أساس المعرفة؛ لأن الدليل الشهودي ضروري للعلم السليم. ومع ذلك، تُعَدُّ هذه النظرة الفلسفية لمعطيات الحس مثالًا على «المباشرية». وفي «فينومنولوجيا العقل/الروح»، يستعين هيجل بالبيانات اليقينية «المباشِرة» الأوضح ظاهريًّا أمام المرء في اللحظة الراهنة، ويتمثَّل هذا (في حالتي) في هذا الكمبيوتر الموجود هنا الآن، ولكن نظرًا لأنه يتعيَّن دومًا توسيط إدراكاتٍ جزئية معينة عن طريق التصورات العامة التي نستخدمها للتعرُّف عليها، فلا يوجد شيء مفهوم في البيانات غير المتصوَّرة من الأساس. ويوضِّح هيجل أن الألفاظ «الدلالية» — «هذا»، «هنا»، «الآن» — هي كليات تتوسط بالفعل لمضمون إدراكي عن طريق تمكيني من التركيز على شيء معين، وتصبح «هنا» هي هذه النافذة إذا نظرت خارجها الآن، بدلًا من الكتابة. وتنطوي هذه الدعوى على شكل مختلف من التركيب الأساسي للفكر الهيجلي؛ فكل ورود للألفاظ «هذا» و«هنا» و«الآن» ينفي السابق واللاحق من «هذا» و«هنا» و«الآن»؛ ولذا تفتقر جميعها إلى شيء ما، لكن مجموع مرات ورود «هذا» و«هنا» و«الآن» هو المجموع الإيجابي للمكان والزمان. وتَظهَر حقيقةُ الجزئي من خلال توسُّطها عن طريق تصورات عامة، وإلا فهو غير محدد. وكما هو الحال في فلسفة كانط، لو لم توجد أحداس لَكانت التصورات خاوية، ودون التصورات لَكانت الأحداس عمياء.
إنَّ «جدلية» هيجل هي العملية التي تتغيَّر فيها مادةُ علاقاتنا وشكلُها بالعالم بالنسبة إلى بعضها ببعض. وبالنسبة لهيجل، فإن «تصوُّرَ» موضوعٍ ليس (كما هو الحال لدى كانط) مجرد قاعدة لتعريف شيء، بل يشمل بدلًا من ذلك كل الطرق التي يُفهَم بها الشيء عن طريق انخراطنا فيه. ومن ثَمَّ لا يوجد «شيء في ذاته»؛ لأن الشيء إنما يصبح شيئًا عن طريق كونه بالنسبة لنا. ويرى هيجل أن «الشيء في ذاته» لدى كانط هو نتاج لتجريد الشيء عن كل شيء نعرفه عنه، وهذا يتركنا بلا شيء حقيقي على الإطلاق، فقط فكرة عامة لا مُتعيَّنة. فالمباشرية الظاهرة للشيء يتم الوصول إليها بالفعل عن طريق التوسُّط؛ أي نَفْي ما نعرفه عنه بالفعل.
يستخدم هيجل هذه الأنماط من الفكر لوصف جميع الأبعاد الأساسية للعالم الحديث، من العلم إلى القانون والسياسة، إلى التاريخ، وإلى الفن. فالانتقال من المباشرية اللامُتعيَّنة إلى التوسُّط يعتمد على ربط الأشياء على نحوٍ أكثر توسُّعًا بما ليسَتْ عليه. وفي «فلسفة الحق»، على سبيل المثال، يكتسب الفرد «المباشر» هويته المبدئية من خلال الأسرة، لكن مطالب الأسرة جزئية وتحتاج إلى قانون الدولة إذا كان يتعيَّن توفيقها مع مطالب الأُسَر الأخرى. ومع ذلك، فالمشكلة هنا أن الشرعية التي تأتي بالنسبة لهيجل في المستوى الأعلى يمكن في المواقف الملموسة أن تؤدي إلى كَبْت المستوى الأدنى على ما يُفترَض.
إنَّ انتقادات هيجل للاعتماد على المباشرية معقولة في الغالب، وهي تلعب دورًا في التحديات المعاصرة لافتراضات كثير من الفلسفة التحليلية الأنجلو-أمريكية. ولكن، لماذا وُجِد رد فعل مناهض لهيجل منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، ومرةً أخرى في الفلسفة التحليلية منذ مطلع القرن العشرين حتى وقت قريب جدًّا؟ أحد الأسباب لردِّ الفعل الذي حدث في ثلاثينيات القرن التاسع عشر هو اصطدام دعاوى هيجل فيما يتعلَّق بسلطة العقل مع مفهوم أن القدرات العقلانية التي أحدثت تغيُّرات كبرى في القرن التاسع عشر يمكنها أن تؤدي إلى أشكال لا عقلانية من التنظيم المجتمعي؛ فإرسال الأطفال إلى المناجم يكاد يؤكِّد لا عقلانية الواقع. وفيما بعدُ، سيتعارض عمل هيجل البلاغي، الذي يتعامَل مع مصطلحات مثل «عالم الروح»، مع الاهتمام المتنامي بالتفاصيل التجريبية في العلوم الطبيعية، والتي هي وجهة الفلسفة التحليلية.
مع ذلك، يتم غالبًا تجاهُل حقيقة ظهور منهج بديل لمنهج هيجل الذي ظهر في «الرومانسية الألمانية المبكرة» التي تبدأ في منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر، وهو منهج يشارك هيجل بعض أفكاره، لكنه يفارِق العناصر الجوهرية للمثالية الألمانية. فالموقف الهِيجَلِيُّ يمكن أن يوضِّح كيف أن العقلانية تحقِّق إنجازات يتعذَّر تحقيقها، من النوع الذي نجده في إدراكات من قبيل أن الرقَّ لا يمكن الدفاع عنه، وأن النساء ينبغي ألَّا يُعامَلن على أنهن أدنى منزلةً من الرجال. أما الموقف الرومانسي، فلن ينكر بالضرورة أن تلك الإنجازات نهائية، لكنه سيشكِّك في طبيعة القصة الفلسفية الكبيرة التي يستخدمها مؤيدو الفكر الهيجلي لتفسير ذلك، وذلك على أساس أن قصةً وَحْدَوِيَّةً لتقدُّم العقل ربما تحجب مصادر أخرى لتوليد المعنى في العالم الحديث.