ماركس
نهاية الفلسفة
في النقاشات التي تشكِّل سياق أعمال كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣)، يبدأ الناس في الحديث لأول مرة عن «نهاية الفلسفة». لكن ماذا يعني ذلك؟ إن حلَّ المشكلات الجوهرية للفلسفة هو أحد أساليب إنهاء الفلسفة، ويحاول هيجل فعل هذا عن طريق إعطاء إجابة ممنهجة لكيفية التغلُّب على الانقسامات بين الذات والموضوع. ولكن، ما دور الفلسفة إذا كان رأي هيجل نهائيًّا؟ فمن الأهمية بمكان أن هيجل كان يُرَى على أنه الميتافيزيقي المطلق، ومؤخرًا أصبح يُرَى على أنه شخص يقدِّم مخرجًا من الميتافيزيقا التقليدية. وهو يقوم بهذا عن طريق تقديم بديل لفكرة «المنظور الإلهي»، بمعنى أن العقل هو مجرد نتاج للعلاقات الاجتماعية. وفي الحقيقة، يمكن تأويل كلا الوجهين لهيجل على أنهما إنهاءٌ للفلسفة، إما عن طريق فهم الشكل النهائي للميتافيزيقا فهمًا تامًّا، وإما عن طريق إظهار أن الميتافيزيقا الراسخة قائمة على سوء فهم لطبيعة علاقة العقل بالعالم.
ثمة طريقة أخرى لإنهاء الفلسفة؛ وهي النظر إلى «نهاية الفلسفة» على أنها هدفها، الأمر الذي ربما يمكن تحقيقه عن طريق تحقيق المنشود في فكرة «الحياة الطيبة»، ويمكن من خلال ذلك تفادي أسباب التساؤل عن معنى الحياة التي تنشأ عن إضعاف الاعتقادات اللاهوتية؛ فإنجازات الحياة الطيبة ستعوض هنا الألم الذي لا يمكن فصله عن الحياة الإنسانية. ومن زاوية أخرى، إذا فكَّر أحد — كما يفعل كلٌّ من ماركس ونيتشه — أن الميتافيزيقا هي في الحقيقة شكل مقنَّع من علم اللاهوت، فإن الهجوم على علم اللاهوت سيكون هجومًا على الفلسفة. والهدف هنا هو فكرة تقديم وصفٍ للعالم يتجاوز مجرد المنظور البشري، وسيظهر منهج ذو صلة بهذا الموضوع في القرن العشرين تحاول فيه الفلسفة التحليلية إظهارَ أن كثيرًا من المشكلات الفلسفية هي «مشكلات زائفة» أحدَثَتْها إخفاقات منطقية في استخدام اللغة. والسبيل إلى إنهاء الفلسفة هنا هو بيان أنها تتكوَّن من أسئلةٍ لا يمكن أن تكون لها أجوبة؛ لأنها غير صحيحة منطقيًّا.
لكن، لماذا ينبغي للأوصاف المقدَّمَة لمعظم هذه الأفكار أن تصبح ملمحًا للفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، بدءًا من الهجمات على فلسفة هيجل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا؟ جزء من الإجابة يتمثَّل في أن الفلسفة أصبحت الآن مرتبطة ارتباطًا واضحًا جدًّا بالسياسة. ولم يكن كانط والمثاليون والرومانسيون الأوائل بمنأًى عن السياسة؛ فقد أيَّدوا جميعًا بعض جوانب الثورة الفرنسية على الأقل، وكتبوا في الفلسفة السياسية، لكنهم ربما لم ينقلوا مفهومًا صريحًا بأن النشاط السياسي يقع بالضرورة في صميم الفلسفة، وذلك بسبب الكبت الذي أُخضِعت له الرؤى السياسية الراديكالية من قِبَل الدول الألمانية. ومن الأسباب التي تؤكِّد على أهمية أن يوجد نوع جديد من الربط بالسياسة، ذلك الوعي الذي استهلَّه هيردر وشليجل وهيجل بأن الفلسفة تخضع للتاريخ بطرقٍ لم تُوضَع موضع تقدير في السابق. وتؤكِّد التغيُّرات المربكة التي أحدَثَتْها الثورة العلمية والتصنيع والتمدُّن، على أن فكرة وجود نظام عالمي مستقرٍّ قد وقعت فريسةً لضغوط العالم التاريخي. ونظرًا للوحشية التي تصاحِب الرأسمالية الوليدة، فمن غير المستغرب أن يصبح الشك في الميتافيزيقا مرتبطًا بفكرة أن الفلسفة ربما تكون متواطِئة مع الظلم الاجتماعي.
ينتقد «الهيجليون الشباب» — وهم مجموعة من المفكِّرين يغلب عليهم الفكر اليساري، شملت لودفيج فويرباخ (١٨٠٤–١٨٧٢) وماركس في بداياته — هيجل، لكنهم لا يرفضون أفكاره رفضًا تامًّا. وينصبُّ تركيزهم المبدئي على الدِّين، على الرغم من أن هدفهم الرئيسي هو التحوُّل الاجتماعي؛ حيث كان دخول مقاربات جديدة عن التاريخ إلى علم اللاهوت هو أحد التغيُّرات الحاسمة في علم اللاهوت في القرن التاسع عشر. ويثير هذا الأمر تساؤلات عن الأساس التاريخي للأناجيل، الذي تبيَّنَ كونه متزعزعًا بشدة؛ ومن ثَمَّ تصبح الحقيقة الأوسع للدين موضع شكٍّ أكبر. وأحد الردود على هذا الأمر هو فكرة أن قيمة الدين ربما لا تكمن في الحقيقة الحرفية للكتب المقدسة؛ إذ يمكن تفسير قيمة الدين على نحو هدَّام وآخَر بنَّاء. فمن جانب كونه وسيلة للسيطرة تعزِّز من التسلسلات الهرمية التقليدية، تكون قيمة الدين ضربًا من «الأيديولوجيا» بالنسبة إلى الطبقات الحاكمة، ولكن من جانب كونه وسيلةً لجعل الحياة أكثر احتمالًا عندما يبدو التغيير مستحيلًا، فإن الدين يُبقِي على الأمل بين المُضطهَدين. ولا يعني تعليق ماركس عن الدين باعتباره «أفيون الشعوب» أن الدين شيء يجعلهم مجرد نيام؛ بل إنه يجعل ألمهم محتمَلًا. ولكن دون الدين تفقد كثير من أشكال السلطة ركيزتها مُفسِحة المجال لتغيرات اجتماعية راديكالية. ولكن، يجب أن يقدِّم هذا التغيير في الواقع نموذجَ الأمل الذي كان يُقدَّم سابقًا في الخيال.
في فترة ماركس، نشب صراع متزايدُ الوضوح بين إيمان حركة التنوير بقدرة العقل على حلِّ المشكلات، والشعور الفاجع بأن الحياة الإنسانية عابرةٌ بالضرورة ومؤلمة. وإذا لم يكن أمل للخلاص الفردي دون الدين، فيجب أن يكون الأمل في استطاعة الفرد أن يقدِّم إسهامات في حياة الجنس البشري، عن طريق صنع مستقبل أفضل للبشرية. ولكن، من غير المؤكَّد أبدًا إن كانت فكرة ذلك المستقبل ستقدِّم عزاءً حقيقيًّا للفرد في الظروف المؤلمة. وعلاوة على ذلك، ففي القرن التاسع عشر (ومنذ يومئذٍ)، غالبًا ما ينتهي هدف الفرد في التفوق الذاتي إلى التضحية بالذات في سبيل الغايات السياسية للأمة.
إن استراتيجية فويرباخ هي إنقاذ مضمون الدين الذي تُرِك عندما صارت الاعتقادات «الدوجماتية» واهيةً. وهو يرى — على نحوٍ سيردِّده فرويد لاحقًا — أن مضمون فكرة الإله هو «إسقاط»، وسوف يكشف الوعي بذلك كيف «اغترَبَ» الجنس البشري عن أفضل صفاته، عن طريق إسقاطها على مصدر خارجي؛ ﻓ «الإله المسيحي هو نفسه مجرد تجريد للحب الإنساني»، و«سر علم اللاهوت هو الأنثروبولوجيا، والوجود البشري من الوجود الإلهي». إن نقد الدين «هو هدمٌ ﻟ «وهم» … له … أثر مدمِّر تمامًا على الجنس البشري.» ويوظف فويرباخ رأيًا معاكسًا طُرِح في جوانب من الفلسفة الرومانسية المبكرة، والذي يوجد أيضًا في نقد شيلينج لهيجل، وفي هذا الرأي تجعل المثاليةُ العقلَ هو «الموضوع» والواقع هو «المحمول». ففي المثالية، يُفترَض أن الأفكار المجردة الفلسفية هي الواقع الأساسي. (وكون هذا التفسير مُنصِفًا لهيجل هو أمرٌ مشكوك فيه، على الرغم من أن الطريقة التي يعرض بها هيجل فلسفته قد تميل إلى تشجيعه.) وتتضح أهمية هذه الفكرة عندما تُستخدَم أفكار يُتوهَّم نسبتها إلى هيجل — كتلك المتعلقة ﺑ «الدولة» باعتبارها الموضوع الحقيقي، والأفراد باعتبارهم المحمولات له — لإضفاء الشرعية على واقع إقطاعي ظالم. لكنَّ إصرار فويرباخ على الوجود الإنساني الحسي باعتبار أنه الواقع السابق، الذي تولَّدَتْ منه الأفكار المجردة، يجعلنا نخاطِر بالوقوع فريسةً لانتقادات هيجل للمباشرية؛ فكما رأينا لا يمكن أن توجد حقوق الفرد دون توسُّطٍ من خلال الشكل الجمعي للدولة، ومع ذلك فهذه حالة أخرى ربما يعمل فيها النظر إلى القضية من حيثية فلسفية محضة على حجب الأهمية الحقيقية للتصور الفلسفي. وماركس هو أول مَن اكتشف هذا النوع من الخطر.
الاغتراب
أصبحت فكرة أن الفلسفة تقدِّم العالم بطريقة معكوسة قضيةً جوهرية في الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، فأحد ملامح الحداثة هو — بدقةٍ — توليدُ نُظُمٍ مجردة لها آثار مرغوبة وكارثية على حدٍّ سواء على العالم الواقعي؛ ومن ثَمَّ يمكن أن يكون الاهتمام الفلسفي بعكس الموضوع والمحمول تجسيدًا لقضايا اجتماعية اقتصادية ملموسة. وعلى غرار الأفكار التي يمكن النظر إليها على أنها «أيديولوجية»، كاعتقاد بعض الأثرياء أن الفقراء كسالى، يمكن إظهار أن الفلسفة تُستمَد من شيء غير ظاهر في مفهومها لنفسها. ويُعَدُّ المال من المجالات الواضحة التي يمكن فيها التشكيك في استقلال الفلسفة؛ فالمال تجريد للأشياء الملموسة التي يمكن شراؤها به، وذلك على نحوٍ مشابِه للطريقة التي تكون بها الكلمة التي تدل على شيء تجريدًا لجزئية الشيء لجعله نموذجًا من التصور. وتعتمد الصلة بين المال والشيء، والكلمة والشيء، على التركيب المنهجي للعناصر المُتكلَّم عنها؛ فقيمة الشيء تُستمَد من كونه مندمجًا في نظام من التمييزات، لا من أي شيء متأصِّل فيه. ومدعاة القلق الأساسي لدى ماركس أن تلك الأفكار المجردة ربما تكون لها توابع مدمِّرة على الأفراد الحقيقيين، الذين هم جزئيون بالأساس بينما الأنظمة عامة، ويُفسِح هذا التناقضُ بين الفرد والنظام المجالَ للأيديولوجيا، عندما تتجاوز مطالب النظام حاجات الفرد.
إن فكرة ماركس الرئيسية هي أن مجموع الأفعال الإنسانية للفرد يؤدِّي إلى نتائج منهجية غير مقصودة؛ فعن طريق الانتقال من المقايَضَة إلى التبادُل النقدي، تحوَّلَتْ طبيعة المجتمع بالكامل؛ لأن كل شيء أصبح قابلًا للتبادل في مقابل أي شيء آخَر. وعلى الفكر الناقد أن يفهم كيف تنشأ تلك النتائج؛ من أجل تغييرها للأفضل، وفي أعمال ماركس الأولى في أربعينيات القرن التاسع عشر، كان يُنظَر إلى هذه التوابع بمفهوم «الاغتراب». وقد استخدم هيجل هذا المصطلح من قبلُ للحديث عن طبيعة الحداثة، واستخدم فويرباخ المصطلح ليصف كيف يتم إسقاط الصفات البشرية على الإله. لقد استخدِم مصطلح «الاغتراب» غالبًا منذ القرن الثامن عشر لمناقَشَة مشكلات العصر الحديث، من التمدُّن إلى التصنيع، كما أنه يُستخدَم للإشارة إلى الشعور بعدم الانتماء إلى العالم. ومع ذلك، وعلى مدار معظم فترات التاريخ كانت الحياة البشرية — وفقًا لعبارة هوبز — «بغيضة، ووحشية، وقصيرة»، فلماذا إذن يبدو الاغتراب ظاهرةً حديثة على وجه الخصوص؟ أحد الأجوبة هي أنه متصلٌ بزيادات في الحراك الاجتماعي؛ فالناس لا يمكن أن يشعروا بمنعهم عن إدراك حقيقة ذواتهم إلا عندما يوجد احتمال في أن يصيروا شيئًا مختلفًا. وثمة إجابة أخرى نجدها في العلاقة المتغيرة للجنس البشري بالطبيعة. ومع ذلك فالتغيرات المتضمَّنة هنا ذات حدين، فالتأثير المباشِر للطبيعة أصبح أقلَّ؛ لأنه يمكن معالجتها لصالح الإنسان، لكن المَوْضَعَة المطلوبة لهذه المعالجة تخلق نوعًا من الفجوة بين الجنس البشري والطبيعة التي أثارت اهتمام الناس بفلسفة كانط.
فما هو إذن المصدر الحاسم للفصام بين العقل والطبيعة؟ يوجد هنا بالفعل صراع نبوئي بين اهتمام «وجودي» بطريقة وجود «مغتربة» أساسية، تجعل الفصام شيئًا متأصِّلًا في الحياة البشرية، واهتمام تاريخي بأن النشاط البشري هو ما يؤدِّي إلى وقوع الفصام، الأمر الذي يوحي بإمكانية المصالحة بين العقل والطبيعة في ظروف أخرى. يتطلب الاهتمام الأول طرقًا لتقبل ضرورة لا يمكن في النهاية ردعها، تُفضِي غالبًا إلى رؤية الفن باعتباره وسيلةً رمزيةً للاستجابة للاغتراب، بينما يتطلب الاهتمام الثاني شكلًا من الخلاص العلماني، تصبح فيه علاقتنا بالطبيعة مختلفةً من خلال التدخُّل البشري.
إن نظرية الاغتراب المبكِّرَة لدى ماركس في «مخطوطات اقتصادية فلسفية» عام ١٨٤٤ أكثر تحديدًا من التصور الأنثروبولوجي لفويرباخ، فماركس يرى الاغتراب متأصِّلًا في آلية العمل الحديثة، وأحيانًا يزعم أن كل «تخارُج» لقوة العمل لدى العامل ينطوي على اغتراب؛ ﻓ «الموضوع الذي ينتجه العمل — أي ناتج العمل — يظهر بالمقابَلَة مع العمل ككائن مغترب، كقوة مستقلة عن المنتِج.» ويسير هذا المفهوم في منحًى «وجودي» على نحوٍ لا نجده في أهم أعمال ماركس؛ فهل كلُّ مَنْ ينتج شيئًا لشخصٍ آخَر مغتربٌ بالضرورة؟
ومع ذلك، فإن أعمال ماركس المبكرة (التي ظلَّ كثيرٌ منها غير معروف حتى مطلع القرن العشرين) تحوي آراءً بارزة في الآثار الثقافية لأشكال العمل التاريخية. فَكِّرْ كيف تختلف ثقافةٌ يُعَدُّ المصدر السائد للثروة فيها هو تصنيع البضائع المادية عن ثقافةٍ تعد المعلومات فيها هي ذلك المصدر؟ وتسير أعماله المبكرة — بخلاف المتأخِّرة — على نهج شيلينج؛ فهو يتكلم عن مجتمع مناسب للكائنات البشرية بمفهوم كونه يتضمن «البعث الحقيقي للطبيعة، والطبيعة المتطورة للإنسان، والإنسانية المتطورة للطبيعة». ويوحي هذا بأهمية موازنة استغلال الموارد الطبيعية مع الشعور بضرورة عدم إخضاع العالم الطبيعي للحاجات البشرية فقط. أما في أعمال ماركس المتأخرة، فإن الطبيعة تميل إلى أن تصبح فقط موضوعَ العملِ الإنساني، ولم يسهم هذا المنظور الأخير إلا بالقليل لمنع الدول المفترَض أنها ماركسية في القرن العشرين، مثل الاتحاد السوفيتي، من إنتاج كارثة بيئية من النوع المميِّز أيضًا للاقتصاديات الرأسمالية الجشعة، عن طريق التجاهُل الكلي للتكامل المستقل للعالم الطبيعي؛ من أجل إشباع الحاجات الإنسانية الغريزية غالبًا.
الأيديولوجيا والسلعة
يسعى عمل ماركس الوافي في «رأس المال» (المنشور مجلده الأول عام ١٨٦٧) إلى تحليل آليات رأسماليةِ القرن التاسع عشر، التي أدَّتْ إلى إفقار الكثيرين في اقتصاديات تنتج المزيدَ من الغنى والثروات دومًا لفئة قليلة. وينطوي هذا التحليل على موقف نقدي تجاه الفلسفة؛ فالأشكال السائدة من الفلسفة من وجهة نظر ماركس لها وظيفة أيديولوجية، والإنتاج الفكري مُكبَّل بملكية وسائل الإنتاج، وكذلك بالتقسيمات الطبقية المميِّزة للرأسمالية، و«الأفكار الحاكمة» هي — كما صاغها في «الأيديولوجيا الألمانية» عام ١٨٤٥ — أفكار «الطبقة الحاكمة». ولكن، ليس بالضرورة أن يتضمَّنَ هذا خداعًا واعيًا من قِبَل أولئك الذي ينشرون الأيديولوجيا التي تبرِّر مصالحهم، فالأيديولوجيا يمكن أن تؤدِّي دورَها بلا وعي.
ولو أن ماركس نظَرَ إلى نقده للأيديولوجيا على أنه مسألة فلسفية محضة، لَكان عليه تفسير الرؤى الفلسفية برمتها من حيث علاقات القوى وأشكال الإنتاج. ويبدو ماركس أحيانًا متحرِّكًا في هذا الاتجاه، ويوحي هذا بمشكلة مهمة؛ ﻓ «رأس المال» يعرض نفسه أحيانًا كوصف علمي للرأسمالية، وماركس ميَّال إلى تبنِّي فكرةِ أن معرفة الحقيقة العلمية للرأسمالية هي الطريق المباشِر لتحقيق الهدف السياسي العملي لتغييرها. ومن ثَمَّ، لا يتعارض هذا مع القول بأن المجتمع والتاريخ يخضعان للقوانين الطبيعية والانطلاق إلى محاولة تبرير أي أفعال يُرَى أنها ضرورية للوصول إلى شكلٍ أفضل للمجتمع باعتبارها ضرورةً طبيعية. ولا شك أن العوامل الاقتصادية تخلق ضرورات لا يمكن تجنُّبُها؛ فكما يوضِّح ماركس، يتم تبنِّي أي شكل جديد من التكنولوجيا بوجه عام بمجرد أن يجعل هذا الشكل الطريقةَ السابقة لفعل الأشياء باهظةَ التكلفة وغير فعَّالة. والمسافة بين هذه الحقيقة التاريخية والطرق الفعلية التي تؤثِّر بها التكنولوجيا على المجتمع — والتي لها أبعاد أخلاقية وسياسية — مهمة، وأحيانًا يتجاهلها ماركس. وهو يقدِّم مقاربته الرئيسية لهذه القضايا من خلال نموذج «القاعدة» الاقتصادية، الذي يُحدِث تغيُّرات في «البنية» الاجتماعية، ويمكن توضيح المقارَبة عن طريق آثار الانتقال من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي، الذي ساعَدَ في إنهاء النظام الإقطاعي. وتتضح الأهمية الفلسفية الخاصة لهذه القضية في وَصْفه ﻟ «شكل السلعة».
يحاول ماركس التوصُّل إلى مقياسٍ موضوعيٍّ للقيمة يسمح له بادعاء مكانة علمية لنظريته، لكن مفتاح نظريته عن القيمة يقوِّض بالفعل هذه المكانة، ويفتتح ما سيكون أحدَ مفاهيمه الأكثر تأثيرًا في الفلسفة الألمانية اللاحقة. وفي مقدمة «نقد الاقتصاد السياسي» عام ١٨٥٩، يؤكِّد ماركس على أنه «ليس وعي الناس هو الذي يقيِّد وجودهم، بل على العكس وجودُهم الاجتماعي هو الذي يقيِّد وعيهم.» ويتضح الصراع في لفظة «يقيِّد»، والتي تعني «يحدِّد»، بمعنى أنه يتم تحديد الظاهرة الطبيعية على نحوٍ سببيٍّ من خلال قانون علمي، ولكن إذا تُرجِمَتِ الكلمة بمعنى «يقيِّد» فيمكن أن تعني شيئًا مثل «يؤثِّر على»؛ وهذا يوحي بأن لدينا درجة من الاستقلال الذاتي، حتى ونحن متأثرون بالضرورة بنوع المجتمع الذي نعيش فيه. ويتحدث ماركس في هذا الصدد عن اللغة باعتبارها «وعيًّا عمليًّا»؛ فاللغة تقيِّد وعينا (الأمر الذي يعني أنها يمكن أن تعمل كأيديولوجيا)، وتمكننا من أن نصبح بقدرٍ ما أصحابَ إرادةٍ حرةٍ. والعامل الآخَر الذي يحدِّد/يقيِّد وعينا هو شكل السلعة، الذي — مثله مثل اللغة — يختزل الخاص في العام.
في الرأسمالية، لا يمكن قياسُ قيمة الشيء من حيث أهميته الحقيقية، وهذا ما يسميه ماركس في أخرياته: «قيمة الاستخدام»؛ فالكمبيوتر المحمول الذي أستخدمه له قيمةُ استخدامٍ تتمثل في أنه يمكِّنني من كتابة هذا الكتاب في أيِّ مكانٍ أستطيع العمل فيه، وتتضح «قيمته التبادلية» في كمِّ المبلغ الذي دفَعْتُه لشرائه، أو كمِّ المبلغ المتحقق في حال بيعه، «وكما تختلف السلع ذات قِيَم الاستخدام من حيث النوعية، تختلف أيضًا القِيَم التبادلية من حيث الكمية»؛ فالقيمة الأخيرة علائقية، وتجعل قيمة الكمبيوتر مساوية لأي شيء آخَر له نفس السعر. ويبحث ماركس عن الأساس الحقيقي للقيمة في متوسط «وقت العمل الضروري من الناحية الاجتماعية» المطلوب لإنتاج شيء. وإذا كان المالك لوسائل إنتاج شيءٍ ما يحقِّق ربحًا، فإن وقت العمل المستغرَق لإنتاج الشيء يزيد عمَّا يُدفَع للعامل من قِبَل المالك الذي يحصل من ثَمَّ على «قيمة فائضة» غير مدفوعة. ومع ذلك، فهذه النظرية لم تكن ناجحةً كأداة اقتصادية، وهي دعوى أخلاقية قابلة للأخذ والردِّ عن التوزيع غير العادل للثروة.
وما يجعل نظرية السلعة مُلِحَّة جدًّا للفلاسفة اللاحقين، مثل هايدجر وأدورنو والماركسيِّ المجَرِيِّ جورج لوكاتش، هو صلتها بمصير الميتافيزيقا في العالم الحديث. فإذا كان هدفُ الميتافيزيقا هو نظام يمكن أن يدمج كل شيء في شروطه، فمن الممكن النظر إلى سوق السلعة على أنه تحقيق لذلك النظام؛ فأي موضوع يمكن فهمه من حيث قيمته التبادلية. ويتيح النظامُ التكوينَ السريع للثروة والإبداع التقني عن طريق تسهيل تبادُل البضائع ونقلها، كما أن له آثارًا محلَّ تساؤلٍ على الثقافة؛ فهو مثل كلبيَّة أوسكار وايلد «يعرف ثمن كل شيء ولا يعرف قيمة أي شيء.» وهو يجسد السبب الذي جعل جاكوبي يرى مذهب إسبينوزا على أنه عدمية؛ أعني النحو الذي تكون به الأشياءُ في العالم الحديث على ما هي عليه فحسب بالنسبة إلى «قيودها». ويهتم ماركس بالقوة الهائلة للرأسمالية على تحويل العالم؛ إذ يرى الرأسمالية مرحلةً ضرورية من تطوُّر الإنتاج البشري، وليس هناك شيءٌ يجب النظر إليه على أنه تهديدي. كما أنه يهتم بالحاجة إلى التفكير فيما وراء شكل السلعة. وقد بحث جاكوبي عن أساسٍ لاهوتيٍّ للقيمة يتجاوَز عالم «الشروط المقيدة»، بينما يتناول ماركس الانتقال إلى ما وراء هذا العالم بمفهوم الثورة السياسية والاجتماعية التي تمحو فيها طبقةُ العمَّال الكادحين (البروليتاريا) النظامَ الذي يظلمهم. ويعتمد ما سيصاحب ذلك من محوٍ للفلسفة أو عدمه على الكيفية التي يفسِّر بها المرءُ هدفَ الفلسفةِ. وفي الفصل التالي، سوف ندرس نيتشه؛ فاختلاف تفسير نيتشه لإخضاع الفلسفة عن تفسير ماركس هو إشارةٌ إلى الصراعات التاريخية التي ستهيِّئ الأجواءَ للفلسفة في القرن العشرين.