الفصل السادس

نيتشه وشوبنهاور و«موت الإله»

عودة التراجيديا

تتأكَّد الطبيعة الازدواجية للحداثة عند الشك في أن ما رآه كانط والمثاليون الألمان على أنه حرية إرادة ليس سوى الغريزة المقنَّعَة للحفاظ على الذات. وهنا، يحلُّ نوعٌ مختلِفٌ من «الطبيعية» — يُعتبَر الصراع من أجل الوجود جوهر الطبيعة والقوة الدافعة الخفية للعقل — محلَّ إعادةِ التقييم الإيجابية للطبيعة لدى شيلينج وماركس في بداياته. وقد أُجرِيت دراسات أبلغ تأثيرًا عن تداعيات هذا التشكيك في حرية الإرادة في أعمال آرثر شوبنهاور (١٧٨٨–١٨٦٠) وفريدريك نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠).

لم يكن لعمل شوبنهاور الرئيسي «العالم كإرادة وتمثيل» (نُشِر للمرة الأولى عام ١٨١٨، ثم في نسخة مزيدة عام ١٨٤٤)، أيُّ تأثيرٍ فعليًّا عندما ظهر للمرة الأولى. وكان دفاع ريتشارد فاجنر الحماسي عن الكتاب وظهور كتاب دارون عن أصل الأنواع عام ١٨٥٩، بتداعياته المدمرة للصورة الذاتية للبشرية، هو ما ساعَدَ في أن يصبح هذا الكتاب لشوبنهاور في الغالب العمل الفلسفي الأعظم أثرًا من الناحية الثقافية في القرن التاسع عشر. وفي الواقع، فقد كان له أيضًا على الأرجح الأثر الأكبر على الثقافة في مطلع القرن العشرين، حيث أثَّر على توماس مان وجوستاف مايلر وآخرين. وعلى نحوٍ قابلٍ للجدل، فإن رائعة شوبنهاور ليست عملًا فلسفيًّا مقنعًا للغاية، لكن الإشارة إلى عيوب في الحجج الفلسفية غالبًا ما يخفق — كما رأينا — في الكشف عمَّا يضفي أهميةً على عمل الفيلسوف. والحقيقة الأوضح عن الكتاب أنه عمل من الإلحاد والتشاؤم التام، أدخَلَ سمة تراجيديةً جديدةً في الفلسفة الحديثة.

مما لا يمكن إنكاره أنه لا مجال للتفكير في المثالية الألمانية أو تصوُّرها دون التراجيديا اليونانية، بَيْدَ أنه في المثالية الألمانية أصبحت الضرورة التراجيدية أمرًا محتمَلًا من خلال النظر في ضرورة التغيير. فربما يكون التاريخ مَسْلخًا، لكن العقل يبلغ مراحل أعلى من التطور من خلال إراقة الدماء. وتُعَدُّ نهايةُ «أوريستيا» لأسخليوس — التي ينبثق فيها نظام جديد للعدالة من وطيس الرعب الذي يسبقه — نموذجًا استدلاليًّا هنا. وعلى النقيض من ذلك، لا يحمل التأويل اللامثالي للتراجيديا — الموجود لدى شيلينج في أخرياته وشوبنهاور ونيتشه — جانبًا خلاصيًّا؛ حيث يطغى «الآخَر» على الأشكال البشرية للنظام، ومثال ذلك عقدة أوديب الذي يصبح عن غير قصد قاتلًا لأبيه وزوجًا لأمه، أو دمار المدينة بقوى من خارجها في «الباخوسيات». إن البديل التراجيدي المتشائم للنظرة المثالية مضمن في شرح شوبنهاور لكانط؛ إذ تتطلب نُظُم القرابة، وهي أبسط شكل من أشكال النظام البشري، نوعًا من الهويات يُعَدُّ جوهريًّا بالنسبة إلى المعرفة. ويرى كانط أن المادة الإدراكية المتلقَّاة من العالم لا تصير مفهومةً إلا من خلال تصنيفها ضمن مقولاتٍ وتصورات في أحكام تتيح التعرُّف عليها بواسطة المادة الأخرى. وفي التراجيديا اليونانية، تكون الأشكال البشرية للتعرُّف مهدَّدة بالانهيار لكون العالم يتجاوز ما يمكننا معرفته عنه، ومن ثَمَّ يمكن النظر إلى هذا على أنه أسلوب آخَر لتفسير «الشيء في ذاته» عند كانط؛ حيث يؤدي «تجاوز» العالم لمعرفتنا إلى مواقف تراجيدية، يتم فيها تخطِّي نظامِ القرابة بما يؤدي إلى سِفَاح المحارم وقتل الأم وقتل الأب وقتل الأخ أو الأخت … إلى غير ذلك. ولا يفصل فكرة «التجاوز» عن نظرية اللاوعي لفرويد، التي تأثَّرت بشوبنهاور، سوى جزئية صغيرة؛ فبالنسبة لشوبنهاور، ما هو ظاهر — كأفكار الأنا لدى فرويد — يُهدَم على أساسٍ من اللاوعي، وبذلك تصبح تفرقة كانط بين «المظاهر» و«الأشياء في ذواتها» تفرقةً بين العالم ﮐ «تمثيل» والعالم ﮐ «إرادة».

وبينما يرى كانط أنه لا يوجد وصولٌ إلى العالم في حدِّ ذاته، فإننا نحظى بإمكانية وصول إلى العالم كإرادة من خلال تجارب نملك القليل من السيطرة عليها، مثل الجوع والدوافع الجنسية. والتمثيلات هي مَوْضَعَة ﻟ «الإرادة» اللاظاهرة، التي هي أساسها؛ «فالأسنان والمريء والأمعاء هي جوع مُمَوْضَع، والأعضاء التناسلية هي الدافع الجنسي المُمَوْضَع»، ويطلق شوبنهاور على هذا الأساس مسمَّى «الإرادة» لأنها — مثل الأساس «المعقول» لحرية الإرادة الأخلاقية الكانطية — ليست جزءًا من العالم الزمكاني، لكن لا توجد أخلاقية في الإرادة؛ فهي دافع أعمى يعارِض نفسه بنفسه باستمرارٍ عن طريق التخلِّي عن الأشكال الموضوعية وهَدْمها. والوصول إلى الإرادة لا يمكن أن يكون معرفيًّا؛ لأن ما نعرفه هو عالم «التمثيل»، ومن ثَمَّ فهذه حالة أخرى من «الحدس»، وهي تطرح مجدَّدًا السؤالَ عن الكيفية التي يمكن من خلالها شرعنة الدعاوى المتعلِّقة بالحدس. فكيف «عرف» شوبنهاور أن صورته هي الصورة الميتافيزيقية الحقة للكون؟ ولكن مرة أخرى حتى إذا لم يتسنَّ إثباتُ وجهة النظر الفلسفية، فإن رؤيته تكشف شيئًا عن الطريقة التي يرتبط من خلالها الجنس البشري الحديث بالعالم. وعلى الرغم من أنه من الخطأ اختزال الفلسفة في التاريخ، فمن المذهل رغم ذلك الكيفية التي انتشرت بها رؤًى عن الطبيعة الجوهرية المعادية للواقع — من شوبنهاور إلى دارون إلى نيتشه — في وقتٍ تنتج فيه الرأسمالية الحديثة عالمًا اجتماعيًّا سياسيًّا متزايِد العداء، يتحرك صوب الحروب العالمية والهولوكوست.

ولعله من المفاجئ أن يقترح شوبنهاور رؤيةً أفلاطونية عن الجوهر اللازماني لموضوعات العالَم الطبيعي العابرة المتنافسة، ومع ذلك فالجوهر المؤثِّر لرؤية شوبنهاور يكمن حقًّا في معارضته لأيِّ إحساسٍ بالغائية الطبيعية أو الإنسانية؛ فالتاريخ هو «علم الحيوان» بالنسبة لجنس الإنسان العاقل، وليس شيئًا يمضي باتجاه هدف. وثمة طريقة واحدة فقط يمكن بها للجنس البشري أن يفرَّ من عالمٍ يأكل فيه أو يُؤكَل، وهذه الطريقة هي إدراك أن وَعْيَنا بالعذاب المتأصِّل في الإرادة إنما ينبع من كوننا كائنات متفرِّدة. ونحن على دراية بضعفنا وفنائنا لأن الوعي بالذات يفصلنا عن بقية الواقع؛ ومن ثَمَّ ينبغي أن يقودنا هذا الوعي إلى البحث عن وسائل للفرار من التفردية. ويُعَدُّ شوبنهاور من أوائل الناس في أوروبا الذين أخذوا الفلسفات غير الغربية مَأْخَذ الجِد؛ فهو يستعين بفكرة النرفانا البوذية لاقتراح طريقةِ الفرار من السجن في عالم تسوقه الإرادة.

ويَعتبر شوبنهاور التأمُّلَ الجمالي هو الطريقة المثلى للفرار — وإن كانت مؤقتة — من الطبيعة الحقيقية للوجود، والموسيقى هي الفن الذي يتيح هذا الفرارَ على النحو الأمثل؛ لأنها لا تمثيلية بدرجة كبيرة. فالموسيقى هي تجسيد مباشِر لحركة الإرادة، ونموذجه هو ابتعاد اللحن عن القرار الموسيقي وعودته إليه؛ فتلك الموسيقى تعكس كيف تتحرك الإرادة من الإشباع إلى السخط، ثم عودًا. وتستخدم الموسيقى مصدرَ سخطِنا لإعطائنا فترةَ راحةٍ منه؛ فهي «لا تتحدث عن الأشياء، بل عن لا شيء سوى العافية والمحنة، اللتين هما الحقيقتان الوحيدتان للإرادة.» وهذه هي الرؤية التي أثَّرت على فاجنر، ولا سيَّما في «تريستان وإيزولده» والأجزاء اللاحقة من «حلقة النيبِلُنغين». وتقدم هذه الأعمال الأوبرالية رؤى العبثية المطلقة للتطلعات الإنسانية الاجتماعية التي تتعارض مع التعلُّق المبكِّر لفاجنر في أربعينيات القرن التاسع عشر بفكرة الثورة المخلِّصة القائمة على الحب، والتي استمدَّها من فويرباخ.

أبولو وديونيسوس

استهوى تشاؤم فاجنر الأوبرالي نيتشه في صِغَره، ورأى أن الموسيقى تعكس عرض التراجيديا لأسوأ الأشياء في شكل مظهرٍ جماليٍّ، ومع ذلك فإن عمله ككلٍّ يمثِّل ازدواجية في تقويض الحداثة لعلم اللاهوت؛ فهو ينتقل من تشاؤم كتشاؤم شوبنهاور أو تشاؤم فاجنر في أعماله الأخيرة، إلى فكرة أن الرؤية المتشائمة للحياة هي نفسها بقية اعتقادات لاهوتية وميتافيزيقية مخيِّبة للآمال؛ ففكرة النظر إلى العالم على أنه مكان مريع لا يكون لها معنًى إلا إذا كان المرء يظن في وجود عالم حقيقي غير مريع، يمكن من خلاله الحكم على هذا العالم، وإذا كانت فكرة هذا العالم الحقيقي وهمًا، فينبغي للمرء أن يقرَّ بالعالم الذي نحيا فيه بالفعل. والبديل هو ما يعنيه نيتشه ﺑ «العدمية»، التي هي نتيجة لفقدان الاعتقادات الميتافيزيقية والإخفاق في قبول النتائج؛ فالإخفاق في قبول أنه لا توجد مدعاة للجوانب المريعة من الواقع يولِّد «الاستياء»، وهو الرغبة في إلقاء اللوم على شيء خارجي بسبب موقف المرء، والاستياء هو سمة مميِّزة لما يسمِّيه «أخلاقَ العبدِ» المسيحية، التي تبغي الخلاصَ من المعاناة عن طريق إظهار أن للمعاناة غايةً.

يعتمد أول عمل بارز لنيتشه «مولد التراجيديا من روح الموسيقى» (١٨٧١) على ميتافيزيقا شوبنهاور، التي يترجمها إلى حبكة مستمَدَّةً من الميثولوجيا اليونانية التي استخدمها بالفعل كلٌّ من فريدريش شليجل وشيلينج للرمز إلى طبيعة الوجود الإنساني المنقسمة. يرمز «أبولو» إلى عالم «التمثيل»، وإلى أي شيء يمكن أن يكون له شكل يمكن التعرُّف عليه، أما «ديونيسوس» فيمثل الإرادة التي تتلاشى فيها التفرُّديةُ «ويفقد المرءُ نفسَه». وتتطلب التراجيديا التفاعل بين أبولو وديونيسوس، مع موسيقى تعبِّر عن العنصر الديونيسوسي الذي لا يمكن للكلمات نقله؛ فالعنصر الديونيسوسي يؤدِّي إلى مظاهر متغيرة باستمرار، بينما لا يظهر هو نفسه، وليس لديه هدف. ومع ذلك، فقد أُلمِحَ إلى رفض نيتشه اللاحق لشوبنهاور في حقيقة أن الفن التراجيدي ليس وسيلةً للفرار من وجودٍ تدفعه الإرادةُ بقدرِ ما هو تجسيد للإبداع الذي يجعل الحياة جديرةً بأن تُعَاش، على الرغم من أنه في النهاية بلا معنى؛ «لأن الوجود والعالم يتم تبريره دومًا كظاهرة جمالية فحسب.» ومن الملاحَظ أن هذه الذروة متصلة بتقييم تراجيدي غير لاهوتي من الأساس لمعنى الوجود الإنساني.

وقد أشار جاكوبي إلى أن رؤية العالم ككلٍّ من منظور علمي، من خلال «مبدأ السبب الكافي» — أي أن «لكلِّ شيء سببًا/علة/أساسًا» — قاد إلى «الهاوية»؛ لأنه يولِّد تسلسلًا لا نهائيًّا من أسباب الأسباب. ويتبنَّى نيتشه رؤيةَ جاكوبي كطريقةٍ للتشكيك في التفاؤل العلمي الذي كان مَلمحًا للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان لدى أولئك الذين يتشاركون هذا التفاؤل «اعتقادٌ لا يتزعزع بأن التفكير إنما يصل إلى أعمق هاويات الوجود، من خلال خيط السببية الاستدلالي». وبينما يستخدم جاكوبي الإيمانَ بالإله كطريقةٍ للفرار من التسلسُل الذي يولِّده هذا الخيط، يظن نيتشه أن التراجيديا هي الإقرار بأنه لا شيء يقدِّم سببًا عقلانيًّا للوجود؛ فقد زعم نيتشه زعمًا غريبًا في ظاهِره، أنه لا يمكن تبرير الوجود أو احتماله من دون «ضرب أو آخَر من ضروب الفن، كالدين والعلم على وجه الخصوص»، وهذا معناه أن جميع أشكال الإنتاج العقلي هي «فن»؛ لأنها تُضفِي شكلًا على ما لا يمكن تشكيله دونها.

وبالطبع، فإن إطلاق مسمَّى «فن» على العلم استفزاز متعمَّد؛ ففي الفلسفة الألمانية من منتصف القرن التاسع عشر فصاعدًا، يميل الفلاسفة إما إلى اعتبار الإنسانيات أدنى منزلةً من العلوم الطبيعية، وإما إلى البحث عن منهج للعلوم الإنسانية يجعلها على القَدْر نفسه من الدقة التي يُفترَض أن تكون عليها العلوم الطبيعية (انظر الفصل السابع). ويحاول نيتشه إبطالَ التفرقة بين العلم والفن برفض إعطاء أولوية لأي تصوُّر للعالم؛ فهي كلها مجرد طرقٍ بشريةٍ للتعامُل مع الوجود. ومن ثَمَّ، فجميع التصورات الإنسانية هي نوع من الخرافة، ويعكس إحياء فاجنر للخرافة في مسرحياته الموسيقية قبولًا تراجيديًّا جديدًا لحدود القدرة على السيطرة على الوجود، والنتيجة أن براعة الموسيقى ربما تماثِل براعةَ الفلسفة في تقديم تبصُّرات في طبيعة الوجود. وينطوي العالم المعاصِر على معركةٍ — كما يزعم نيتشه — بين «المعرفة المتفائلة على نحوٍ لا يمكن إشباعه، والحاجة التراجيدية للفن»، وما يهم هو معرفة إن كانت أعمالُ المرء تجعل وجوده ذا معنى، حتى وهو يواجه المخاوف التي من المحتمَل دائمًا أن ينطوي عليها. ولأن الموسيقى تتصل بالجوانب السلبية من الوجود — حيث يُروَى عن شوبرت أنه قال ذات مرةٍ إنه لم توجد حقًّا موسيقى سعيدة — فإن للموسيقى مصدر التراجيديا نفسه، لكن يمكنها أيضًا أن تكون حافزًا يعاش عليه.

هَدْم الفلسفة

لا يتخلَّى نيتشه عن ارتباطه بفكرة ديونيسوس؛ فبوصفه الإله الممزَّق والمعاد صنعه، ديونيسوس هو رمز الحاجة للهَدْم من أجل صُنْع شيء جديد، ولكن بعد «مولد التراجيديا» يبدأ نيتشه بالتشكيك في أهداف وفرضيات الفلسفة نفسها، الأمر الذي يقوده إلى محاولاته للهدم والتجديد. وهو ينتقل مبدئيًّا في أعمال مثل «إنساني مفرط في إنسانيته» (١٨٧٨) إلى موقف أكثر اتساقًا مع التفاؤل «الوضعي» في القرن التاسع عشر بشأن قدرة العلم على الإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقية، وأصبحت مثل هذه التحولات الراديكالية في الموقف أمرًا نمطيًّا؛ حيث نجده في «مولد التراجيديا» يرى العلم كنوع آخَر من الخرافة، وهو يُحدِث أحيانًا تلك التحولات داخل النص نفسه. ويطرح عزوف نيتشه عن أن يكون متسقًا تساؤلًا عما إن كان الاتساق المنطقي هو الفضيلةَ الفلسفية القصوى، أو إن كان هدف الفلسفة ينبغي أن يكون أثرًا «أدائيًّا»، يؤثِّر على توجُّه القارئ في الحياة بطرق ملموسة. وخلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، أصبح تشكُّكه أكثرَ راديكاليةً، وأخرج أهم أعماله مثل: «العلم الجذل» (نُشِر عام ١٨٨٢، ثم في نسخة مزيدة عام ١٨٨٧) و«ما وراء الخير والشر» (١٨٨٦) و«أصل الأخلاق وفصلها» (١٨٨٧) و«المسيح الدجَّال» (نُشِر للمرة الأولى عام ١٨٩٤). ثم يهوي إلى حافة الجنون عام ١٨٨٩، ويبقى السبب الدقيق لهذا الجنون مثار جدل.

إن استخدام فرضيات الفلسفة الأكاديمية السائدة لتقييم نيتشه يمكن أن يُخطئ مقصد ما يقوم به، إلا أنه من الصعب أيضًا كما يشاع طرحُ أسئلة راديكالية عن أهداف الفلسفة التي تُمارَس على طريقة نيتشه، دون الافتراض مقدمًا برغبة المرء في معارضته؛ ففي النقاشات الحديثة عن «النظرية» في الإنسانيات — على سبيل المثال — غالبًا ما يُوصَم «أنصار ما بعد الحداثة» المتأثِّرون بنيتشه بأنهم «ينكرون الحقيقة»، فهم يرون ما يُعتقَد أنه حق — بما في ذلك نظريات العلوم الطبيعية المؤكَّدة تمامًا — على أنه نتاج علاقات القوة في المجتمع. ومن السهل إذن التساؤل عن إن كان من الصواب الزعم بأن علاقات القوة هي التي تحدِّد ما يُعتقَد أنه حق. ويتجه أنصار ما بعد الحداثة إلى تقويض أنفسهم أو مناقضتها؛ لأن تأكيداتهم بشأن الحقيقة ستكون وليدةَ الرغبة في القوة (الأمر الذي لا يُبطِل بالضرورة تأكيداتهم). ويمكن لهذا الطرح الذي يستوجب افتراضَ الحقيقة مقدَّمًا أثناءَ فعل التأكيد نفسه أن يُبطِل المقاربات رديئة الصياغة في قضايا الحق والقوة. لكن، على الرغم من أن نيتشه نفسه يمكن أن يجادل بطريقةٍ مشكوكٍ فيها — عندما أطلق على سبيل المثال مزاعم إيجابية من قبيل أن «الحقيقة هي في الواقع شيء مبهم»، مثل «جيش متحرك من المجازات اللغوية» التي نجدها مفيدةً للسيطرة على العالم (وهل هذه الدعوى نفسها هي مجرد مجاز لغوي آخَر؟) — فلا يزال من الممكن أن يكون تشكُّكه موحيًا.

عندما تَفقِد السلطةُ التقليدية شرعيتَها، فإن قضية الأيديولوجيا تصبح أمرًا لا مفرَّ منه؛ لأنه على الناس محاولة إرساء أشكال جديدة من القوة لإضفاء شرعية على أفعالهم، وهذا يعني أن النزاعات حول الحقيقة والقيمة دائمًا ما تتصل في السياقات الاجتماعية الملموسة بتلك المحاولات في إضفاء الشرعية، حتى على الرغم من أنه لا يمكن اختزال مضمون المزاعم بشأن الحقيقة والقيمة في محفزات تلك المزاعم. ولعل الادعاء الأكثر تمييزًا لنيتشه هو أن التصوُّرات الأخلاقية ما هي إلا تعبيرات عن علاقات القوة المتغيِّرة في المجتمع، وهو يقترح إمكانية إبطال المحاولات الفلسفية التقليدية لتمييز جوهر الخير والشر، عن طريق إظهار مدى الاختلاف الذي تُطبَّق به المصطلحات في السياقات التاريخية والاجتماعية المختلفة. لكن مزاعمه أنه يدشِّن ﻟ «إعادة تقييم جميع القِيَم» عن طريق هذا النهج هي محل شكٍّ كبيرٍ؛ فالقِيَم المسيحية التي يسعى لتقويضها تبدو — من وجهة نظر التاريخ اللاحق — أكثر قابليةً للدفاع عنها مقارنةً بالبدائل التي قدَّمَها.

إن مقاربات نيتشه فيما يخصُّ قضايا الحقيقة والقيمة أحيانًا ما تؤدِّي إلى الشعور بأنه لا شيء أقرب إلى منظور الحقيقة من ممارسة القوة على «الآخَر»، سواء كان ذلك الآخَر هو الطبيعة أم الآخرون. وبوصفها دعوى فلسفية صريحة، فلا يمكن الدفاع عن هذا الزعم، إلا أن نيتشه — كما رأينا — لا يقدِّم بالضرورة مجرد دعاوى فلسفية؛ ففي فترات لاحقة، ساعَدَ ميشيل فوكو في إحداث ثورةٍ في تاريخ العلم عندما أظهر — في أبحاثٍ تاريخيةٍ مفصَّلةٍ — أن القضية الرئيسية هي في الأغلب «لماذا» يعتقد الناس في صحة الأفكار، وليس ما يُعتقَد في صحته بالفعل. وأوضح التاريخ أن الأخير غالبًا ما يكون له عُمْر افتراضي محدود، حتى في العلوم الطبيعية.

إن أبحاث فوكو هي تطوُّرٌ لأحد الاهتمامات الجوهرية لنيتشه، وهي «قيمة» الحقيقة. ويوحي الجانب المتجهِّم من الوجود الإنساني بسبب أهمية السؤال عن قيمة الحقيقة؛ فعلى سبيل المثال، هل تريد حقًّا أن تعرف حقيقةَ ما إذا كان لديك مرض عضال لا يُرجَى شفاؤه؟ قد يبدو شغف الفلسفة الحديثة بالإبستمولوجيا والرد على المتشكِّكين محل شك؛ لأنه يهمل الطرق التي لا تكون المعرفة فيها دومًا الطريقة الأكثر فاعليةً للتجاوُب مع العالم. لكن ما الجديد على وجه الخصوص بشأن التشكُّك في القيمة السابقة للحقيقة؟ في التراجيديا اليونانية، يمكن لمعرفة الحقيقة أن تولِّد الكارثةَ بالفعل بدلًا من تجنُّبها، ويمكن الاستدلال على ذلك بأوديب. وتشير الأفكار التي تبنَّاها نيتشه في بداياته عن إحياء التراجيديا إلى سبب تبنِّيه هذا الرأي؛ فهو من البداية كان يناهِض الآراءَ الخلاصية الأفلاطونية والمسيحية تجاه الميتافيزيقا والحقيقة، التي ترى أن المعاناة في هذه الحياة ستحقِّق مقصدَها في السماء، وأن التمثيل الحقيقي للعالم هو الهدف الأقصى للمعرفة.

إن مقاربة نيتشه اللاحقة لهذه القضايا ملخَّصَة ببراعةٍ في جزءٍ من «أفول الأصنام» (المنشور عام ١٨٨٩)، ولا يفضل أن ننظر لهذا الجزء باعتباره حجةً تنتقل من مقدِّمات إلى نتائج بشأن «العالم الحقيقي»؛ فهو مهم من حيث «صياغته» الأدبية بقدر ما هو مهم في «مضمونه» الفلسفي:

كيف غدا «العالم الحقيقي» خرافة

تاريخ خطأ

(١) العالم الحقيقي: الذي يَسْهُل بلوغُه على الإنسان الحكيم، الوَرِع، الفاضل، يحيا فيه، إنه هذا العالم.

(أقدم شكل للفكرة، أنها فَطِنة نسبيًّا، ساذجة، مُقنِعة نسبيًّا. تفسير العبارة: «أنا، أفلاطون هو الحقيقة».)

(٢) العالم الحقيقي: المنيع الآن، لكنه الموعود به الإنسان الحكيم، الوَرِع، الفاضل («المذنب الذي يتوب»).

(تطوُّر الفكرة: تترقى، تمسي أكثر استهواءً، أكثر انفلاتًا؛ تصبح امرأةً، تصبح مسيحيةً …)

(٣) العالم الحقيقي: المنيع، الذي لا يمكن إدراكه، ولا إقامة الدليل عليه، ولا الوعد به، لكن الذي يكون مجرد التفكير فيه عزاءً، التزامًا، أمرًا قطعيًّا.

(الشمس القديمة في القعر لكن المخترقة للضباب والشكوكية: الفكرة وقد أضحت رائعة، شفافة، شمالية، كونيجسبرجية.)

(٤) العالم الحقيقي: منيعٌ، غير مُدرَك بعدُ على أية حال. وبما أنه غير مدرك، فهو مجهول، لا يمثِّل عزاءً ولا خلاصًا ولا التزامًا: فيمَ سنُلْزَم من طرف شيءٍ نجهله؟!

(فجر رمادي، أول تثاؤب للعقل، صيحة ديك الوضعية.)

(٥) «العالم الحقيقي»: فكرة لم تَعُدْ صالحةً لأي شيء، لم تَعُدْ تدعو لأي شيء؛ فكرة غير نافعة، غير مجدية، إذن فكرة مرفوضة: لنبطلها!

(طلع النهار، فطور، عودة الحس السليم والمرح، حمرة خجل تعلو جبين أفلاطون، كل العقول الحرة تُحدِث ضجيجًا فظيعًا.)

(٦) لقد أبطلنا العالم الحقيقي: أي عالم تبقَّى؟ لعله العالم الظاهر؟! لكن لا! لقد أبطلنا عالم المظاهر مع العالم الحقيقي في الآن ذاته!

(الظهيرة، لحظة الظل الأقصر، نهاية أطول خطأ، ذروة البشرية، مستهل زرادشت.) [زرادشت هو الشخصية التي وظَّفها نيتشه لنقل فكرة «السوبرمان» الذي يتفوَّق على الميتافيزيقا المسيحية.]

ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، أفريقيا الشرق، ١٩٩٦

إن إعطاء تعليق مفصَّل على تلك الفقرة أمر أشبه قليلًا بشرح مزحة؛ إذ يمكن أن يحجب آثار الصياغة بمحاولة شرح المضمون. ويوضِّح نيتشه الانتقال من وجهة نظر أفلاطون في أن حقيقة العالم تكمن في الأشكال الخالدة للأشياء، وليس في الطريقة التي تظهر بها، إلى الترجمة المسيحية لرؤية أفلاطون إلى فكرة السماء والحياة الآخِرة كتعويضات عن نقائص هذه الحياة، إلى وضع كانط للأخلاق في العالم المعقول الخالد، إلى هجمات الوضعيين في القرن التاسع عشر على المزاعم الميتافيزيقية باسم العلم «الوضعي» الذي يمكن التحقُّق منه، إلى إدراك أن الفلسفة وقفت حجر عثرة في سبيل العيش في الحاضر، إلى نهاية الميتافيزيقا كبحث عن عالم حقيقي واحد. ومع ذلك، فهل من الضروري أو المُستحَب أن تُهجَر تمامًا طُرُق فهم الحقيقة التي يقوِّضها نيتشه بسخريةٍ هنا؟ ثمة تفسيران أساسيان لكيفية مقاربة مواقف نيتشه اللاحقة.

يقترح أحد التفسيرات أن نيتشه يعرض تحوُّلًا أبوكاليبتيكيًّا مروِّعًا للفرضيات المتعلقة بالفلسفة والعالم، والذي سيغيِّر العالم جذريًّا، وهو غالبًا ما يعطي ثقلًا لهذا التفسير ببلاغته المفرطة، وسياساته الرجعية، التي تفضِّل القوي على الضعيف. ومن منظور الحقبة التاريخية اللاحقة، من الحروب العالمية إلى الهولوكوست، يدفع هذا التفسيرُ المرءَ إلى السؤال عن إن كان عمل نيتشه هو عامل سببي في هذه الأحداث المتلاطمة. من الصعب إيجاد صلة متسقة بين الأحداث التاريخية ورغبته في «إعادة تقييم جميع القِيَم» وفي «السوبرمان» الذي يمحو «أخلاق العبد» في المسيحية. ومع ذلك، ثمة أوقات يجب أن يتوقَّف فيها عند حقيقة أن النازيين استخدموا أجزاءً من عمله لأغراضهم؛ فالمرء لا يملك أمام «انتصار الإرادة» إلا أن يتذكَّر نيتشه.

أما التفسير الآخَر، فينظر إلى نيتشه من حيث الحاجة إلى تجاوُز الفلسفةِ للتمكُّن من تقييم «المعهود» — مرحلة سطوع النهار وتجلِّي «ماهية العالم الحقيقي». وسوف يظهر فيما بعدُ موقفٌ ذو صلة في فكرة فيتجنشتاين أن المهمة هي علاج النفس من المخاوف الفلسفية، بدلًا من السعي إلى حلولٍ للمشكلات الفلسفية. وتُعَدُّ «المنظورية» عنصرًا أساسيًّا في تفسيرات نيتشه التي تعارض فكرة نهاية العالم، وهي تعني نَبْذَ فكرة «الرؤية من اللامكان» التي تقودنا إلى الموضوعية الخالصة. لكن الزعم بأنه لا توجد في الواقع رؤية من لا مكان يفترض مكانًا ينكر المرء في الوقت نفسه وجوده. ويمكن بيان موقف نيتشه بطريقة أخرى من خلال التشكيك في نظرية أن الحقيقة هي «توافُق» الفكر أو العبارة مع «الوضع القائم» أو «الحقيقة» أو «الموضوع» أو ما إلى ذلك. لكن رفض هذه النظرية (بدلًا من اقتراح أنها ربما تكون غير متسقة أو غير معقولة) يستلزم المطالَبة بنظرية بديلة، ويثير هذا مشكلةَ البحثِ فيما سيثبت صحة النظرية البديلة للحقيقة، فأية نظرية في الحقيقة تدور على ما يبدو في حلقة مفرغة؛ ولذا يجب انتهاج استراتيجية مختلفة في صياغة نموذج مُقنِع مما يُحتمَل أن يكون نيتشه بصدد عرضه.

وثمة أسلوب أكثر معقولية في تناوُل هذا الأمر، وهو السؤال عمَّا تتوافَق معه نظرية الحقيقة تحديدًا؟ إذا قلنا: «الواقع»، فهذا بمفرده لا يحتوي على معرفة؛ إننا نريد أن نعرف شيئًا عن مضمون ما يتوافَق معه، لكن هذا المضمون ينطوي فيما يبدو على فكرة التوافُق نفسها. وقد أُدخِلت فكرة «التوافق» غير المفهومة على نحوٍ مثيرٍ للجدل في شيء مفهوم تمامًا، أعني الشعورَ اليوميَّ بالحقيقة؛ فنحن جميعًا على درايةٍ بما تعنيه «الحقيقة»، حتى إن كنَّا لا نتفق على «ما» هو حقيقي؛ فلو لم نكن على دراية بمعنى «الحقيقي»، ما وصلنا إلى نقطة الاختلاف. والدراية موضع النقاش هنا هي حالة أخرى من «الحدْس»؛ فمحاولة استثمار هذه الدراية وتحويلها إلى دعوى معرفية دائمًا ما تفترض فهمًا سابقًا لا يمكن تحليله على نحو قاطع، وستكون هذه النقطة حاسمة لدى هايدجر، ولا يبدو دائمًا أن نيتشه قد فهمها. والقضية الأساسية هنا هو كيفية الاستجابة لما يبدو أنه خارج حدود ما يمكن للفلسفة أو العلم تفسيره. وبالطبع، فإن الحالةَ الأوضح لهذه القضية في الحداثة هي علم اللاهوت.

بعد الإله؟

يضع نيتشه يدَه على جوهر العلاقة بين علم اللاهوت والحداثة في هذا المقطع الصغير المُحْكَم من «العلم الجذل»: «صراعات جديدة»:

بعد أن مات بوذا استمروا في إظهار ظلِّه لقرون في كهفٍ — ظلَّ ضخم مخيفًا. مات الإله، لكنْ نظرًا للطريقة التي جُبِل عليها البشر ربما ستظل توجد كهوف لآلاف السنين يُعرض فيها ظله، وعلينا نحن أيضًا الانتصار على ظله!

إن التغلُّب على ما كان ولا يزال يعنيه «الإله» لن يتأتَّى على سبيل المثال من خلال حجة فلسفية قاطعة، ولا من خلال تقدُّم العلم؛ ﻓ «ظل الإله» لا يمكن أن يكون حاضرًا بسهولة إلا في «علموية» إلحادية غير ناقدة، يمكن أن يُختزَل فيها في النهاية الوصفُ الحقيقي لكلِّ شيء في العالم — بما فيه الفن والأخلاق — في قوانين علمية، على غرار ما في علم اللاهوت التقليدي. والفرضية في كلتا الحالتين أنه ثمة منظور مطلق يمكِّننا من الفرار من المصادفة والمحدودية.

أخفق نيتشه مرارًا وتكرارًا حتى في مرحلة نضجه الفكري في إيصال فكرته هنا؛ ففكرته عن «إرادة القوة»، التي ترى أنه لا توجد ذاتٌ حرةُ الإرادة، وإنما هي مجرد تجسيدات للطريقة التي يسيطر بها كمٌّ من القوة على كمٍّ آخَر في جزء من الطبيعة، هي في الحقيقة مجرد رؤية ميتافيزيقية قريبة الصلة بالإرادة لدى شوبنهاور. وينطبق الأمر نفسه على فكرته عن «التكرار الأبدي»، التي تقترح أن العالم سيظلُّ يتكرَّر على المنوال نفسه تمامًا في المستقبل — والفكرة أنه يتعيَّن على المرء إقرار الحياة كما هي عن طريق ابتغاء هذا التكرار. وتنطوي تلك النظريات على رغبةٍ في التوصُّل إلى معرفةٍ قاطعةٍ لما يمكن أن تُفهَم عليه ماهية الجنس البشري والعالم. وتحجب هذه الرغبة احتماليةَ أن يكون ما نحن عليه هو أيضًا ما يمكن أن نصير عليه، الأمر الذي يتركنا عرضةً للمصادفة على النحوين الإيجابي والسلبي. وتُعَدُّ استجابات نيتشه المبتكَرة للمصادفة في مواضع أخرى في أعماله أحدَ الأسباب التي تعلِّل لماذا قد يعتاد شخص على سبيل المثال في الفلسفة الحديثة — ربما كان في بعض الأوقات رجعيًّا وكارهًا للنساء ومعاديًّا للديمقراطية — أن يؤيِّد ثقافةً ديمقراطيةً لخلق الذات، وأن يشكِّك فيما إذا كان لدى الناس هوية جنسية أساسية. وعليه، فإن الأزمة الفلسفية الأساسية المشار إليها في عمل نيتشه هي أن محاولة الإعراب في نظريةٍ فلسفيةٍ عمَّا كان سيبدو عليه العالم لو خرجنا في النهاية من ظلِّ الإله، يمكن أن يعني في ذاته الوقوع مجدَّدًا تحت ذلك الظل، وسوف يتكرر وقوعُ هذه الأزمة في الفلسفة الألمانية في القرن العشرين.

fig6
شكل ٦-١: نيتشه على فراش المرض عام ١٨٩٩ تقريبًا، بريشة هانز أولد.1

هوامش

(1) Goethe-Nationalmuseum, Weimar/© akg-images.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤