الكانطية الجديدة والفلسفة التحليلية وفلسفة الظواهر
الفلسفة الأكاديمية
لا وجود في القرن التاسع عشر للانقسام القائم في الفلسفة المعاصرة بين الفلسفة «الأوروبية/القارية» والفلسفة «التحليلية»، ولكن طبيعة هذا الانقسام غير واضحة على الإطلاق، باستثناء ما نجده من إخفاق بعض الفلاسفة — وليس كل الفلاسفة — من كِلَا «الجانبين» في مناقشة المفكِّرين من «الجانب» الآخَر. ولعل أفضل أسلوب لدراسة هذا الانقسام هو النظر إليه باعتباره سلسلةً من المناهج المتعارِضة في تناوُل الأسئلة الفلسفية الحديثة، وليس مجرد قضية واحدة، ويتضح هذا التعارُض في مشهد الفلسفة الأكاديمية الألمانية من زمن نيتشه تقريبًا حتى الاحتلال النازي عام ١٩٣٣. وتتباين العلاقة بالفلسفة الجامعية للمفكِّرين الذين درسناهم حتى الآن؛ فبعضهم كالرومانسية المبكرة وماركس ونيتشه في أخرياته، لم يتقلَّد مناصب جامعية، وآخَرون مثل شيلينج وهيجل تقلَّدوا. وخلال أواخر القرن التاسع عشر، أصبح البحث الجامعي — ولا سيَّما في العلوم الطبيعية — أكثر تنظيمًا وتخصُّصًا من الناحية المنهجية، واضطر الفلاسفة على نحوٍ متزايد إلى الردِّ على أسئلةٍ تتعلَّق بمكانة الفلسفة كفرعٍ من فروع العلم. هل الفلسفة هي مفتاح العلوم الطبيعية، أم العكس؟ هل الفن أم العلم هو المحطُّ الأساسي للرؤية الفلسفية؟ وأدَّتِ الردود المتضاربة على هذه الأسئلة إلى نوعٍ من الانقسامات التي تميِّز الآن الانقسامَ الأوروبي/التحليلي المعاصر.
إن الأشكال الأساسية للفلسفة الجامعية الألمانية في الفترة التي نحن بصددها هي الكانطية الجديدة وبدايات الفلسفة التحليلية وفلسفة الظواهر. وكل هذه الأشكال تسعى بطرقٍ مختلفة من الناحية التعليمية إلى ترسيخ دور الفلسفة بالنسبة إلى العلوم الطبيعية؛ فلماذا يمثِّل هذا محور تركيزهم الرئيسي؟ لقد انطوى عمل هيجل على صراع بين رؤية الفلسفة على أنها «تجسيدٌ لفكر عصرها»، ورؤيتها على أنها الوصف المنهجي النهائي لعلاقة العقل بالعالم. تثير الرؤية الأولى قضية النسبية وأن ما هو حقيقي ليس سوى إجماع ثقافة معينة؛ إذا كان هذا هو الوضع، فإنه يمكن أن يضع مكانة الفلسفة موضع شكٍّ. أما الرؤية الثانية، فتنطوي على دعوى ميتافيزيقية قوية ستُبقِي على صدارة الفلسفة في علاقتها بالعلوم، لكن يبدو أنه لا يمكن الدفاع عن هذه الدعوى على نحوٍ كبيرٍ في مواجَهةِ النجاح المتزايد للمناهج التجريبية في العلوم الطبيعية، وقد كان من ملامح التأمُّل الفلسفي في هذه الفترة للعلماء الطبيعيين، أمثال هيرمان فون هيلمهولتز (١٨٢١–١٨٩٤)، أنهم رفضوا الفلسفة النظرية لشيلينج وهيجل.
وعلى ضوءِ النجاح البيِّن للعلوم، ربما يبدو أن ثمة سببًا محدودًا للمبالغة في الاهتمام بالمعضلات الإبستمولوجية؛ وهنا يتضح أحد مصادر الانقسام في التعاليم. يشترك نيتشه والبراجماتية الأمريكية في فكرة أن التساؤلات عن قيمة الحقيقة ينبغي في الغالب أن تتخطَّى الهمومَ الإبستمولوجية. ويقترح ويليام جيمس أن الحقيقة هي «المسمى الذي نطلقه على كل ما نؤمن أنه يُثبِت صحة نفسه بنفسه.» وسيختلف معيار ما يُثبِت صحته حسب الظروف الثقافية المتباينة، وهذا ينحو بملاحظة جيمس منحى النسبية. ومع ذلك، فإن إجماع الآراء على الحقيقة غالبًا ما يثبت خطؤه، وهذا الإجماع نادرًا ما يكون على أية حال عالميًّا. ففي السياق الجامعي الألماني، صار كثير من الفلاسفة ينظرون إلى الافتقار لوصف فلسفي نهائي للحقيقة العلمية على أنه يشير إلى «أزمة أسس» في العلوم، فإذا أمكن إظهار أن العلوم تحتاج إلى إجازة فلسفية، فإن المكانة المعرفية للفلسفة ستكون بالطبع مصونةً، لكن ثمة غموض هنا، وهي مسألة لها عواقب هائلة فيما يتعلق بالانقسام الأوروبي/التحليلي. هل المشكلة في الواقع هي التعزيز الفلسفي لحقيقة العلوم من حيث مقولات كانط أو «منطق الكشف العلمي» على سبيل المثال، أم هي بالأحرى علاقة العلمي بالاستجابات الأخرى للواقع؟ الأولى هي أزمة أُسُس إبستمولوجية، والثانية هي أزمة أُسُس أهداف الحياة الحديثة. وفي الواقع، العلاقة بين هاتين الأزمتين ليست واضحة في ذاتها.
الكانطية الجديدة
تظهر ازدواجية الأزمة في كيفية إحياء شخصية كانط في «الكانطية الجديدة»، ويصبح سؤال الإبستمولوجيا هو محور التركيز الأساسي لمفكِّرين أمثال هيرمان كوهين (١٨٤٢–١٩١٨) وبول ناتورب (١٨٥٤–١٩٢٤) وأرنست كاسيرر (١٨٧٤–١٩٤٥)، الذين غالبًا ما يُطلَق عليهم مسمَّى «مدرسة ماربورج»، وكان همهم الأساسي هو إعادة تفسير العلاقة بين رؤية كانط الفلسفية والعلوم الطبيعية في ضوء الاكتشافات العلمية الجديدة، مثل نظرية النسبية لأينشتاين، على الرغم من أن كاسيرر على وجه الخصوص سوف يتناول في النهاية قضايا أوسع، في أعمال مثل «فلسفة الأشكال الرمزية» (١٩٢٣–١٩٢٩). وقد اهتمَّ أيضًا بالإبستمولوجيا الممثلون الأساسيون للكانطية الجديدة في «الجنوب الغربي»، وهم فيلهيلم فيندلباند (١٨٤٨–١٩١٥) وهاينريش ريكرت (١٨٦٣–١٩٣٦) وإيميل لاسك (١٨٧٥–١٩١٥)، لكنهم رأوا مقولات كانط من حيث كونها «المعايير» الحاكمة لصحة الدعاوى المعرفية وغيرها. وتظهر المشكلة الأكثر بروزًا لأهمية الكانطية الجديدة في تفرقة فيندلبولد بين البحث التفسيري «الناموسي» في الظواهر المحكومة بالقوانين، والبحث «الإيديوجرافي» في فهم الظواهر التاريخية الفردية التي لا يمكن إدراجها تحت القوانين العامة.
إذا كان يمكن للفلسفة حقًّا أن تقدِّم وصفًا لشروط إمكان المعرفة، فستكون فرعًا معرفيًّا متصدرًا المرتبة الأولى، بينما ستكون العلوم الجزئية فروعًا معرفية في المرتبة الثانية. ومن ثم، تحاول الكانطية الجديدة إرساءَ مكانة الفلسفة عن طريق التأمُّل في قضية «شروط الإمكان». ومفهوم أن التفكير يعمل بالضرورة بمفاهيم سابقة ليس استثنائيًّا، لكن هل هذه الهياكل اللازمنية تخص جميع الكائنات العاقلة، أم هي تقييمات مُولَّدة اجتماعيًّا؟ وإذا كانت الثانية، فهل تظل ثابتة، أم تتغير بتغيُّر الظروف؟ وكيف يتصل الفكر الذي يحدِّد الشروط المسبقة بالشروط المسبقة نفسها، دون إطلاق دعاوى دوجماتية ودون الانتهاء إلى تسلسُل من الشروط المسبقة؟ ولماذا، على الرغم من ذلك، لا نُسقِط النظريات الفلسفية البالية ونعتمد على علمٍ يمكن تبريره؟ هذه الأسئلة كانت ستحظى بجوابٍ لو كان ثمة أساس يحدِّد مكانةَ الفلسفة، سواء كان هذا الأساس هو الذات المتعالية أم حقائق العلم المؤكَّدة على أفضل وجه. (يقود التساؤل الأخير بعض المفكِّرين إلى الفكرة المختَلَف عليها كثيرًا في ضرورة اكتشاف شروط المعرفة عن طريق علم النفس.) ويبدأ أحد جوانب هذا الانفصام بالذات كأساسٍ، في حين يبدأ الآخَر بالموضوع. ويعكس هذا الموقف الذي أدَّى بهيجل إلى محاولة تفادِي أيِّ أساس ذاتي أو موضوعي «مباشِر»، ولسببٍ ما اتجه فيندلباند في حياته المهنية فيما بعدُ نحو الهيجلية التي كان يزدريها سابقًا.
ولأن العلوم الفيزيائية تقدِّم مزيدًا من الإجابات القابلة للاختبار لما كانت ولا تزال أسئلة فلسفية، فإن العلوم الإنسانية «الإيديوجرافية» قد تبدو فاقدةً للدقة «العلمية»؛ ومن ثَمَّ يطالب فيلهيلم دلتاي (١٨٣٣–١٩١١) ﺑ «نقد العقل التاريخي»، الذي سيؤسِّس مناهج لإنصاف تفرُّد الظواهر الثقافية. ومع ذلك، ذهب آخَرون إلى رؤية الحقيقة فقط من حيث ما يمكن إثبات صحته تجريبيًّا في العلوم، مستثنين علم الأخلاق وعلم الجمال من عالم الحقيقة بالكلية، وغالبًا ما يسمَّى هذا الموقف في السياق الألماني ﺑ «الوضعية». ويوحي تزامُن هذه الرؤية المتطرِّفة مع القدرة التدميرية الهائلة لتطبيق العلوم، التي تجلَّتْ أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها؛ بالسبب في أن بعض الفلاسفة الألمان سوف يرون الوضعية باعتبارها مرتبطةً على نحوٍ خطيرٍ بالجانب المظلم من الحداثة. لذلك، فإن الفجوة بين ما يمكن أن تفعله العلوم وقدرة البشر على استخدامها للصالح العام، هو أمر ضروري لفهم الصراعات التي شابَتِ الفلسفةَ الألمانية خلال القرن العشرين.
«المنحى اللُّغوي» الثاني
مصير «المشكلات الفلسفية» كالآتي: بعضها سوف يختفي ببيان كونه أخطاءً وسوءَ فهمٍ للغتنا، والآخَر سوف يختفي ببيان كونه أسئلةً علمية عادية متخفِّيةً، وهذه الملاحظات — على ما أعتقد — تحدِّد مستقبل الفلسفة ككلٍّ.
إن هذه الملاحظة يمكن على نحوٍ لا يُنكَر أن يكون نيتشه قد أبداها في «إنساني مفرط في إنسانيته»، والفارق هو أن شليك جزءٌ من حركة مدفوعة أيديولوجيًّا افتقرت إلى الإدراك المشتت على نحوٍ لا يُنكَر لدى نيتشه في أخرياته؛ لكون المرء ربما لا يزال يفكِّر في «ظل الإله» عن طريق محاولة الإتيان بطرقٍ نهائيةٍ لتفادي «المشكلات الفلسفية». وحتى الآن لم يفعل «مستقبل الفلسفة ككلٍّ» شيئًا سوى تأكيد نبوءة شليك؛ فبعض الفلاسفة التحليليين المعاصرين، على سبيل المثال، يحاولون مجدَّدًا تقديمَ أجوبةٍ للمشكلات الميتافيزيقية. فما الذي غيَّرَ مجريات الأمور إذن؟
يبدو أن الأهداف المعادية للميتافيزيقا لدى كثيرٍ من مؤسِّسِي الفلسفة التحليلية المتحدثين باللغة الألمانية قد وضعتهم في معسكر نيتشه نفسه، كما أن بعض معاصري شليك، من أمثال أوتو نيورات، كانوا متأثِّرين بنيتشه (وماركس). وقبيل عشرينيات القرن العشرين، كان من المفهوم تمامًا الشعور بالحاجة إلى الفلسفة التي تستخدم العلم القابل للاختبار للردِّ على الأفكار اللاعقلانية التي كانت مميِّزة للفاشية. ومع ذلك، لا داعي للربط بين جوهر الفكرة التحليلية التي ترى أن مشكلات الفلسفة يجب أن تُدرَس من حيث التحليل اللغوي، والموقف العلمي المعادي للميتافيزيقا. وعلاوة على ذلك، فقد كانت الفكرة الأساسية في أن فهم اللغة محوري للفلسفة المطروحة بالفعل من قِبَل هامان وهيردر، وهنا تبرز قضية حيوية؛ لأن مفكِّري «المنحى اللغوي» الأُوَلَ لديهم رؤية مختلفة جدًّا عن ماهية اللغة؛ فاللغة بالنسبة إلى هامان وهيردر هي شكل التعبير عن كلِّ ما يُفترَض أن يكون إنسانيًّا، الأمر الذي يعني أن التعبيرات الجمالية على سبيل المثال يمكن أن تكون في أهمية الإفادات الواقعية. ويتضح اختلاف مقاربتهم عن المقاربة التحليلية إذا نظر المرء إلى ما سيصبح هو الفكرةَ الحاسمة عن اللغة في الفلسفة التحليلية.
عبَّر عن هذه الفكرة للمرة الأولى الفيلسوف التشيكي برنارد بولزانو (١٧٨١–١٨٤٨)، ويظهر في دعواه أن «التمثيل الموضوعي الذي تدل عليه أية «كلمة» يكون مفردًا ما دامت هذه الكلمة غير غامضة»، ولا يمكن أن تكون الأحداث العقلية الجزئية بطبيعتها لأي فرد تجريبي هي أساسَ وصفٍ لفكر ومعنًى؛ لأنه لا يمكن التعبير عن المعاني دون اللغة، التي هي الوسيط العام لمشاركة الأفكار بين الأفراد؛ ومن ثَمَّ يجب أن تكون المعاني موجودةً بطريقةٍ ما «في العالم». والسؤال الأهم هو: كيف سيُفهم ذلك؟ ففكرة أن المعاني موجودة في العالم قد تجعل المعاني موضوعَ نظريةٍ مماثِلةٍ للنظرية العلمية، ومن هنا تأتي فكرة بولزانو أن المعاني هي «تمثيلات موضوعية» تدل عليها الكلمات، وليست شكلًا عارضًا وذاتيًّا.
إن مصير هذا المنهج «الدلالي»، والذي يشكِّل لبَّ ما يمكن تسميته بدقة الفلسفة التحليلية، مرهون بشرط «ما دامت هذه الكلمة ليست غامضة». فكيف يعرف المرء أن الكلمة غير غامضة؟ من المفترض أن هذا الأمر يجب إثباته عن طريق تعريف المعنى الحرفي للكلمة، ومع ذلك فمن الجائز قول: إن كثيرًا من تاريخ الفلسفة التحليلية يتضمن سلسلةً من الإخفاقات في تحقيق ذلك. وإذا حدَّد شخصٌ المعنى عن طريق استخدام كلمات أخرى، فيجب تعريف هذه الكلمات بدورها باستخدام كلمات أخرى، الأمر الذي ينذر بتسلسُلٍ من الكلمات المعرِّفة لكلمات. وقد أشار كانط بالفعل إلى هيكل المشكلة هنا عندما ذكر أن الحكم لا يمكن أن يعتمد فقط على تطبيق القواعد، وإذا أراد شخص أن «يميِّز إن كان شيء ما يندرج تحت القاعدة أم لا، فهذا لا يتأتى إلا من خلال قاعدة أخرى»، الأمر الذي يؤدِّي إلى تسلسُل من قواعد القواعد. وعلاوة على ذلك، إذا كانت القاعدة الأولى مطلوبةً لمعرفة ماهية المعاني، فسوف يتعيَّن على الأطفال — كما أوضح شلايرماخر منذ أمدٍ طويلٍ — أن يكونوا قادرين على تعلُّم القواعد حتى قبل أن يعرفوا أي كلمات، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الأطفال يتعلمون اللغة بسهولة ملحوظة، فإن فكرة أن المعنى يمكن تحديده عن طريق تعلُّم قواعد لا يمكن أن تكون صحيحة؛ وهذا يقودنا نحو «براجماتية» اللغة، فكرة أننا نتعلَّم كيف نستخدم الضجيج لتحقيق أهدافنا، بدلًا من تعلُّم قواعد المعنى.
الحل المفترض الآخَر للمشكلة الدلالية هو أن تكون لديك فئة من الكلمات أو الألفاظ التي يكون معناها «محدَّدًا» إلى حدٍّ ما بطبيعتها. ومثال ذلك الكلمات التي لها مرادفات متطابِقة، والعبارات التي تشير بصورة مباشِرة إلى ما تدل عليه في العالم. وكما رأينا في الفصل الثاني، فالأولى هي ما هو مضمن في الجمل «التحليلية»، مثل: «الأعزب هو رجل غير متزوج»، المتميِّزة عن الجمل التجريبية «المركَّبة». وكما اقترح شلايرماخر سابقًا، وطرحه كواين مرةً ثانية في خمسينيات القرن العشرين، إذا كان لا يمكن الدفاع عن المكانة المنطقية الخاصة المنسوبة للجمل التحليلية، فإن المشروع التحليلي المبكر القائم على إرساء نظريةٍ للمعنى تستند فقط إلى الحقائق المنطقية والعبارات العلمية التجريبية؛ محكوم عليه بالفشل. ومن ثَمَّ، يجب أن يكون استخدام اللغة كليًّا حتى تكتسب الكلماتُ معانيها عن طريق علاقاتها بالممارسات الإنسانية، وعن طريق تحويل العلاقات إلى كلمات أخرى. ويلخِّص شليك البديل التحليلي الثاني: «يجب أن نربط الكلمات ربطًا مباشِرًا بالتجربة في شكل إشارات، ويقبع المعنى كله في النهاية في المعطى.» ولكن هذا الأمر لا يجدي، وذلك للسبب الذي أشارَتْ إليه فكرة «التأمُّل» لدى هيردر؛ فاللغة تمكِّننا من رؤية الشيء كعددٍ غير محدَّدٍ من الأشياء. ومجرد الإشارة إلى شيء لا يوصل المعنى الذي يقصده الشخص القائم بالإشارة.
لا تلعب الفلسفة التحليلية الدور الرئيسي في الفلسفة الألمانية للقرن العشرين، إلا أن جوتلوب فريجه (١٨٤٨–١٩٢٥) كان له إسهام جوهري في تطوُّرها؛ فقد حقَّق فريجه إنجازات رائدة في المنطق عن طريق تحوُّله عن الأشكال الأرسطية لمنطق الموضوع-المحمول، إلى منطق «قضوي» (حسب القضايا). فالأول يبدو عاجزًا عن التعامل مع عبارات من قبيل: «أحاديو القرن لا وجود لهم»؛ لأن هذه العبارات يجب أن تُحلَّل حتى لا ينتمي الوجود المحمول إلى «أحادي القرن» الموضوع. وفي هذه الحالة، «ما» هو الذي ليس له محمول، إذا أخذنا في الاعتبار أنه غير موجود؟ أما منهج فريجه القضوي، فيعيد صياغة هذا بلغة «يوجد «س» بحيث إن «س» هو/ليس هو أحادي القرن». فبدلًا من البحث عن أحادي القرن للنظر فيما إذا كان يمكن إعطاؤه المحمول «الوجود»، ينظر المرء — كما قد اقترح أرنست توجندهات — إلى الأشياء الموجودة ليرى إن كان الوصف «أحادي القرن» يمكن أن ينطبق عليها. وتكمن قيمة هذا المنهج في قدرته على بيان التغيُّرات في المعرفة، عندما — على سبيل المثال — يتوقع ما يحرق عن كونه فلوجيستون، ويصبح أكسجينًا. ويقدم فريجه أيضًا تفرقة لا تزال موضع نزاع بين «المعنى» و«المرجعية» والتي يوضِّحها عن طريق مثال كوكب الزهرة؛ فبالنسبة للأقدمين كان هذا الكوكب نجمين، نجم النهار ونجم الليل، ومرجعية هذين اللفظين واحدة، لكن معنيهما مختلفان. وتكمن المشكلة هنا في توضيح فكرة «المعنى» التي يجب أن تتغلب على المشكلة التي رأيناها مع «التمثيل الموضوعي» لدى بولزانو، والتي هي مكافئة له بدرجة كبيرة؛ فقد ووجِهَت محاولة تعريف المعنى بمشكلة التسلسل المشار إليها آنفًا، الأمر الذي أدَّى إلى الرغبة في فئة خاصة من الكلمات يكون معناها غير غامض.
يظهر التطور الآخَر للفلسفة التحليلية في النصف الأول من القرن العشرين في الغالب في بريطانيا والنمسا، ولا سيَّما في عمل برتراند راسل وجي إي مور ولودفيج فيتجنشتاين و«حلقة فيينا» — وهي مجموعة من الفلاسفة والعلماء الطبيعيين الذين بدءوا الاجتماع في فيينا في عشرينيات القرن العشرين، وثمة حلقة مماثلة في برلين سيصبح بعض أعضائها، أمثال هانز رايشنباخ، ذوي شأن في الولايات المتحدة، وقد أصبحت أفكارهم في النهاية سائدةً في كثير من أنحاء العالم. ويُعزَى هذا في جانب منه إلى أن كثيرًا من أعضاء الحلقة نفاهم النازيون، بينما يُعزَى في جانب آخَر إلى افتراضهم أن الفلسفة ينبغي أن تكون توافُقات علمية؛ نظرًا للهيمنة المتزايدة للعلوم في العالم الأكاديمي. ومع ذلك، فلم يَعُدِ الآن مشروع حلقة فيينا لمزاوجة الفلسفة والعلم الطبيعي من خلال نظرية المعنى هو محور التركيز الأكبر للنقاش في الفلسفة الأنجلو-أمريكية. (حالة فيتجنشتاين معقَّدَة، ولم يلعب عمله دورًا كبيرًا في الفلسفة الألمانية على وجه التحديد حتى سبعينيات القرن العشرين.) ولم تصبح المناهج التحليلية مهمة في الحياة الفلسفية الألمانية إلا من خلال عمل أرنست توجندهات وكارل أوتو أبل في ألمانيا منذ سبعينيات القرن العشرين. وحتى ذلك الوقت، كانت فلسفة الظواهر هي التي تشكِّل مع الكانطية الجديدة محورَ التركيز الرئيسي للفلسفة الأكاديمية.
هوسرل وفلسفة الظواهر
تكمن أهميةُ فلسفة الظواهر في تحدياتها لفرضية أن التفسير السببي في العلوم الطبيعية لن يترك شيئًا للفلسفة في النهاية لتقوم به، ولا شك أن المناهج التحليلية تحدُّ من نطاق تركيز الفلسفة وتستبعد كثيرًا من تعقيد خبرتنا بالعالم. فعلى سبيل المثال، ربما تسعى نظريات الزمن في الفلسفة إلى شرح الطبيعة الجوهرية للزمن أو شرح كيفية ارتباطه بالمكان، لكن هذه التفسيرات لن تكون بالضرورة ملائِمةً للطرق التي نعايش بها الزمن. ويؤسس إدموند هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨) عمله على فكرة أن الفلسفة لم تعبِّر بطريقةٍ ملائِمةٍ عن الطرق التي يقدِّم بها العالم نفسه إلينا، فهذه الطرق تتطلب منهجًا يوضِّح الكيفيةَ التي نعايش بها الوقت، ليس كتتابُعٍ من «الآنات» المنفصلة، بل كبنيةٍ من التوقُّعات والخبرات المحفوظة التي تشكِّل «معنى» الوقت بالنسبة لنا.
عمل هوسرل في فترة كان فيها «المذهب الحيوي» — فكرة أن الحياة إما تَفُوق التصوراتِ التي نستخدمها لفهمها، وإما هي مقاومة بطبعها للتصور — يلعب دورًا مهمًّا في الحياة الثقافية، وهذا لأسباب أهمها أحداث من قبيل الحرب العالمية الأولى، التي تُظهِر طبيعتُها الكارثية على ما يبدو إخفاقَ الفكر في فهم طبيعة الواقع الحديث. ويكمن جوهر المذهب الحيوي في مسألة الحَدْس لدى شوبنهاور ونيتشه، وتظهر ملامح من الفكرة لدى دلتاي، ولدى مفكِّرين أمثال لودفيج كلاجيز (١٨٧٢–١٩٥٦). ومن الأهمية بمكان أن انتقادات الأخير للعقلانية والتكنولوجيا الحديثة من حيث تأثيراتهما السلبية على «الحياة» تصاحِبها نفسُ الانتماءات السياسية المشكوك فيها. وتسعى فلسفة الظواهر لدى هوسرل — على عكس الكثير من مقاربات المذهب الحيوي لعددٍ من القضايا نفسها — إلى إيجاد طرق جديدة لوصف الخبرة في فلسفة يمكن تبريرها عقلانيًّا، ثم يدرك الأهمية الثقافية الأوسع نطاقًا لمنهجه في مقابل التطور الكارثي المتزايِد للتاريخ الأوروبي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
وثمة صراع بالِغ لدى هوسرل بين المقاربة المتعالية للأشكال الأساسية للخبرة والمقاربة الوصفية التي تصير على نحوٍ متزايدٍ تاريخيةَ التوجُّه في عمله اللاحق. ويبدأ الصراع في الظهور عندما يقتنع هوسرل بأن محاولاته المبدئية لاستقاء المنطق والرياضيات من القوانين الحاكمة لعمل العقل تنطوي على «سكلجية» — أي الخلط بين ما هو راسخ في فرع علم تجريبي والشروط المنطقية لقابلية أي علم للفهم، بما في ذلك علم النفس ذاته. ويُقرِّبه رَفْض السكلجية من فريجه وأفكار الفلسفة التحليلية، لكن لا بد من وجود قوانين منطقية نهائية لكي تكون الاعتراضات على السكلجية لا لبسَ فيها، وهو أمر توحي حجج شلايرماخر وكواين بشأن القضايا التحليلية أنه يمكن التشكيك فيه. ويزداد تعقيد منهج هوسرل باعتماده على فكرة «الموقف الطبيعي»، الذي ينطوي على خبرات «بديهية»، أو «ممنوحة بالأصل»، والتي دونها ستكون الخلافات الهادفة مستحيلةً؛ لأن هذه يمكن أن تبدو منتمية إلى عالم علم النفس.
لكي يتحقَّقَ استقلال الفلسفة عن العلم الطبيعي، كان يتعيَّن على هوسرل أن يستبعِدَ من الفلسفة كلَّ ما يمكن شرحه بألفاظ محكومة بالقانون، ومن ثَمَّ عنوان عمله الذي ربما كان الأكثر تأثيرًا «أفكار تجاه علم ظواهر خالص وفلسفة ظواهرية» (١٩١٣). ونقطة انطلاقه هي «القصدية»؛ أي «دوران» الفكر، الذي يحلِّله بطرق جديدة مؤثِّرة. وهو يرى أننا يجب أن «نعلق» (فيما أسماه «الإبوخيه»؛ أي التوقُّف عن الحكم وتعليقه) ما نعرفه عن موضوع البحث من أجل أن نصف البنى المحضة للوعي المتضمنة في ذلك الموضوع. وكما أوضح كثيرون — من جاك دريدا على الجانب الأوروبي إلى مايكل دوميت وأرنست توجندهات على الجانب التحليلي — تواجه هذه الفكرة مشكلة خطيرة باعتبارها وصفًا للجوانب الداخلية المحضة من الوعي، فلكي تكون الفكرة معقولة، يتعيَّن إيصالها بلغةٍ بين ذاتية لا داخل الذات.
لكن تلك الانتقادات أخفت أحيانًا جوانب هوسرل الأكثر رسوخًا، التي أثَّرت في هايدجر وسارتر وغيرهما كثير، وليس فقط في الفلسفة. وأحد الجوانب الحيوية هو ما قدَّمه من بديل للتجريبية التي هيمنت على كثير من الفلسفة التحليلية حتى وقت قريب، والتي تمثِّل «معطياتُ الحس» بالنسبة لها «المُعطى» الأساسيَّ، ومنها يُفترَض أن تُبنَى المعرفة. وتؤكِّد أوصاف هوسرل للإدراك (لا يوجد نموذج واحد نهائي) حقيقةَ أن الخبرة يجب أن تُفهَم من حيث معانيها؛ فكل نوع من الوعي ينطوي على علاقة بين نمط أو أنماط من الانتباه، ومادة من العالم. والثاني لا يمكن اختزاله في الأول، لكن دون الأول لا توجد طريقة لتفسير كيف نحيا في عالم له دلالات مباشِرة، بدلًا من العالم كما يُنظَر إليه في العلوم الطبيعية؛ فالرؤية تنطوي في الواقع على فوتونات تسقط على الشبكية، الأمر الذي يمكن تفسيره بلغة القوانين العلمية، لكن لا يمكن تفسير خبرة رؤية شيء بتلك اللغة، وهي سابقة على التفسير العلمي وضرورية له. وتعني رؤية شيء أن ما يُرَى يقدِّم نفسَه كشيء له دلالة؛ لأننا ندرك سبب حاجتنا إليه أو ما يذكرنا به وهكذا، ولا شيء من ذلك يُمنَح في شكل فوتونات وشبكيات.
تتضح أهمية استقراء هوسرل فيما يتعلق بحقيقة أن المعنى لا يمكن فصله عن الإدراك في عمله «أزمة العلوم الأوروبية وعلم الظواهر المتعالي» عام ١٩٣٦؛ ففي هذا النص المتأثِّر بتلميذه هايدجر، ينتقل هوسرل ممَّا كان مقاربة إبتسمولوجية في الأغلب لأزمة الأسس العلمية إلى مقاربةٍ ترى الأزمة على أنها تتضمن أهداف الحياة الحديثة. وتنعكس الأزمة في العلوم في إخفاق الفلسفة في معالجة «أسئلة عن معنى أو لا معنى هذا الوجود البشري ككلٍّ»، ويؤدي هذا الإخفاق إلى تضييق نطاق التركيز في الفلسفة الذي يظهر في جوانب من نزوع الفلسفة التحليلية نحو العلمية.
وهنا تتضح الجذور المهمة للانقسامات المعاصرة بين المناهج التحليلية والأوروبية. ويوسِّع هوسرل نطاق فكرة «الموقف الطبيعي» ليشمل فكرة «عالم الحياة قبل وبعد العلمي»، وعالم الحياة «يضم في داخله كل الحياة الواقعية، بما في ذلك حياة الفكر العلمي»، ولم يكن من الممكن للموقف النظري الذي يميِّز العلم الحديث أن يتطوَّر دون «ما هو طبيعي … الذي يفترضه كل تفكير، وكل نشاط من أنشطة الحياة في جميع أغراضها ومنجزاتها». و«الممارسة النظرية» للعلم هي شكل من الممارسة «متأخر تاريخيًّا». وتكمن الأزمة في حقيقة أن هذه الممارسة أصبحت تهيمن على كلِّ ما عداها؛ فالحداثة تنطوي على «ترييض الكون»، الأمر الذي يراه هوسرل قائمًا على تغيرات في مكانة الهندسة، فمن فرع معرفةٍ عملي يُستخدَم لأغراض تقنية في عالم الحياة ينشأ فرعُ علمٍ مهتم ﺑ «عالم منغلق على ذاته من الموضوعيات المثالية». ويغيِّر هذا العالم بدوره التكنولوجيا التي أحدثته عن طريق جعل الدقةِ الرياضيةِ الطريقةَ المهيمِنةَ للاستجابة للموضوعات في الطبيعة التي كان يُنظَر إليها سابقًا من حيثية أكثر نوعيةً؛ وهكذا تصبح الطبيعة «رياضيات تُطبَّق على نحو مخالف للعادة»، وتؤدي «حسبنة الهندسة» إلى «تفريغها من معناها». والمعنى المفرَّغ ليس هو المعنى كما يُفهَم في المشروع الدلالي للفلسفة التحليلية، بل هو الطريقة التي نُسِجَتْ بها ممارسة الهندسة في عالم الحياة المعقَّد الذي يسكنه الناس. وهنا يمكن للمرء الوقوف على المضمون المهم لانقسام الفلسفة التحليلية/الأوروبية؛ فالأخيرة ترى المشروع الدلالي على أنه مجرد جزء صغير من علاقة الفلسفة السليمة بالثقافة الحديثة. ولا يزال هوسرل نفسه يحاول أن يعطي وصفًا متعاليًا لعالم الحياة (أي وصفًا للبنى الضرورية له لكي يتشكَّل على النحو الذي هو عليه)، من النوع الذي قدَّمه فيما يتعلق بالموقف الطبيعي، لكنه يزداد إدراكًا لحقيقة أن الوصف النظري الخالص الذي يبغيه يهدِّده الحدوث التاريخي، وأن هايدجر هو الذي يكشف التبعات الكاملة لمحاولة الحفاظ على الفلسفة بالنسبة إلى العلوم الجزئية، بينما يتصدى لآثار التاريخ الحديث على توصيفنا لأنفسنا وللعالم.