يوتوبيات عصر النهضة
ننتقل الآن من الدول المثالية اليونانية إلى دول عصر النهضة، ولا يعني هذا أن الفجوة التي امتدت خمسة عشر قرنًا من الزمان قد توقف خلالها عقل الإنسان عن الاهتمام ببناء مجتمعات خيالية، فالاستقصاء الكامل للتفكير اليوتوبي ينبغي أن يصف مظاهره في عصر الإمبراطورية الرومانية، وفي الفترة التي أعقبته، والتي يطلق عليها بصفة عامة، وبغير حق، اسم العصور المظلمة. ويجد المرء في الكثير من الحكايات العجيبة لهذا العصر أن الحلم اليوتوبي يتخذ شكلًا بدائيًّا مشابهًا لذلك الشكل الذي اتخذه في الأساطير اليونانية المبكرة.
وهناك شرطان ضروريان لكي يحيا الفرد حياة طيبة. وأول هذين الشرطين وأكثرهما أهمية أن يسلك سلوكًا فاضلًا، لأن الفضيلة هي التي تتيح للإنسان أن يحيا حياة رضية. أما الشرط الثاني، وهو أمر ثانوي ويعد بمنزلة الأداة أو الوسيلة، فهو كفاية تلك الخيرات المادية التي يكون استخدامها ضروريًّا لكي يسلك المرء سلوكًا فاضلًا.
والاكتفاء الذاتي للمدينة مع المناطق الزراعية المحيطة بها هو المثل الأعلى الذي يطلب تحقيقه:
«هناك إذن وسيلتان لتزويد المدينة بوفرة من المواد الغذائية. الأولى هي خصوبة التربة بحيث تمد الحياة البشرية بكل الضروريات. والثانية هي التجارة التي تساعد على جلب ضروريات الحياة إلى المدينة من أماكن مختلفة. ولكن من الواضح تمامًا أن الوسيلة الأولى هي الأفضل، لأن الشيء كلما سما قدره زاد نصيبه من الاكتفاء الذاتي، إذ إن كل ما يحتاج إلى غيره يكون لهذا السبب أدنى مرتبة. ولكن المدينة التي تزودها المناطق الزراعية المحيطة بكل حاجاتها الحيوية تكون أكثر اكتفاءً من مدينة أخرى تضطر للحصول على هذه المؤن عن طريق التجارة. والمدينة التي تتوافر فيها المواد الغذائية من الأراضي التي تملكها تكون أكثر شرفًا وكرامة من تلك التي تحصل عليها عن طريق التجار. وستكون كذلك أكثر أمنًا؛ لأن استيراد المؤن الغذائية يمكن أن يمنع عنها، إما بسبب النتائج الوخيمة للحروب، أو لتزايد أخطار الطرق. وبهذا يمكن أن تهزم هذه المدينة نتيجة النقص في الطعام.»
وقد أدرك القديس توما الأكويني التأثير المدمر للتجارة على الجماعة:
«كذلك إذا كرس المواطنون حياتهم لشئون التجارة فسيصبح الطريق مفتوحًا لرذائل عديدة. فما دام الهدف من التجارة يقود بصفة خاصة إلى كسب المال، فإن ممارسة التجارة توقظ الجشع في قلوب المواطنين. والنتيجة هي أن كل شيء في المدينة سيعرض للبيع؛ وتُدمَّر الثقة، ويفتح الطريق لكل أنواع الغش والخداع؛ وسيعمل كل فرد من أجل ربحه الخاص فقط ويحتقل المصلحة العامة: ستهمل رعاية الفضيلة، لأن الشرف، وهو المكافأة على الفضيلة، سيخلع على أي فرد. وهكذا تفسد الحياة المدنية في مثل هذه المدينة.»
لقد كان من المستحيل على كتاب عصر النهضة أن يتصوروا مجتمعاتهم المثالية بشكل كامل، على غرار تلك المجتمعات التي تصورها مفكرو الإغريق، لأن بنية المجتمع الماثل أمام أعينهم كانت مختلفة اختلافًا أساسيًّا عن مثيلتها في اليونان القديمة. إن المدينة الأثينية أو الأسبرطية — بتقسيمها الصارم للسكان إلى مواطنين وعبيد، واقتصادها البدائي المعتمد في أغلبه على الزراعة — لم يكن من الممكن أن تنتقل إلى مجتمع القرن السادس عشر، من دون أن تخضع لبعض التغيرات الجذرية.
وكان التغيير الأهم متعلقًا بالعمل اليدوي، فالعمل اليدوي في نظر أفلاطون كان مجرد ضرورة تقتضيها الحياة، ويجب أن يُترَك للعبيد والصنَّاع والحرفيين، بينما تشغل الفئة الخاصة نفسها بشئون الدولة. وقد أثبتت تجربة المدينة الوسيطة، على العكس من ذلك، أن الجماعة كلها قادرة على حكم نفسها من خلال النقابات الحرفية ومجالس المدن، وكانت هذه الجماعة مكونة بأكملها من المنتجين. وهكذا اكتسب العمل وضعًا مهمًّا ومحترمًا لم يفقده تمامًا مع تفكك المؤسسات الجماعية.
وفي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر فقدت المدن استقلالها بالتدريج، وبدأ ازدهارها يضمحل، وسرعان ما ساد الفقر المدقع بصفة عامة بين فئات الشعب العامل. ولكن تجربة المدن الحرة لم تضعْ هباءً؛ إذ استُوعِبت عن وعي أو غير وعي في بناء الدول المثالية.
نجحت يوتوبيات عصر النهضة على كل حال في إدخال بعض التجديدات المهمة. وكانت المدينة الوسيطة قد فشلت في أن تربط نفسها بطبقة الفلاحين، وكان هذا الفشل أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تدهورها. لقد بقي الفلاح في حالة العبودية، وعلى الرغم من أن العبودية كانت قد ألغيت في إنجلترا، فقد ظل الفلاحون في معظم البلاد الأوروبية يتحملون أوضاعًا لا تختلف في قسوتها عن نظرائهم «الهيلوت» في أسبرطة. وقد أدرك الكُتَّاب اليوتوبيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر — كما فعل القديس توما الأكويني من قبل — أن المجتمع المستقر يجب أن يحقق التكامل بين المدينة والقرية، وبين الحرفيين والفلاحين، وأن الزراعة يجب أن تأخذ وضعًا مشرِّفًا ومتساويًا مع الحرف الأخرى.
وربما كانت الأهمية التي أولتها الكتابات اليوتوبية للرعاية العلمية للأرض، قد أوحى بها نشاط الأديرة في هذا الميدان. وقد دخلت كل الأشكال الأخرى لحياة الرهبنة في تكوين المدن، كالالتزام بالجداول الزمنية الصارمة، وتناول الوجبات المشتركة، وتوحيد الزي والتقشف في الملبس، ومجموع الوقت المكرس للدرس والصلاة.
ولعل الأكثر أهمية من تجارب الماضي هو التأثير المباشر الذي أحدثته حركات عصر النهضة والإصلاح الديني على الفكر اليوتوبي. وقد كان هذا التأثير تأثيرًا مركبًا، فعلى الرغم من أن يوتوبيات توماس مور وكامبانيلا وأندريا تجسد إلى حد كبير روح عصر النهضة، فإنها تعد كذلك بمنزلة رد فعل لها.
لقد صاحب الحركة الفنية والعملية الرائعة لعصر النهضة تفكك المجتمع. فتأكيد فردية الإنسان، وتطوير ملكاته النقدية، وتوسيع نطاق المعرفة، قد عملت كلها على تدمير الروح الجماعية للعصور الوسطى، وقضت على حدة العالم المسيحي. بل إن عصر النهضة قد أدى أكثر من ذلك إلى تكوين طبقة «مثقفين» بالفصل بين العامل والتقني، والحرفي والفنان، وعامل البناء والمهندس. وبذلك ولدت أرستقراطية جديدة، لم تعتمد في البداية على الثروة والقوة، بل على الذكاء والمعرفة. وقد صرَّح يعقوب بورخارت (١٨١٨–١٨٩٧م)، وهو المدافع الفذ عن عصر النهضة، بأن هذه الحركة كانت غير شعبية، وأن أوروبا أصبحت من خلالها ولأول مرة منقسمة إلى طبقات مثقفة وأخرى غير مثقفة.
عجَّل هذا التقسيم بتفسخ المجتمع. ولم تعد القوة الصاعدة للنبلاء والملوك تكبحها رقابة المجالس الشعبية، مما أدى إلى حروب منهكة ومستمرة. وتفككت الاتحادات القديمة ولم يحل شيء محلها. وساءت ظروف الشعب بشكل متزايد حتى وصلت إلى ذلك الفقر الفظيع الذي وصفته بدقة يوتوبيا مور.
كانت يوتوبيات عصر النهضة بمنزلة رد فعل للنزعة الفردية المتطرفة في هذا العصر، كما كانت (أي اليوتوبيات) محاولة لخلق وحدة جديدة بين الأمم. ولهذا الغرض ضحت بمعظم مكتسبات عصر النهضة، فقدَّم توماس مور العالم الإنساني وراعي المصورين وصديق إرازموس، قدَّم يوتوبيا تفتقر بشكل واضح إلى الفردية، من توحيد للمنازل والملابس، إلى الالتزام بروتين العمل الصارم، وغياب المظاهر الفنية غيابًا تامًّا؛ وحلول الإنسان النمطي محل الإنسان المتفرد لعصر النهضة. وباستثناء رابليه، الذي ينفرد بوضع خاص به وحده، فإن كل الكُتَّاب اليوتوبيين، مثلهم في هذا مثل مور، شديدو البخل في السماح بالحرية الشخصية.
وإذا كانت هذه اليوتوبيات تمثل رد فعل ضد حركة عصر النهضة، فإنها أيضًا تستبق نتائجها المنطقية. لقد تم تطور الفردية عند الأقلية على حساب الأغلبية. وطبيعي أن الكاتدرائية التي يتم بناؤها وفقًا لخطة تصورها فنان واحد، تعبر بوضوح عن فرديته أكثر بكثير من كاتدرائية يتم بناؤها بالجهود المشتركة للجماعة، ولكن العمال الذي ينفذون الخطة لن تكون لديهم فرصة كبيرة لتطوير شخصياتهم.
وفي المجال السياسي انتقل أيضًا زمام المبادرة من الشعب إلى فئة من الأفراد. فقادة المرتزقة، والأمراء، والملوك، والأساقفة، هم الذين يتصرفون في شئون العدالة والحروب المأجورة، ويعقدون الأحلاف والمعاهدات، وينظمون أمور التجارة والإنتاج، أي كل المهام التي كانت تعهد للروابط والنقابات واتحادات الحرفيين أو مجالس المدن. وهكذا نجد أن النهضة التي سمحت بتطور الفرد، هي كذلك التي أوجدت الدولة التي أصبحت تقوم بإلغاء الفرد.
إن يوتوبيات عصر النهضة تحاول أن تقدم حلًّا للمشكلات التي تواجه مجتمعًا في سبيله لاستحداث شكل جديد للتنظيم.
وكما سبق أن أشار لذلك بعض الباحثين، أعطى اكتشاف العالم الجديد دفعة جديدة للفكر اليوتوبي، ولكنه لعب دورًا ثانويًّا فقط، ويمكننا أن نفترض، ونحن مطمئنون إلى هذا الافتراض، أنه لو لم يطَّلع مور على رحلات فسبوتشي، لاستطاع أن يتخيل مجتمعًا مثاليًّا له شكل مختلف، وذلك مثل كامبانيلا أو أندريا اللذين لم يكترثا بالرجوع إلى كتب الرحَّالة قبل أن يصفا مدنهما المثالية. لقد جاء الدافع الرئيسي الذي حركهم جميعًا من الحاجة إلى إحلال نظم أخرى جديدة محل الاتحادات والنظم الفلسفية والدينية للعصور الوسطى.
لقد اقتصرنا في هذا القسم على تناول الأعمال التي يمكن أن توصف بأنها دول أو تجمعات مثالية خيالية، ولم نتناول تلك الأعمال التي تعتبر، مثل جمهورية بودان، رسائل وبحوثًا عن الحكومة أو السياسة. ومع أن اليوتوبيات التالية قد تصوَّرها مفكرون تأثروا تأثرًا عميقًا بأفكار عصر النهضة، إلا أنهم، في جوانب عديدة، يختلف بعضهم عن بعض اختلافًا كبيرًا. فتوماس مور يلغي الملكية، ولكنه يُبْقي على التنظيمات الأسرية وعلى العبودية. وكامبانيلا، على الرغم من أنه كاثوليكي مخلص، يريد إلغاء الزواج والأسرة. وأندريا يستعير العديد من أفكاره من مور وكامبانيلا، ولكنه يؤمن بضرورة إصلاح ديني جديد أعمق تأثيرًا من الإصلاح الذي دعا إليه لوثر. وبيكون يريد أن يحتفظ بالمِلْكية الخاصة والحكومة الملكية، ولكنه يعتقد أن سعادة الجنس البشري يمكن أن تتحقق من خلال التقدم العلمي.
(١) سير توماس مور: «يوتوبيا»
عندما كتب سير توماس مور يوتوبياه تملَّكته لذة إيقاع قرائه في الحيرة والغموض. ويبدو أنه قد نجح بالقدر الذي يفوق توقعاته؛ لأنه حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعمائة عام على نشرها، وعلى الرغم من الشروح والتعليقات التي كُتِبت عنها، لا يزال هذا الكتاب، في رأي البعض، لغزًا عويصًا. فهل يعد عملًا ساخرًا ومسليًا فحسب، أم هل يمكن المطابقة بين أفكار مور وأفكار سكان يوتوبياه؟ إن هذه الأمور ذات أهمية أكاديمية خالصة، ولكن ربما يساعد على فهم «يوتوبيا» فهمًا صحيحًا أن نتذكر أنها كتبت في فترة انتقالية، كانت فيها حركة النهضة تؤذن بميلاد حركة الإصلاح الديني بكل ما هزها من اضطرابات اجتماعية وسياسية عميقة.
كان المأمول في تلك الفترة التاريخية إنجاز الإصلاحات الاقتصادية والدينية الملحة بالطرق السلمية. غير أن هذا الأمل تبدد بعد سنوات قليلة، واتضح أن الإصلاحات لا يمكن أن تتم إلا عن طريق العنف والصراعات المذهبية، ولم يعد في مستطاع مستشار إنجلترا الذي أدان الملحدين وحكم عليهم بالموت على المحرقة، كما قُضِيَ عليه هو نفسه أن يضحي بحياته في سبيل معتقداته الدينية — لم يعد في مستطاعه أن يتصور مجتمعًا يُراعَى فيه التسامح الديني على أوسع نطاق.
وعلى الرغم من أن مور وضع كتابه في فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة، فقد كان على وعي حقيقي بالمشكلات الاجتماعية والسياسية التي تتطلب حلًّا. ولكنه لم يكن مصلحًا عمليًّا، والحل الذي قدمه كان حلًّا منفصلًا انفصالًا كاملًا عن الواقع. كان هذا الحل بمنزلة حلم هروبي، كما كان في نفس الوقت وسيلة للسخرية من المؤسسات والحكومات التي عاش في ظلها.
إن «يوتوبيا» كتاب باحث متمكن، ويعكس قراءات مور الواسعة، ولهذا فإن المنابع التي نهل منها هذا الكتاب لا تُحصى ولا تُعد. وأكثر المؤثرات فيها وضوحًا هي أعمال أفلاطون وبلوتارك، بجانب مدينة الله للقديس أوغسطين التي ألقى عنها مور محاضرات عامة، والتي يُعتقد أنه أخذ عنها مفهوم العبودية باعتباره عقوبة ووسيلة للإصلاح وبديلًا عن عقوبة الإعدام.
إن هذه النظريات جميعًا لا تستبعد كل منها الأخرى بالضرورة. ولا تخطئ العين تأثير الكُتَّاب اليونان والرومان في يوتوبيا مور، ولا تأثير القديس أوغسطين وآباء الكنيسة الذين درسهم بجد واجتهاد قبل قيامه برحلته إلى الأراضي الواطئة. وربما قابل في أنتورب بحَّارًا أو مسافرًا سمع منه حكايات مرتبطة بإمبراطورية الأنكا أو إمبراطورية اليابان، مما أوحى له بفكرته عن شكل يوتوبياه، وتنظيمها.
وليست «يوتوبيا» نسخة من دولة أفلاطون أو دولة بلوتارك المثالية، ولا هي وصف من الدرجة الثانية لحضارة الأنكا في بيرو قبل الغزو الإسباني. إنها عمل أصيل، استطاع فيه مور أن يؤلف بين ما تعلَّمه من الكُتَّاب الكلاسيكيين، وما أدى إليه اكتشاف العالم الجديد وعصر النهضة من اتساع في الآفاق. وسواء جاء التأثير الأقوى على مور من قِبَل الفلاسفة الإغريق، أو من المعرفة غير الواضحة بنظم الحكم في حضارة الأنكا، فقد أجابت «يوتوبيا» عن كل الأسئلة والهموم التي كانت تشغل عصره وبلده.
تنقسم «يوتوبيا» إلى كتابين وضعا في أوقات مختلفة، ولكننا لا نعلم على وجه الدقة أيهما كُتِب قبل الآخر. ومن المحتمل أن يكون مور قد بدأ اكتشاف الكتاب الثاني، الذي يحتوي على وصف الدولة اليوتوبية، أثناء إقامته في الأراضي الواطئة في عام ١٥١٥م، عندما ذهب إليها عضوًا في البعثة التي أُوفِدت إلى الفلندرز لتسوية ما وصفه «بالأمور الخطيرة المتنازع عليها مع شارل المعظم ملك قشتالة». وهناك قابل بيتر جيلز، صديق ومضيف إرازموس من حوالي (١٤٦٦–١٥٣٦م) الذي جمعته به الصداقة الوطيدة وأهدى له «يوتوبيا».
وعلى الرغم من السعي المخلص لإرازموس لتقديم كتاب مور إلى الباحثين الأوروبيين الذين كان على اتصال بهم، فيبدو أنه لم يكن راضيًا عنه كل الرضا. ولذلك اكتفى بتزويد الطبعة الثالثة بمقدمة تحولت فيها شكوكه إلى مجاملة رقيقة: «لقد أسعدتني دائمًا كتابات صديقي مور، لكن صداقتي الحميمة كانت تجعلني أسيء الظن بأحكامي. ولكنني أرى الآن أن جميع المثقفين بلا استثناء يؤيدون رأيي، بل إنهم يفوقونني في تقدير عبقرية الرجل الفذة — ولا يرجع هذا إلى زيادة حبهم له على حبي، بل إلى أنهم أكثر مني فطنة واستنارة — وإني لأميل الآن إلى تأييد حكمي عليه ولن أتردد في المستقبل عن التعبير عن رأيي.»
كان مور وإرازموس على اتفاق في وجهات نظرهما حول قضايا عديدة. فكلاهما مؤمن بضرورة إصلاح الكنيسة إصلاحًا ليبراليًّا وإنسانيًّا بعيدًا عن الانقسامات المذهبية، وكلاهما معجب بالفلسفة اليونانية إعجابًا شديدًا وكاره للمذاهب المدرسية، وقد هاجم كلاهما السلطة المستبدة لرجال الدين ونظام الحكم الملكي، كما آمنا بضرورة تخلي الإنسان عن أنانيته وشهواته وتكبُّره قبل التفكير في إيجاد المجتمع الأفضل. ولكن من المستبعد أن يكون إرازموس قد انجذب إلى «شيوعية الدولة» عند مور. فقد أثار في بعض أقواله الحكيمة هذا السؤال: «هل ينبغي علينا حرمان الأغنياء من ثرواتهم؟» وأجاب عليه قائلًا: «لا، لأن كل الثروات تعوزها التقوى. إنني أريد منهم أن يتخلصوا بأنفسهم من ثرواتهم، أو على الأقل أن تنزع عنهم ثرواتهم ويظلوا مالكين لها وكأنهم لم يملكوها أبدًا.» وهذا يمثل الموقف المسيحي التقليدي من المِلْكية، وإرازموس لا يزيد على أن يكون مجرد صدًى للآباء المسيحيين. وكذلك أراد مور «تغييرًا في القلب»، ولكنه آمن بأنه إذا أمكن تغيير المؤسسات عن طريق بعض المشرعين فإن ذلك سوف يعجِّل بالتقدم الأخلاقي للبشرية.
ويرجح أيضًا ألا يكون إرازموس قد انجذب لمجتمع مور المنظم تنظيمًا دقيقًا صارمًا، فهو مجتمع تُشتَم منه رائحة الأديرة بقوة، هذه الأديرة التي كتب (أي إرازموس) ضدها أكثر صفحاته قسوة. وإذا كان قد عارض الحياة المنظمة بشكل مصطنع، قد اعترض بنفس القوة على حرمان الإنسان من غرائزه وعواطفه الطبيعية لتحويله إلى آلية عقلية. إن رجال مور المثاليين هم بشر غير إنسانيين بتاتًا، لأنهم غير قادرين على الإحساس بأي مشاعر، غير تلك التي تمليها عليهم قوانين معينة، أو لأنهم ممنوعون من ذلك، إنهم جميعًا يشبهون ذلك «الرجل الحكيم» الذي سبق أن سخر منه إرازموس في كتابه مدح الحماقة:
ويتضمن «مدح الحماقة» فقرات عديدة تدل على أن إعجاب إرازموس بأفلاطون لم يعمِ عينيه عن فلسفته التسلطية، وهي الفلسفة التي قبلها مور من ناحيته قبولًا شبه تام.
ويعدُّ الكتاب الأول من «يوتوبيا»، إلى حد ما، وصفًا للظروف التي سادت إنجلترا في بداية القرن السادس عشر، ولكنه في الأساس مناقشة لمشكلتين شغلتا عقل مور في ذلك الوقت. كانت المشكلة الأولى مشكلة شخصية: هل ينبغي عليه الالتحاق بخدمة الملك، والأعم من هذا، هل ينبغي على الفلاسفة مساعدة الملوك بنصائحهم وخبراتهم، وبذلك يسعون لمصلحة الدولة؟ وتتعلق المشكلة الأخرى بإصلاح نظام العقوبات. فقد كان مور، من خلال عمله محاميًا على معرفة وثيقة بالإجراءات المتبعة في إدارة شئون العدل، ولا بد أن الإفراط في تطبيق عقوبة الموت حتى على جرائم السرقة التافهة سبَّب له معاناة شديدة. لقد رأى أن هذه العقوبة أبعد ما تكون عن منع الجرائم التي تُرتَكب في حق الملكية، بأن هذه الجرائم في تزايد مستمر كل يوم ومن الطبيعي أن يجد من واجبه أن يبحث عن وسيلة أفضل للتصرف معها.
وبدلًا من توفير سبل كسب العيش لأفراد الشعب، فإن الرجال الذين يعودون من الحرب مشوَّهين ومعوقين أو عاجزين عن العمل بسبب التقدم في العمر، نجدهم مجبرين على السرقة والاستجداء، أو على التعرض للجوع، والنبلاء بدورهم، ليسوا أفضل حالًا من الدولة في الوفاء بالتزاماتهم تجاه أولئك الذين خدموهم:
إن هذه الفقرة تكاد تحمل طابع النبوءة، على الرغم من أن توماس مور لم يستطع أن يتنبأ بأن الملك هنري الثامن سيعامله بصورة تفوق في جحودها، حسب الرواية المعروفة، معاملة ديونيسيوس لأفلاطون. وهي كذلك فقرة مهمة لأنها يمكن أن تقودنا للاعتقاد بأن الدولة المثالية ليوتوبيا ينبغي أن يحكمها فلاسفة، ولكن هذه الفكرة لم تطور في الجزء الثاني من الكتاب، كما يبدو أنها تدل على أن تصور مور للدولة المثالية قد طرأ عليه التغير في الفترة التي تفصل بين تأليف الكتابين.
ويواصل هيثلوداي شجبه لولع الملوك بالحروب التي يخوضونها بطريقة تفتقر للأمانة، وذلك بعدم احترامهم للمعاهدات، وتحصيلهم للأموال بناءً على ادعاءات زائفة وعن طريق غش العملة في بلادهم، فضلًا عن لجوئهم إلى الدسائس والرشوة. ويمكن أن يجد الفيلسوف نفسه مضطرًّا إلى توجيه اللوم إلى الملك بسبب هذه الأعمال، ولو فعل هذا فسوف يطرد على الفور. ويظل مور على عدم اقتناعه، ويصر على أن الفيلسوف، إذا كان سياسيًّا ماهرًا، يمكنه أن يؤثر بعض التأثير في الأمراء. وتدفع هذه الحجة هيثلوداي إلى الكشف عن فكرته بأكملها؛ فالملوك لا يحتاجون فحسب إلى أن يكونوا فلاسفة صالحين لكي يحكموا حكمًا سديدًا، وإنما يجب تغيير بناء المجتمع برمته:
«إذا ما كنت لأعبر لك بصدق عن مشاعري القلبية، فإنه يبدو لي أنه حيثما وجدت الملكية الخاصة، وكان المال هو المعيار الذي يقاس به كل شيء، فيكاد يكون من المستحيل تقريبًا أن يسود المجتمع العدل أو الرخاء، إلا إذا حسبت أن العدل قائم حيث تتدفق أفضل الأشياء إلى أيدي أسوأ المواطنين، أو أن الرخاء يسود حيث تتقاسم قلة قليلة منهم كل شيء، وحتى هذه القلة لا تحقق درجة كبيرة من الثراء، في حين يعيش الباقون في شقاء تام. ولذا فطالما يجول بخاطري نظم اليوتوبيين البالغة الحكمة والقدسية، حيث تدبر الأمور تدبيرًا سويًّا عن طريق عدد صغير جدًّا من القوانين، وتنال الفضيلة جزاءها. ومع ذلك فنظرًا لعدالة التوزيع، يتمتع الجميع بالوفرة في كل شيء. ومن ناحية أخرى أقارن بين سياستهم وسياسة الشعوب الكثيرة في الأماكن الأخرى التي لا تكف عن إصدار القوانين، ومع ذلك فلا تحقق إحداها الحياة الصالحة، وحيث يسمي كل رجل كل ما يحصل عليه ملكًا خاصًّا له، ومع ذلك لا تكفي جميع هذه القوانين التي تصدر يوميًّا ليحتفظ المرء أو يدافع عن — أو حتى يفرق بين — ما يخصه وما يخص شخصًا آخر، وما يدعي كل بدوره أنه يخصه، وليس أدل على ذلك من تلك القضايا التي لا حصر لها، والتي تتجدد يوميًّا، ولا تنتهي أبدًا، أقول إني عندما أتأمل هذه الحقائق، أصبح أكثر تحيزًا لأفلاطون وأقل دهشة لرفضه وضع القوانين لأولئك الذين رفضوا تلك التشريعات التي منحت الجميع أنصبة متساوية من جميع السلع.
لقد أدرك هذا الفيلسوف الحكيم مقدمًا وبسهولة أن الطريق الوحيد الذي لا يوجه سواه لتحقيق الرفاهية للجميع هو تحقيق المساواة في جميع الأمور. وأشك في أن هذا يمكن مراعاته حيث تعد ممتلكات الفرد ملكًا خاصًّا له. فعندما يهدف كل إنسان إلى الملكية المطلقة لكل ما تصل إليه يداه، فمهما عظمت كمية السلع، فإنها تقسم بين حفنة من الناس ويُترك الباقون في فقر وعوز. وغالبًا ما يحدث أن هذه الطبقة الأخيرة تستحق ما تتمتع به الأخرى من ثراء، فالأغنياء جشعون، لا ضمير لهم، ولا فائدة منهم، بينما الفقراء حسنو السلوك، مهذبون، بسطاء، وأكثر نفعًا للدولة بعملهم اليومي عنهم لأنفسهم. وإني مقتنع تمام الاقتناع بأنه لن يمكن إجراء تقسيم عادل ومتساوٍ للسلع، ولا أن تتحقق السعادة في الحياة الإنسانية ما لم تلغَ الملكية الخاصة تمامًا. فما دامت باقية فسيظل الجزء الأكبر بكثير، والأفضل بكثير من الجنس البشري مثلًا دائمًا بعبء ثقيل لا مفر منه من الفقر. أعترف بأنه من الممكن تخفيف هذا العبء بعض الشيء، ولكني أنكر أنه من الممكن التخلص منه تمامًا.
فقد يصدر قانون يقضي بألا يملك شخص أكثر من قدر معين من الأرض. وألا يكون لأي رجل دخل من المال يزيد على ما يحدده القانون. وقد تصدر تشريعات خاصة تحول بين الملك وزيادة سيطرته، والأغنياء وزيادة جشعهم، وتقضي أيضًا بألا يكون الحصول على الوظائف العامة بالهدايا والوساطة، وألا تُباع وتُشترى، وألا تحمل شاغليها تكاليف شخصية باهظة (وإلا فسيكون الإغراء قويًّا لأن يسترد الشخص هذه التكاليف عن طريق النصب والنهب، وأن يُعيِّن بالضرورة لهذه الوظائف الأغنياء من الرجال بدل أن يشغلها الحكماء منهم).
ويعترض مور قائلًا: «لا يمكن للبشر أن يعيشوا عيشة راضية إذا كانت كل الأشياء مشاعًا بينهم.» ويرفض جيلز أن يصدق «أن أي أمة في ذلك العالم الجديد، يسودها نظام حكم أفضل من النظام السائد بيننا»، ولكي يثبت هيثلوداي فكرته نجده يشرع في وصف دولة يوتوبيا الحكيمة المزدهرة.
ويبدأ الكتاب الثاني بوصف الجزيرة ومدنها:
ومما يقال ويدل عليه مظهر الجزيرة، أنها لم تكن في وقت من الأوقات محاطة بالبحر. ولكن الملك يوتوبوس الفاتح الذي تحمل الجزيرة اسمه (بعد أن كانت تُدعى أبراكسا حتى ذلك الوقت) والذي حوَّل ذلك الشعب الفظ البدائي إلى هذه الدرجة من الحضارة والإنسانية التي تجعلهم الآن أرفع شأنًا من جميع من عداهم من بني البشر تقريبًا، أحرز النصر بمجرد نزوله إلى اليابس. ثم أمر بحفر مسافة خمسة عشر ميلًا على الجانب الذي ترتبط عنده البلاد بالقارة وجعل البحر يجري حول البلاد.
إن المدن تتشابه تشابهًا مملًّا، والعاصمة أموروت نسخة محسنة من مدينة لندن. ويدل الوصف التالي على الاهتمام الشديد بإصلاح أحوال المدن:
«أما المدن فمن يعرف واحدة منها يعرفها جميعًا، فكلها متشابهة بقدر ما تسمح به طبيعة المكان. ولذا سأصف لكم واحدة فقط (ولا يهم كثيرًا أيها)، ولكن هل يوجد أجدر بذلك من أموروت؟ أولًا لأنه ما من مدينة أخرى أكثر جدارة منها، ولأن المدن الأخرى تعترف لها بالرئاسة لأنها مقر اجتماع المجلس القومي أو دار الشورى، وثانيًا لأني أعرفها أكثر من غيرها من المدن، لأنها المدينة التي عشت فيها خمس سنوات كاملة.
وتقع أموروت على سفح جبل قليل الانحدار، وهي مربعة الشكل تقريبًا. ويبلغ عرضها حوالي ميلين ابتداءً من نقطة أسفل قمة الجبل بقليل ثم على امتداد نهر الأنايدر، أما طولها بمحاذاة النهر فيزيد قليلًا على عرضها … ويصل المدينة بالجانب الآخر للنهر جسر أقيم لا من الأعمدة أو الكتل الخشبية بل من الأحجار، وله أقواس فخمة، ويقع في أبعد جزء من المدينة عن البحر، حتى تمر السفن بمحاذاة كل هذا الجزء من المدينة دون عائق. وهناك أيضًا نهر آخر، ليس كبيرًا جدًّا، ولكنه هادئ لطيف، وينبع من نفس الجبل الذي بُنيت عليه المدينة وينحدر إلى وسطها حيث يصب في نهر أنايدر. وقد أحيط منبع هذا النهر ورأسه، الذي يقع على مسافة قريبة خارج المدينة بأسوار متينة، خشية أن يقوم الأعداء في حالة هجوم معادٍ، بقطعه أو تحويل مياهه أو تسميمها. ومن هذه النقطة توزع المياه عن طريق قنوات مصنوعة من الآجر إلى الأجزاء المختلفة من الجزء الأسفل من المدينة. وحيث لا تسمح طبيعة الأرض بذلك، تجمع مياه الأمطار في خزانات كبيرة وتؤدي نفس الغرض.
ويحيط بالمدينة سور عالٍ عريض أقيمت عليه القلاع والأبراج على مسافات متقاربة، ويحيط بثلاثة جوانب من السور خندق جاف عميق عريض زُرعت به الشجيرات الشوكية لتعيق المرور، أما على الجانب الرابع فيقوم النهر ذاته مقام الخندق. والطرق مهيأة جيدًا للمرور وللوقاية من الرياح على حد سواء. أما المباني فأبعد ما تكون عن الضآلة والتواضع ومقامة بعضها بجانب بعض في صفٍّ طويل، يستمر طوال الشارع ويقابله صف آخر على الجانب المواجه. ويفصل بين واجهات المنزل المتقابلة شارع عرضه عشرون قدمًا. وخلف المنازل، وعلى طوال الشارع، حديقة فسيحة تحيط بالجوانب الخلفية للمباني من جميع الجهات. ولكل منزل بابان. يؤدي أحدهما إلى الطريق، والآخر إلى الحديقة. وبالإضافة إلى ذلك، فهذه الأبواب، التي تفتح وتقفل تلقائيًّا بمجرد أن تلمسها اليد، تسمح لأي شخص بالدخول. ونتيجة لذلك لا يوجد ما يعد ملكًا خاصًّا في أي مكان. وبالفعل، يتبادل اليوتوبيون بيوتهم كل عشر سنوات عن طريق القرعة.
ولا يزيد عدد أفراد العائلة في المدن على سبعة عشر فردًا، ولكن عندما يرسل بعض أفرادها للعمل في الريف فإنهم يلحقون بمنازل ريفية لا يقل عدد أفرادها عن الأربعين:
«توجد في جميع أنحاء المناطق الزراعية منازل ريفية مزودة بجميع أنواع الأدوات الزراعية. ويسكنها المواطنون الذين يجيئون للإقامة بها بالتناوب. ولا تضم أي أسرة ريفية في البلاد أقل من أربعين فردًا من الرجال والنساء، بالإضافة إلى اثنين من العبيد الملحقين بالأرض. والجميع تحت رعاية رب الأسرة وربتها. وكلاهما شيخان وقوران. ولكل مجموعة من ثلاثين أسرة رئيس يدعى فيلارك.
وتتوثق العلاقة الحميمية بين المدينة والريف عن طريق التبادل الحر للبضائع والنزوح الدوري للمواطنين إلى الريف عندما يتطلب العمل ذلك:
وجزيرة يوتوبيا بأكملها عبارة عن اتحاد فيدرالي مكوَّن من المدن والريف المحيط بها:
ويتكون عدد سكان كل مدينة من حوالي مائة ألف نسمة، يقسمون لأغراض انتخابية وإدارية، إلى أربعة قطاعات، كما ينقسم كل قطاع إلى مجموعات مكونة من ثلاثين أسرة. وتنتخب كل ثلاثين أسرة سنويًّا حاكمًا لها تطلق عليه اسم السيفوجرانت. وكل عشرة سيفوجرانت بعائلاتهم يحكمهم ترانيبور يُنتَخب سنويًّا ولا يُغيَّر إلا لسبب معقول. والمجموع الكلي للسيفوجرانت، الذين يبلغ عددهم مائتي فرد ويشكلون نوعًا من مجلس الشيوخ، يعين أمير المدينة من أربعة أشخاص سبق أن رشحهم الشعب، ويحتفظ الأمير بمنصبه مدى الحياة، ما لم يُشَك في نيته أن يصبح طاغية. ويساعد الأمير مجلس أو هيئة مؤلفة من عشرين ترانيبور أو اثنين من السيفوجرانت:
والأسرة في «يوتوبيا» ليست فقط هي الوحدة السياسية وإنما هي أيضًا الوحدة الاقتصادية للمجتمع:
«لما كانت المدينة تتكوَّن من أسر، فالأسرة تتكون من أولئك الذين تربط بينهم رابطة الدم. فالفتيات، عندما تكتمل أنوثتهن ويتزوجن، يذهبن إلى بيوت أزواجهن، أما الأبناء الذكور، ثم الأحفاد، فيبقون في الأسرة ويخضعون لأكبر الآباء سنًّا، إلا إذا شاخ وخرف، وفي هذه الحالة يخلفه من يليه سنًّا. وحتى لا يزيد عدد سكان المدينة أو ينقص عن الحد المعين، فمن المقرر ألا ينقص عدد البالغين في كل أسرة عن عشرة أو يزيد على ستة عشر، وهناك ستة آلاف أسرة في كل مدينة، فيما عدا الأراضي المحيطة بها. أما فيما يتعلق بالأطفال تحت السن المحددة، فليس هناك عدد محدد، بالطبع. ويمكن مراعاة هذا الحد بسهولة عن طريق نقل أولئك الذين يزيدون على العدد المحدد في العائلات الكبيرة إلى تلك التي تقل عنه …
ويباشر جميع السكان، مع الاستثناءات القليلة التي ذكرناها بالفعل، حرفة نافعة، ولا يعود العمل عبئًا ثقيلًا عليهم بعد تخفيض ساعات العمل والسماح بفترة كافية لوقت الفراغ:
«وإلى جانب الزراعة، التي يشترك فيها الجميع، يتعلم كل منهم حرفة معينة خاصة به. وهذه عادة إما نسج الصوف أو الكتان، وإما البناء أو صناعة المعادن أو النجارة. وأما بخلاف ذلك فلا توجد أعمال يقوم بها عدد يذكر …
وغالبًا ما يتعلم الشخص صناعة أبيه، التي يميل إليها ميلًا طبيعيًّا، أما إذا استمالته صناعة أخرى، فإنه ينقل بالتبني إلى أسرة تزاول تلك الصناعة التي يميل إليها. ولا يحرص والده فقط، بل السلطات المعنية أيضًا على أن يوضع تحت إشراف رب أسرة وقور شريف. نعم، وإذا رغب شخص، بعد أن يتعلم حرفة معينة، في أن يتعلم حرفة أخرى، سُمِح له بذلك. أما وقد تعلم الحرفتين، فله أن يمارس الحرفة التي يختارها، ما لم تكن المدينة بحاجة إلى واحدة منهما أكثر من الأخرى.
أما الوظيفة الرئيسية والوحيدة تقريبًا لرؤساء المدينة أو السيفوجرانت، فهي أن يعملوا ويدبروا أمر المدينة بحيث لا يبقى رجل عاطلًا، بل يمارس كلٌّ عمله بجد، ومع ذلك لا يرهق مثل دواب الحمل بالعمل المستمر، من الصباح المبكر حتى وقت متأخر من الليل. فمثل هذه الحياة أسوأ من حياة العبيد، ومع ذلك فتكاد تكون هي حياة العاملين في كل مكان، ما عدا يوتوبيا. أما اليوتوبيون فيقسمون اليوم إلى أربع وعشرين ساعة متساوية، يخصصون ست ساعات منها فقط للعمل: ثلاث ساعات قبل الظهر، يذهبون بعدها لتناول الغداء، ويستريحون ساعتين بعد الغداء، ثم يعاودون العمل ثلاث ساعات أخرى يتناولون بعدها العشاء. ولما كانت الساعة الواحدة تحسب ابتداء من الظهر، فهم يخلدون إلى النوم حوالي الساعة الثامنة، ويخصصون ثماني ساعات لذلك.
وهنا يتنبأ مور باعتراضات كثيرة يمكن أن تثار احتجاجًا على تخفيضه لساعات يوم العمل، ويشرح كيف يتم ذلك بحجج تبين بوضوح أن فكرته ليست يوتوبية:
ويمكن تخفيض ساعات العمل، ليس عن طريق توزيع العمل بصورة أكثر عدلًا ومساواة فحسب، بل بتجنب تبديد طاقة العمل:
وهناك كذلك نوع من التقشف تدعو إليه الضرورة، فلا يستطيع المرء أن ينعم بوقت الفراغ أن ينغمس في نفس الوقت في الإسراف في الملذات:
لقد رأينا أنه لا توجد بالفعل ملكية خاصة في يوتوبيا، لا نقود ولا أجور، فكل فرد يتسلم ما يحتاج إليه. وهنا يستبق مور مرة أخرى الاعتراضات الحتمية التي يمكن أن تثار ضد نظام كهذا، ويؤكد أن الشعور بعدم الأمان الاقتصادي هو الذي يدفع الناس إلى تكديس كميات من البضائع الصالحة للاستعمال بأكثر مما يحتاجون إليه بالفعل:
لقد استبعد بناة الدول المثالية اليونانية المؤسسات الأسرية بوصفها مضادة لوحدة الدولة. وكان توماس مور «رب أسرة» أكثر بكثير من أن يتقيد برأي أثينا أو أسبرطة، ولكن لا بد أن يكون قد أدرك خطر الأسرة اليوتوبية، التي يرجع تماسكها إلى سلطة العضو الأكبر فيها والعمل المشترك بين أفرادها على تجانس الجماعة. ورغبته في تجنب هذا الخطر هي التي حملته على إدخال نظام الوجبات المشتركة، وإن لم يجعلها إجبارية كما فعل ليكورجوس. ويلاحظ فيما يتعلق بهذه الوجبات أن مور يلطف بعض الشيء من صرامة مبادئ التقشف التي كان يقول بها:
«تجتمع الأسر الثلاثون أو السيفوجرانت كلها في الساعات المحددة للغداء والعشاء، يدعوها لذلك صوت نفير نحاسي، فيما عدا أولئك الذين يتناولون وجباتهم إما في المستشفيات وإما في بيوتهم. ولا يمنع أي شخص بعد أن يقدم الطعام للقاعات، من أن يأخذ طعامه إلى بيته من السوق، فهم يعرفون أن أحدًا لن يفعل ذلك دون سبب معقول؛ لأنه بالرغم من أنه لا يمنع شخص من تناول الطعام في بيته، فإنه لا يوجد شخص يفعل ذلك راضيًا، إذ لا يعد هذا السلوك سلوكًا سويًّا، ولأنه من الحماقة أن يتجشم المرء مشقة إعداد وجبة رديئة، بينما هنا وجبة ممتازة شهية معدة جاهزة في القاعة القريبة منه …
ويجلس الأفراد إلى ثلاث موائد أو أكثر تبعًا لعدد الجماعة. ويجلس الرجال وظهورهم إلى الحائط، أما النساء فيجلسن على الجانب الخارجي حتى إذا ما ألم بهن ألم أو قيء، كما يحدث أحيانًا في حالة الحوامل من النساء، أمكنهن القيام دون إزعاج لأحد، والذهاب إلى المربيات. أما المربيات فيجلسن وحدهن مع الأطفال في حجرة للطعام مخصصة لهذا الغرض، لا تخلو في أي وقت من الأوقات من مدفأة وكمية من الماء النقي ومن المهود. وهكذا يمكن للنساء أن يُرْقِدن أطفالهن.
وفي الأماكن المخصصة للمربيات يوجد جميع الأطفال حتى سن الخامسة. أما بقية الأطفال والشباب من كلا الجنسين ممن هم دون سن الزواج، فإما أن يقوموا بتقديم الطعام، وإما أن يقفوا بالقرب من الموائد في سكون تام، إن لم تتوافر لهم السن اللازمة أو القوة اللازمة. ويأكل أفراد كل من المجموعتين ما يقدم لهم على المائدة وليس لهم وقت آخر لتناول الطعام.
ويجلس الرئيس أو السيفوجرانت وزوجته وسط المائدة الرئيسية، وهو أعلى الأماكن، ومنه يتسنى لهما رؤية الجماعة كلها، إذ تقع هذه المائدة في وضع أفقي في الطرف البعيد لحجرة الطعام. وبجوارهما يجلس اثنان من أكبر الموجودين سنًّا، إذ يجلس دائمًا كل أربعة إلى مائدة. أما إذا كان هناك مكان للعبادة في المنطقة أو السيفوجرانتية، فيجلس الكاهن وزوجته مع السيفوجرانت ويرأس هو المائدة. وعلى الجانبين يجلس بعض الشباب، ثم بعض الشيوخ مرة أخرى، وهكذا في جميع أنحاء الدار، يجلس من هم في نفس السن معًا، ولكنهم يختلطون مع من يختلفون عنهم في السن. ويقولون إن السبب في هذا النظام هو أن يحول سلوك الشيوخ الوقور المحترم بين الشباب وبين إباحية الحديث أو السلوك، فمن المستحيل أن يوضع شيء على المائدة أو يقال شيء دون أن يلاحظه الشيوخ في كل جانب. ولا تقدم صحاف الطعام بانتظام ابتداءً من المائدة الأولى تليها ما بعدها، بل تُقدَّم أولًا إلى جميع الشيوخ الجالسين في أماكن بارزة. ثم تقدم أجزاء متساوية إلى الباقين. ويقتسم الشيوخ كما يرون، جزءًا من أطايب طعامهم مع مَن يجلسون إلى جوارهم، عندما لا يتوافر في الدار ما يكفي منها للجميع. وهكذا ينال الشيوخ ما يستحقون من تكريم، ومع ذلك يحصل الجميع على نفس القدر من الاهتمام.
ولم يكتفِ اليوتوبيون بإلغاء النقود والتجارة في التعامل فيما بينهم، بل نجحوا أيضًا في تجريد الذهب والفضة والأحجار الكريمة من سحرها وقوتها المفسدة، واخترعوا طريقة فذة تمكنهم من الحفاظ عليها واستعمالها أحيانًا في التجارة مع الدول الأجنبية، دون أن يضفوا عليها أي قيمة، حتى إنهم نظروا إليها باحتقار:
وكما يُتَوقَّعُ من دولة تؤدي فيها الأسرة مثل هذا الدول المهم، فقد روعي الحرص الشديد على استقرار الزواج بقدر الإمكان، وعلى الرغم من السماح بالطلاق فإن مرتكبي جريمة الزنا يعاقبون بفرض العبودية عليهم، وأحيانًا الإعدام:
«لا تتزوج المرأة قبل الثامنة عشرة من العمر. ولا يتزوج الرجل إلا بعد ذلك بأربع سنوات. فإذا أُدين رجل أو امرأة بالمعاشرة سرًّا قبل الزواج، عوقب الاثنان أشد عقاب، وحُظر عليهما الزواج حظرًا تامًّا، ما لم يعفُ الحاكم عن جرمهما، وفضلًا عن ذلك فإن كلا ربي الأسرة اللتين يُرتَكب فيهما هذا الخطأ يركبهما العار؛ لأنهما أهملا القيام بواجباتهما. ويُعاقَب هذا الخطأ بهذه القسوة لأنهم يعرفون مسبقًا أنه ما لم يتوخَّ الحرص في منع الأشخاص من هذه المخالطة غير المقيدة، فلن ترتبط إلا القلة برباط الزواج، الذي يجب أن يقضي الشخص بمقتضاه الحياة برفقة شخص واحد، ويتحمَّل بصبر جميع المتاعب المرتبطة به.
وعند اختيار شريك الحياة يراعون بكل جدية وحرص عادة بدت لي غاية من الحماقة والسخف، ذلك أن سيدة وقورًا محترمة ترى المرأة، سواء كانت عذراء أم أرملة، عارية لراغب الزواج، كما يقدم رجل عاقل راغب الزواج عاريًا كذلك أمام الفتاة. لقد ضحكنا كثيرًا لهذه العادة وحكمنا عليها بأنها عمل أحمق. أما هم فقد عجبوا، من الناحية الأخرى، من حماقة جميع الشعوب الأخرى. فعندما يشترون مهرًا، حيث لا يتطلب الأمر إلا القليل من المال، يتوخَّى الشخص كل هذا الحرص، بحيث إنه بالرغم من أن المهر يكاد يكون عاريًا تمامًا، فإنه لا يشتريه إلا إذا رفع عنه السرج وغيره من الأغطية، خوفًا من أن يكون مصابًا بمرض جلدي تخفيه هذه الأشياء. ومع ذلك فعندما يختارون زوجة، وهو عمل سيكون فيه سرورهم أو شقاؤهم طوال الحياة، يبلغ بهم الحرص درجة تجعلهم يحكمون على المرأة، وجسمها كله تقريبًا مغطًى بالملابس، بما لا يكاد يزيد على مساحة الكف منها، إذ لا يرى الرجل منها سوى الوجه، ويرتبط بها معرِّضًا نفسه لخطر عظيم إن لم يتفقا معًا إذا اكتشف بعد ذلك شيئًا منفِّرًا. فليس جميع الرجال من الحكمة بحيث يهتمون فقط بخلق المرأة، وحتى في زواج الحكماء من الرجال لا تعد محاسن الجسد إضافات هينة إلى فضائل العقل. فمن المؤكد أن تلك الملابس قد تخفي تحتها تشويهًا كريهًا قد ينفِّر الرجل تمامًا من زوجته، ذلك في الوقت الذي لم يعد الانفصال الجسدي أمرًا مسموحًا به. أما إذا حدث هذا التشويه بعد أن يتم الزواج، فمن واجب كل شخص أن يرضى بقدره، أما قبل الزواج فعلى القانون أن يحمي الشخص من أن يقع في شرَك عن طريق الغش والخداع.
ومع ذلك قد يحدث أحيانًا ألا تتفق طباع زوجين بدرجة كافية، ويجد كل من الزوجين شخصًا آخر يأمل أن يعيش معه حياة أسعد، ولذا ينفصلان بموافقة كل منهما، ويدخلان في ارتباطين جديدين، ولكن لا بد لهما من موافقة المجلس. أما المجلس فلا يسمح بأي طلاق قبل أن يبحث أعضاؤه وزوجاتهم الأمر بعناية. وحتى بعد ذلك فإنهم لا يرحبون بالموافقة على الطلاق لأنهم يعلمون أن عائقًا سيقف في سبيل توثيق عرى الحب بين الزوج وزوجته، إذا كان هناك أمل في زواج جديد سهل.
ولا بد أن مور كان سيئ الظن بتعقيدات النظام التشريعي والحيل التي كان يلجأ إليها المحامون، إذ نجده يتصرف معهم بأسلوب يتسم بالحدة والعنف:
«وليس لديهم سوى القليل جدًّا من القوانين، فالأشخاص الذين ربوا بهذه الطريقة لا يحتاجون إلا إلى القليل جدًّا منها. والخطأ الأساسي الذي يأخذونه على الشعوب الأخرى هو أن كتب القانون والتفسيرات التي لا حصر لها تقريبًا لا تكفيهم. أما هم فيرون أنه ليس من العدل في شيء أن جماعة من الناس تُفرَض عليها قوانين إما أنها أكبر عددًا من أن تُقرَأ كلها، وإما أنها أكثر غموضًا من أن يفهمها أي شخص.
أظهرنا حتى الآن الجانب المشرق للحياة في يوتوبيا. فإلغاء الملكية والأجور، والربط العقلاني المتكامل للزراعة مع الصناعة، وتخفيض ساعات العمل، والفرص الممنوحة للتوسع في الدراسة، ربما تثير إعجابنا إلى حدٍّ كبيرٍ. ولكن ربما يكون من الصعب علينا أن ننجذب إلى الجدول الزمني الصارم الذي يتحكم في أوقات العمل ووقت الفراغ والنوم، إذ كيف يمكن — كما يقول رابليه — «أن يكون هناك تخريف أفظع من تسيير حياة الإنسان وتوجيهها على دقات جرس، لا على أساس حكمة الشخص وتمييزه؟» ومن الصعب أيضًا أن تلائم أذواقنا الحديثة القوانين التي تتحكم في الزواج، كما أن من حق النساء أن يترددن أمام فكرة «طاعة الأزواج وخدمتهم» بوصفها لا تعبر تعبيرًا دقيقًا عن فكرتهن حول اليوتوبيا.
وتتضمن يوتوبيا مور، فضلًا عن ذلك، بعض الملامح والسمات التي تسبب المزيد من الصدمات. وهناك طبقة العبيد التي لا تقارن في الواقع بمثيلتها في دولة ليكورجوس من حيث الكثرة أو قسوة المعاملة، إلا أنها نظام قائم على كل حال. ومع أن العمل لا يُلقَى على عاتق العبيد وحدهم، فالجماعة بأكملها تُكلَّف بنوع من أنواع العمل النافعة، إلا أن المواطنين الأحرار يعفون مما يصفه مور «بالعمل القذر». ولا يشكل طبقة مغلقة كما في بلاد اليونان القديمة، ولكنهم يجندون بالطريقة التالية:
«لا يصبح أسرى الحرب عبيدًا، إلا إذا أُسِروا في معارك خاضها اليوتوبيون أنفسهم، كما لا يصبح أبناء العبيد عبيدًا، ولا أبناء أي شخص آخر كان عبدًا عندما أُحضر من بلد أجنبي. فالعبيد عندهم، إما أولئك الذين حُكم عليهم بأن يصبحوا عبيدًا في بلادهم عقابًا على جرائم منكرة ارتكبوها، وإما أولئك المحكوم عليهم بالموت في مكان آخر عقابًا على خطأ ما. وينتمي العدد الأكبر إلى النوع الثاني. ويجلبون منهم الكثيرين، يشترونهم بأثمان بخسة أحيانًا، ويحصلون عليهم دون مقابل أحيانًا أخرى. وهم لا يلزمون هذا النوع من العبيد بالعمل الدائم فحسب، بل بالبقاء موثقين بالأغلال أيضًا. أما العبيد من أبناء بلدهم فيعاملونهم بقسوة أشد، لأن سلوكهم يعد أكثر إثارة للأسى وأكثر استحقاقًا للعقوبة الصارمة كمثل رادع، لأنهم، وقد رُبُّوا تربية ممتازة في ظل حياة فاضلة، لم يتسنَّ منعهم من الإجرام.
وإذا كانت عقوبة الإعداد لا توقع إلا نادرًا في يوتوبيا، فإن ذلك يرجع لأسباب نفعية أكثر منها إنسانية أو أخلاقية:
ومن المدهش، إزاء المزايا الواضحة التي يكفلها هذا الأسلوب في التعامل مع العبيد، من وجهة نظر الحكومات، أنه لم يطبق على نطاق واسع إلا في عصرنا الحاضر. فالواقع أن التوسع في تطبيقه والنتائج التي تمخضت عنه لم تكن لتخطر على بال مور نفسه. فجيوش العبيد، التي تصل أعدادها إلى مئات الألوف، قد بنت في العشرين سنة الأخيرة قناة البحر البلطيقي، ومدت خطوط سكك حديد سيبريا، وأقامت منشآت هندسية في قلب سيبريا، وحفرت مناجم اليورانيوم، وشيدت المصانع تحت الأرض، وبالجملة أنجزت أعمالًا خارقة يبدو بناء الأهرام بالقياس عليها أشبه بلعب الأطفال. وقد أثبتت التجربة، على كل حال، أن هذا الأسلوب يمثل أخطارًا محققة، فعمل العبيد زهيد الأجر، لأن من الميسور إجبارهم على تناول طعام لا يشبع الجوع والعيش في ثكنات مزدحمة، كما لا تخفى مصلحة الحكومات في إنجاز هذا العمل في ظروف لا يُتَصور أن يقبلها إنسان حر. وقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن يغري ذلك بعض الحكومات بتوفير أضخم جيش ممكن من العبيد، ولما كان عدد المجرمين — وبخاصة المتهمون بارتكاب الجرائم الكبرى — في العادة قليلًا بالنسبة للعدد الإجمالي للسكان، فقد استلزم الأمر تدبير أسلوب ضاعف من عدد الجرائم.
إن عمل العبيد في «يوتوبيا» يعد عملًا خفيفًا بل ممتعًا، إذا قورن بالعمل الذي قام به بعض العبيد في القرن العشرين. فالعبيد في يوتوبيا ينظفون القاعات التي تُقدَّم فيها وجبات الطعام، ويذبحون الحيوانات للاستهلاك البشري، ويقومون بالصيد.
وهنا يساورنا الشك في أن سكان يوتوبيا أقل حرية وسعادة مما يصور لنا مور. فإذا كان الحكام والأمير يتمتعون بالحب والاحترام، وإذا كان الشعب راضيًا عن مؤسساته، فما الحاجة لمعاقبة شخص يشعر برغبة ملحة في التجوال في أنحاء الريف؟ إن «يوتوبيا» تخبرنا في موضع آخر أن الرجال ملزمون بأن «يعيشوا في وضح النهار» لكي يتم التأكد من أنهم يؤدون واجباتهم العادية، الأمر الذي يبدو غير ضروري لو كان العمل الذي يؤدونه عملًا يسيرًا وممتعًا بحق. ثم ما الذي يخيف الدولة من رعاياها المخلصين بحيث تمنعهم من الالتقاء على الشراب خشية أن يشكِّلوا أحزابًا فيما بينهم؟
وتزداد شكوكنا قوة عندما نقرأ عن أسلوب إدارة سكان يوتوبيا للحروب. فهؤلاء الناس الذين يتمتعون بمشاعر الأبوة، والتواضع، والمرح، يتحولون إلى أبشع سياسيين ميكيافيليين متحجري القلوب عندما يخوضون الحروب. إنهم لا يستطيعون حتى الإيحاء بأن لديهم ما يحملهم على الدفاع عن بلدهم ضد العدوان، لأن بلدهم في موقع حصين يستحيل مهاجمته؛ فالحقيقة هي أنهم يخوضون حروبًا عدوانية ويتبعون سياسة توسعية:
أما عن حروبهم الأخرى فيمليها عليهم ولاؤهم للأمم الصديقة المجاورة. وتقوم «يوتوبيا» بدور مشابه للدور الذي تقوم به القوى الكبرى في الوقت الحاضر، لأسباب إنسانية مزعومة. تبرر بها أطماعها القوية في الدول الصغرى. ومع ذلك فإن سكان يوتوبيا «يمقتون الحرب باعتبارها شيئًا وحشيًّا»، و«يعتقدون أنه ليس هناك شيء يعوزه المجد أكثر من المجد الذي يأتي عن طريق الحرب». إنهم يفضلون أن تتم انتصاراتهم بفضل الدبلوماسية البارعة أو المناورات السياسية. بل لقد ذهبوا إلى حد تبني شيء شبيه بمشروع مارشال الدائم يمكنهم من توزيع الفائض من أغذيتهم مجانًا على الأمم المجاورة. ومع أن مور لا يفسر لنا السبب الذي يدعوهم إلى التصرف بهذا الأسلوب الإنساني الخيِّر، فربما تبين له أنه لا توجد أمة، مهما كان نظام حكمها صالحًا، يمكن أن يراودها الأمل في التمتع بالرخاء والازدهار الدائمين إذا كانت تحيط بها أمم جائعة تسهل إثارة جشعها …
إنهم يعلنون الحرب عندما تخفق الوسائل السياسية في تسوية المنازعات، ولكنهم حتى في هذه الحالة يعتمدون على أنشطة «الطابور الخامس» أكثر مما يعتمدون على المعارك الحربية.
وهم يلجئون أيضًا لاستخدام الإرهاب بذكاء، كما أنهم بارعون في حرب الدعاية:
ويطول بنا المقام لو أردنا أن نصف حروب سكان يوتوبيا بالتفصيل، ولكن يكفي القول بأنهم يعاملون أعداءهم بما لا يحبون أن يعاملهم به أحد. وقد صُدم بعض المعجبين المتحمسين لمور بأسلوب تعامله مع الحروب، فافترضوا أنه لم يصف الحرب على النحو الذي ينبغي أن تتم به، وإنما استهجن في رأيهم أساليب الحروب عند معاصريه. ومع أن هذا الافتراض ينم عن حسن النية، فإنه في الواقع بعيد الاحتمال.
وعلى أي حال فمن المعقول أن نتوقع من مور وصفًا لأسلوب عقلاني وعادل في شن الحروب. فالحرب، كما قال هو نفسه، شيء وحشي جدًّا، والوسيلة الوحيدة التي كان يُنتَظر منه أن يستعين بها للتعامل معها بطريقة إنسانية هي المطالبة بإلغائها جملة وتفصيلًا.
ولا يتسع المقام للحديث عن الأفكار الدينية والفلسفية لسكان يوتوبيا. فمور، مثله مثل إرازموس والعديد من أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة، يؤمن بأن الإنسان مسيحي بالفطرة، وأن إيمانه لا يعتمد على الوحي الإلهي؛ لأن الدين ينبع من القلب ويكمن في محبة الله والإنسان، ولهذا ينبغي أن يوحد البشر لا أن يقسمهم إلى فرق وطوائف.
وينتخب الشعب الكهنة، كما ينتخب الحكام، في اقتراع سري، فهم (أي الكهنة) رجال شديدو التقوى، ولهذا «فإنهم فئة قليلة»، لا يزيد عددهم على الثلاثة عشر في كل مدينة، ويخصص كل واحد منهم لمعبد. وليست لهم سلطة زمنية، إذ تنحصر مهمتهم في نصح الشعب وتحذيره. وإذا لم تُتَّبع نصائحهم فإنهم يحرمون «الأشرار العتاة من ممارسة طقوس العبادة». ويستطيع الكهنة في يوتوبيا أن يتزوجوا وأن يشاركوا في الحروب، كما لا تُمنع النساء من تقلد مناصب الكهنة.
هذا إذن هو دستور تلك الدولة التي لا تقتصر، في رأي رفائيل هيثلوداي، على أن تكون هي «أفضل دولة في العالم، وإنما هي الدولة الوحيدة التي تستحق ذلك الاسم عن جدارة. فالملاحظ في كل مكان آخر أن الناس عندما يتحدثون عن الثروة المشتركة (أي الدولة أو المجتمع)، فإنما يعني كل واحد منهم ثروته الخاصة فحسب، ولكن حيث تنعدم الملكية، يسعى الجميع بكل جهدهم للمصلحة العامة.» والواقع أن هذه دعوة جريئة، ونحن نفضل أن نسجل إعجابنا بمور بسبب إدانته للمجتمع في عصره، أكثر من إعجابنا بمجموعة القوانين التي قام بصياغتها والمؤسسات التي رسم معالمها.
(٢) توماسو كامبانيلا: «مدينة الشمس»
بعد تسعين عامًا ظهرت يوتوبيا أخرى لراهب فيلسوف وشاعر ومنجم يؤمن إيمانًا متعصبًا بأفكاره. وليس في مدينة الشمس لكامبانيلا شيء من أناقة أسلوب مور الأدبي ودعابته اللطيفة، لأنه — على خلاف مور — لم يكتب على طريقة الإنسانيين ذوي الثقافة الرفيعة، وإنما كتب بعقله وأطرافه التي كانت لا تزال تتألم من تعذيب محاكم التفتيش.
ولد جوفان دومينيكو كامبانيلا في عام ١٥٦٨م، في ستيلوبكالاريا، وهي ولاية إيطالية لا تزال محتفظة إلى اليوم بغموضها وأسرارها بالنسبة للإيطاليين أنفسهم، وترفض بعناد أن تندمج في أوروبا. ولد كامبانيلا في أسرة فقيرة، وعندما استُدعي أبوه للشهادة في إحدى محاكمات ابنه المشهور، اعترف ببساطة آسرة: «لقد سمعت أن ابني كتب كتابًا في نابولي، وقال لي الجميع إنني رجل محظوظ، والآن يقول الجميع إنني رجل تعس، أما أنا فلا أستطيع القراءة ولا الكتابة.»
وسرعان ما لفتت أفكاره الفلسفية أنظار السلطات الدينية. وكانت إيطاليا في أواخر القرن الخامس عشر قد تخلت عن ذلك التسامح مع الأفكار الجديدة الذي طبع بطابعه المرحلة المبكرة لعصر النهضة. فقد سلب الإصلاح الديني الكنيسة الكاثوليكية سلطتها على جزء كبير من أوروبا الغربية، وأُعلنت حالة من الحصار في الدول التي بقيت تحت سيطرتها (أي سيطرة الكنيسة). ووقعت إيطاليا في قبضة الإصلاح المضاد فلم يفلت أحد، من البابا إلى أصغر راهب مجهول، من مراقبة محاكم التفتيش. واستُدعِي كامبانيلا في عام ١٥٩٠م للمثول أمام محكمة دومينيكية لاستجوابه عن كتاباته التي دافع فيها عن تيليزيو. وبعد ثلاث سنوات، وبينما كان مقيمًا في الدير الدومينيكاني في بولونيا، سرق البوليس السري للبابا كل مخطوطاته. وطالب كامبانيلا، الذي اشتبه في الفاتيكان، باستعادة مخطوطاته، ولكنهم أنكروا معرفتهم بالأمر. ومع ذلك، فقد عُثر على هذه المخطوطات بعد ذلك بثلاثين سنة في أرشيف الأبرشية المقدسة. وفي عام ١٥٩٤م اتُّهِم كامبانيلا بالإلحاد بسبب أفكاره المتعلقة بحيوية الكون، وقُدِّم لمحكمة التفتيش في روما التي عجزت عن إثبات التهمة، ولكنها أمرته بالبقاء في روما تحت المراقبة. ورجع في عام ١٥٩٧م إلى نابولي، حيث اصطدم مرة أخرى بالسلطات الدينية، وأُجبر على الاعتكاف في دير ستيلو.
وشاع الاعتقاد في ذلك الوقت بأن نهاية القرن ستجلب معها تغيرات عميقة، بل وصل الأمر إلى حد التكهن بأن نهاية العالم قد اقتربت. وتأثر كامبانيلا تأثرًا شديدًا بهذه الشائعات، وشعر بأن الاضطرابات التي سادت نابولي تحت الحكم الإسباني، وأن بعض الأحداث التي وقعت في ذلك الحين كالفيضانات والزلازل وظهور المذنبات هي الدليل على اضطرابات اجتماعية وشيكة الحدوث. وتسلط على عقله حلم غريب، فتصور أن التغيرات القادمة ستؤدي إلى إصلاح كامل للمجتمع، وأن اللحظة قد حانت لإقامة جمهورية عالمية، وأن كالابريا — وهي موطنه الأصلي — ستكون تحت قيادته هي نقطة انطلاق هذه الحركة. وصمم الفيلسوف، الذي اكتفى حتى الآن بمحاربة الأفكار القديمة في كتاباته، على أن يتحول إلى رجل عمل.
اعتقد كامبانيلا بضرورة النهوض بالإصلاح على ثلاثة مستويات: تحسين ظروف الشعب على المستوى الاجتماعي، وتولي إسبانيا قيادة توحيد العالم على الصعيد السياسي، وإصلاح الكنيسة في المجال الديني. ولم يتصور كامبانيلا الإصلاح على طريقة كالفن أو لوثر، اللذين أرادا الانسلاخ عن هيمنة الكنيسة في روما، وشجَّعا بذلك التطلعات القومية. لقد كان كامبانيلا كاثوليكيًّا مخلصًا، وأراد أن يوحد العالم تحت لواء الإيمان الكاثوليكي. وأرجع هزائم الكنيسة الكاثوليكية إلى ولائها للمذاهب الإسكولائية (المدرسة) القديمة، واعتقد أنها لن تستعيد سلطتها ولن تقويها بممارسة الاضطهاد الديني، بل بقبول الأفكار الفلسفية الجديدة فحسب. ولذلك سعى إلى تحديث الكنيسة لا إلى إصلاحها.
وربما تصلح جمهورية كالابريا التي خطط لتأسيسها لأن تكون نموذجًا ونقطة انطلاق لإقامة جمهورية عالمية. والواقع أن كامبانيلا لم يكن، كما وُصف أحيانًا، إيطاليًّا ذا نزعة وطنية. وإذا كان قد تآمر ضد إسبانيا، فقد فعل هذا في سبيل إقامة هذه الجمهورية العالمية المقدسة تحت القيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية. وعلى الرغم من تمرده على السلطات الإسبانية، فإنه كان مؤمنًا بأن إسبانيا هي القوة الوحيدة القادرة على تحقيق الجمهورية العالمية.
وأخذ كامبانيلا يبشر في كنيسة ديرستيلو بأن لحظة التمرد قد حانت، ونجح في إقناع بعض اللاجئين السياسيين الذي لاذوا بالدير، وبعض الرهبان أيضًا بأن الجمهورية العالمية المقدسة ستقوم قبل نهاية العالم، وأن من الضروري إيجاد «الدعاة» و«الرجال العمليين» القادرين على تحقيقها، وأن ألسنة الرهبان وأسلحة الشعب يمكن أن تتحرك لوضع قوانين ومؤسسات جديدة لعالم أفضل. وقد تجسَّدت بعد ذلك في «مدينة الشمس» بعض الإصلاحات والقوانين التي دعا إليها في ذلك الوقت.
اكتُشِفت المؤامرة وقُبِض على كامبانيلا ورفاقه. وتم ترحيلهم عن طريق البحر إلى نابولي في الثامن من شهر نوفمبر عام ١٥٩٩م، وكان بعض رفاق كامبانيلا مقيدين بالأغلال على ظهر سفن شراعية، وذلك على مرأًى من أهالي نابولي الذين تجمعوا في الميناء لاستقبالهم عند وصولهم.
وأُضيفت تهمة الهرطقة إلى تهمة التآمر على إسبانيا، وحُكم بالإعدام على عشرة من بين مائة وأربعين رجلًا تم اعتقالهم (وكان بينهم أربعة عشر راهبًا). واحتُجِز كامبانيلا الذي كُبِّلت ساقاه بالأغلال لمدة خمسة شهور في زنزانة رطبة ومظلمة، وتعرض لألوان مختلفة من التعذيب المخيف، وانتُزِعت منه بعض الاعترافات التي سمحت لمحكمة التفتيش بأن توجه إليه تهمة الهرطقة. وقبل بدء المحاكمة بأسابيع قليلة أشعل النار في زنزانته، وأخذ يتكلم ويتصرف بطريقة توحي بأنه فقد عقله. ولن نعرف أبدًا على وجه اليقين إن كان قد تظاهر بالجنون، كما يعتقد معظم المؤرخين، أو إن كان التعذيب الرهيب قد ذهب بعقله بالفعل.
وفي العاشر من مايو عام ١٦٠٠م استؤنفت المحاكمة، ولم يحمه جنونه من أن يعذب مرة أخرى بقسوة أشد، وفي إحدى المرات استمر التعذيب لمدة أربع وعشرين ساعة بغير انقطاع. وسجل هذيان كامبانيلا وصراخه، الذي دَوَّنه أحد موظفي محاكم التفتيش، ما زال محفوظًا حتى اليوم، ويُعتَبر بحق وثيقة مروعة ومرعبة. وقد رفض هذه المرة الإجابة عن أي أسئلة، واستمر في التصرف كالمجانين. وتشككت محكمة التفتيش في ادعائه للجنون، ولكنهم أصروا على مواصلة تحقيقاتهم، ولم يتمكنوا من الحكم عليه بالإعدام لأن ذلك كان معناه الحكم على روحه باللعنة والهلاك. وبعد محاكمة استمرت عامًا كاملًا، حُكِم عليه بالسجن مدى الحياة.
بعد هذه المحاكمة مباشرة، أي في عام ١٦٠٢م، كتب كامبانيلا «مدينة الشمس». ويُعتَقد بصفة عامة أن هذا الكتاب قد وُضِع باللاتينية في تاريخ لاحق، وعلى الرغم من تجاهل الظروف التي تم فيها تأليف الكتاب للمرة الأولى فقد وُصِف بأنه حلم غريب وشاذ، وبأنه منفصم انفصامًا كاملًا عن الواقع. والحقيقة أن مدينة الشمس مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمحاولة كامبانيلا الفاشلة لإقامة جمهورية كالابريا. ولم ينجح التعذيب ولا المحاكمات في تحطيم روحه، وربما يكون قد كتبها كنوع من التحدي، أو ليشرح ببساطة ماذا كان يمكن أن يحدث لو قُدِّر له النجاح في محاولته. ومن المحتمل أيضًا أنه كان يأمل في الهرب، وأنه سعى بهذه الطريقة لكسب التأييد والمساندة في محاولة جديدة للهرب. وقد قال بنفسه بعد ذلك إنه حاول السيطرة على حراسه ببعض الممارسات السحرية التي بهرتهم وأثَّرت فيهم تأثيرًا كبيرًا. وقد ساعدوه على تهريب مخطوطاته إلى خارج السجن، وربما يكونون قد فكروا في مساعدته على الهرب لو لم يتم نقله إلى قلعة أخرى. والظاهر أن كامبانيلا اكتسب شعبية كبيرة في عصره، ورُويت القصائد الغنائية التي كتبها في زنزانته في كل أنحاء نابولي. ودلت كتابته ﻟ «مدينة الشمس» بالإيطالية لا باللاتينية، على أنه لم يعتبرها عملًا أكاديميًّا، وإنما أراد لها أن تُقرَأ بشكل واسع بقدر الإمكان.
لقد قيل مرارًا إن كامبانيلا لم يهتم أدنى اهتمام بإضفاء طابع واقعي على مدينته المثالية. والحقيقة أننا لا نعرف منها شيئًا عن المكان الذي تقع فيه، ولا كيف وصل إليها الملَّاح الذي يروي القصة. وهذا أمر يمكن فهمه لو وضعنا في اعتبارنا أنه كان يعظ ويحرض ويدبر المؤامرات ويواجه التعذيب لكي يقيم جمهورية مثالية في مسقط رأسه كالابريا. ولم يشأ أن ينظر قراؤه إلى كتابه وكأنه رواية خيالية، أو أن يتخيلوا المدينة المثالية في بلد بعيد أو في بلد أجنبي، وإنما أراد أن يتصوروها حولهم وأن يعتبروا أنفسهم مواطنيها. ولم يكن كامبانيلا يفتقر إلى الخيال والمواهب الشعرية التي تجلت في قصائده الغنائية وأشعاره التي كتبها طوال حياته، ومع ذلك فإن «مدينة الشمس» عمل جاف ومجدب، وهي أشبه بمنشور أو برنامج عمل سياسي؛ لأن هذا في الواقع هو المقصود منها.
بقي كامبانيلا سجينًا في نابولي حتى شهر سبتمبر عام ١٦٢٦م، ثم حصل على حريته بفضل القنصل الإيطالي في مدريد. وبعد شهر من خروجه من السجن، قُبِض عليه مرة أخرى، وجاء الأمر بالقبض عليه في هذه المرة من البابا، وتم احتجازه في الفاتيكان لمدة ثلاث سنوات. وتمتع بعد إطلاق سراحه بفترة هدوء نسبي استمرت حتى عام ١٦٣٣م، عندما بدأ الإسبانيون في اضطهاده من جديد، حيث اعتبروه مسئولًا عن سياسة البابا أوريان الثامن المؤيدة لفرنسا. ومن المحتمل أن هذه الشكوك كان لها ما يبررها، إذ تخلَّى كامبانيلا عن أمله في توحيد إسبانيا للعالم كما كان يحلم بذلك، واعتقد أن فرنسا يجب أن تحل محلها. واضطر في عام ١٦٣٦م للهرب إلى باريس، حيث عاش تحت حماية ريشيلو ولويس الثالث عشر، واستطاع أن ينشر أعماله وأن يحاضر في السوربون على الرغم من معارضة الفاتيكان. ثم جاء الموت أثناء إقامته في أحد الأديرة في اليوم الحادي والعشرين من شهر مايو عام ١٦٣٩م.
حقق كامبانيلا شهرته من خلال حياته المأساوية ويوتوبياه «مدينة الشمس» أكثر مما حققها عن طريق أعماله الفلسفية التي تحتل، في الواقع، مكانة مهمة، إن لم تكن شديدة الأهمية، في فلسفة عصر النهضة المتأخر. وما زالت ذكراه حية بين الناس في موطنه الأصلي في كالابريا، ويقال إنه يظهر في الأحلام ليكشف عن الكنوز المخبأة، وهي حكاية خرافية كان من الممكن أن ترضي الفيلسوف الذي كان يحب أحيانًا أن يعتبره الناس ساحرًا ونبيًّا.
كتب كامبانيلا معظم مؤلفاته في السجن، تحت ظروف غير إنسانية على الإطلاق، وقد قال فيما بعد إنه كان يصارع الموت بالعمل. وصودر عدد كبير من مخطوطاته، كما دمر سجَّانوه بعضها، وهذا يفسر إلى حد ما سبب وجود طبعات كثيرة لمعظم أعماله، حتى إن بعضها تمت كتابته أكثر من خمس مرات. وقد كُتِبت «مدينة الشمس» للمرة الثانية بالإيطالية في عام ١٦١١م، وللمرة الأولى باللاتينية بين عامي ١٦١٣م و١٦١٤م، ثم عُدِّلت هذه الطبعة وروجعت للمرة الرابعة باللاتينية في عامي ١٦٣٠م و١٦٣١م. وتختلف الطبعات اللاتينية اختلافًا تامًّا عن الطبعات الإيطالية، ليس من حيث الأسلوب فحسب، والذي تم صقله وتهذيبه في الطبعات المتأخرة، وإنما بسبب تغير أفكاره تغيرًا شديدًا أثناء فترة سجنه. فقد أصحبت «مدينة الشمس» مع مرور السنين أكثر تسلطية وأكثر مهادنة لأفكار الكنيسة. وعلى سبيل المثال لم تلغَ مشاعية السلع والنساء، ولكن آباء الكنيسة — كما يعبر عنهم النص — أخذوا في تبريرها، بالإضافة إلى أن الحرية الجنسية فُرضت عليها قيود شديدة، كما أن التنجيم أصبح يشغل حيزًا أقل أهمية في الطبعات المتأخرة، ربما بسبب الحرب التي كان الفاتيكان يشنها على المنجمين.
لم يكن كامبانيلا ثوريًّا أبدًا، بل كان مصلحًا متمردًا، وعندما تخلت عنه روح التمرد أصبح مهادنًا (للنظام القائم). لقد كافح في شبابه وفي أثناء السنوات الأولى من سجنه في سبيل أفكاره الفلسفية الجديدة وتأسيس نظام أفضل للمجتمع. ولكنه — مع مرور السنين عليه في السجن — أخذ يسعى لاستعادة حريته بمحاولة جعل أفكاره مقبولة من قبل السلطات، وفي نهاية حياته طمح أن يصبح كاردينالًا في الكنيسة التي اضطهدته وكتب قصائد يتملق بها ملك فرنسا وريشيليو.
وقد ترجمنا الفقرات التالية عن طبعة النسخة الإيطالية الأولى التي نشرت في إيطاليا في عام ١٩٠٥م، وضمت في هوامشها الاختلافات في النص يبن الطبعتين اللاتينيتين الصادرتين في عام ١٦٢٣م و١٦٣٧م. وقد ذكرت هذه الاختلافات كلما وجدت أنها ذات أهمية خاصة.
ويوضح العنوان الكامل للطبعة الأولى مدى التطابق بين مدينة الشمس وبين حلم كامبانيلا بجمهورية مسيحية:
(٣) «مدينة الشمس» أو «حوار عن الجمهورية»
وفيه عرض لفكرة إصلاح الجمهورية المسيحية طبقًا للوعد الذي وعد به الله القديسة كاترينا والقديس بردجيه.
البحار: فوق هذا السهل المنبسط يرتفع تل أُقيمَ عليه الجزء الأكبر من المدينة، ولكن دوائرها تمتد إلى ما وراء قاعدة هذا التل الذي يصل اتساع حجمه إلى حد أن قطر المدينة يبلغ ميلين أو أكثر، ومحيطها ما يقرب من سبعة أميال. ولأن المدينة مبنية على منحدر، فإن عدد بيوتها أكبر مما لو كانت قد بنيت فوق السهل.
والمدينة مقسمة إلى دوائر مسمَّاة بأسماء الكواكب السبعة، ويمر المرء من دائرة إلى أخرى خلال أربعة شوارع وأربع بوابات تتجه صوب الجهات الأربع للأرض. وقد نُظِّمت بحيث إذا تم اقتحام الدائرة الأولى، فإن الأمر سيتطلب جهدًا أكبر لاقتحام الثانية، وجهدًا أكبر منه لاقتحام باقي الدوائر، حتى لتقتضي الضرورة مهاجمتها سبع مرات قبل التمكن من الاستيلاء عليها. ولكنني مقتنع بأن من المستحيل الاستيلاء حتى على الدائرة الأولى، لأن أسوارها شديدة السمك ومحصنة تحصينًا قويًّا بالأبراج والمدافع والخنادق المحيطة بها من الخارج.
وعند الدخول من البوابة الشرقية التي غطيت بالحديد ويمكن رفعها وخفضها وفقًا لخدعة عبقرية، يرى المرء مساحة مستوية يبلغ عرضها خمسين خطوة بين السورين الأول والثاني، ويجد قصورًا مصفوفة حول السور بطريقة تظهرها كأنها قصر واحد، ثم إنها مدعمة من أعلى بعمودين، كما في أروقة الرهبان في الأديرة، ولا يمكن رؤية أي مدخل، لوقوعها جميعًا على الجانب المقعر للقصور، والحجرات جميلة ومقسمة بحوائط قليلة السمك، ولها نوافذ على كلا الجانبين المقعر والمحدث للمبنى. ويبلغ سمك الحائط المحدب ثمانية أشبار، وسمك المقعر ثلاثة، ولا يكاد سمك الحوائط الداخلية يزيد على شبر واحد.
وهكذا يدخل المرء إلى الدائرة الثانية، التي هي أضيق من الأولى بخطوتين أو ثلاث خطوات، فيرى الحوائط الثانية المزودة بأروقة للنزهة، كما يرى من الداخل حائطًا آخر يطوِّق القصور، وفي منتصف الطريق الصاعد إلى المباني يوجد معرض مدعم بعمودين ويحتوي على صور جميلة. ومن هذا الطريق يصل المرء إلى الدائرة الأخيرة، وتكون الأرض مستوية باستمرار، إلا حين يمر المرء من خلال الأبواب المزدوجة بسبب الحوائط الداخلية والخارجية، وعند الانتقال من أحدها إلى الآخر يصعد المرء بضعة سلالم يصعب الانتباه إليها، لأنها ترتفع في اتجاه مائل بحيث يتعذر ملاحظة ارتفاعها.
وعلى قمة التل مساحة كبيرة مسطحة أقيم فوقها معبد من طراز فني عجيب.
وبعد أن يصف البحار المعبد يعبر الفارس هوسبيتالر عن رغبته في معرفة نظام الحكم في المدينة:
ويساعده ثلاثة أمراء من رتب متساوية، وهم بون، وسين، ومور، وتعني أسماؤهم القوة والمعرفة والحب.
والمعرفة مسئول عن جميع العلوم وعن الدكاترة والأساتذة المتخصصين في الفنون الحرة والآلية. ويساعده عدد من المشرفين أو القضاة مساوٍ لعدد العلوم، وهم المنجِّم، وعالم الكونيات (الكوزموجرافيا)، والعالم في الهندسة، والفيزياء، والبلاغة، والنحو، والطبيب، والعالم في السياسة، والأخلاق، وليس لديه سوى كتاب واحد يحتوي على جميع العلوم ويقرأ على الشعب كله حسب التقليد المتبع عند الفيثاغوريين.
والمعرفة هو الذي أمر بأن تغطى جميع الحوائط والجدران الداخلية والخارجية للمعارض برسوم تصور كل العلوم. وعلى الحوائط الخارجية للمعبد وعلى الستائر — التي تُسدَل في أثناء العظات الدينية لحصر الصوت داخل المعبد — توضع صور للنجوم ووصف لكل منها في ثلاثة أبيات من الشعر. وعلى الحائط الداخلي للدائرة الأولى تُرسَم كل الأشكال الرياضية، التي يزيد عددها على تلك التي اكتشفها إقليدس وأرشميدس، ويرفق كل شكل من هذه الأشكال بشرح واضح. وعلى الجانب الخارجي للحائط خريطة للعالم كله، وبجوارها لوحات لكل إقليم، مع الأماكن والعادات والقوانين الخاصة به، بالإضافة إلى أبجديتها التي توضع أبجديتها مقابلة لها.
وفي الدائرة الثالثة توجد كل أنواع الأعشاب والأشجار في العالم، ويُصَوَّر بعضها على الحوائط، وبعضها الآخر ينمو بالفعل في سلال مملوءة بالتراب، توضع فوق الأفاريز مع شروح تبين المكان الذي عثر عليها فيه لأول مرة، وفوائدها، وأوجه التشابه بينها وبين النجوم، والمعادن وأجزاء من الجسم البشري، واستعمالاتها في الطب. وخارج السور توجد كل أنواع الأسماك الموجودة في الأنهار والبحيرات، مع شرح أنواعها، وطريقة معيشتها وتكاثرها، وكيفية حفظها، بالإضافة إلى استعمالاتها وأوجه التشابه بينها ويبن الأجرام السماوية والكائنات الأرضية سواء من الناحية الفنية أو الطبيعية.
وداخل الدائرة الرابعة توجد صور لكل أنواع الطيور ووصف لأنواعها، وأحجامها وعاداتها، كما أن لديهم عنقاء حقيقية. وخارج الدائرة توجد كل أنواع الحيوانات، والزواحف والثعابين والتنانين، والديدان والحشرات مثل الذباب وذباب الثيران وغيرها ووصف لخصائصها وسمومها وفوائدها التي تفوق كثيرًا ما نتصور.
وقد أظهرت تعجبي من معرفتهم الواسعة بالتاريخ، فأخبروني أنهم يعرفون لغات كل الأمم، لأن من عادتهم إرسال السفراء إلى جميع بلاد العالم لتعلم ما لديها من خير أو شر، وقد حصَّلوا من ذلك فوائد جمة.
وهناك أيضًا معلمون يدرسون هذه الأمور، ويتعلم الأطفال دون مشقة، وقبل أن يتموا العاشرة من عمرهم يكونون قد تعلموا جميع العلوم عن طريق السرد التاريخي.
والحب هو المسئول عن الإنجاب، وهو الذي يجمع بين الرجال والنساء بالطريقة التي تجعلهم ينجبون سلالات سليمة، وهم يسخرون منَّا؛ لأننا نهتم غاية الاهتمام بتحسين نسل الكلاب والخيول بينما نهمل جنسنا البشري. ويعتني الحب أيضًا بتعليم الأطفال، وبالأدوية والعقاقير والزراعة وجمع محاصيل الفواكه والحبوب والأعشاب، وكل ما يتعلق بالغذاء والكساء وعلاقات الحب بين الجنسين. وليساعده في عمله عدد كبير من المعلمين والمعلمات المكرسين لهذه الفنون.
ويعنى «الميتافيزيقي» بكل هذه الأمور بالتعاون مع بقية الأمراء الثلاثة الذين يستشيرونه في كل شيء، إذ لا يتم شيء من دونه، وكل ما يقرره يوافقون عليه …
وسنرى في الفقرة التالية أن كامبانيلا، على الرغم من تأثره الشديد بأفلاطون وبلوتارك، قد ذهب أبعد منهما لأنه يلغي الملكية بالنسبة للمجتمع كله لا لطبقة واحدة فحسب:
كل الأشياء مشتركة بين السكان، ويقوم القضاة بالإشراف على إدارتها. ولا يقتصر الاشتراك على الطعام، بل يشمل المعرفة والمباهج والمسرات وأوجه التشريف والتكريم، بحيث لا يستطيع شخص أن ينفرد بتملك أي شيء.
وهم يقولون إن الملكية قد نشأت عن المعيشة في بيوت منفصلة وتملك الزوجة والأولاد، وأنها هي الأصل في حب الذات. فالأب الحريص على أن يهيئ لابنه الثروة والترف، إما أن يسعى للاستحواذ على الثروة العامة، وذلك إذا كان قويًّا وجريئًا، وإما أن يصبح جشعًا ومنافقًا إذا كان ضعيفًا. ولو جُرِّد الناس من حب الذات لما بقي إلا الحب الذي يجمع بين أعضاء المجتمع.
وهنا يتدخل الفارس بطرح الاعتراض الشائع: «في هذه الحالة لن يرغب أحد في القيام بأي عمل، بل سينتظر من الآخرين أن يقوموا به.» وذلك كما جاء في اعتراض أرسطو على أفلاطون. ويرد عليه البحَّار قائلًا:
لا يمكنني أن أناقش هذه الفكرة، وكل ما أستطيع أن أقوله لك هو أنهم يحبون وطنهم حبًّا صادقًا عجيبًا. بل إن حبهم لوطنهم أعظم من حب الرومان لبلادهم، لأنهم ذهبوا في التخلي عن الملكية إلى حد أبعد منهم بكثير. وأعتقد أن القسيسين والرهبان عندنا لو استغنوا عن العائلات والأصدقاء، وعن أي طموح إلى المناصب العليا، لأصبحت ملكياتهم أقل (مما هي عليه) وتشرَّبوا بروح القداسة والإحسان للجميع …
ويحرص القضاة أشد الحرص على ألا يأخذ أحد أكثر مما يأخذه غيره أو أكثر مما يستحق، ومع ذلك فإن كل فرد يأخذ كل ما يحتاج إليه، وتتجلى الصداقة في أثناء الحروب والإصابة بالمرض أو في الدراسة، عندما يتعاون بعضهم مع بعض ويعلم بعضهم بعضًا. ويدعو جميع الشبان بعضهم بعضًا بالأخوة، أما من يكبرونهم بخمسة عشر عامًا فيدعونهم بالآباء، ومن يصغرونهم بخمسة عشر عامًا بالأنباء. ويحرص القضاة، الذين يراقبون كل شيء بعناية، على ألا يصيب الأخ أخاه بأي أذى.
الفارس: وكيف؟
البحار: يوجد بينهم من القضاة بقدر ما يوجد بيننا من الفضائل. والأسماء التي تطلق عليهم هي التحرر، والشهامة، والعفة والصلابة، والعدالة الجنائية والمدنية، والاجتهاد والصدق، والرحمة، والعرفان بالجميل والإحسان. ويختار كل واحد من هؤلاء وهو لا يزال يعد صبيًّا، وذلك عندما يظهر منه في المدرسة أنه يميل إلى فضيلة معينة. ولما لم يكن بينهم لصوص أو قتلة، ولا اغتصاب أو انتهاك للمحارم أو زنا كما هو الحال بيننا، فإنهم يتهم بعضهم بعضًا بالعقوق أو سوء النية (عندما يرفض أحدهم الاستمتاع بإحدى المسرات البريئة) أو بالخداع الذي يبغضونه أكثر من بعضهم للطاعون. والذين تثبت إدانتهم (بإحدى هذه التهم) يحرمون من المائدة المشتركة ومن معاشرة النساء، وذلك إلى أن يرى القاضي أنهم قد أصلحوا أنفسهم …
وتحتل دراسة العلوم في مدينة الشمس مكانة مهمة، ولكن العمل اليدوي ينال في نفس الوقت تقديرًا عاليًا:
يتعلم كل فرد جميع أنواع الفنون … وبعد بلوغ الثالثة من العمر يتعلم الأطفال اللغة وحروف الأبجدية بالمشي حول الحوائط في أربعة صفوف، يقودهم أربعة من كبار السن الذين يتولون التدريس لهم. ويعودون حتى سن السابعة على السير حفاة الأقدام وبشعور غير ممشطة، ويؤخذون في جولات حول الورش الخاصة بالحرف المختلفة — كالخياطين والنقاشين والصائغين … إلخ — لكي يكتشفوا ميولهم واستعداداتهم. وبعد سن السابعة يتلقى الأطفال دروسًا في العلوم الطبيعية … وعندما يصبحون أكبر سنًّا يدرسون الرياضيات والطب وغيرهما من العلوم، وهم يتناقشون بصفة مستمرة ويتنافسون فيما بينهم، وقد يصبحون قضاة متخصصين في أحد العلوم أو الفنون الآلية التي برعوا فيها …
ويذهب الأطفال أيضًا إلى الريف ليتدربوا على العمل في الحقول والمراعي، وكل من درس منهم معظم الفنون ومارسها بإتقان يعتبر على درجة عالية من النبل. إنهم يسخرون منَّا، نحن الذين نحقِّر من شأن عمالنا ونضع في صفوف النبلاء أولئك الذي لم يتعلموا حرفة، بل يعيشون كسالى متبطلين ويحتفظون كذلك بأعداد كبيرة من الخدم الكسالى المتراخين، مما يدفع بالجمهورية إلى الخراب.
الفارس: ومن ذا الذي يمكنه أن يبلغ هذا المستوى من المعرفة؟ وكيف يمكن لأي إنسان متخصص في كل العلوم أن يكون ماهرًا في الحكم؟
البحَّار: سألتهم هذا السؤال فأجابوا قائلين:
وقوانين «مدينة الشمس» المتعلقة بالعلاقات الجنسية لا يمليها إلا الحرص على إنجاب سلالة سليمة تتمتع بالصحة. والواقع أن كامبانيلا يذهب في آرائه عن تحسين النسل إلى أبعد مما ذهب إليه أفلاطون، ويعتقد أن القضاة ينبغي أن يساعدهم الأطباء والمنجمون. وزيادة في الاحتياط يتوجه المصلون إلى الله بالدعاء سائلين أن يمنح المدينة ذرية معافاة. ولعل أكثر ما يصدم (القارئ) هو مدى بعد كامبانيلا عن الالتزام بالأخلاق المسيحية المتشددة التي تدين أي اتصال جنسي لا يكون الغرض منه هو الإنجاب، وكذلك فكرته عن أضرار الكبت الجنسي بالشباب وضرورة تجنبه، وهي فكرة مثيرة وتبدو حديثة جدًّا:
وإذا امتنعوا عن الجماع حتى سن الحادية والعشرين، تقام الاحتفالات وتنشد الأغاني لتكريمهم. وعندما يتدربون على القتال، يتحرر النساء والرجال من ثيابهم، كما كان يفعل الإغريق، بحيث يستطيع القضاة أن يكتشفوا العاجز عجزًا جنسيًّا من بينهم، وأي الأعضاء يناسب كل منها الآخر. وبعد أن يغتسلوا جيدًا يهيئون للجماع كل ثلاث أمسيات، وتزوج النساء الطويلات والجميلات للرجال الطوال والفضلاء، والنحيفات للبدينين لتحقيق نوع من التوازن، ويذهب الجميع إلى الفراش بأمر القاضي والرئيسة، ولا يشرعون في الجماع حتى يهضموا طعامهم، ثم يبدءُون في الصلاة، ويتأملون صورًا جميلة لرجال هم محط أنظار النساء. وبعد ذلك يتوجهون نحو النوافذ ويدعون الرب في السماء أن يهبهم ذرية صالحة. وينامون في صوامع حتى تحين ساعة التزاوج، وعندئذٍ تفتح الرئيسة أبواب الصومعتين في تلك الساعة التي حددها المنجم …
وإذا لم تحمل امرأة من رجل معين، فإنها تستبدل به رجلًا آخر، وإذا وُجِد أنها عاقر، فيمكنها أن تصحب أي رجل تشاء، ولكنها تحرم من الشرف الذي يمنح للنساء المتزوجات، سواء في الموائد المشتركة أو في المعبد، ويتم هذا لمنع أي امرأة من أن تجعل نفسها عقيمًا لكي تمارس الجنس على هواها.
وتشارك النساء في «مدينة الشمس» في الأعمال التي يقوم بها الرجال، وإن كن يكلفن بمهام أخف. ويتدربن على استعمال السلاح تحت إشراف أساتذتهن من المعلمين والمعلمات، وذلك لكي يتمكنَّ «في حالة الضرورة» من مساعدة الرجال في المعارك الدائرة بالقرب من المدينة.
وتؤدي التدريبات العسكرية دورًا مهمًّا في حياة سكان «مدينة الشمس»، ولكنهم لا يشتبكون في حروب تستهدف غزو بلاد أخرى. فهم لا يشنون الحرب (التي يخرجون منها دائمًا منتصرين) إلا إذا تعرضوا للإهانة أو تعرضت مدينتهم للسلب والنهب، وهم كذلك يبادرون إلى مساعدة الأمم التي تعاني من اضطهاد أحد الطغاة، لأنهم يدافعون دائمًا عن الحرية. وهم على النقيض من مواطني جمهورية أفلاطون، لا يحتقرون الأمم التي تقل عنهم استنارة، وإنما يؤمنون بأن «الأرض كلها سوف تحتذي بهم في الوقت المناسب وتعيش عيشة متفقة مع عاداتهم وتقاليدهم، ولهذا يحرصون دائمًا على البحث عن الأمم التي تتفوق على غيرها في الفضل والتقدم.»
وتحظى الزراعة منهم بالتقدير العظيم ويتبعون فيها الأساليب العلمية. وعلى الرغم من وجود عدد قليل من ضعاف العقول المنصرفين تمامًا إلى الأعمال الزراعية، فإن جميع مواطني المدينة يقومون بالعمل في الحقول. وهم يمضون إلى أعمالهم مدججين بالسلاح «رافعين الأعلام زاحفين على أصوات الطبول والأبواق» … ولا يتركون شبرًا واحدًا من الأرض بغير حرث، ويستخدمون عربات مزودة بأشرعة تدفعها الرياح حتى ولو كانت تهب في اتجاه عكسي، وذلك بواسطة اختراع عجيب لعجلات تدور داخل عجلات.
وهناك إلى جانب هذا عدد آخر من الاختراعات الطريفة في مدينة الشمس. وتعد يوتوبيا كامبانيلا أول اليوتوبيات التي أعطت دورًا قياديًّا للعلوم الطبيعية، كما أنها هي أول يوتوبيا تلغي عمل العبيد، وتعتبر أن العمل اليدوي، مهما بدا وضيعًا، هو واجب مشرف. ومع ذلك فإن الحرية في «مدينة الشمس» قليلة، كما في غيرها من اليوتوبيات. ويمكن أن يُحكَم على النساء بالموت إذا ثبت أنهن يستعملن أدوات الزينة أو يلبسن أحذية بكعوب عالية، بالإضافة إلى أن الجرائم التي ترتكب في حق حرية الجمهورية، أو تقترف في حق الذات الإلهية أو القضاة الكبار يعاقب عليها كذلك بالإعدام. ومع ذلك كله فإن كامبانيلا، وهذا أمر طبيعي، يلغي السجون كما يحرم التعذيب في مدينته المثالية.
(٤) فالنتين أندريا (١٥٨٦–١٦٥٤م): «مدينة المسيحيين»
ولد أندريا في عام ١٥٨٦م، وأتاح له شمول تعليمه وكثرة رحلاته أن يطلع اطلاعًا واسعًا على فكر عصر النهضة وكتابات علمائه وأدبائه. كانت الثورة المعرفية قد تحققت، وتم إلحاق الهزيمة بالمنهج الأرسطي، ولكن مهمة وضع منهج تربوي وتعليمي يحل محله لم تكن قد اكتملت بعد. وقد كرس أندريا معظم حياته لهذه المهمة، بل وضع مخططًا لإصلاح النظام التربوي والتعليمي وهو لا يزال طالبًا في الجامعة، ثم نشر بعد ذلك عددًا من المؤلفات التربوية التي لقيت اهتمامًا كبيرًا واستطاع — بوصفه معلمًا — أن يضع بعض أفكاره موضع التنفيذ، وأن يرسم أول برنامج للمدرسة الثانوية المنظمة تنظيمًا جيدًا.
بيد أن اهتماماته الواسعة جاوزت مجال التربية والتعليم واتجهت لتخطيط مشروعات عامة للإصلاح الاجتماعي حاول كذلك أن يضعها موضع التنفيذ. ويخبرنا الأستاذ هيلد — الذي صدر ترجمته الإنجليزية ﻟ «مدينة المسيحيين» بمقدمة بالغة الأهمية عن أعمال أندريا وتأثيره — أنه حاول، بعد أن أصبح عميدًا وموجهًا عامًا في مدينة «كالف» على نهر «ناجولد»، أن يؤسِّس نظامًا اجتماعيًّا على غرار النظام الذي وصفه في مدينة المسيحيين: «لقد جعل من جماعة المؤمنين التي تضم رعايا كنيسته نقطة انطلاق أنشطته المتعددة، كما جعل من الأطفال موضوعه ومادته ثم امتدت جهوده إلى الطبقة العاملة في المدينة، سواء كانوا من أتباع كنيسته أو من خارجها. وأسس كذلك جمعية للتكافل الاجتماعي لرعاية عمال النسيج وورش الصباغة ودعمها باكتتابات المتطوعين من رعاياه وأصدقائه.»
وربما يرجع إهمال هذا العمل، من ناحية، إلى اضطراب ظروف العصر الذي ظهر فيه، ومن ناحية أخرى إلى جفاف أسلوبه. وقد يضاف إلى هذين السببين سبب آخر، وهو الاتهام الذي وجهه إليه بعض الكتاب بأنه مجرد نسخة من «يوتوبيا» توماس مورو «مدينة الشمس» لكامبانيلا. ولكن أوجه الشبه هذه في معظمها سطحية، ومشروع برنامجه التربوي الذي يشغل القسم الأكبر من الكتاب، مشروع أصيل ومبتكر تمامًا. وإذا كان تأثير الكُتَّاب الإغريق في أندريا — وذلك على خلاف اليوتوبيات السابقة — تأثيرًا ضئيلًا لا يكاد يحس به القارئ، فإن تأثير مدينة العصور الوسطى شديد القوة. ففكرته عن الأخوة، واحترامه للحرف اليدوية، وموقفه من العمل والتجارة، والأهمية التي يوليها للصنعة والأسرة، تذكرنا كلها بنظام الطوائف والنقابات الحرفية التي ازدهرت ازدهارًا عظيمًا في المدن الألمانية في العصر الوسيط.
وقد كان لمدينة جنيف، التي زارها أندريا في شبابه وتركت في نفسه انطباعًا قويًّا، تأثير جديد كل الجدة في مدينته المثالية. فقد أُعجِب أيما إعجاب بالمستوى الأخلاقي الرفيع الذي وصل إليه أهالي جنيف، وقال عنه في سيرته الذاتية: «لو لم يمنعني اختلاف العقيدة (من الإقامة في جنيف) لدفعني الانسجام الذي يوحد عاداتهم وأخلاقهم على عدم مغادرة ذلك المكان أبدًا.»
ولم يتبنَّ أندريا تعاليم كالفن (المتشددة)، ولكنه أيد من كل قلبه صرامة القواعد الأخلاقية التي فرضها على سكان مدينة جنيف، ولعله قد تمنى أن يعيش حتى يشهد إصلاح الكنيسة اللوثرية إصلاحًا جديدًا مستمدًّا من روح «كالفن الحديدي». وهذه فقرة أخرى من سيرته الذاتية تبين مدى اعترافه بفضل زيارته لجنيف:
«عندما كنت في جنيف اكتشفت اكتشافًا مهمًّا لن تموت في نفسي ذكراه ولا الشوق إليه إلا بموتي. فلم يقتصر ما وجدته هناك على المجتمع الحر حرية مطلقة، وإنما وجدت مفخرة الرقابة على الأخلاق التي تقضي كل أسبوع بعقد اختبارات منتظمة لأخلاق المواطنين وأبسط تعدياتهم على الأصول الواجب مراعاتها. وبذلك بواسطة المشرفين على المجالس المحلية أولًا، ثم أعضاء مجلس الشيوخ ثانيًا، وأخيرًا عن طريق القضاة وتبعًا لما تتطلبه كل حالة على حدة. والنتيجة هي منع كل جرائم السب، والقمار، والبذخ، والشجار، والحقد، والغش، والخداع، والتبذير السفيه، وما أشبه ذلك، ناهيك عن الخطايا الأفدح التي لا حاجة لذكرها. هذا النقاء الخلقي، يا له من زينة مجيدة على تاج الدين المسيحي. إن علينا أن نذرف أمر الدموع ونندب حظنا بسبب انعدام هذا النظام في بلادنا وإهماله إهمالًا يوشك أن يكون تامًّا، وعلى كل أصحاب الخلق القويم أن يبذلوا غاية جهدهم حتى ترد الحياة عندنا لمثل هذا النظام.»
وسوف نرى في فصل قادم كيف بدت رحلة كاتب آخر من كُتَّاب اليوتوبيا، وهو «الراهب بغير عباءة» جابرييل دي فوانيي، إلى المدينة التي أثارت كل هذا الإعجاب في نفس أندريا. فهذا «المجتمع الحر» الذي تُعقَد فيه «الاختبارات كل أسبوع بانتظام لمراقبة أخلاق المواطنين»، لا بد أنه كان موحشًا وكئيبًا وقت زيارة أندريا له. والوسيلة التي كانت تتم بها المحافظة على «نقاء الأخلاق» في جنيف تعطينا فكرة عما كان يمكن أن تبدو عليه يوتوبيا أندريا لو أنها لم تختفِ من مخيلته. ففي عام ١٥٦٢م، كما يخبرنا أحد المؤرخين، أُحرِق اثنا عشر رجلًا وهم أحياء، بسبب اتهامهم بممارسة السحر، وأُغرِقت امرأة في نهر «الرون» لارتكابها جريمة الزنا، وحُكِم بالإعدام على أحد مواطني جنيف من الطبقة الوسطى بسبب هذه الجريمة نفسها، كما حكم على شخص يدعى جاك شابيلاز بقطع لسانه بعد أن اعترف بأنه قد لعن الرب وأنه أكل الشيطان وإن لم يستطع أن يبتلع قرونه. وكان هذا الشخص قد سبقت إدانته وعقابه بسبب تهمة مشابهة …
وإذا كانت روح عصر النهضة تعبر عن نفسها بقوة في آراء أندريا عن التربية والتعليم، فإن عقلية المصلحين الدينيين هي التي توجه نظرته الأخلاقية. ولا تتضمن حرية سكان «مدينة المسيحيين»، شأنهم في هذا شأن سكان جنيف، حق إنكار وجود الله. وقد فُرِضت التعليمات التي أصدرها كالفن في عامي ١٦٠٩م و١٦١٧م على جميع سكان جنيف أن يحضروا العظات الدينية بانتظام، ونجد هذا الإلزام نفسه في مدينة أندريا المثالية، كما نجد فيها الرقابة على الكتب، وتفتيش المنازل، وفرض العقوبات الصارمة على الزنا، ومع أن المصلح الألماني يبدي شيئًا من الرحمة والإنسانية فيما يقوله عن عقوبة الإعدام، وعن قسوة الشريرين الذين يعاقبون أكثر مما يصلحون، فإن أقواله عن الجرائم التي تقترف في حق الذات الإلهية، وضرورة معاقبتها بأقسى مما تعاقب به أي جريمة أخرى، يتردد فيها صوت النذير المخيف.
ربما كان في إمكاننا أن نحس بميل أقوى نحو «مدينة المسيحيين» لأندريا، لو كانت مبادئه الدينية قد سمحت له بقدر أكبر من التعاطف مع المشاعر الإنسانية، ولو سمح كذلك للطبيعة البشرية بأن تعبر عن نفسها دون أن تُتَّهم في كل لحظة بالسقوط في حبائل الشيطان. ولكن الواقع أن المؤلف يذكِّرنا من سطر إلى آخر بمدى الشر الذي وصل إليه الإنسان. «فكل إنسان»، كما يحذرنا أندريا، يحمل معه الشر المتوطن والمتأصل، بل الشر الفطري الموروث من الأبوين ويعدي به رفاقه عدوى مسمومة لا ينجو منها حتى أولئك الذين كرسوا حياتهم لله تكريسًا تامًّا، وإنما تشق طريقها كالعاصفة بكل ألوان الشر والخديعة والغلظة والفظاظة، وتستبد بأولئك الناس فلا يستطيعون لها دفعًا طوال حياتهم ومهما تقلدوا أرفع المناصب المشرفة.
ولكي يبعد أندريا الشيطان عن سكان مدينته، فإنه يقرن أوصافه لأخلاقهم وعاداتهم بعظات مطولة يمكن أن نقول عنها إن «قراءة عظة واحدة منها تغني عن قراءتها جميعًا». ويندر أن نجد موضوعًا لا يعطيه الفرصة لتقديم مواعظه، فحتى الأطباق والصحون في مدينته الإلهية مزودة بالأفكار الورعة التقية. وهذه المواعظ تشغل من الكتاب حيزًا شديد الاتساع، مما يجعلنا نطمع في عفو القارئ إذا ذكرنا واحدة منها من الموضوع الأثير لدى أندريا، وهو «النور». فهو يتخذ من إضاءة الشوارع ذريعة عجيبة للحديثة عنه، وبعد أن يقرر بإيجاز شديد أن سكان مدينة المسيحيين «لا يسمحون لليل بأن يكون مظلمًا، وإنما يضيئونه بمصابيح مشتعلة، وذلك لتوفير الأمن للمدينة، ومنع التسكع في الشوارع، وجعل الحراسة الليلية شيئًا غير منفر»، نراه يستطرد في الخطبة الطويلة عن الدلالة الرمزية للنور:
«سوف يطيب لهم أن يناضلوا بهذه الطريقة لكي يقاوموا مملكة الشيطان المظلمة وألاعيبه المريبة، وسوف يتوقون إلى تذكر أنفسهم بالنور الأبدي. أما ما يتوقعه عدو المسيح من هذا العدد الكبير من الشموع، فعليه أن يراه بنفسه، ولكن علينا نحن ألا نتهيب من أي نظام يقلل من خوف إنسان يعمل في ظلام الليل، ويزيح الحجاب الذي تحرص أجسادنا كل الحرص على أن تغطي به الفسق والفجور … آه لو صحت عزيمتنا على الاتجاه نحو النور، إذن لما بقيت هناك فرصة لكل أنواع الخسة ولا لهذا العدد الكبير من الأوغاد الأفَّاقين. ليت نور قلوبنا يتوقد بصورة مستمرة، وليتنا نكف عن محاولاتنا المتكررة لمخادعة عين الله التي ترى كل شيء. والآن والظلام يتخذه العالم ذريعة ليفتح أبوابه بكل أنواع الحقارة والدناءة، بينما ينشر العمى فوق الأشياء التي يخجل منها، فماذا عسى أن يكون الموقف عندما يعود المسيح وتبدد شمسه كل ضباب، ويظهر فساد العالم الذي يحميه (الظلام) بكل هذه الأغطية، وعندما تصبح شهوات القلوب، ورياء الشفاه، وما قدمته الأيدي من عمل سيئ وكل ما اقترفه من الفحش عارًا عليه وسخرية في نظر المباركين المنعمين؟»
إن هذه الفقرة تعبر تعبيرًا كاملًا عن شخصية أندريا. وإذا كانت طيبته وحدبه على مواطنيه، بجانب حسه العملي، قد حملته على المطالبة بإضاءة المدينة لتوفير الأمن وتخفيف العبء عن حرَّاس الليل، فإن مشاعره الأخلاقية والدينية قد جعلته يتجاوز هذه الاعتبارات العملية. ويشعر قارئ يوتوبياه أن حبه للناس يدفعه إلى الثقة بهم بصفتهم كائنات حساسة وقادرة على أن تعيش حياتها بأمانة وشر، ولكن تدينه يقول له إن الإنسان شرير ويحتاج إلى الهداية والموعظة والتحذير والوعيد إذا اقتضت الضرورة، وذلك لحمايته من الوقوع في الإثم والخطيئة. وهذا هو الذي جعل مدينته المثالية تركيبة عجيبة مؤلفة من الطوائف الحرة والاستبداد الديني، والمسئولية الشخصية والخضوع الكامل للدين.
وسواء كانت أخوة الصليب الوردي تنظيمًا أسطوريًّا خالصًا أو كان علينا أن نقتنع بالمبررات التي قدمها أندريا لمشروعه الخاص بمدينة مثالية، فإن الأمر في الحالين لن يخرج عن دائرة التأمل والتخمين. ولو أخذنا كلام أندريا بشكل حرفي لكان الهدف من مدينة المسيحيين هو أن تصبح نموذجًا لجماعة يمكن أن تنشأ بمجرد أن يتجمع عدد كافٍ من الناس لهذا الغرض. وهذه هي الطريقة التي تصور بها كل من أوين وفورييه، بعد ذلك بقرنين، تكوين جماعتيهما المثاليتين. ومع ذلك فإن أندريا يبدأ سرد قصته بفصل مجازي خالص جعل الكثيرين يعتقدون أن كتابه ليس إلا مجرد أمثولة. وها هي ذي الفقرة التي لا تخلو من جمال شعري:
«بعد أن تجولت كالغريب على الأرض، وواجهت بالصبر ألوان المعاناة من الطغيان والسفسطة والنفاق، وفتشت طويلًا عن إنسان فلم أعثر على طلبتي، قررت أن أنطلق مرة أخرى فوق البحر الأكاديمي برغم ما نالني منه من الأذى. ولما أن ركبت سفينة الخيال الطيبة، غادرت الميناء مع الكثيرين غيري، وعرضت حياتي وشخصي لآلاف الأخطار التي تلازم الرغبة في المعرفة. وظلت الظروف مواتية لرحلتنا فترة قصيرة من الزمن، ثم هبت عواصف الحسد والافتراء المعادية وأهاجت علينا البحر الإثيوبي وقضت على كل أمل في طقس هادئ. وبذل الربان والبحارة بمجاديفهم قصارى جهدهم، ولم يستسلم حبنا العنيد للحياة، وحتى السفينة نفسها قاومت الصخور، لكن قوة البحر تثبت دائمًا أنها هي الأقوى. وفي النهاية بعد أن فقدنا كل أمل وتأهبنا استعدادًا للموت — بحكم الضرورة وليس بتأثير شجاعة الروح — تهاوت السفينة وسقطنا في الماء. ابتلع البحر بعضنا وجرف البعض الآخر إلى مسافات بعيدة، بينما حمل القليلين، الذين استطاعوا العوم أو وجدوا ألواحًا خشبية يطوفون عليها، إلى جزر مختلفة متناثرة في أنحاء البحر. ونجا القليلون جدًّا من الموت، وأُلقِي بي أنا وحدي، بغير رفيق واحد، إلى جزيرة صغيرة جدًّا، بدت أشبه بقطعة من بساط مرج أخضر.»
هبط الرحالة على جزيرة «كفار سالاما» التي كانت «غنية» بحقول القمح والمراعي الخضراء والأنهار والجداول المتدفقة، مزدانة بالغابات والكروم، ممتلئة بالحيوانات، كأنما هي عالم كامل في صورة مصغرة.
وقبل أن يؤذن للرحالة بالدخول إلى المدينة تم استجوابه من قبل ثلاثة ممتحنين. وأندريا هو أول من جعل الدخول إلى يوتوبياه مشروطًا باجتياز اختبار معين، ولعلنا نحس بالامتنان نحو موظفي مكاتب الهجرة في هذه الأيام لأنهم ليسوا مدققين تمامًا مثل موظفي مدينة المسيحيين …
ويقنع الممتحن الأول بأن الرحالة ليس بدجال، ولا شحاذ، ولا ممثل مسرحي. ويختبر الثاني خلقه ومزاجه، ويحرص الثالث على أن يعرف — ضمن أمور أخرى كثيرة — إن كان قد أحرز تقدمًا في «ملاحظة السماوات والأرض، والتمعن في بحث الطبيعة، والأدوات الفنية، وتاريخ اللغات وأصلها، وتجانس العالم في مجموعه …»
ومع أن الرحالة لم يكن مستعدًّا تمام الاستعداد للإجابة عن هذه الأسئلة، إلا أنهم يسمحون له بدخول المدينة لأنه جاء معه «بسجل طاهر نظيف وكأن البحر نفسه قد غسله من أدرانه».
والمدينة صغيرة ولكنها محكمة، وقد تم بناؤها كوحدة واحدة يؤدي كل قسم من أقسامها وظيفة محددة. وهي تنم عن حب التناسق الكامل الذي طبع بطابعه العمارة في عصر النهضة:
«والمدينة على شكل مربع تبلغ مساحة ضلعه سبعمائة قدم، وهي محصنة تحصينًا متينًا بأربعة أبراج وسور، وتطل لهذا السبب على الجهات الأربع للأرض … وفيها صفان من الأبنية، يصلان إلى أربعة صفوف إذا أضفت مقر الحكومة والمخازن، وهناك شارع عمومي واحد، وكذلك سوق واحد، ولكنه على درجة عالية من التنظيم. وإذا قِسْتَ المباني، مبتدئًا بالشارع الممتد في قلب المدينة والبالغ عرضه عشرين قدمًا، وجدت أعدادها في تزايد مستمر من الخمسة إلى المائة. وعند هذه النقطة يوجد معبد دائري، يبلغ طول قطره مائة قدم … وجميع المباني مكونة من ثلاثة طوابق تؤدي إليها شرفات عامة … وهي مبنية بالطوب الحجري المحروق، وتفصل بينها حوائط عازلة ومضادة للحريق، بحيث لا تستطيع النيران أن تخربها تخريبًا شديدًا … وجميع الأشياء من حولك تبدو شديدة التشابه، فلا بذخ ولا قذارة، والهواء المنعش والتهوية متوافران. ويعيش هنا ما يقرب من أربعمائة مواطن في ظل الإيمان والسلام الساميين. وخارج الحوائط (المحيطة بالمباني) خندق مملوء بالأسماك يمكن الاستفادة منه حتى في أوقات السلم. وتوجد في الأماكن المفتوحة وغير المستعملة حيوانات مفترسة، يُحتَفظ بها للأغراض العملية لا للفرجة والتسلية. وتنقسم المدينة بأكملها إلى ثلاثة أقسام، واحد لإمدادها بالغذاء، والثاني للتدريب العسكري والرياضي، والثالث للكتب. أما باقي الجزيرة فهو مخصص للزراعة والورش الصناعية.»
ولا يقوم تنظيم «مدينة المسيحيين» على أساس العائلة الأبوية كما في مدينة أمورات (في يوتوبيا مور)، أو على جماعة الرهبان في الدير كما في مدينة الشمس (في يوتوبيا كامبانيلا)، وإنما تنقسم إلى أقسام تبعًا لنوع العمل الذي يتم في كل قسم منها. ففي الطرف الخارجي للمدينة نجد الأقسام المخصصة لإنتاج الغذاء وتخزينه، وكذلك للصناعة الثقيلة. والقسم المواجه للشرق يضم منطقة المزارع التعاونية، وهو مقسم إلى جزأين يوجد في أحدهما المزارع، وفي الآخر (حظائر) تربية المواشي. والقسم المواجه للجنوب تشغله الطواحين والمخابز، والمواجه للشمال توجد به محلات اللحوم والمخازن، أما القسم المتجه ناحية الغرب فهو مخصص للحدادة.
ويقسم المهنيون في داخل المدينة إلى أربعة أقسام: «فكما أن المدينة ذات أربعة أركان، فكذلك يتعامل السكان مع أربع مواد خام: المعادن، والأحجار، والأخشاب، والمواد المطلوبة للنسيج، مع مراعاة فارق واحد، وهو أن المهن التي تتطلب قدرًا أكبر من المهارة والمقدرة الفطرية يخصص لها المربع الداخلي، بينما يخصص المربع الخارجي أو المربع الأكبر لتلك المهن التي يسهل إنجاز العمل فيها.»
وقد تبع المعماريون المحدثون هذا التخطيط الوظيفي للمدن، كما أثار إعجاب واحد من الخبراء الثقات في تخطيط المدن، وهو الأستاذ «لويس ممفورد» الذي يقول عنه: «… إن أصحاب اليوتوبيات في القرن السابع عشر قد استبقوا بتخطيطهم للأحياء الصناعية لمدينة المسيحيين، أفضل النظم التي تطبق اليوم بعد قرن من البناء العشوائي. فتقسيم المدينة إلى مناطق، والفصل بين الصناعات الثقيلة والصناعات الخفيفة، وتجميع المؤسسات الصناعية المتناظرة، وتزويد المدينة بمنطقة زراعية قريبة منها، كل ذلك يجعل مدننا الغنية بالحدائق مجرد نسخ متأخرة من مدينة المسيحيين.»
وبالرغم من كل هذه الحداثة التي وُصِفت بها «مدينة المسيحيين»، فقد قامت إلى حد ما على مثال المدنية الوسيطة التي يقول عنها الأستاذ «كروبوتكين» إنها تقسم عادة إلى أربعة أحياء، أو إلى خمسة أو سبعة أحياء ممتدة من المركز، وكل حي يلائم التجارة أو المهنة المعينة التي تغلب على سكانه، وإن لم يمنع هذا من وجود سكان أوضاع اجتماعية ومهن مختلفة.
والإدارة المحلية للمدينة تعتمد على هذا التقسيم تبعًا للمهنة. ففي القسم الشرقي، أي في حي المزارع، يهيمن برج عالٍ على المباني، وتحت قبة هذا البرج «يتجمع المواطنون الذين يعيشون في هذا الجزء من المدينة كلما دعتهم الأوامر والتعليمات إلى ذلك، ويتشاورون معًا في الشئون الدينية والشئون المدنية». ومن هذا يتبين لنا أن «الطائفة المهنية» تعتمد على العمل الذي يؤديه العامل وعلى المكان الذي يعيش فيه.
ويتولى شئون الحكومة مجلس مؤلف من ثلاثة رجال لأنهم، على الرغم من اعترافهم بمزايا الحكم الملكي، يفضلون أن يتركوا هذا الشرف للسيد المسيح، كما أنهم يسيئون الظن ولديهم الأسباب التي تحملهم على ذلك، بحكم البشر لأنفسهم. ويحكم القسم المركزي للدولة ثمانية رجال، يعيش كل منهم في أحد الأبراج الكبيرة ويعاونه ثمانية مساعدين موزعين على الأبراج الصغيرة. وهناك أيضًا أربعة وعشرون مستشارًا منتخبين من قبل المواطنين. ولا يدين أعضاء المجلس الثلاثي والموظفون الكبار والمستشارون بمناصبهم للمولد أو الثروة، بل لفضائلهم السامية وخبرتهم بالشئون العامة، والحب والاحترام الذي يوحون به. والدين هو الذي يحكم الدولة، وثمة لوح مزدوج، نقشت حروفه بالذهب، ودونت عليه عقيدتهم التي يؤمنون بها، وأهداف الحياة اليومية وقواعدها، لأنهم «شعب المسيح الذين يتفق دينهم مع دين الحواريين وتدار دولتهم وفقًا لشريعة الرب».
وليس في هذه الجمهورية المسيحية ملكية خاصة. وكل إنسان يتسلم من الجماعة كل ما يحتاج إليه: «لا أحد يملك أي نقود، ولا يتم أي تعامل بالنقود الخاصة، ومع ذلك فالجمهورية لها خزانة خاصة لها. ومن هذه الناحية ينعم السكان بالسعادة التي لا تعد لها سعادة، إذ لا يتفوق إنسان على إنسان بحكم الثروات التي يمتلكها، بل يمتاز الواحد منهم على الآخر بفضل قوته وعبقريته، وتنال الأخلاق القويمة والتقوى أسمى آيات الاحترام.»
ويحتل العمل مكانًا مشرفًا في مدينة المسيحيين. وعلى الرغم من أن أندريا يحذو حذو كامبانيلا في إلغاء العبودية وإدانة الظلم الذي تنطوي عليه إعانة العاملين للمتعطلين، فإنه يذهب أبعد منه حين يبين أن العمل الكريه نفسه يمكن ألا يكون عبئًا على صاحبه إذا أداه في جو مشبع بالمساواة والحرية:
«وهم يعملون ساعات قليلة جدًّا، ومع ذلك فإن إنجازهم لا يقل عن الإنجاز الذي يتم في أماكن أخرى، إذ يعتبر الجميع أن من العار على أي واحد منهم أن يأخذ من الراحة والفراغ أكثر مما هو مسموح به. وإذا صح في الأماكن الأخرى أن عشرة من العاملين لا يستطيعون إلا بالكاد أن يعولوا متعطلًا واحدًا، فليس من الصعب أن نصدق أن العمل مع هؤلاء الناس نوع من وقت الفراغ الممتع للأفراد. ومع ذلك فإنهم جميعًا يمضون إلى أعمالهم بطريقة تدل على أنهم يفيدون أجسادهم (بالعمل) ولا يؤذونها. وحيث لا توجد عبودية، فلا شيء يرهق جسد الإنسان أو يضعفه.»
ونجده في موضع آخر يهاجم التحيز المسبق ضد العمل اليدوي: «وهناك أيضًا واجبات عامة يلتزم بها جميع المواطنين، كالمراقبة، والحراسة، وحصاد الغلال والكروم، وأعمال الطرق، وتشييد المباني، وتجفيف الأراضي، وكذلك بعض الواجبات الأخرى، كالمساعدة في المصانع، التي تُفرَض على الجميع بالتناوب طبقًا للعمر والجنس، ولكنها لا تتكرر كثيرًا ولا بصفة دائمة. ومع أن بعض ذوي الخبرة يُكلَّفون بالقيام بجميع الواجبات، إلا أنه إذا طُلِبت المساعدة من الرجال، لم يبخل على الدولة بخدماته وقواه. والمشاعر التي نحملها لبيوتنا، يحسون بها نحو مدينتهم التي يعتبرون بحق أنها بيتهم. ولهذا السبب لا يخجل أحد منهم من القيام بأي خدمة عامة، ما دامت غير منفرة أو ثقيلة على نفسه. وهكذا يتم إنجاز أي عمل في الوقت المناسب وبغير صعوبة، حتى العمل الذي يبدو شديد الإرهاق، لأن عزيمة العدد الأكبر من العاملين تمكنهم بسهولة من تجميع أو توزيع، أعظم قدر ممكن من الأشياء. ومن منا لا يعترف — ما دمنا جميعًا نريد أن نبتهج ونستمتع بالامتيازات وأسباب الراحة التي تقدمها لنا الجماعة — بأن الجهد والعمل يرزحان عادة على أكتاف القلة، بينما يُسمَح للأغلبية بالتبطل المستمر والجشع والنهم؟ ومن ذا الذي يمكنه، على العكس من ذلك، أن ينكر أن كل مواطن، حسب موقعه ووضعه، مدين للجمهورية بأفضل جهوده، وأن عليه أن يعترف بذلك، لا بلسانه فقط، بل كذلك بيديه وكتفيه؟ وأن المتهالكين على الملذات، مدفوعين بالحساسية والرقة الزائفتين، يستنكفون من لمس الأرض، والماء، والحجارة، والفحم وأشباه ذلك، ويظنون أن من عوامل الأبهة أن يمتلكوا الخيول والكلاب والبغايا وغير ذلك من المخلوقات للترويح عن أنفسهم.»
وبينما اعتقد «مور» أن بعض الحرف ذات تأثير مهين على أصحابها، نجد أندريا يقول إن «الرجال الذين يقومون بالأعمال الشاقة في مدينة المسيحيين لا يصبحون شرسين غلاظ الأكباد، وإنما يحتفظون برقة قلوبهم، فالحرَّاس ليسوا نهمين بل معتدلون، ولا تفوح منهم الروائح الكريهة بل تبدو عليهم النظافة التامة … وهناك حي يقع في شمال المدينة ويخصص للمذابح … وهذه المنطقة لا توحي بالتوحش أبدًا، في حين أن الناس في أماكن أخرى يصبحون خشنين قساة القلوب لتعودهم كل يوم على سفك الدماء، أو التعامل مع اللحوم والدهون وجلود الحيوانات وما شابه ذلك.»
ويبين أندريا أيضًا أن العمل ليس عقابًا مفروضًا على الإنسان، وذلك إذا تم إنجازه كنوع من تزجية الفراغ، «وبينما يهلك الواحد منا من التعب والجهد المرهق، فإن قواهم تتجدد بمراعاة التوازن الكامل بين العمل والفراغ، بحيث لا يقبلون على أي عمل لا يهيئ لهم السرور والبهجة …»
ولا يؤمن أندريا، على خلاف أفلاطون، بضرورة الفصل بين العمل اليدوي والعمل العقلي، بل يؤكد واجب كل فرد في القيام بهما معًا:
«… إن الحرفيين عندهم متعلمون بصورة تكاد أن تكون كاملة. فالتعليم الذي تتصور الشعوب الأخرى أنه سمة مميزة لفئة قليلة من الناس (وإن كان بالفعل هو السمة المميزة لأغلبية كبيرة منهم، إذا اعتبرت أن تراكم الخبرات نوع من التعليم) ينبغي في رأي سكان المدينة أن يحصِّله جميع الأفراد. وهم يقولون في هذا الصدد إن الشخص الأوحد لن تمنعه دقة الدراسة الأدبية ولا مشقة العمل من إتقانهما والتفوق فيهما إذا تلقى القدر الكافي منهما.»
وآراؤه عن تطبيق العلم على الصناعة آراء مهمة وطريفة. فالعلم لا يفيد الإنتاج وحده، وإنما يسمح أيضًا للعمال أن يفهموا ما يعملون وأن يزيد إقبالهم على العمل واهتمامهم به:
«والقسم المخصص للحدادة، توجد في أحد جانبيه سبع ورش معدة لصهر المعادن وطرقها وخلطها وتشكيلها، وفي الجانب الآخر سبع محلات مخصصة لأولئك العمال الذين يصنعون الملح، والزجاج، والآجر، والخزف وسائر المصنوعات التي تتطلب نارًا دائمة الاشتعال. وهنا تلاحظ في الواقع نوعًا من اختبار الطبيعة لنفسها، فكل ما تحتويه الأرض في أحشائها يخضع لقوانين العلم وأدواته، ولا يساق الناس إلى عمل لم يألفوه كما يساق القطيع من الحيوانات، بل يتم تدريبهم قبل ذلك بوقت طويل على المعرفة الدقيقة بالأمور العلمية، ويبتهجون بالاطلاع على كوامن الطبيعة. وإذا لم يصغِ الشخص هنا إلى صورة العقل ويمعن النظر في أدق عناصر الكون الأصغر. فهو في رأيهم لم يحقق شيئًا. وما لم تقم بتحليل المادة عن طريق التجربة، وتصلح عيوب المعرفة باستخدام أدوات أكثر كفاءة، فأنت في نظرهم عديم القيمة … وهنا يمكن للإنسان أن يرحب بالكيمياء ويتفحصها عن كثب، وأقصد بها الكيمياء الصادقة الأصيلة، والحرة الفعَّالة، على حين أن الكيمياء المزيفة تخلب لب الإنسان في الأماكن الأخرى وتتسلط عليه من وراء ظهره. ذلك أن من عادة الكيمياء الحقيقية أن تهتم بالفحص الدقيق، وتستعين بكل طرق الاختبار، وتلجأ لاستخدام التجارب. وباختصار أقول إننا نجد هنا العلم العملي.»
أما كيف يتم الإنتاج في «مدينة المسيحيين» بغرض الاستعمال لا الربح، فهذا هو الذي يشرحه أندريا بقوله:
«ويجري عملهم (أو «استخدام أيديهم»، كما يفضلون تسميته) بطريقة محددة مرسومة، وتوضع كل المنتجات في معرض عام. ومن هنا يتسلم كل عامل من المخزن المختص أي شيء يحتاج إليه في عمله طوال الأسبوع، لأن المدينة بأكملها أشبه بورشة واحدة تضم كل أنواع الحرف. ويقيم المسئولون عن هذه الواجبات في أبراج أصغر تقع في أركان السور، وهم يعلمون مقدمًا ماذا يجب أن يُصنع، والكمية المطلوبة منه، والشكل الملائم له، ويبلغون الميكانيكيين بهذه الأمور. وفي حالة توافر المخزون من المواد في المعرض، يسمح للعمال بإشباع رغبتهم في العمل وإطلاق العنان لعبقريتهم المبدعة.»
وإذا كان سكان «مدينة المسيحيين» قد بلغوا درجة كافية من الحكمة تجعلهم لا ينتجون أكثر مما يستطيعون استعماله، فإنهم يحمون أنفسهم أيضًا من الحاجات غير الضرورية. ولا تحتاج العائلات، بحكم صغرها، إلى منازل كبيرة، وإنما تعيش في شقق صغيرة، ولا تحتاج كذلك إلى الخدم إلا في المناسبات النادرة. ولما كانت المساواة بينها مطلقة، فإنها في غنًى عن التباهي على بعضها البعض بالترف الذي لا داعي له: «وجميع المنازل تقريبًا مبنية على طراز واحد، وتتم صيانتها وتنظيفها بعناية حتى لا تشوبها أي شائبة. ويتكون المنزل العادي من ثلاث غرف، وحمام، وجناح للنوم، ومطبخ، ويفصل بين هذين حاجز خشبي. والجزء الأوسط داخل الأبراج به منور صغير ونافذة واسعة، حيث ترفع الأخشاب والأشياء الثقيلة الوزن بواسطة بكرات … وتقوم الدولة بصيانة المنازل على نفقتها، ويتخذ المفتشون الاحتياطات اللازمة لكي لا يخرب شيء أو يبدل بسبب السهو أو الإهمال.
ولا وجه للتعجب من ضيق المساكن؛ فوجود عدد قليل جدًّا من الاشخاص الذين يعيشون فيها، يستلزم كذلك أثاثًا قليلًا جدًّا. أما غيرهم من الشعوب التي تعيش في مساكن تنم عن الزهو والبذخ، وتتكون عائلاتها أيضًا من عدد قليل جدًّا من الأشخاص، وتكدس قطع الأثاث تكديس فظيعًا، فلا يمكنها أبدًا أن توسع على نفسها في المكان. إنها تثقل على غيرها كما تثقل على نفسها، ولا أحد يمكنه أن يصف أشياءهم الضرورية، بل ولا وسائل راحتهم، إلا بأنها كتل جامدة لا تحتمل.
ويمكننا الآن أن نحدس بنوع الأثاث. والواقع أنه يقتصر على الأثاث الضروري إلى أقصى حد، وحتى هذا الأثاث الضروري قليل للغاية … هناك الأطباق الضرورية لمائدة الطعام والأواني الكافية للطبخ. وما الذي يدعوك للحصول على أعداد كبيرة من هذه الأشياء ما دمت تستطيع أن تحصل من المخزن العمومي على كل ما ترغب فيه بصورة معقولة؟
وهم يلبسون بذلتين فقط، إحداهما للعمل، والأخرى للإجازات، وهما موحدتان بالنسبة لجميع الفئات. وشكل الملبس يدل على الجنس والعمر، كما يصنع من الكتان أو الصوف تبعًا لفصل الصيف أو فصل الشتاء على الترتيب، واللون واحد بالنسبة للجميع، وهو الأبيض أو الرمادي الفاتح، ولا أحد يتعامل مع الخيَّاطين، ونظرًا لأن الأطفال الذين شبوا عن الطوق ينشئون في مكان آخر، فإن العائلة تتكون في معظم الأحوال من أربعة أو خمسة، وفي حالات أقل من ستة، (وفي المتوسط) من الأب والأم وطفل أو طفلين. واللجوء إلى الخدم من الرجال أو النساء شيء نادر وغير ملحوظ، إلا في حالة رعاية المرضى، والوضع، والعناية بالرضع. والزوج والزوجة يشتركان في القيام بالواجبات العادية في البيت، كما يقومان ببقية الواجبات في المحلات العامة.»
وعلى خلاف معظم اليوتوبيات، لا توجد وجبات مشتركة في مدينة المسيحيين، ولكن هذا لا يؤدي لأي نوع من التفرقة بينهم؛ لأنهم يطبقون نظامًا موحدًا في التموين:
«إنهم جميعًا يتناولون وجباتهم الخاصة، ولكن الطعام يتم الحصول عليه من المخزن العمومي، ولأن من المستحيل في الغالب تجنب التذمر والفوضى عندما يكون عدد المشاركين في الوجبات كبيرًا جدًّا، فإنهم يفضلون أن يتناول الأفراد طعامهم في بيوتهم. وكما أن الطعام يوزع طبقًا لفصول السنة، فإن حصصه تحدد أسبوعيًّا تبعًا لعدد العائلات. ولكن حصة النبيذ تغطي نصف العام، أو لفترة أطول من ذلك إذا سمحت الظروف. وهم يحصلون على حاجتهم من اللحم الطازج من محل اللحوم، ويأخذون منه القدر المعين لهم. والسمك ولحم الطرائد وجميع أنواع الطيور توزَّع عليهم وفقًا لحصة كل واحد منهم، مع أخذ الوقت والسن في الاعتبار. ولديهم في العادة أربعة أطباق، تعدها النساء بعد غسلها بعناية، وتباركها بتلاوة كلمات حكيمة وورعة. ولكل إنسان الحق في استضافة من يشاء، ويمكن أن يشارك الضيوف بأطباقهم، فإذا كان الضيف أجنبيًّا، يطلبون من المحلات العامة تزويدهم بما هو ضروري.»
«تستفيد الزوجات من المعرفة التي حصلناها من المدرسة. وكل ما تنجزه الصناعة البشرية باستخدام الحرير والصوف أو الكتان، هو مادة الفنون التي تمارسها النساء كما هو في متناول أيديهن. لهذا يتعلمن الخياطة، والغزل، وأعمال الإبرة، والنسيج، والزخرفة بشتى أنواعها. ونسيج السجاد هو عملهن اليدوي، وتفصيل الملابس عملهن المنتظم، وغسيل الثياب واجبهن. وفضلًا عن ذلك فهن يدبرن شئون البيت والمطبخ ويقمن بتنظيفهما. ومهما تكن طبيعة الدراسة التي تلقينها فهن يتطورن ويتحسَّنَّ، بفضل مواهبهن العقلية، لا لكي يتعلمن فحسب، بل لكي يقمن في بعض الأحيان بالتعليم. وليس لهن في الكنيسة ولا مجلس الشورى صوت (مسموع)، ومع ذلك فهن يقمن بتشكيل مبادئ التقوى والأخلاق، ويتألقن بالهبات التي حبتهن السماء. إن الرب لم يضن على بنات هذا الجنس بشيء، ما دمن يتمسكن بالتقوى والورع، فمريم المباركة إلى الأبد هي أمجد قدوة لهن. ولو قرأنا تواريخ (الشعوب) لما وجدنا فضيلة واحدة لما تتخلق بها المرأة، ولا فضيلة واحدة لم تتفوق فيها، وإن كان من النادر أن تفهم الكثيرات منهن قيمة الصمت. والنساء (في مدينة المسيحيين) لا يتزين إلا بالزينة التي ذكرها (القديس) بطرس، ولا سيادة لهن إلا على الشئون المنزلية، ولا يسمح لهن بالقيام بأعمال الخدم (وهو شيء ستدهشون له) إلا إذا اقتضت ذلك ظروف المرض أو بعض الحوادث الطارئة. ولا تخجل امرأة من أداء واجباتها المنزلية، ولا تتعب أيضًا من تلبية حاجات زوجها. كذلك لا يتصور أي رجل، مهما تكن الوظيفة التي يشغلها، أنه أسمى من أن يقوم بأي عمل مشرف، لأن الحكمة والعمل لا يتعارضان على الإطلاق إذا توخى المرء الاعتدال.»
وآراء أندريا عن الزواج أكثر تحفظًا من اليوتوبيات السابقة. فالزواج لا يتم وفقًا لمبدأ تحسين النسل، وإنما يتم استجابة للميول المتبادلة (بين الطرفين)، وذلك إذا لم يُقابَل بالرفض من العائلة والدولة:
«لا يوجد مكان يمكن أن يوفر الأمن لإتمام الزواج فيه أكثر من هذا المكان. ولما كان خاليًا من الشذوذ المرتبط بعادة تقديم العرس للمهر، ومن قلق الحاجة إلى الخبز اليومي، فلا يبقى إلا الحفاظ على قيمة الفضائل وأحيانًا على قيمة الجمال. ويسمح للشباب البالغ من العمر أربعة وعشرين عامًا أن يتزوج من فتاة لا يقل عمرها عن ثمانية عشر عامًا، بشرط موافقة الأبوين، ومشاورة الأقارب، وتصديق القانون، ومباركة الرب. وهم يحترمون صلة الرحم احترامًا كبيرًا. وأهم العوامل التي تؤخذ في الاعتبار عند الارتباط الزوجي هي في الأغلب تجانس الطباع والاستقامة، بالإضافة إلى عامل آخر يندر أن نجده في أي مكان آخر، وهو تزكية التقوى (للعروسين). وأعظم الأخطاء هي الخيانة الزوجية التي تفرض القوانين على مرتكبيها عقابًا قاسيًا. ولكن حرصهم على تغيير الظروف (التي تساعد عليها) يمكنهم من القضاء على الخطايا. ويتم الزواج في الغالب بلا نفقات ولا ضوضاء، وهم لا يتوقعون على الإطلاق أي حماقة أو سفه دنيوي (في أثناء الاحتفالات بالزفاف التي تتم …) بغير سُكْر على الإطلاق، مما تبدأ به عادة كل المراسم المقدسة في الأماكن الأخرى، وإن كانوا لا يستغنون عند إتمام الزواج من التراتيل والتهاني المسيحية. وليس لدى العروس أو لديهم ما يهدونه سوى وعود المسيح، والقدوة الطيبة المتمثلة في الأبوين، والمعرفة التي اكتسبها العروسان، والفرح والبهجة بالسلام. ويُزوَّد العروسان، مع المنزل، بالأثاث الذي يتم تسلمه من المخزن العمومي. وبهذا الأسلوب المقتصد يلخصون بشكل مأمون وسريع قصص الصلب، والعقاب، والعذاب، والتطهر وسائر ما اعتدنا أن نصف به الزيجات المشئومة لدينا.»
والهدف من الزواج هو الإنجاب، وهنا يختلف أندريا عن كامبانيلا في أنه لا يسمح بأن تكون العلاقات الجنسية من أجل المتعة وحدها:
«وهم يشيدون بتعفف الزوجين ويقدرونه إلى أقصى حد، بل إنهم يشجعون عليه، حتى لا يؤذوا أنفسهم أو يصابوا بالضعف نتيجة الإسراف في المعاشرة. وإنجاب الأطفال (في رأيهم) أمر مقبول وطبيعي، ولكن المجون عار. وإذا كان غيرهم يعيشون مع بعضهم البعض كالحيوانات، فعليهم أن يخجلوا حتى من الماشية التي (لا تخلو علاقاتها) من قدر من التحفظ. وأن يراعوا السماء أولًا قبل أن يراعوا الأمور الدنيوية خلال علاقات الحب والتعاون المتبادلة بينهم. وهكذا يعتقد مواطنو مدينة المسيحيين أن الزنا والتلوث قد لا يخلو منهما الزواج نفسه. فيا لأولئك الشهوانيين الذين لا يخجلون من ارتكاب الخطيئة في ظل الممارسات الشرعية وغير الشرعية!»
والدين هو النغمة الأساسية في التربية والزواج على السواء. ولا ينشأ الأطفال ليصبحوا جنودًا للدولة، بل لكي يصبحوا مسيحيين صالحين. ولما كانت العائلة والدولة مرتبطتين مع الدين في وحدة واحدة. فليس ثمة ما يدعو لفصل الأطفال عن آبائهم، ونظرًا لأن المواطنين جميعًا متساوون، فإن نظام التربية هو نفس النظام بالنسبة لجميع الأطفال من البنين والبنات.
تطورت الآراء الخاصة بالتربية تطورًا هائلًا خلال عصر النهضة، وتم إنشاء عدد كبير من الأكاديميات والكليات، في إيطاليا على وجه الخصوص، التي تلقى فيها أبناء وبنات الأرستقراطيين والأغنياء تربية شاملة متحررة. ولكن أندريا لم يشغل نفسه بتربية أقلية صغيرة متميزة، أي بأبناء الأمراء والتجار والأثرياء الذين يستطيعون توفير المعلمين الخصوصيين لأبنائهم وإلحاقهم بالمدارس الخاصة. ولهذا السبب يخلو برنامجه التربوي من ذلك السحر الذي يشع من نظام تربية أهل «ثيليما» المحظوظين، وإن تميز عنه بأنه بقي في متناول الجميع.
لم تكن الأغلبية العظمى من مدارس عصره قد تأثرت أدنى تأثر بأفكار عصر النهضة، وكانت الحاجة ماسة إلى إجراء تغييرات جذرية، لا في مناهج التربية فحسب، بل في المدارس ذاتها وفي مهنة التعليم. وبقيت الظروف في عصر أندريا هي نفس الظروف التي استنكرها «إرازموس» استنكارًا شديدًا في كتابه «مدح الحماقة»: «ومعلمو اللغة (…) الذين يتضورون جوعًا في مدارسهم وتنم هيئتهم عن القذارة الشديدة — هل قلت مدارسهم؟ بل هي بالأحرى أديرة أو إصلاحيات أو سلخانات — وقد أفنوا أعمارهم وسط الصبية حتى أصابهم الصمم من ضجيجهم، والتصقت بهم العفونة والعطن. ومع ذلك يتصورون أنفسهم أذكى وألمع من جميع الناس، ويتلذذون تلذذًا شديدًا بتخويف مجموعة من الأولاد المخيفين، بأصواتهم المدوية كالرعود، ونظراتهم العابسة المتجهمة، وتعذيبهم لهم بالضرب بالمساطر والعصي والسياط، وكأنهم وهم متبلدون أمامهم بلا عقل، يقلدون الحمار في جلد الأسد.»
والمدرسة في «مدينة المسيحيين» ذات حجرات واسعة جميلة: «كل شيء مفتوح، مشمس، وسعيد، حتى إنهم، عن طريق تأمل الصور، يجذبون الأطفال، ويشكلون عقول الأولاد والبنات، ويوجهون النصح للشباب. وهم لا يحترقون في (لهيب شمس) الصيف، ولا يتجمدون في الشتاء، لا تزعجهم الضوضاء، ولا تخفيهم الوحدة وكل ما يهدر في الأماكن الأخرى في الترف ولهو القصور، يكرس هنا للتسلية المحترمة والاهتمامات الشريفة، وهو استثمار (للوقت والجهد) لن تجد في أي مكان آخر أفضل منه ولا أكثر ربحًا.»
وإلى جانب العناية بالمظهر الذي تبدو عليه المدرسة، فإن اختيار المعلمين ينبغي أن يحظى بعناية أكبر. «ومعلموهم ليسوا من حثالة المجتمع البشري، ولا هم ممن لا يصلحون للوظائف الأخرى، وإنما اختارهم جميع المواطنين. إنهم أشخاص لهم مكانتهم في الجمهورية، كما يصلون غالبًا إلى أعلى المراكز في الدولة. والمعلمون الذين تقدموا في السن وعُرِف عنهم التمسك بالفضائل الأربع وهي عزة النفس، والتكامل، والنشاط، والسخاء، يتحتم عليهم أن ينهضوا بمسئولياتهم كأناس أحرار يتحلون بالشفقة، والمعاملة اللطيفة، والنزعة المتحررة، ويتجنبون التهديد والعنف والصرامة.»
وهم يحرصون على تدريب جميع الأطفال من الجنسين وعندما يتمون السادسة من عمرهم يسلمهم الآباء للدولة. ويتناولون الطعام وينامون في المدارس، ولكن الآباء يمكنهم أن يزوروا أطفالهم كلما شاءوا، حتى لو لم يسمح لهم برؤيتهم. وتتم العناية بالمساكن التي يعيشون فيها بنفس الطريقة التي اتبعت مع المدارس، وذلك لتهيئة الظروف «الصحية» لهم. «وهم يحرصون على أن يكون الطعام شهيًّا وصحيًّا، وتكون الأرائك والأسرة نظيفة ومريحة، والملابس وكل ما يكسو الجسم نظيفًا. ويغتسل التلاميذ كثيرًا ويستعملون مناشف من الكتان للتجفيف. ويمشط الشعر لمنع أي شيء غير نظيف من التجمع فيه. وإذا أُصيب الجلد أو الجسد بالأمراض، فإن المصابين يُعتَنى بهم في الوقت المناسب، كما يتم عزلهم لتجنب انتشار العدوى.»
والتربية في مدينة المسيحيين موجهة لتحقيق ثلاثة أهداف، أولها، بطبيعة الحال، هو «عبادة الله بروح خالصة مخلصة»، وثانيها هو «السعي نحو الأخلاق الفاضلة العفيفة»، والثالث هو «تنمية القوى العقلية». ومن الواضح أن أندريا لم يتصور التربية بالمعنى الضيق الذي نفهمها به اليوم، وهو تحصيل المعرفة، فهو يتم بتشكيل عقل الطفل وشخصيته وتنمية ملكاته أكثر من اهتمامه بحجم المعلومات التي حصَّلها.
ويتابع الأولاد والبنات نفس الدروس، وإن لم يكن ذلك في نفس الوقت، فالأولاد يتلقون دروسهم في الصباح، والبنات بعد الظهر. ويكرس بقية وقتهم للتدريب اليدوي وفنون التدبير المنزلي والعلم. وتتولى المربيات مع العلماء مهمة التعليم.
وتقسم المدرسة إلى ثماني قاعات مطابقة للأقسام الثمانية للتعليم. والقسم الأول هو مدرسة الفنون، التي تقسم بدورها إلى ثلاثة أقسام تبعًا لعمر التلاميذ. ويبدأ أصغر التلاميذ سنًّا بدراسة النحو واللغات، ويتعلمون «تسمية جميع أنواع الأشياء والأفعال بثلاث لغات هي العبرية واليونانية واللاتينية»، ولكن أندريا يؤكد لنا أنهم يحرصون على ألا يُحمِّلوا المخلوقات الرقيقة الهشة فوق طاقتها، وأن التسلية الحرة أمر مسموح به.
والتلاميذ الأكثر نضجًا يتعلمون الخطابة، ليتمكنوا من تفنيد جميع أنواع الحجج طبقًا لقواعد هذا الفن. ومع أنهم يتعلمون كيف يزينون خطبهم بعدد قليل من «زهور الأناقة»، فإن الاهتمام بالقوة الطبيعية يفوق عندهم الاهتمام بالشكل المصطنع. أما التلاميذ الذين بلغوا مرحلة كافية من العمر فيتعلمون كذلك اللغات الحديثة لا لكي يستزيدوا من المعرفة، بل ليستطيعوا الاتصال بشعوب كثيرة على الأرض، سواء الميتة منها أو الحية، ولا يضطرون لوضع ثقتهم في كل من يزعم أنه عالم. ولكن الاهتمام بدراسة اللغات لا ينبغي أن تكون له الأولوية على حساب الاهتمام باستخداماتها، فالمهم هو ما يريد المرء أن يقوله، وهذا شيء يمكن التعبير عنه أيضًا باستخدام لغة الأم: «إذا توافرت الاستقامة والأمانة، فلا يهم كثيرًا بأي لسان يعبر عنهم، وإذا غابا، فلن يزيد الإنسان فضلًا حين يرطن باليونانية أو اللاتينية.»
وفي القاعة الثالثة نرجع مرة أخرى إلى العلوم الأقل سرية، كالحساب والهندسة والجبر، وهي التي تنمي الملكات العقلية وتساعد على حل المسائل العلمية باجتهاد ملحوظ. وهنا أيضًا يتلقى الطلاب علم الأعداد الصوفية الذي لعب دورًا بالغ الأهمية في فلسفة عصر النهضة. فقد تصور المخططون لعصر النهضة أن من المستحيل ألا يكون الله، وهو المخطط الأول، قد نظَّم العالم وفقًا لقواعد ومقاييس متناسقة. ومن المؤكد أن المهندس الأعظم، كما يقول أندريا، «لم يخلق هذه الآلية (الميكانيزم) المهولة بطريق المصادفة العشوائية، ولكن بحكمته العميمة أكملها بالمقاييس والأعداد والنسب، وأضاف إليها عناصر الزمن المتميزة بالتجانس العجيب.» وهذه الخطة المثيرة للإعجاب لا يمكن اكتشافها «ببوصلات الفلسفة البشرية»، بل عن طريق الوحي الإلهي وحده، الذي ليس من السهل الإحاطة بأسراره. ويجب التزام نفس الحذر عند التنبؤ بالمستقبل، فلا ينكر أندريا قيمة التنبؤات، ولكنه ينبه إلى أن الله قد احتفظ لنفسه (بالعلم) بالمستقبل، ولم يكشف عنه إلا لعدد محدود من الناس وعلى فترات متباعدة جدًّا.
وتُشْتَرط معرفة الحساب والهندسة لدخول القسم الرابع المخصص للموسيقى. والموسيقى في مدينة المسيحيين تتطلع لمحاكاة الموسيقى السماوية ولا تشجع «جنون الرقص، وعبث الأغاني الشعبية، وصخب العربدة البشعة. وقد طردت كل هذه الأشياء من الجمهورية ولم يعد يسمع عنها. وآلاتهم الموسيقية، التي يملكون عددًا كبيرًا ومتنوعًا منها ويعزف عليها كل فرد تقريبًا ببراعة، يتم تكييف أنغامها مع الآلات الإلهية كما تطوف جوقتهم الموسيقية، المخصصة كذلك للموسيقى الدينية الجادة، بشوارع المدينة مرة كل أسبوع، بالإضافة إلى أيام العطلات.»
ويخصص القسم الخامس للفلك والتنجيم «الجديرين بالجنس البشري كأي فن آخر». فلا يليق بالإنسان «أن ينظر إلى السماء بغفلة لا تقل عن غفلة الحيوان». والذين لا يعرفون قيمة التنجيم في الشئون البشرية، أو ينكرونه بحماقة وغباء، يجب أن يُحكَم عليهم بحفر الأرض وزرع الحقول، لأطول فترة ممكنة، وفي أسوأ طقس ممكن. ولكن التنجيم هنا أبعد ما يكون عن القيام بالدور الأساسي الذي قام به في «مدينة الشمس». ويقول «سكان مدينة المسيحيين» إنهم لا يطمئنون للاعتماد على النجوم في كل شيء «من اللحظة الأولى للوجود والميلاد، ولا للتسليم بالقضاء في الحياة والموت ابتداءً من هذه اللحظة؛ ولهذا يؤكدون بدلًا من ذلك أنهم يبحثون عن الوسيلة التي يمكنهم بها أن يتحكموا في النجوم، كما يتخلصون بالإيمان الصادق من نير العبودية لها إذا وجد.»
وفي القاعة السادسة يتعلمون الفلسفة الطبيعية والتاريخ المدني والكنسي. وهم يرون أن معرفة العوالم المختلفة والمخلوقات التي تعيش فيها يجب أن تقترن بمعرفة أحداث المأساة البشرية. ويؤكد أندريا الحاجة (الشديدة) لمعرفة الحقيقة التاريخية، ولكنه يحذر أيضًا من أولئك الذين لا يرون إلا شرور الجنس البشري، والجرائم الفظيعة، والحروب البشعة، والمذابح المرعبة، ويتجاهلون بذور الفضيلة، وكرامة الروح البشرية، (والعهود الطويلة) التي توافر فيها السلام والاستقرار. «وهناك باحثون تدفعهم الجرأة الكافية على إنكار هذه الحقائق واعتبارها من قبيل الخرافات، والواقع أنهم يستحقون هم أنفسهم بجدارة أن تروى عنهم الخرافات …»
لقد رأينا كيف اهتم مشروع أندريا التعليمي بأكمله بالتربية الأخلاقية بقدر اهتمامه بنشر المعرفة. وعلى الرغم من هذا فقد خصص القسم الخامس للأخلاق، بحيث تتضمن دراسة جميع الفضائل الإنسانية من الناحيتين النظرية والعملية، بالإضافة إلى فن الحكم والمحبة المسيحية، كما أكد أن أقيم الخصال الإنسانية هي المساواة، والرغبة في السلام، واحتقار الثروة.
والمدرسة الأخيرة مخصصة للاهوت، ويتلقى فيها الطلاب دروسًا عن الكتاب المقدس وما فيه من جوانب «القوة، والبلاغة، والتأثير، والعمق»، كما يدرسون اللاهوت العملي الذي يتعلمون منه كيفية الصلاة والتأمل. ولديهم كذلك مدرسة للتنبؤ، لا لتعليم التكهن بالمستقبل، بل لاختبار أولئك الذين حباهم الله موهبة التنبؤ، وملاحظة مدى اتساق الروح التنبئية وصدقها.
وبجانب القاعات الثماني التي انتهينا من وصفها توجد حجرتان لدراسة الطب وحجرتان أخريان لدراسة التشريع. والدراسة الأخيرة أكاديمية بحتة، إذ ليست هناك حاجة للمحامين في مدينة المسيحيين. ومع ذلك فلم يختفِ المحامون والموثقون، لسبب أو لآخر، من المدينة، إذ يخبرنا أندريا أنهم يعهدون إليهم بنسخ أي شيء يحتاجون إليه، وذلك حتى لا يركنوا للكسل والفراغ.
وليس هناك ما يثير الدهشة في أن يعطي أندريا للكيمياء والعلوم الطبيعية والتشريح والرياضيات والفلك قدرًا كبيرًا من الأهمية، إذ كانت هي العلوم التي لا يخطر على بال رجل من رجال عصر النهضة أن يتجاهلها، إلا إذا تصورنا أن الإغريقي كان يمكنه أن يتجاهل الموسيقى والرياضة البدنية ويسقطها من نظام التعليم. غير أن المدهش حقًّا هو ذلك الموقف الحديث والعقلاني الذي يتخذه أندريا في عرضه لمنهج التعليم. فالمختبرات التي يصفها ليست مخصصة لكبار العلماء كما هو الحال في بيت سليمان الذي نجده عند بيكون، وإنما هي متاحة للطلاب، إذا كانت قد نظمت بطريقة جذابة إلى أقصى حد ممكن، فلم يكن ذلك لمجرد «العرض»، بل لأن «دخول العلم (إلى العقل) من خلال العينين أكثر سهولة من دخوله عن طريق الأذنين، كما أنه يكون محببًا إلى النفس في الظروف الراقية المهذبة أكثر منه في الظروف المتدنية الكريهة. والذين يتصورون أن التعليم لا يتم إلا في الكهوف المظلمة وبملامح متجهمة، إنما يخدعون في الحقيقة أنفسهم.»
ويعد أندريا أول من أدخل تعليم الفنون التصويرية في خطة مشروعه التعليمي والتربوي. ففي مدينة المسيحيين «ستوديو» (مرسم) أو «محل متسع جدًّا لفن التصوير»، ولا تقتصر أهمية الرسم والتصوير والنحت على تزيين المدينة بالصور والتماثيل الجميلة والنافعة، بل يتعداه إلى تشجيع التعليم الفني، لأن «الذين يمارسون العمل بالفرشاة يدخلون أي مكان ومعهم عيونهم المجربة، وأيديهم المدربة على المحاكاة، كما يجلبون معهم ما هو أهم من ذلك، وهو الحكم المنصف المتمرس على الأشياء، بعيدًا عن العقم أو التدني.» ومع ذلك فإن المرء معرض للوقوع في حبائل الشيطان حتى وهو يستعمل الفرشاة، ولهذا «ينبه على الفنانين في مدينة المسيحيين تنبيهًا مشددًا بأن يحرصوا على الطهر حتى لا يسمموا أعين الأبرياء بصور غير طاهرة …»
وقد اهتم أندريا، بجانب اهتمامه بإصلاح التعليم، بتكوين «كلية» أو جمعية يمكن أن تضم جميع العلماء وتزودهم بالوسائل الضرورية للقيام ببحوثهم. وقد وضع في رسالته «الشهيرة» — التي نشرت في عام ١٦١٤م وتم توزيعها مخطوطة قبل ذلك في عام ١٦١٠م — معالم خطة للبحث العلمي، وقدَّم فيها نموذجًا لكلية أو جمعية من الباحثين يمكنها القيام «بإصلاح عام» للعالم المتمدن بأسره. وقد بيَّن الأستاذ «هيلد»، في المقدمة التي صدر بها ترجمته الإنجليزية «لمدينة المسيحيين»، كيف أثرت آراء أندريا في الكتاب والفلاسفة الذين أسسوا الجمعية الملكية في لندن. ويحتمل أيضًا أن يكون بيكون قد اطلع على أعمال أندريا، وأن تكون هذه الأعمال قد أثرت في فكرته المبتكرة عن «بيت سليمان».
وتقدم «مدينة المسيحيين» وصفًا موجزًا للكلية السابقة الذكر، ولا يتضح من هذا الوصف إن كانت مؤلفة من جميع الراغبين في القيام بالدراسات والبحوث، أو إن كانت مقصورة على فئة قليلة مختارة:
«وها هو الوقت قد حان للاقتراب من المقام الذي يقع في قلب المدينة، وهو الذي يمكنك بحق أن تدعوه مركز نشاط الدولة … هنا يستقر الدين، والعدل، والعلم، من هنا تُحكَم المدينة، وبلسانهم تنطق الفصاحة. إنني لم أرَ في حياتي مثل هذا القدر العظيم من الكمال البشري مجتمعًا في مكان واحد.»
وإذا كنا لا نعرف على وجه الدقة ما هي طبيعة الكلية أو خصائصها، فإن أندريا يقدم لنا من ناحية أخرى وصفًا مفصلًا وملموسًا للمكتبة، ومستودع الأسلحة، والمختبرات، والحدائق النباتية الملحقة بها.
وفي المختبر المخصص لعلم الكيمياء تُفحص «خصائص المعادن، والمياه المعدنية، والخضراوات، بل وحياة الحيوانات، كما تصفى، ويضاف إليها، وتوحد فيما بينها، وذلك خدمة للجنس البشري ولمصلحة الصحة العامة … هنا يتعلم الناس كيف يتحكمون في النار، ويستغلون الهواء، ويفحصون الماء، ويختبرون الأرض». وهناك صيدلية يجد المرء فيها مجموعة مختارة بعناية من كل ما هو متوافر في الطبيعة «لا للمحافظة على صحة الناس فقط، ولكن للعمل على تقدم التعليم بوجه عام». ولديهم كذلك مكان مخصص للتشريح، حيث يتم تشريح الحيوانات، لأن سكان مدينة المسيحيين يعلمون شبابهم عمليات الحياة والأعضاء المختلفة، وذلك (من خلال ملاحظة) أجزاء الجسم الطبيعي وهم يبينون لهم التكوين العجيب للعظام، ولديهم لهذا الغرض عدد غير قليل من الهياكل العظمية من أنواع مختلفة، كما يصفون لهم تشريح الجسم البشري، وإن كانوا لا يفعلون هذا إلا نادرًا، لأن العقول المفرطة في الحساسية تشمئز من مشاهدة العذاب الذي نقاسيه.
ويحظى مختبر التاريخ الطبيعي بأعظم قدر من العناية. وهنا نجد أن التاريخ الطبيعي — كما كان الحال في مدينة الشمس — يُصوَّر على الحوائط بالتفصيل وبأكبر قدر من الإتقان والمهارة: إن الظواهر المختلفة التي تحدث في السماء، ومناظر الأرض في المناطق المختلفة، والأجناس البشرية المتعدد، والصور التي تمثل الحيوانات، والأشكال المعبرة عن النمو، وأصناف الأحجار والجواهر النفيسة، كل هذه ليست متاحة ومسماة بأسمائها فحسب، بل إنهم يشرحونها أيضًا ويعرِّفون بطبيعتها وصفاتها. ولكن المختبر لا يحتوي فقط على صور توضيحية، وإنما هو كذلك متحف منظم تنظيمًا جيدًا، وتحفظ فيه جميع العينات الطبيعية التي يمكن أن تكون نافعة أو مضرة لجسم الإنسان، فضلًا عن وجود خبير كفء يتولى شرح استعمالاتها وخصائصها. ويدين سكان «مدينة المسيحيين» من يستمدون معرفتهم من الكتب وحدها، «ويترددون عندما يواجهون عشبة صغيرة …»
وتؤدي الرياضيات بطبيعة الحال دورًا مهمًّا، وهناك ورشة «أثرية» للأدوات الفلكية، وقاعة نفيسة للرياضيات «تضم الرسوم البيانية للسماوات، بالإضافة إلى قاعة مشابهة للطبيعيات تحتوي على الرسوم البيانية للأرض».
وإذا كنا قد لاحظنا أن الحرب أو الاستعدادات للحرب تلعب دورًا مهمًّا في اليوتوبيات التي سبق الكلام عنه، فإن «مدينة المسيحيين» تذكرهما باختصار شديد: «أما عن الأسلحة (…) فموقفهم منها أكثر ميلًا إلى التشكك والنقد. وعلى الرغم من أن (بقية بلاد) العالم تمجد الحرب تمجيدًا شديدًا، (وتفتخر) بالمحركات الميكانيكية، والمراجم وغيرها من الآلات والأسلحة الحربية، فإن هؤلاء الناس يشعرون بالفزع من كل أنواع الأدوات المميتة أو المتعاملة مع الموت والمكدسة بأعداد كبيرة جدًّا، ويعرضونها على الزوار وهم يستنكرون قسوة البشر. ومع ذلك فإنهم يحملون الأسلحة — وإن يكن ذلك على غير رغبتهم — لكي يتقوا بها شرورًا أعظم، كما يوزعونها على الأفراد ليلجئوا إليها في الظروف الطارئة والحالات المفاجئة.»
وقبل أن نترك «مدينة المسيحيين» نود أن نقتبس الفقرات التالية التي تعبر تعبيرًا جيدًا عن الطابع المثالي لجماعة أندريا: «ربما يهمك أن تعرف ما هي الفائدة التي ستعود على إنسان — يتصف بالأخلاق الحميدة والمواهب الممتازة — من الحياة في هذه المدينة، على الرغم من أنك لم تسمع شيئًا عن المكافآت. حسن! إن المواطن المسيحي في هذه المدينة المسيحية يحل المشكلة بمنتهى السهولة، ففي رضا الله عنه ما يكفي من المجد والكسب … ورضا الضمير عما قدَّمه من خير، وكرامة الطبيعة التي قهرت الظلام، وعظمة السيطرة على الانفعالات، وفوق كل شيء الفرحة الطاغية، التي يستحيل التعبير عنها، بصحبة القديسين، كلها تتملك الروح المهذبة وتتغلغل فيها بعمق بحيث لا تترك مجالًا للخوف من التخلي عن الملذات الدنيوية.»
(٥) فرانسيس بيكون: «أطلنطا الجديدة»
وسواء اتجهت نية بيكون إلى كتابة الجزء الثاني من «أطلنطا الجديدة» أم لا، فقد كان من المستبعد عليه أن يغير الطابع الأساسي لمجتمعه، وهو إعطاء العلم والعلماء الدور الرئيسي فيه. وكما فعل أفلاطون، الذي وصف بالتفصيل القوانين التي تحكم حياة الحراس، ولم يذكر إلا القليل عن الطبقات الأخرى (في جمهوريته)، كذلك نجد بيكون لا يهتم إلا بالتنظيمات الخاصة بحراسه، وهم أعضاء بيت سليمان، وبالعمل الذي يقومون به، ولكنه لا يكاد يقول شيئًا يذكر عن حياة بقية الناس (في مجتمعه). ومع ذلك فإن ما لم يقله لا يقل أهمية عما قاله، وليس هناك ما يشغله هو وأفلاطون إلا الطبقة الحاكمة، لأنها في رأيهما هي الطبقة الوحيدة التي تستحق الاهتمام. وبهذا المعنى يمكن أن تعد «أطلنطا الجديدة» مجتمعًا مثاليًّا.
وإذا كان بيكون قد نال الثناء والتقدير العظيم لأصالة أفكاره الفلسفية، فلم ينكر أحد أنه كان أول فيلسوف تطَّلع إلى تجديد المجتمع عن طريق العلم. وقد أُلقِي عبء هذا التجديد في اليوتوبيات السابقة على عاتق التشريع الاجتماعي، أو الإصلاحات الدينية، أو نشر المعرفة، وحتى عندما كان العلم يحتل مكانًا مهمًّا، كما في مدينة الشمس أو مدينة المسيحيين، لم يكن يتم اختيار الحكَّام على ضوء معرفتهم فحسب، بل على أساس فضائلهم الدينية والأخلاقية. والواقع أن للعلماء في أطلنطا الجديدة «سلطة» تفوق سلطة الملك، ولم يكن بيت سليمان جمعية تابعة للملك وتحت رعايته، كالجمعية الملكية التي استلهمت فكرتها منه. وإنما كان دولة داخل الدولة، ولديه موارد مالية غير محدودة تحت تصرفه، وله وكلاء سريون، كما له الحق في أن يحجب أسراره عن بقية أفراد الجماعة. أضف إلى هذا أن بيكون يُعتبَر مُجدِّدًا بفضل الأهمية القصوى التي أعطاها للعلوم الطبيعية. فقد خطا خطوة إلى الأمام في اتجاه التخصص الذي بدأ يحتل مكانه في عصر النهضة ويؤذن بانتهاء عهد «الإنسان الموسوعي» الذي يهتم اهتمامًا متساويًا بالفلسفة والفن والعلم والأدب.
وعلى الرغم من أن «أطلنطا الجديدة» تشغل حيزًا ضئيلًا من إنتاج بيكون الضخم، فربما صح ما قيل عنها من أنه «وضع من نفسه في هذا العمل أكثر مما وضع في أي عمل آخر». لم يكن بيكون فيلسوفًا أخلاقيًّا مثل مور، ولا مصلحًا دينيًّا مثل أندريا ولا فيلسوفًا موسوعيًّا مثل كامبانيلا، لقد كان سياسيًّا شديد التحمس للعلم، وأطلنطا الجديدة هي في الواقع «حلم تعويضي» يتحد فيه العلم والقوة ويمسكان بزمام أعلى سلطة في الحكم. إنه الحلم بمختبرات هائلة، وأعداد كبيرة من المساعدين، وموارد مالية ضخمة، وهو شبيه بحلم أي عالم يناضل وحده بأجهزة قاصرة، ويحبطه التمويل والمساعدون. ولكنه كذلك حلم رجل سياسي محبط، أخفق إخفاقًا ذريعًا — برغم مواهبه وعدم افتقاره إلى الثقة بنفسه — في أن يحصل على القوة أو السلطة التي تمناها.
كان بيكون على اقتناع كامل بأن تحقيق مشروعاته الفلسفية والعلمية يحتاج منه إلى أن يكون في أحد مراكز السلطة، ولهذا اتجهت جهوده إلى السياسة. ولكن السلطة جذبته إليها كغاية في ذاتها. وقد اتحدت السلطة والمعرفة في «أطلنطا الجديدة» بصورة مثالية، ولكن تعطشه في حياته الخاصة للسلطة والمجد عوق مشروعه العلمي أكثر مما ساعده. ولنرجع مرة أخرى إلى هوفدنج الذي يقول: «لقد وجد أمامه عملًا عظيمًا يتطلب تحقيقه وسائل قوية. وأعجب بميكافيللي واعتقد مثله أن الغاية تبرر الوسائل التي لم يكن، يشعر بأي حرج في اختيارها فقد كانت الوسائل عنده، كما كانت عند ميكيافيللي، هي صاحبة اليد العليا فوق الغاية، وكان على الغاية بدورها أن تكرس تلك الوسائل أو تجعلها مقدسة.»
تعد أطلنطا الجديدة بمنزلة توضيح لعبارة بيكون الشهيرة «المعرفة قوة»، ولكنه إذا كان قد نجح في إثبات أن العلم يستطيع أن يمكِّن البشر من السيطرة على الطبيعة، فقد افترض أكثر مما أثبت أن العلم — بتلبيته لحاجات الإنسان — يمكن أن يزيد من سعادته بشكل آلي. والواقع أن هيمان بيكون بالعلم سلاحًا لتحسين أحوال البشر يستبق التصور الحديث عن التقدم، وهو تصور مادي أكثر منه تصورًا مثاليًّا، ويفترض أن السعادة تتوقف على إشباع الحاجات المادية المتزايدة. وقد رأى أفلاطون والكُتَّاب اليوتوبيون من بعده، على العكس من ذلك، أن تضاعف حاجات الإنسان يمثل عقبة في طريق حريته وسعادته.
كُتِبت «أطلنطا الجديدة» حوالي عام ١٦٢٤م، ونشرت بعد وفاة بيكون عام ١٦٢٧م. وقد وضعها في أول الأمر باللغة الإنجليزية، ثم قام بترجمتها بعد ذلك إلى اللغة اللاتينية. وقد ظهر النص الإنجليزي في المجلد الذي ضم كتابه «غاية الغايات» أي في المكان الذي حدده له بيكون بنفسه، إذ كان هدفه من وصف بيت سليمان هو شرح النتائج العملية التي تنبأ بأنها سوف تترتب على دراسة التاريخ الطبيعي.
والدين الذي تدين به أطلنطا الجديدة للتصورات السابقة عن المجتمعات المثالية ليس كبيرًا، على الرغم من أن أصل هذه الخرافة مستوحًى من أسطورة قارة أطلنطا التي جاء ذكرها في محاورة طيماوس لأفلاطون، وفي محاورته الناقصة كريتياس. وليس هناك دليل حاسم على أن بيكون قد اطَّلع على مدينة الشمس، ولكنه يشير إلى كامبانيلا في أحد خطاباته، كما أن هناك العديد من أوجه التشابه في التفاصيل بين الكتابين. ومن المحتمل أيضًا أن يكون بيكون قد قرأ مدينة المسيحيين لأندريا، وإن كانت أطلنطا الجديدة تختلف اختلافات مهمة في كل تنظيماتها الرئيسية عن اليوتوبيات السابقة. فلم تلغَ فيها الملكية الخاصة والنقود والفروق الطبقية، وبالرغم من جو الصرامة الذي يسود معظم اليوتوبيات التي ذكرناها حتى الآن، فلم يتعب بيكون أبدًا من وصف الملابس الفاخرة، والخوذات، والأحذية، والمعاطف، والجواهر النفيسة والأرائك الفخمة، بجانب عدد وفير من التفاصيل المملة بقدر ما هي سطحية.
ويقوم المجتمع على أساس العائلة الأبوية، وعلى الرغم من أنه لا يخبرنا كيف يقضي أفرادها حياتهم اليومية، فإن هناك فقرة طويلة تصف أدق التفاصيل عن الاحتفال الفخم الذي تقيمه الدولة على نفقتها، تكريمًا للرجال الذين وصل عدد الأطفال الذين أنجبوهم وتعدوا الثالثة من عمرهم إلى ثلاثين طفلًا (تكافئ الحكومات الحديثة بصفة عامة الأم التي لها عائلة كبيرة أكثر مما تكافئ الأب)، ويُحترم الزواج احترامًا شديدًا ولا يمكن فك روابطه، وعلى الرغم من سخرية بيكون من اقتراح مور بأن يرى الرجال والنساء بعضهم البعض قبل الزواج وهم عراة من الملابس، فإنه يسمح بتنظيم اختبار لهم عن طريق الوكلاء.
وهذه فقرة يشرح فيها أحد سكان بنسالم للرحالة موقفهم من الجنس وعاداتهم المرتبطة بالزواج: «سوف تدرك أنه لا توجد تحت قبة السماء أمة تداني أمة بنسالم في الطهر أو في الخلو من التلوث والعفونة. إنها عذراء العالم، وأذكر أنني قرأت في أحد كتبكم الأوروبية عن ناسك مقدس اشتاقت نفسه أن ترى روح الفسوق، وهناك ظهر له حبشي صغير قبيح وكريه، ولو طلب أن يرى روح الطهر في بنسالم، لظهرت له في صورة ملاك وسيم جميل، إذ ليس بين البشر الفانين عقول تفوق في جمالها وروعتها عقول هذا الشعب العفيف. فلتعلم إذن أنه لا توجد عندهم بيوت دعارة ولا فسق، لا مومسات ولا أي شيء من هذا القبيل. بل إنهم ليشمئزون منكم أيها الأوروبيون لأنكم تسمحون بمثل هذه الأمور. وهم يقولون إنكم في أوروبا قد أبطلتم الزواج، لأنه يوصف علاجًا للمعاشرة الجنسية غير الشرعية، والمعاشرة الطبيعية هي فيما يبدو الحافز على الزواج. ولكن عندما يتوافر لناس علاج أكثر ملاءمة لإرادتهم الفاسدة، فإن الزواج في هذه الحالة يكاد أن يكون مستبعدًا. ولذلك فلديكم عدد لا يحصى من الرجال الذين لا يتزوجون، بل يفضلون حياة العزوبة الماجنة غير الطاهرة على الخضوع لنير الزواج، والذين يقدمون على الزواج يفعلون ذلك في سن متأخرة بعد أن تكون سنوات شبابهم وقوتهم قد ولت. وعندما يتزوجون بالفعل لا يكون الزواج في نظرهم إلا صفقة تعقد، حيث يبحثون عن شراكة، أو نصيب معلوم، أو شهرة، أو أي مطمع من هذا القبيل، لا عن الزواج المخلص بين الرجل والمرأة كما شرع في الأصل. ولا ينتظر أيضًا ممن بددوا معظم قواهم بهذا الشكل الحقير أن يقدروا قيمة الأطفال (وهم من جنس آبائهم) كما يفعل الرجال الطاهرون. وربما يرجى أن تتعدل الأحوال أثناء الزواج لو أمكن التغاضي عن هذه الأمور بحكم الضرورة فقط، ولكنها تبقى على ما هي عليه كتحدٍّ سافر للزواج. ومما يزيد الأمور سوءًا أن الرجال المتزوجين الذين يترددون على الأماكن المشبوهة أو على بيوت البغايا لا تفرض عليهم عقوبة أشد من العزاب. أضف إلى ذلك أن عادة التغيير الفاسدة، والتلذذ بالقبلات الخادعة (حيث تتحول الخطيئة إلى فن) تجعل الزواج شيئًا سخيفًا، ونوعًا من العبء الثقيل أو الضريبة الباهظة. وهم يسمعونكم تدافعون عن مثل هذه الأشياء، بحجة أنها تحميكم من شرور أكبر، كالزنا، وفض بكارة العذارى، والشذوذ الجنسي وما شابه ذلك. ولكنهم يردون عليكم بأن هذه حكمة منافية للطبيعة والعقل، ويصفونها بأنها هدية لوط، الذي عرض بناته على ضيوفه لكي يصرفهم عن الفساد، وهم يضيفون إلى ذلك أن العائد من هذه الأفعال غير مُجزٍ؛ لأن نفس الرذائل والشهوات باقية وستزيد على ما كانت، لأن الشهوة غير الشرعية مثل الفرن، إذا أوقفت اللهب تمامًا انطفأ، وإذا أعطيته أي منفذ تأججت ناره، أما عن الحب بين الذكور فإنهم لا يقربونه، ولن تجد في العالم صداقة وفية وصادقة كما تجد عندهم. وعمومًا (كما قلت سابقًا) فإنني لم أقرأ عن مثل هذه الطهارة عند أي شعب آخر. إنهم يرددون قولهم المألوف بأن الإنسان المحروم من الطهر لا يستطيع أن يحترم نفسه، كما يقولون إن احترام الإنسان لنفسه، بجانب الدين، هو أهم لجام يكبح جماح كل الرذائل.
ولديهم كذلك العديد من قوانين الزواج الحكيمة والممتازة، فهم لا يسمحون بتعدد الزوجات، وتقضي تعليماتهم ألا يتزوج أحد أو يعقد قرانه حتى يمر شهر على تاريخ اللقاء الأول. والزواج دون موافقة الوالدين لا يعطيهم الحق في إبطاله، ولكنهم يسلبون من الورثة حق الميراث؛ لأن الأطفال الذين يكونون ثمرة هذه الزيجات لا يسمح لهم بأن يرثوا أكثر من ثلث ميراث الوالدين. وقد قرأت في كتاب لأحد كتابكم عن بعض الدول المزعومة التي يسمح فيها للزوجين، قبل عقد قرانهما، بأن يرى كل منهما الآخر وهو عاري الجسد. وأهل بنسالم يكرهون هذا التقليد، لأنهم يعتقدون أن المرأة أو الرجل إنما يجلب على نفسه الاحتقار إذا رفض إتمام الزواج بعد التعارف بهذه الطريقة، ولأن سبب الرفض غالبًا ما يرجع إلى العيوب الكثيرة الخفية في أجساد الرجال والنساء، فلدى أهل بنسالم طريقة أكثر تمدنًا (لمواجهة هذه المسألة)، فهناك بالقرب من كل مدينة بركتان (يطلق عليهما اسما آدم وحواء)، حيث يسمح لأحد أصدقاء الرجل، أو لإحدى صديقات المرأة، بأن يروهما وهما يغتسلان عاريين.»
ومن القوانين العديدة الحكيمة التي وضعها الملك سليمان لشعب بنسالم، نجد أن القوانين الوحيدة (التي اهتم بيكون بوصفها) تتعلق بمنع الاتصال بالبلاد الأجنبية، والمعاملة الحذرة للرحالة الذين يتفق وصولهم إلى بلدهم. والإنجاز الأكبر لهذا الملك، برغم ذلك، هو إقامة نظام أو جمعية، أطلق عليها اسم بيت سليمان. وقد كان يطلق عليها كذلك أحيانًا اسم معهد أعمال الأيام الستة، «وأمثل المؤسسات على وجه الأرض»، و«مصباح هذه المملكة»، وخصصت «لدراسة أعمال الرب ومخلوقاته» … لاكتشاف الطبيعة الحقيقية لكل الأشياء بما يضاعف من مجد الرب الذي أبدعها، ويزيد من الثمار التي يجنيها البشر من استخدامها.
وقد أصدر الملك أمرًا آخر يسمح لطلاب هذا المعهد بجمع المعلومات الخاصة بعملهم:
«لما حرم الملك على شعبه الإبحار إلى أي جزء لا يخضع لتاجه، وضع مع ذلك هذا القانون الذي يقضي بأن تنطلق من هذه المملكة كل اثني عشر عامًا سفينتان في عدة رحلات، وأن تحمل كل من هاتين السفينتين إرسالية مكونة من ثلاثة طلاب أو إخوة من بيت سليمان، على أن تكون مهمتهم الوحيدة هي تزويدنا بمعلومات عن شئون وأحوال البلاد التي أُرسِلوا إليها، وبخاصة فيما يتعلق بالعلوم، والفنون، والصنائع والاختراعات التي توصل لها العالم كله، مع تكليفهم بأن يحضروا الكتب والأدوات، والنماذج من كل نوع: ويجب أن تعود السفن بعد إنزال الإخوة على شواطئ ذلك البلد، وأن يبقى هؤلاء الإخوة في الخارج حتى وصول إرسالية جديدة، ولا تحمل السفن إلا مخزون المؤن، وقدر من المال يكفي لكي يشتري الإخوة الأشياء السابقة، ومكافأة الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يستحقون أن يكافأوا. وعليَّ الآن أن أخبرك كيف أن البحارة العاديين يُحظَر عليهم أن يُكتشَفوا على الأرض (التي ينزلون بها) وكيف أن أولئك الذين يتحتم عليهم البقاء على الشط لأي مدة ممكنة، ينتحلون أسماء أمم أخرى، ويكتمون سر الأماكن المحددة التي تتجه إليها هذه الرحلات، والأماكن المحددة التي تتجمع فيها الإرساليات الجديدة، وغير ذلك من الظروف المحيطة بهذا العمل، ولكنني لن أسترسل (في هذه التفصيلات) التي يمكن أن تضيق بها. غير أنك ترى من هذا أننا نحرص على التبادل التجاري، لا من أجل الذهب، والفضة، أو المجوهرات، ولا من أجل الحرير، والتوابل أو أي شيء آخر يقصد به الراحة المادية، وإنما نحرص عليها إكرامًا لمخلوق الله الأول، الذي كان نورًا، لكي يستمد النور من تقدم وازدهار كل أجزاء العالم.»
هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها العلم محاطًا بمثل هذه السرية، كما أن هذه الفقرة تتردد فيها نبرة حديثة كل الحداثة. إن علماء بنسالم يقومون بالتجسس لمصلحة دولتهم أو معهدهم، ومع أنهم يفرغون العالم من كل اختراعاته وأفكاره الجديدة فهم لا يعطون شيئًا في المقابل. لم يعد العلم ملكًا للجنس البشري بل لدولة خاصة. وهذا تصور مألوف اليوم، حيث يقل الحرص على حراسة الذهب والفضة عن الحرص على حماية الأسرار النووية، ولكنه كان في أيامه يمثل نوعًا من القطيعة مع التقاليد العالمية التي دعا إليها أصحاب المذهب الإنساني في عصر النهضة.
ويحيط جو السرية نفسه حتى ببيت سليمان. فوصول أحد آباء المعهد إلى المدينة حدث مهم، لأن أهلها لم يروا واحدًا منهم طوال الاثني عشر عامًا الماضية، و«إذا كان يأتي علنًا، فإن سبب مجيئه سر.»
ومما يزيد أطلنطا الجديدة تشويقًا للقارئ الحديث أنها تهتم غاية الاهتمام بالتطبيق العملي — بل الصناعي — للاكتشافات العلمية. ووصف بيكون للمنتجات الغذائية البديلة والمواد المصنعة ربما يدفئ قلوب العديد من علماء الصناعة المعاصرين:
«لدينا كهوف واسعة وعميقة على مسافات مختلفة في باطن الأرض، ينحدر أعمقها مقدار ستمائة قدم، وبعضها محفور تحت تلال وجبال عظيمة، بحيث إنك لو حسبت عمق التل، وعمق الكهف معًا، لتجاوز عمق بعضها ثلاثة أميال. وقد وجدنا أن عمق التل مساوٍ لعمق الكهف إذا قسناه من السطح، وكلاهما بعيد عن الشمس وأشعة السماء والهواء الطلق. ومن هنا نطلق على هذه الكهوف اسم الإقليم المنخفض، ونستخدمها في كل عمليات التخمير والتجفيف، والتبريد، وحفظ الأجساد (من التلف)، كما نستفيد منها كذلك في تقليد المناجم الطبيعية وإنتاج المعادن الصناعية الجديدة، وذلك عن طريق تركيبات ومواد نستعملها ونخزنها هناك لعدة سنوات.
ولدينا كذلك بيوت للعطور، ألحقنا بها معامل لاختبار الذوق. ونحن نستخرج عددًا من الروائح التي تبدو غريبة، فننتج بعض الروائح التي نستخلصها من مركبات مختلفة عن عناصرها الأصلية، كما نقوم أيضًا بعمليات متنوعة لاصطناع الأذواق أيضًا، لدرجة أنها تخدع ذوق أي إنسان … وفي هذا البيت أيضًا مبنى مخصص للفواكه المحفوظة، حيث نصنع كل أنواع الحلوى الجافة والرطبة، وأصناف النبيذ المختلفة، والألبان، والمرق، والسلطات، وذلك بتنوع شديد يفوق ما لديكم منها.»
ويشير بيكون إلى اكتشافات أخرى مثل الحركة الدائمة، وأنواع الإكسير الذي يطيل العمر، والتولد التلقائي الذي شغل الكيميائيين والفلاسفة لعدة قرون ولم يتخلوا عنه إلا عندما تبين أنه يستند إلى تصور خاطئ للعلم.
ويعتمد تنظيم البحث العلمي على التقسيم الصارم للعمل:
«أما عن وظائف الباحثين عندنا، فلدينا اثنا عشر باحثًا يبحرون للبلاد الأجنبية تحت أسماء الدول الأخرى (لأننا نخفي اسم بلدنا)، ويجلبون لنا الكتب وملخصات البحوث، ونماذج التجارب العلمية التي تمت في جهات أخرى، وهؤلاء نطلق عليهم اسم تجار النور.
ولدينا ثلاثة مهمتهم جمع التجارب من كل الكتب، وهؤلاء نسميهم المُعدِّين.
ولدينا ثلاثة باحثين يجمعون تجارب الفنون الآلية كلها، وكذلك العلوم الحرة أيضًا، والممارسات التي لم تطبق في الفنون. وهؤلاء نطلق عليهم اسم الرجال-السريين.
ولدينا ثلاثة يحاولون إجراء تجارب جديدة يعتقدون هم أنفسهم أنها تجارب صالحة، وهؤلاء نطلق عليهم اسم الرواد أو المستكشفين للمناجم.
ولدينا ثلاثة يصنفون التجارب الأربع السابقة في عناوين وجداول، وذلك لإلقاء المزيد من الضوء عليها لاستخلاص الملاحظات والبديهيات منها. وهؤلاء نطلق عليهم اسم المصنفين.
ولدينا ثلاثة يعكفون على تجارب زملائهم، ويتفننون في استخلاص الفوائد منها لمنفعة الإنسان في حياته ومعرفته، سواء لخدمة العمل أو لاستنباط الأدلة والبراهين الواضحة للتثبيت من العلل والأسباب، وابتكار وسائل التنبؤات الطبيعية، واكتشاف مزايا وأجزاء الأجسام بطريق ميسرة وواضحة. وهؤلاء نطلق عليهم اسم مقدمي المهور أو فاعلي الخير.
وبعد عقد لقاءات ومشاورات مختلفة بين جميع الباحثين، لتدارس الجهود والتجميعات السابقة، تجد لدينا ثلاثة ينكبون عليها لتوجيه الأنظار لتجارب جديدة تلقي ضوءًا أسمى وتكون أكثر نفاذًا في صميم الطبيعة من التجارب الأولى. وهؤلاء نطلق عليهم اسم المصابيح.
ولدينا ثلاثة آخرون يقومون مباشرة بإجراء التجارب الموجهة على هذا النحو، ويكتبون عنها التقارير، وهؤلاء نطلق عليهم اسم الملقحين.
وأخيرًا لدينا ثلاثة يرفعون الاكتشافات السابقة التي تم التوصل إليها عن طريق التجارب إلى مستوى الملاحظات الكبيرة، والبديهيات، والحكم المأثورة. وهؤلاء نطلق عليهم اسم مفسري الطبيعة.
ولدينا أيضًا، كما ينتظر منك أن تتصور هذا، مبتدئون وصبية تحت التمرين، حتى لا ينقطع تواصل المستخدمين والموظفين السابقين، بجانب عدد كبير من الخدم والسعاة من الرجال والنساء.»
وأكثر ما يثير الدهشة هو أن هؤلاء «الموظفين» يخولون الحق في إخفاء أسرار اكتشافاتهم عن الدولة، على نحو ما يشرح الأب الأعلى لبيت سليمان في قوله:
«… ونحن نتشاور حول أي الاختراعات والتجارب التي اكتشفناها يمكن أن يُسمَح بنشره، وأيها يحظر نشره، ونُقْسم جميعًا على التعهد بالسرية والتكتم على تلك الاختراعات والتجارب التي نرى من المناسب أن تبقى سرًّا، على الرغم من أننا نكشف عن بعضها أحيانًا للدولة، ونحجب عنها البعض الآخر.»
واليوم بعد أن أصبح لدى معظم الدول معاهد علمية ومحطات أبحاث وأصبحت تحتفظ بجيش من العلماء الذين يتقاضون مرتبات هائلة، فإننا ندرك أن من المستحيل أن توجد في داخل الدولة جمعية تتمتع بكل الامتيازات التي تصورها بيكون. إن ازدواجية السلطة شيء مستحيل، فإما أن يكون العلماء أدوات في يد الدولة، كما هو الحال اليوم، وإما أن يحكموا الدولة، كما فعلوا في بنسالم.
وأطلنطا الجديدة لم تعد تجذبنا اليوم إلا قليلًا، لأننا أصبحنا نعيش جميعًا في بيت سليمان، كما تتملكنا الدهشة، مثل بيكون، من الثورات والمعجزات التي يحتوي عليها. وقد بدأنا نتحقق بالتدريج من أن المعرفة والتقدم العلمي ليسا مرادفين للسعادة الإنسانية، كما بدأنا نشك في أن المؤيدين المتحمسين للتقدم لم يهتموا اهتمامًا حقيقيًّا بسعادة الجنس البشري، بل بالقوة التي تمنحها لهم هذه المعرفة وهذا التقدم. وهذا هو الذي يفسر سبب استرسال بيكون في الحديث بالتفصيل عن ألوان الشرف، والامتيازات والقوة التي يتمتع بها أعضاء بيت سليمان، وإيجازه إيجازًا شديدًا في كلامه عن السعادة التي جلبوها للشعب. ونحن اليوم في موقف أفضل يسمح لنا بأن نقدر أخطار «العلم الذي يفتقر إلى الضمير»، وأن مجرد التفكير في «إساءة» استغلال الطاقة النووية ربما يعني نهاية حضارتنا، يحرم العلم من هالته السحرية. لم يعد العَالِم هو «فاعل الخير» للبشرية، وإنما يقوم على غير إرادته بدور مشئوم، كما يغلب عليه أحيانًا الشعور بالذنب.
(٦) فرانسوا رابليه (١٤٩٠–١٥٥٣م): «دير تيليم»
ربما يصعب علينا مقاومة الإغراء الشديد بضم «دير تيليم» لرابليه إلى يوتوبيات «عصر النهضة»، وذلك على الرغم من علمنا التام بأن الأمانة تمنعنا من وصفها بأنها مجتمع مثالي. ولكننا سنحاول، في هذه المرة وحدها، أن نتبع القاعدة التي سار عليها أهل تيليم و«نفعل ما نشاء». والواقع أننا لن نفعل هذا بغير مسوِّغ، لأن جماعة رابليه الخيالية تجسد روح عصر النهضة بصورة أكمل من كل اليوتوبيات التي درسناها حتى الآن.
ورابليه نفسه نموذج لإنسان عصر النهضة. فمعرفته الموسوعية، وإعجابه العميق بالأدب الإغريقي، وكراهيته للمذاهب المدرسية، ومسيحيته الوثنية، واحتقاره لحياة الرهبنة، وعشقه للحرية والجمال، كانت كلها سمات مميزة للإنسانيين الإيطاليين. إنه شغوف مثلهم بالمعرفة شغفًا شديدًا، ولم يكتفِ بدراسة الأدب والفلسفة، بل أضاف إليهما الطب والقانون. وهو كذلك، مثل معظم الإنسانيين، لم يهتم «بالمسائل الاجتماعية». لقد كان تمرده تمردًا فرديًّا محضًا، ولم يربط بينه وبين التمرد على النظام الاجتماعي. أحس بالشرور التي تجتاح المجتمع في عصره، ولكنه يحاول أن يبحث عن أسبابها أو يقترح وسائل العلاج لها. ولم تكن النهضة في الحقيقة حركة إصلاح، بل كانت حركة تمرد قام بها أفراد سعوا إلى تحقيق الحرية لأنفسهم قبل كل شيء. والواقع أن الإنسانيين، على الرغم من الاسم الذي يطلق عليهم، لم يهتموا بالإنسانية، وإنما تركز اهتمامهم على فرديتهم الخاصة ووسائل التعبير عنها. لقد كانوا يضيقون ضيقًا شديدًا بأي تدخل في شئونهم من قبل السلطات المدنية أو الدينية، كما كانوا يحسون إحساسًا عميقًا بحقوقهم، لكنهم لم يناضلوا في سبيل حرية الجماهير أو حقوقها.
وليست «دير تيليم» مجرد وصف لبلاط أو معهد مثالي، ولا هي مجرد بيت ريفي كما تصور الأستاذ «ممفورد». إنها يوتوبيا الأرستقراطية الجديدة لعصر النهضة، وهي الأرستقراطية التي قامت على الذكاء والمعرفة لا على القوة أو الثروة. ورابليه يصف فيها كيف ينبغي أن تكون حياة هؤلاء الرجال والنساء الذين يتميزون بالأصل الطيب والتربية الراقية، ويتمتعون بالموهبة والصحة. إنهم ليسوا في حاجة إلى قوانين أو محامين، ولا سياسة أو وعاظ، ولا مال أو مرابين، ولا دين أو رهبان، وهم في غنًى عن أي قواعد تتحكم فيهم، لأنهم يعرفون كيف يستغلون وقتهم أفضل استغلال ممكن فيما يفيدهم ويمتعهم، ولا يحتاجون إلى التقيد بأي قيود أخلاقية تفرض عليهم من الخارج، لأنهم بطبيعتهم أمناء مفطورون على المشاعر النبيلة، كما أنهم قادرون على الاستمتاع بالحرية الكاملة والمساواة الكاملة بين الرجال والنساء.
ولا يستكثر أي جمال أو ترف على رجال ونساء يعدُّون، إذا جاز التعبير، زهرة الإنسانية. فهم يعيشون في قصر يفوق في روعته قصور «التورين»، ويرتدون أفخم الثياب، ولهم راعٍ يمتلك فيما يبدو موارد مالية غير محدودة، ويخدمهم جيش من الخدم والصناع الحرفيين الذين يزودونهم بكل ما يحتاجون إليه:
«… كان هناك صف من البيوت التي تحف بها غابة تيليم ويبلغ امتدادها مسافة نصف فرسخ، وهي بيوت شديدة الأناقة والنظافة يسكنها الصناع المختصون بصياغة الذهب وصقل الجواهر والأحجار الكريمة، والمشتغلون بالتطريز والحياكة والتذهيب ونسيج القطيفة والسجاد وصنع جراب الأسلحة، وكل منهم متفرغ لحرفته التي وهبها لخدمة أولئك الرجال والنساء المرحين الذين ذكرناهم، وهم الرهبان والراهبات من الطراز الجديد …»
«ينبغي على رجل البلاط أن يكون ملمًّا بجميع الألعاب الرياضية النبيلة، ومنها الجري، والقفز، والسباحة، والمصارعة، ويجب قبل كل شيء أن يتقن الرقص، وأن يكون بطبيعة الحال بارعًا في ركوب الخيل. وعليه أن يتقن عدة لغات، وأهمها اللاتينية والإيطالية، كما يجب أن يكون مطَّلعًا على الأدب ولديه إلمام بالفنون الجميلة …»
هذا التعليم الذي يتلقاه الأخوات والإخوة المرحون من رهبان «دير تيليم» وراهباته يمكن أن يبلغ مستوًى عاليًا من الكمال الفردي، ولكنه منفصل انفصالًا غريبًا عن أي غرض نفعي. ويبدو أن أهل تيليم لم يشغلوا أنفسهم بتعلم أي مهنة أو حرفة نافعة، بل بأن يكون لديهم مجموعة من الخدم تحت تصرفهم مدى الحياة. ويستبعد عليهم أيضًا أن يستمتعوا بأي عمل لا يخرج في النهاية عن كونه مجرد تدريب بدني أو عقلي ولا يهدف على الإطلاق لتحقيق شيء مفيد.
ولا بد من الاعتراف بأن الحياة في دير رابليه، على الرغم من روعتها وأبهتها، سرعان ما تصبح حياة مملة، وأن السأم سيزحف على نفوس أهل تيليم كما زحف على نفوس عدد كبير من الأمراء ورجال الحاشية الذين عاشوا في بلاط كثير من القصور الفخمة. ولا بد أن نتذكر أيضًا، لكي نكون منصفين لرابليه، أن جماعته المثالية ليس فيها ملك ولا أمير ينتظر من يتملقه أو يسليه.
بقي أن نقول إن الملاحظات السابقة كان من الممكن الاستغناء عنها، لو لم ينسَ معظم الذين تحمسوا لعبارة رابليه المشهورة «افعل ما تريد»، أنه لم يقصد بها إلا أولئك الذين يقول عنهم إنهم:
ويبقى «دير تيليم» — على الرغم من الشروط القاسية للقبول فيه، ومن إسراف أهله في التعلق بالترف — قصة خيالية أو «فانطازيا» ممتعة ومبهجة، ويؤسفنا أن نكتفي هنا باقتباس الفصلين التاليين:
كيف أمر جاركانتوا بإنشاء الدير للراهب؟
هنالك لم يبقَ إلا الراهب وحده، الذي أراد جراكانتوا أن يجعله رئيسًا لدير إشبيلية، ولكنه رفض هذا العرض، وكان بإمكانه أن يعطيه دير بورجي أو دير القديس فلونت — الذي كان أفضل منه — أو كليهما لو شاء ذلك، ولكن الراهب رد عليه ردًّا قاطعًا بأنه لن يتولى شئون الرهبان ولن يتحمل مسئوليتهم، إذ كيف أستطيع (كما قال بنفسه) أن أحكم غيري وأنا لا أملك أمر نفسي، وإذا تصورت أنني قدمت لك في الماضي أو يمكن أن أقدم لك في المستقبل أي خدمة ترضيك، فأذن لي بأن أقيم ديرًا يوافق تفكيري وخيالي — وأُعجِب جارجانتوا بالفكرة التي سرته سرورًا شديدًا، فعرض عليه إقليم تيليم الذي يقع بالقرب من نهر اللوار ويمتد مسافة فرسخين في غابة بور — هووا العظيمة، وعند ذلك طلب الراهب من جارجانتوا أن يؤسس نظامه الديني المخالف لكل الأنظمة الأخرى. قال له جارجانتوا: أول شيء ينبغي عليك الانتباه إليه هو ألا تبني حائطًا حول الدير الذي تزمع إنشاءه؛ لأن جميع الأديرة الأخرى مسورة بحوائط قوية وأسوار منيعة. قال له الراهب، ولم يكن ذلك بغير مبرر (إذ رأى أن الحائط والسور مترادفان): حيثما وجد سور أمامي وسور خلفي فقد وجد الهمس، والحسد، والتآمر الذي لا ينتهي. ولما كانت بعض الأديرة في العالم قد جرى العرف فيها بأن أي امرأة تدخله (وأعني بذلك كل امرأة طاهرة شريفة) تكلف مباشرة مسح الأرض التي مشت عليها، فقد صدرت الأوامر بأن أي رجل أو امرأة سبق لهما الدخول في الأنظمة الدينية، وشاءت المصادفة أن يدخلا هذا الدير الجديد، فلا بد من غسل جميع الغرف التي عبراها وتنظيفها تنظيفًا تامًّا، ولما كان كل شيء في الأديرة الأخرى يوجَّه ويحدَّد وينظَّم بالساعة، فقد أصدر أمره بإخلاء المبنى الجديد من أي ساعة أو مزولة، وأن ترتب كل ساعاتهم حسب المناسبات والظروف العارضة، والسبب في هذا (كما قال جارجانتوا) هو أن الخسارة الكبرى في رأيه، تأتي من عدِّ الساعات، إذ ما الفائدة التي تعود على الإنسان من وراء ذلك؟ وهل في الدنيا بلاهة أعظم من أن يوجه الإنسان حياته وينظمها على صوت جرس، لا على ضوء تقديره وفطنته؟
أضف إلى ذلك أنهم في ذلك العهد لم يقبلوا دخول أي امرأة في الأديرة، إلا إذا كانت مصابة بالعمى أو العشى، مشلولة أو عرجاء، تعسة الحظ أو مشوَّهة، بلهاء أو متبلدة الذهن، منحرفة أو فاسدة، ولم يسمحوا كذلك لأي رجل بدخوله إلا إذا كان عليلًا أو منحرفًا، وضيعًا قليل الأصل أو سكِّيرًا نكدًا مشاكسًا، هنا قال الراهب لنرجع إلى موضوعنا، فأي نفع يرجى من امرأة لا هي جميلة ولا هي طيبة؟ أجابه جارجانتوا بقوله: لكي تصبح راهبة، ورد عليه الراهب قائلًا: وتحيك القمصان والثياب؛ وهكذا صدرت التعليمات بألا تُقبَل امرأة في هذا النظام الديني (الجديد) إلا إذا كانت جميلة، متناسقة الملامح، حلوة الطبع، ولا يقبل كذلك أي رجل لا يكون وسيمًا، جذَّابًا، لطيف المعشر.
ولأن أديرة النساء لم يكن يدخلها الرجال إلا بالحيلة، أو سرًّا أو عن طريق التسلل، فقد تقرر ألا تعيش فيه (أي في الدير الجديد) نساء في غيبة الرجال، ولا رجال في غيبة النساء.
ولأن الرجال والنساء جميعًا، الذين كانوا يُقبَلون في تلك الأنظمة الدينية بعد إتمام تعليمهم واجتيازهم سنة الاختبار المحدد لهم، كان يفرض عليهم أن يقيموا هناك طوال أيام حياتهم، فقد قضت الأوامر بأن كل من يُقبَل في الدير (الجديد) من النساء أو الرجال، يكون له الحق الكامل في أن يغادره آمنًا راضي النفس، وفي أي وقت يشاء.
وأخيرًا، (ولما كان المعتاد) أن يُقْسِم الأتقياء من الرجال والورعات من النساء ثلاثة أيمان يتعهدون فيها بالمحافظة على العفة، والفقر، والطاعة، فقد وُضِعت القواعد وسُنَّت القوانين التي تعطي الحق لكل من يدخل الدير (الجديد) في أن يتزوج زواجًا شريفًا، وأن يتملك الثروة ويعيش حرًّا على هواه. أما من ناحية التوقيت المناسب لترسيم الأشخاص في النظام الجديد، وعدد السنوات التي تحدد صلاحيتهم لذلك سواء بالزيادة أو النقصان، فقد تقرر أن تُقبَل النساء من العاشرة حتى الخامسة عشرة، وأن يُقبَل الرجال من الثانية عشرة حتى الثامنة عشرة.
طريقة الحكم والمعيشة في تيليم
لم يقضوا كل حياتهم (أي سكان دير تيليم) مقيدين بالقوانين واللوائح والقواعد، بل وفق هواهم وإرادتهم الحرة. كانوا ينهضون من فراشهم حين يطيب لهم ذلك، ويأكلون، ويشربون ويعملون، وينامون وقتما يحبون ويجدون في أنفسهم الاستعداد لذلك. لم يكن أحد يقوم بإيقاظهم من النوم، أو يفرض عليهم تناول الطعام أو الشراب أو مزاولة أي عمل آخر، فبذلك أوصى جارجانتوا. ولم يطلب منهم، في ظل النظام الدقيق الذي يحكم حياتهم، سوى مراعاة قاعدة واحدة: «افعل ما تشاء.»
لأن الرجال الأمراء، كريمي المولد والنشأة، الذين تلقوا تربية حسنة، وخالطوا رفاقًا أمناء، مدفوعون بحكم الفطرة والغريزة والحوافز التي تحركهم، نحو الأعمال الفاضلة كما أنهم معصومون من الرذيلة، وهذا هو الذي يطلق عليه اسم الشرف. وهؤلاء الرجال أنفسهم، حين يتعرضون للقمع ويخضعون للقهر، يتحولون عن ذلك الاستعداد النبيل الذي جذبهم فيما مضى إلى الفضيلة، وينفضون عنهم قيد العبودية الذي كبلهم به الطغيان الغاشم، لأن من طبيعة الإنسان أن يتوق للممنوع ويرغب في المحظور.
بهذه الحرية دخلوا في تنافس محمود، جعلهم جميعًا يُقبلون على ما يسعد أي واحد منهم، فإذا قال أحد الشبان أو إحدى السيدات تعالوا نشرب، شربوا جميعًا، وإذا قال أحدهم دعونا نلعب، لم يتخلف واحد منهم عن اللعب، وإذا قال أحدهم هيا ننطلق إلى الحقول، ذهبوا جميعًا معه، وإذا رغبوا في الخروج لصيد الصقور أو الحيوانات، امتطت السيدات صهوات الجياد اللطيفة، وجلسن على السروج الفخمة، وفوق أكفهن الرقيقة المغطاة بالقفازات أنواع مختلفة من الصقور الصغيرة، بينما تحمل أكف الشبان أنواعًا أخرى. والتعليم الذي تلقوه هو أنبل تعليم، فلا واحد منهم ولا واحدة منهن إلا ويقرأ ويكتب ويغني، ويعزف على آلات موسيقية متنوعة ويتكلم خمسًا أو ست لغات مختلفة، ويؤلف فيها كل ما هو طريف من الشعر والنثر، ولم يرَ أحد أبدًا مثل هؤلاء الفرسان البواسل، ولا يعرف أحد مثل ما عرف عنهم من النبل والكبرياء، والبراعة والمهارة، سواء في مشيتهم أو على ظهور الخيل، ولا شاهد أحدًا يفوقهم خفة وحيوية، ورشاقة وسرعة، أو حذقًا في استعمال كل أنواع الأسلحة. ولم يرَ أحد سيدات يفقن (سيدات تيليم) حسنًا ونضارة، أو رقة ودماثة خلق، أو براعة في استخدام اليد والإبرة، وفي كل عمل نبيل حر تتحلى به بنات هذا الجنس (اللطيف). ولهذا فعندما يحين الوقت الذي يفصح فيه أي واحد من أهل الدير المذكور — سواء يُطلَب من والديه أو لأي سبب آخر — عن رغبته في مغادرته، فإنه يصطحب معه إحدى السيدات، التي اختارها من قبل لتكون خليلته، وذلك بعد أن يعقد زواجهما. وإذا كانا قد عاشا في دير تيليم وألف بينهما الوفاء والحب، فإنهما يستمران على هذا الحب والوفاء، ويوثِّقان عراه، ويحلقان به إلى أسمى الذرى في ظل الحياة الزوجية، كما يستمتعان بهذا الحب المتبادل حتى آخر يوم من أيام عمرهما، فلا يقل في عنفوانه وتوهجه عما كان عليه في أول يوم من أيام زواجهما.
هوامش
«تقرب فاسكو نونيز دي بالبو Vasco Nunez De Balboa من سكان البلد الأصليين ليعرف كل منهم كل ما يمكن معرفته عن البلد ومنتجاته، ووصل عام ١٥١٣م إلى مسافة مائة ميل جنوبي المحيط الهادي. وقد وصل التقرير الكامل عن اكتشافاته إلى ملك إسبانيا في السنة التالية، كما أن مور بدأ في كتابة اليوتوبيا عام ١٥١٥م. ويبدو من المرجح أن التجارة عبر سواحل المحيط الهادي قد وصلت إلى سكان أمريكا الوسطى الذين كانت لديهم معلومات عن إمبراطورية الأنكا، ووصفوها باعتبارها مكانًا يمكن الوصول إليه عن طريق البحر. وهذا يتطابق مع تقرير مور عن رحلات رفائيل هيثلوداي برًّا وبحرًا. ويبدو لي أن من المحتمل أن يكون أحد الرحالة أو البحارة قد رجع إلى إسبانيا من بنما ومعه تقرير فاسكو دي بالبو، كما يُحتَمل تبعًا لذلك أن يكون قد التقى مور في أنتوب.»
وقد قدَّم الأستاذ آرثر. إ. مورجان Arthur E. Morgan نظرية مشابهة في كتاب بعنوان «اللامكان كانت في مكان ما» (وقد نشرته مطبعة جامعة نورث كارولينا). ويحاول الأستاذ مورجان أن يبين، عن طريق المقارنة التفصيلية بين يوتوبيا مور وبين المعلومات التي توافرت عن نظم الحياة في ظل حضارة الأنكا، أن أوجه الشبه بينهما أكبر من أن تكون راجعة إلى المصافة البحتة. ويرى الأستاذ ﻫ. و. دونر H. W. Donner أن مور لا بد أن يكون كذلك قد عرف كتاب بيتر مارتير Peter Martyr وهو كتاب «العالم الجديد» De Orbo Novo (١٥١١م) الذي قدَّم فيه تقريرًا ورديًّا مشرقًا عن جزر الهند الغربية وجزيرة كوبا. (المؤلفة)
وقد لاحظ ج. س. ريتشاردز G. C. Richards أن مور اتجه باستخدام لهذه الأسماء اليونانية إلى العارفين باللغة لكي ينفذوا إلى أسرار صنعته الخيالية، بينما كانت رغبته الحقيقية هي أن يترك الحكم في ذلك لكل القراء. (المؤلفة)