يوتوبيات الثورة الإنجليزية
بينما شهد القرن السابع عشر تدعيم سلطة الحكومات المطلقة، عارض القسم الأكبر من الشعب الإنجليزي بعزم وتصميم الحكم الملكي المطلق، وخضع الملوك لرقابة البرلمان. وفي الوقت الذي أعلن فيه لويس الرابع عشر في فرنسا أن «الدولة هي أنا»، سيق شارل الأول في إنجلترا إلى المشنقة. ولم يلقَ مذهب الحق الإلهي للملوك، الذي سمح لملوك فرنسا بسحق الحرية السياسية والدينية، تأييدًا كبيرًا لدى الشعب الإنجليزي الذي آمن، على النقيض من ذلك، بأن السلطة الحاكمة يجب عليها احترام الحقوق الثابتة للفرد، وأن من الضروري وضع حدود معينة لسلطة رئيس الدولة.
كتب هارنجتون كتابه «أوقيانوسة» (عام ١٦٥٦م) بعد إعدام شارل الأول، في وقت بدا فيه أن من الممكن التوصل إلى إصلاحات حاسمة لحل المشكلات الاقتصادية والسياسية التي كانت إنجلترا تعاني منها. وبينما اهتم «قانون الحرية»، الذي ظهر قبله ببضع سنوات قليلة (١٦٥٢م)، بشكل أساسي بتحسين ظروف العمال الزراعيين المعدمين، تعرض «أوقيانوسة» لتحسين أوضاع الطبقة الوسطى. فقد كان حق «الإخوة الكبار» في الميراث بكامله يركز الملكية في أيدي قلة من الشعب يتناقص عددها باستمرار، كما كان يحكم التوازن الاقتصادي للملكية في البلاد، ويوجد طبقة من المتطفلين تتكون بشكل أساسي من رجال الدين والمحامين، وتمثل الملاذ الوحيد «للأبناء الأصغر».
آمن هارنجتون باستحالة وجود سلطة سياسية من دون سلطة اقتصادية، وأراد أن يبسط هذه السلطة الاقتصادية على قطاع كبير من السكان عن طريق تطبيق قانون زراعي، يحدد حجم ملكية الأرض بالمساحة التي تدرُّ دخلًا سنويًّا يقدر بثلاثة آلاف جنيه. ويستلزم هذا التوازن الجديد للملكية أن تحافظ عليه حكومة جمهورية يشغل جميع مناصبها رجال يُختَارون بالاقتراع ويزاولون أعمالهم لفترة محدودة، كما يستلزم وجود نظام المجلس المزدوج، بحيث يخصص أحد المجلسين للمناقشة والآخر للتصويت. وقد قام هذا التقسيم الغريب على افتراض وجود تفرقة مهمة بين القدرة على «الابتكار» والقدرة على «الحكم» وعلى أن الفصاحة تمثل خطرًا على الدولة الديمقراطية. إن «الرجال الأحرار»، أي أصحاب الملكية، هم وحدهم الذين يحق لهم المشاركة في حكومة الدولة (الكومنولث)؛ أما «الخدم» التابعون لغيرهم اقتصاديًّا فلم يكن في استطاعتهم الاشتراك في شئون الدولة. ومع ذلك فمن الممكن أن يرتفع الخدم، على خلاف العبيد في بلاد الإغريق القديمة، بفضل مجهودهم إلى منزلة الرجال الأحرار.
لقد شارك هارنجتون دعاة المساواة في الإيمان بأن الحرية السياسية يجب أن ترتكز على «ملكية الأرض»، ولكنه قصر هذه الحرية على فئة الملاك الزراعيين «الجنتلمن» الذين أراد أن يجعلهم «حراسًا» على الطبقات العاملة.
(١) جيرارد ونستنلي (١٦٠٩–١٦٦٠م): «قانون الحرية»
وعلى الرغم من قسوة هذه الإجراءات، فإن حالات التشرد والسرقة أخذت في الازدياد، والسبب في ذلك، كما قال مور، أنه عندما «تفرغ معدة هؤلاء تصبح حادة، ويسرقون بشكل أكثر حدة، وماذا بإمكانهم أن يفعلوا غير ذلك؟» كان في إمكانهم أيضًا أن يتمردوا، وقد تمردوا بالفعل، فحطموا الأسيجة والحواجز التي طوقت الحقول التي كانت على المشاع، وتتابعت ثورات الفلاحين واحدة تلو الأخرى على فترات قصيرة. وقامت كذلك حركات سياسية للبحث عن علاج لبؤس الشعب. ومع سقوط الملكية وظهور «المستقلين» بزغ الأمل في إنجاز إصلاحات جذرية، ولكن هذا الأمل كان قصير العمر. وامتد السخط إلى الجيش فتم طرد الجند بالجملة لقمع تمردهم. وحتى الكثيرون من أنصار حركة المساواة، الذين دافعوا عن الإصلاحات الدستورية السياسية، بدءوا يفقدون ثقتهم في «البرلمان طويل الأمد»، وهو الذي سيطر عليه ملاك الأراضي الذين لم يفعلوا شيئًا يذكر لتخفيف وطأة الفقر المتزايد الذي أحدثته الحرب الأهلية، ولم يُبْدوا أي اهتمام بأسر أولئك الذين شوهوا أو قتلوا بسبب الخدمة في جيشهم. وتأكد ﻟ «الجناح الأيسر» من أنصار المساواة أن إصلاح الوضع الاقتصادي متوقف على إصلاح ظروف الفلاحين، ودعوا إلى إعادة كل الأراضي المشاع إلى العمال المعدمين وإلغاء تأجير الإقطاعيين للأراضي بأسعار زهيدة.
هكذا شغلت حركة الحفَّارين الصغيرة، في فترة تاريخية مهمة، اهتمام مجلس وزراء الدولة وقائد القوات المسلحة للكومنولث. ولو عرف كلاهما الأسباب التي دفعت الحفارين لاحتلال هضبة سان جورج لزادت مخاوفهم على ما كانت عليه. وقد سجل جيرارد ونستنلي هذه الأسباب قبل أن يبدأ الحفارون نشاطهم:
«إن العمل الذي سنشرع فيه هو حفر هضبة جورج والأراضي البور المحيطة بها، وغرس بذور الذرة لنأكل خبزنا بعرق جبيننا.»
«والدافع الأول لذلك هو أن نعمل باستقامة، ونجعل الأرض كنزًا مشتركًا للجميع، سواء الغني منهم أو الفقير، ويأكل كل فرد وُلِد في هذا البلد من أمه الأرض التي أنجبته وربته، وطبقًا للمبدأ الذي يحكم الخليقة.»
أما عن جيرارد ونستنلي، الذي ظهر في تلك الفترة كواحدة من قاعدة الحركة، فلم يُعرف عنه شيء يذكر حتى عام ١٦٤٨م عندما نشر أربعة كتيبات معبرة عن بعض الآراء اللاهوتية الجريئة التي اتهم بسببها، من قبل بعض وزراء الكنيسة المتشددين، بإنكار وجود الله والكتاب المقدس والشرائع الإلهية. ويحتمل أن تكون هذه الكتيبات قد وضعت قبل اتصاله بوليم إفرارد و«أنصار المساواة الحقيقية»، لأنها لا تكشف عن أي اهتمام بالقضايا الاجتماعية، وإن كان ونستنلي قد وجد في ذلك الوقت من الأسباب ما دفعه إلى التفكير في مظالم المجتمع. لقد كان تاجرًا وحِرَفيًّا صغيرًا يعيش كأحد المواطنين الأحرار في مدينة لندن، ولكن الحرب الأهلية دمرته كما دمرت كثيرين غيره، وكما قال بعد ذلك في خطاب موجَّه لمدينة لندن: «كان لي وضعي المحترم فيك … وبغش أبنائك وتفننهم في السرقة في البيع والشراء، وبسبب تحمل أعباء الجنود في بداية الحرب، سُلِبت من وضعي وتجارتي، واضطررت لقبول معونة الأصدقاء لأعيش في الريف.»
«دع الناس يقولوا ما يريدون، فما دام هناك أمثال هؤلاء الحكَّام الذين يدعون أن الأرض أرضهم، وما داموا يضعون أيديهم على ملكيتي الخاصة وملكيتك، فلن يحصل عامة الشعب على حريتهم، ولن تخلو الأرض من المتاعب والمظالم والشكاوى التي تغضب الخالق باستمرار …
إن الإنسان الذي هو من لحم ودم يُحكَم بأن من العدل والصواب أن يملك بعض الرجال خيرات الأرض، أو يوصفوا بأنهم رجال أثرياء، سواء حصلوا على هذه الثروة بطريق الصواب أو الخطأ، وأنهم يستحقون أن يكونوا هم السادة ويحكموا الفقراء، بينما ينبغي على الفقراء أن يصبحوا خدمًا، بل عبيدًا للأغنياء. ولكن الإنسان الروحي الذي هو إنسان مسيحي، يحكم طبقًا لنور العدل والعقل بأنه يجب أن يكون لكل البشر الحق في مورد رزق كافٍ وفي الحرية الكافية ليعيشوا فوق هذه الأرض؛ وأنه لا ينبغي أن يكون هناك عبد ولا مسئول في جبله المقدس.»
وقد نادى كذلك بنهاية استغلال الإنسان لأخيه الإنسان:
«لن يحصل إنسان على أرض تزيد مساحتها على قدرته على استثمارها بنفسه، أو بمشاركة آخرين يكدحون معه بحب، فيعملون معًا، ويأكلون الخبز معًا، مثل كل العشائر والعائلات في إسرائيل، بحيث لا يعطون أجرًا ولا يأخذون أجرًا.»
وعلى الرغم من ثورية آراء ونستنلي، فإنه لم يحرض الشعب على العنف أو تجريد الأثرياء من أملاكهم. لقد أراد أن يستولي الفقراء على الأراضي البور ويزرعوها معًا: «ودع عامة الشعب الذين يقولون إن الأرض ملكنا، وليست ملكي، دعهم يعملوا معًا، ويأكلوا الخبز معًا في الأراضي المشاع وفوق الجبال والتلال.»
واضطهد اللوردات والعسكر وملاك الأراضي حفاري هضبة سان جورج خلال العامين التاليين، فضُربوا، وسُلبت منهم أدواتهم الزراعية، وأُزيلت منازلهم، وأُتلفت محاصيلهم، وحُطمت عرباتهم. وقُبض على بعضهم وحُوكموا، وعندما عجزوا عن دفع الغرامات الثقيلة المفروضة عليهم، أُخذِت منهم أملاكهم الهزيلة. وبعد مضي عام واحد لم يتبقَّ سوى قلة ضئيلة من الحفارين، الذين أقاموا، كما يقول ونستنلي، «أكواخًا صغيرة قذرة مثل حظائر الحيوانات ليرقدوا فيها … وزرعوا أراضي متفرقة بالقمح والشعير، ولم يجبرهم شيء على التقاعس سوى الحاجة للطعام الذي لم يعد يكفيهم الآن، فهم فقراء مساكين، تحملوا أعباء النفقات المختلفة منذ أن بدءوا حركتهم.»
هُزم الحفارون على الرغم من شجاعتهم وصمودهم. وقد بذل ونستنلي كل ما في وسعه للدفاع عنهم، وبيَّن في كتيبات عديدة شديدة اللهجة عدالة مطالبه ونواياهم السلمية، وناشد الجيش والبرلمان ومدينة لندن وقف اضطهادهم.
وبعد إخفاق مغامرة هضبة سان جورج في أن تكسب أي تأييد أو تتحول إلى حركة جماهيرية، كما كان يأمل روادها، نشر ونستنلي عام ١٦٥٢م كتابه «قانون الحرية» الذي قدم فيه مشروع حكومة (كومنولث) مثالية. وقد تم تأليف الكتاب بعد أقل من أربع سنوات من نشر كتيبه الأول، وفي غضون هذه الفتوة القصيرة تطورت آراؤه الدينية والسياسية تطورًا سريعًا، وتحولت من النزعة الصوفية والدينية إلى نوع من الإلحاد العقلي، ومن الدعوة للإصلاح الزراعي إلى الدعوة للمزارع الجماعية الكاملة. وكان ونستنلي قد بدأ يفقد إيمانه بالوسائل التي عقد عليها الأمل هو ورفاقه لتحقيق المجتمع الأفضل. وكان الحفارون قد تصوروا أنهم سيستطيعون، عن طريق شرح أهدافهم ومن خلال النموذج الذي قدموه، أن يقنعوا الشعب بزراعة الأراضي البور بشكل جماعي مشترك، كما اعتقدوا أن مُلَّاك الأراضي أنفسهم ربما أبدوا استعدادًا للتخلي عن أراضيهم، ولم يلجئوا في مقاومتهم إلى العنف، ولم يستخدموا القوة في الدفاع عن أنفسهم ضد الجنود والمزارعين الأغنياء الذين هاجموهم.
ويبدو أن فشل تجربة هضبة سان جورج قد أدى بونستنلي إلى الإيمان بأنه من المستحيل على الشعب، ما دام الجيش ضده، أن يمسك بزمام الأرض ويعمل بها كالرجال الأحرار. وربما كان هذا هو السبب الذي جعله يفتتح «قانون الحرية» برسالة إلى كرومويل، الذي كان في ذلك الوقت هو القائد الأعلى للجيش، وكان في استطاعته، أكثر من أي شخص آخر، أن يقوم بتنفيذ إصلاحات بعيدة المدى. ويتضح من مضمون ولهجة الرسالة أن أمل ونستنلي في أن ينفذ كرومويل البرنامج المطروح في كتابه كان أملًا ضعيفًا، وأنه اكتفى بأن يبلغه بما «ينبغي» عليه أن يفعل حتى يكون في موقف أفضل يساعده على نقد ما «يمكن» أن يعمل، ولم يكن ونستنلي ليكتب إلى كرومويل بهذه الطريقة لو أنه اعتقد حقًّا أنه هو المحرر والمشرع للمستقبل.
إن العمل الذي ينتظر أن تقوم به من جانبك هو التخلص من قوة المُضْطَهِد وشخصه معًا، وأن تحرص على وضع الملكية الحرة للأرض وللحريات في أيدي العامة المظلومين في إنجلترا … والآن وأنت تملك سلطة الأرض في يديك، يجب عليك أن تقوم بأحد أمرين: أولهما هو أن تجعل الأرض تحت تصرف عامة الشعب المضطهدين، الذين وقفوا معك ودفعوا مرتباتهم للجيش، وعندئذٍ تفي بما جاء في الكتب المقدسة وبما تعهدت به، وتنال الشرف الذي تستحقه.
وثانيهما أن تعمد إلى نقل «سلطة المنتصر» من يد الملك إلى أيدي أناس آخرين، مع الاحتفاظ بالقوانين القديمة على ما هي عليه، وعندئذٍ ستحمل حكمتك وشرفك للأبد وزرًا ثقيلًا، وفي هذه الحالة إما أن تفقد نفسك، وإما أن تضع للأجيال القادمة أسس عبودة أفظع من كل ما عرفت.
كان ونستنلي مفكرًا اجتماعيًّا جادًّا، وقد منعته حدَّة وعيه من أن يتصور أن عمل رجل واحد يمكن أن يغير المجتمع. وقد تحقق من أن الثورة التي تأتي من القمة ستكون ثورة عقيمة إذا ظلت نظرة الإنسان العقلية والأخلاقية على ما هي عليه. ولكنه كان مقتنعًا اقتناعًا تامًّا بأنه إذا نفذ المسيح أو «انتشر النور» في عقول الناس فسوف يتوقفون عن الرياء والظلم، وسوف يظهر للوجود مجتمع جديد. لقد شغف، كما يقول بريلزفورد «باقتباس نبوءات الكتاب المقدس التي تؤكد أن النصر «للمحتقرين المهانين في الأرض»، وتدعو الأغنياء إلى البكاء والعويل، وهو يتنبأ بأن تتم هذه الثورة قبل أن تمر عجلات سنوات عديدة … وكان يتوقع أن تتحقق الثورة التي أرادها من خلال التغيير الذي ستحدثه «روح العقل في قلوب البشر».»
وقد رفض ونستنلي، على الرغم من كل اقتباساته من الكتاب المقدس ومن اللغة التوراتية التي يستخدمها، جميع الأسس التي يستند إليها التشدد الديني، فهو لا يؤمن بوجود إله شخصي، ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يوحِّد بين الله والعقل. وقد قرر ذات مرة أن يستخدم كلمة العقل بدلًا من كلمة الله في كتاباته (ثم تراجع عن هذا القرار). كما سبق (المعاصرين) بفكرته عن «المسيح الاشتراكي» عندما أعلن أنه (أي المسيح) كان «المدافع الصادق المخلص عن المساواة»، ولكنه لم يقصد بذلك شخصيته التاريخية بل «قوة النور المنتشرة منه». وأدان ونستنلي أيضًا الاعتقاد بالمعجزات، والجنة والنار، كما تشكَّك في البعث الجسدي بعد الموت، وأنكر مذهب الخطيئة الأولى. فالإنسان في رأيه قد ولد خيرًا وحرًّا، و«روح النور الكامنة فيه تعشق الحرية وتمقت العبودية»، ولكن النظام الاجتماعي القائم على الفساد والبؤس هو الذي أفسد طبيعته.
ألغى توماس مور، ومعظم كتاب اليوتوبيا من بعده، الملكية الخاصة خشية تأثيرها المفسد وخطرها المدمر على وحدة الدولة. وقد ألغى ونستنلي أيضًا الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولكن على أساس أن «الحرية الحقيقية» لن يكون لها وجود ما دام الناس لا يتمتعون بالحرية الاقتصادية، كما أعلن، واضعًا نصب عينيه أن الأرض هي المصدر الرئيسي للثروة:
«إن الحرية الحقيقية لمجتمع الكومنولث تكمن في الاستمتاع الحر بالأرض، وإن الأفضل للإنسان ألا يكون له جسد على الإطلاق من ألا يكون لديه الطعام الذي يحتاج إليه (جسده). ومِن ثَم كان احتكار الإخوة للأرض من دون إخوتهم هو الاضطهاد والعبودية، وكان التمتع بثمار هذه الأرض هو الحرية الحقيقية.» ومن حرية التمتع بثمار الأرض تستمد كذلك حرية العقل، لأنني واثق — كما يقول بنفسه — من أن «البحث الصحيح في ألوان العبودية الكامنة في العقل — كالرياء، والغرور، والنفاق، والحسد، والخوف، واليأس، والجنون — إنما يؤكد أنها جميعًا تنجم عن العبودية الخارجية التي تفرضها فئة من الناس على فئة أخرى.» وقبل الشروع في تعريف حكومة الكومنولث الحقيقي، نجد ونستنلي يدين الحكومة الملكية المرتكزة على الملكية، معبرًا بذلك عن إيمانه بأن «الملكية هي السرقة».
إن الحكومة الملكية تسيطر على الأرض بأفانين الاحتيال في البيع والشراء، وبذلك تمثل رجل المتاعب والمنازعات الذي تكون يده ضد كل رجل، ويد كل رجل ضده. ولو نظرت إلى هذه الحكومة في أفضل أحوالها لوجدت أنها حكومة مريضة تشبه مدينة بابل إلى حد بعيد، فهي تضج بالفوضى والاضطراب، لأنها تعبر عن إرادة الجشع والغرور لدى المنتصر الذي يستعبد الشعب المهزوم.
هذه الحكومة الملكية هي التي تحول المناجل والمحاريث إلى رماح وبنادق وسيوف وأدوات للحرب، وذلك لكي يتسنى له (أي لملك هذه الحكومة) أن يأخذ حق أخيه الأصغر الذي وهبه إياه الخالق بالميلاد، ويزعم أن الأرض له وليست لأخيه، إلا إذا استأجر أخوه الأرض منه، وفي هذه الحالة يعيش متعطلًا على هواه من جهد أخيه.
وهذه الحكومة يمكن أن تسمى بحق حكومة قطاع الطرق الذين سرقوا الأرض بالقوة من الإخوة الأصغر، ومنعوها عنهم كذلك بالقوة. وهي حكومة تريق الدماء، لا لتحرر الشعب من الظلم، بل لتملك وتحكم شعبًا مضطهدًا مظلومًا …
وسوف تختفي كل أشكال العبودية والقهر التي فرضها على البشرية الملوك، والإقطاعيون والمحامون، ومُلَّاك الأراضي ورجال الدين، ستختفي كلها بفضل هذه الحكومة، إذا راعت الحق والاستقامة في قوتها وفي اسمها جميعًا.
ذلك لأن هذه الحكومة هي التي ستستعيد بحق الحريات المفقودة، وبهذا تصبح بهجة لكل الأمم، ونعمة على الأرض كلها. لأن هذا هو الذي يمحو لعنة الملوك، ويجعل أورشليم القدس ممجدة في الأرض. ولهذا فلتنظروا جميعكم، يا من تدعون إلى الدين والأمور الروحية، انظروا إلى أي روح تدعون؛ لأن دعوتكم ستمثل أمام المحكمة.
وإذا تربعت حكومة الكومنولث على العرش فلن يستطيع طغيان ولا قهر أن ينظر في وجهها ويواصل حياته. لأن الظلم عندما يقع على الإخوة بيد الإخوة، فذلك دليل على أن هذا لا يمكن أن يحدث في ظل حكومة كومنولث، بل في ظل حكومة ملكية، وأن الظلم قد اتخذ من اسم صانع السلام معطفًا يخفي تحته جشعه وغروره وقهره.
ولا يمكن أن تكون حكومة الكومنولث من عمل مشرِّع أو مخلِّص «لأن هذه الحكومة لا تعتمد على إرادة شخص أو أشخاص بعينهم … كما أن المشرع الكبير لحكومة الكومنولث هو روح الاستقامة الشاملة التي تسكن الجنس البشري، وتنهض الآن لتعلم كل إنسان أن يعامل غيره كما يجب أن يعاملوه، وهي لا تهتم كذلك باحترام الأشخاص، وقد قتلت هذه الروح (أي روح الاستقامة الشاملة) حب الذات، ودفنت أنانية الفريسيين في مزابل حقدهم طوال السنوات الماضية.»
«هذا هو جذر شجرة الحكَّام، وقانون الاستقامة والسلام؛ وكل القوانين الخاصة التي تم اكتشافها بالخبرة والتجربة، ولا بد من تطبيقها لتحقيق الرعاية والحماية المشتركة، وهما من أغصان تلك الشَّجرة وفروعها؛ ولأن الجهل يمكن أن ينتشر بين مختلف أنماط البشر، فقد نقش هذا القانون الأصلي في قلب كل إنسان، وليكون مرشده أو قائده، حتى إذا أعمى الجشع والغرور أحد الموظفين وتحكم الجهل فيه، أمكن أن ينبهه شخص أقل منه شأنًا إلى أنه قد ضل الطريق؛ لأن الحماية المشتركة والسلام هما أساس الحكم في كل الحكومات.»
ومهمة الحكَّام في الكومنولث الحقيقي هي «حفظ القانون العام، الذي هو جذر الحكومة الصحيحة، وبسط الحماية السلام على كل فرد، والتخلص من كل المبادئ والمصالح الأنانية التي تدفع على الطغيان والظلم، وتدمر السلام العام.»
دعا ونستنلي في «القانون الجديد للاستقامة» إلى المجتمع الذي لا يحتاج إلى محامين أو حكَّام؛ لأن الموظفين المنتخبين هم الذين يتولون شئون الإدارة في حكومته المتخيلة. ولم يفارقه إيمانه بأن «كل فرد يملك سلطة بين يديه يستبد بالآخرين»، ولذلك اتخذ احتياطات كبيرة لكي يضمن ألا يقع هذا الاستبداد، فيجب أن يتمتع كل موظفي الكومنولث بثقة الشعب وأن يتم انتخابهم بحرية. وأول حلقة في سلسلة الحكم هي أن يكون الحاكم أبًا يحكم عائلته، ويدلل ونستنلي على صحة رأيه (ولكن بشكل غير مقنع!) بأن أطفاله هم الذين اختاروه، «لأن الضرورة هي التي دفعت الأطفال الصغار إلى اختياره بالإجماع لا بطريق آخر.» والحلقات الأخرى في السلسلة هم الموظفون الذين يتم انتخابهم من قبل الدائرة أو الإقليم أو المقاطعة أو الوطن.
ولما كان ونستنلي مقتنعًا تمام الاقتناع بأن «السلطة مفسدة»، وخاصة إذا ما استمرت فترة طويلة، فلذلك نراه يدعو إلى اختيار موظفين جدد كل عام:
إذا شغل الموظفون العموميون مناصب القضاء لفترات طويلة، فسوف تبدل حالهم من الالتزام بالتواضع والشرف والمعاملة الرقيقة لإخوانهم، إلى أناس تخيم على قلوبهم سحب الجشع والغرور والمجد الزائف. وعلى الرغم من أننا نجدهم عند بداية تقلدهم لمناصب الحكم يتحلون بالروح العامة، وينشدون الحرية للآخرين كما ينشدونها لأنفسهم، فإنهم مع الاستمرار لفترات طويلة في هذه المناصب التي تجلب لهم الشرف والمجد، يتغير حالهم ويصبحون أنانيين يسعون لتحقيق مصالحهم، لا للدفاع عن الحرية العامة، وذلك كما أثبتت التجربة في هذه الأيام، طبقًا للقول المأثور، أن المناصب الكبرى في الدولة والجيش تغير أحوال أعذب الرجال.
والطبيعة تعلمنا أن الماء يفسد إذا بقي راكدًا لفترة طويلة، في حين يحتفظ الماء الجاري بعذوبته ويكون ملائمًا للاستعمال العام.
- أولًا: لمنع شرورهم، فعندما يتملك التكبر والشبع أحد الموظفين، تعمي عيناه وينسى أنه خادم للكومنولث، كما يبذل كل جهده ليرتفع فوق إخوته؛ وغالبًا ما تكون سقطاته كبيرة، والدليل على ذلك سقوط الملوك المتجبرين والأساقفة … وغيرهم من موظفي الدولة.
- ثانيًا: لمنع تغلغل الظلم والقهر إلى الكومنولث مرة أخرى، فعندما يستفحل تكبر
الموظفين وشبعهم، يتزايد حرصهم على الإبقاء على مجدهم وعظمتهم، ولو على
حساب الفقر والضنك الذي يمرغ إخوتهم في الوحل، تشهد على ذلك تصرفات
الملوك وقوانينهم التي سحقت أعضاء مجلس العموم في إنجلترا فترة طويلة
من الزمن.
ألا نرى في هذه الأيام كيف أن بعض موظفي الكومنولث قد طال عليهم العهد فوق كراسيهم حتى غطتهم الأعشاب الطفيلية، وأنهم لا يكادون يتحدثون مع معارفهم القدامى، إذا كانوا أقل منهم شأنًا، على الرغم من أن المودة والألفة كانت تجمع بينهم قبل بداية هذه الحروب؟
ما الذي أوجد مسافة البعد بين الأصدقاء والإخوة إلا الاستمرار لفترات طويلة في مناصب الشرف والعظمة والثروة؟
- ثالثًا: لنحرص على اختيار موظفين جدد كل عام حبًّا في أجيالنا القادمة، لأنه إذا تضخمت الأعباء والمظالم وتراكمت على قوانيننا وموظفينا الذين تدعو الحاجة إلى تغييرهم، كالطحالب والأعشاب الضارة التي تنمو في بعض البلاد وتحتاج إلى إزالتها، فإنها ستكون بالتأكيد أسَّ البؤس والتعاسة، وسيصعب على أجيالنا القادمة التخلص منها، وحينئذٍ سيلعنون الزمن الذي أعطانا — نحن أجدادهم — فرصة وضع الأمور في نصابها الصحيح عملًا على راحتهم، ولكننا تقاعسنا عن أداء هذه المهمة ولم نفعل شيئًا.
- رابعًا: إن تغيير موظفي الدولة كل عام سيطبعهم بطابق الصدق والإخلاص، لأنهم سيعلمون أن الذين سيخلفونهم سيراجعون أعمالهم، وإذا لم يُسيِّروا الأمور في مسارها الصحيح فسوف يلحق بهم العار عندما يحل محلهم الموظفون الجدد. ولكن عندما يعمل الموظفون بجد وإخلاص في حكومة الكومنولث، فلن يمانعوا في التخلي عن مناصبهم، وستحتفظ لندن بسلامة عندما يتم تغيير موظفيها سنويًّا.
- خامسًا: من الخير تغير الموظفين كل عام، لأنه إذا كان من شأن الكثيرين أن يطيعوا، فمن شأن الكثيرين أيضًا أن يأتي دورهم ليحكموا، وسوف يشجع هذا الوضع كل الناس على الاستقامة والأخلاق الحميدة ابتغاء الشرف والمجد. ولكن عندما يزيغ المال والثروة قلوب الحكام، فلن يأتي من ورائهما إلا الطغيان والاستبداد.
- سادسًا: سيزود الكومنولث برجال قادرين ومتمرسين وأَكْفاء للحكم، مما يحقق المجد والسلام لبلادنا، ويتيح قدرًا أكبر من العناية بتربية الأطفال، ولن يمر وقت طول حتى يغدو كومنولث إنجلترا زنبقة بين أمم الأرض.
- أولًا: كل الذين يعيشون بطريقة غير متمدنة، كالسكارى، والمشاغبين، والجهلاء الخوَّافين، الذين يبددون وقتهم في اللذة والرياضة والثرثرة، لأنهم فارغون مجوَّفون ولا يمكنهم أن يصبحوا رجالًا متمرسين مجربين، ولهذا فإنهم لا يصلحون لأن يختاروا موظفين في الكومنولث، ومع ذلك فلهم حق التصويت في الانتخاب.
- ثانيًا: كل الذين تربطهم مصلحة بالسلطة والحكومة الملكية ينبغي ألا ينتخبوا،
ولا أن يتم انتخابهم موظفين لإدارة شئون الكومنولث، لأن هؤلاء لا
يمكنهم أن يكونوا من أنصار الحرية العامة. وهؤلاء نوعان:
- أولًا: أولئك الذين قدموا الأموال لتدعيم الجيش الملكي، أو
الذين كانوا جنودًا في هذا الجيش وقاتلوا للحيلولة دون
استعادة الحرية العامة. هؤلاء لا ينتخبون ولا يتم
انتخابهم موظفين في الكومنولث، لأنهم فقدوا حريتهم.
ومع ذلك فإنني أرى أن نجعل منهم خدمًا، كما هي العادة
عندما يتحول المهزومون إلى خدم، لأنهم إخوتنا (في
الوطن)، وما فعلوه صدر بلا شك عن حماسة صادقة، وإن كان
الجهل قد طغى عليهم.
ونظرًا لأن عددًا قليلًا من أصدقاء البرلمان هم الذين يقدرون حرياتهم العامة، على الرغم من أنهم يحملون اسم الكومنولث، فإن حزب البرلمان يجب أن يصبر على جهل الحزب الملكي، لأنهم إخوة، ولا يجعلوا منهم خدمًا، ولكن لا يجوز في الوقت الحاضر أن ينتخبوا أو أن يتم انتخابهم موظفين، وذلك خشية أن تتفجر فيهم روح الانتقام الجاهل فيعكروا صفو سلامنا العام.
- ثانيًا: أولئك الذين تهالكوا على بيع وشراء أراضي الكومنولث، وورطوها في أوضاع جديدة مربكة، يجب ألا ينتخبوا ولا أن يتم انتخابهم موظفين، إما لأنهم متواطئون مع المصالح الملكية، أو لأنهم يتجاهلون حرية الكومنولث، أو كليهما، ولهذا فهم لا يصلحون لسن قوانين تحكم مجتمع كومنولث حر، ولا يصلحون لأن يتولوا الرقابة على تنفيذ القوانين.
- أولًا: أولئك الذين قدموا الأموال لتدعيم الجيش الملكي، أو
الذين كانوا جنودًا في هذا الجيش وقاتلوا للحيلولة دون
استعادة الحرية العامة. هؤلاء لا ينتخبون ولا يتم
انتخابهم موظفين في الكومنولث، لأنهم فقدوا حريتهم.
ومع ذلك فإنني أرى أن نجعل منهم خدمًا، كما هي العادة
عندما يتحول المهزومون إلى خدم، لأنهم إخوتنا (في
الوطن)، وما فعلوه صدر بلا شك عن حماسة صادقة، وإن كان
الجهل قد طغى عليهم.
فلتختاروا إذن أولئك الذين تشهد أعمالهم بأنهم يساندون الحرية العامة، سواء أكانوا أعضاء في الكنيسة أم لا، لأن الكل واحد أمام المسيح.
اختاروا رجالًا لهم أرواح مسالمة ولديهم القدرة على الدخول في حوار سلمي.
اختاروا الذين عانوا من الظلم الملكي، لأنهم سيشعرون بآلام العبودية التي يقاسيها زملاؤهم (في الوطن).
اختاروا أولئك الذين خاطروا بفقد حياتهم ومراكزهم لتحرير البلاد من العبودية، وظلوا ثابتين صامدين.
اختاروا العقلاء المتفقهين في قوانين الحكومة الحريصة على السلم والنظام الصحيح.
اختاروا الشجعان الذين لا يهابون قول الحق، لأن هذا هو العار الذي يصم الكثيرين من سكان إنجلترا في هذه الأيام، إنهم غارقون في وحل الخوف الحقير من الناس، وهم أناس جشعون، لا يخشون الله، وجزاؤهم أن يطردوا خارج مدينة السلام، ويلقى بهم وسط الكلاب.
تخيروا موظفين من بين الرجال الذين جاوزوا الأربعين عامًا من عمرهم، لأنهم في الغالب رجال من ذوي الخبرة والشجاعة، ويتعاملون بصدق ويكرهون الجشع.
وإذا اخترتم رجالًا كهؤلاء من ذوي المبادئ، الذين أضنى عليهم الفقر لأن «سلطة المنتصر» جعلت أكثر الصالحين المستقيمين فقراء، فخصصوا لهم دخلًا سنويًّا من الخزانة العامة، إلى أن تتوطد حرية الكومنولث، وعندئذٍ لن تكون هناك حاجة إلى مثل هذه المخصصات.
والعائلة هي وحدة المجتمع، كما رأينا في يوتوبيا مور التي يبدو أن ونستنلي قد اطلع عليها، ولا يقتصر دور الأب على الإشراف على تعليم الأبناء وإنما يشرف أيضًا على عملهم:
على الأب أن يرعى أطفاله حتى يشبوا عقلاء وأقوياء، ثم يبدأ تعليمهم القراءة واللغات، والفنون والعلوم، أو تهيئتهم للعمل في حرفة من الحرف، أو توجيههم لتعلمها ودراستها، طبقًا لما سنذكره بعد ذلك عن تربية الجنس البشري.
وكما يجب على الأب أن يعنى بإشراك جميع أولاده في زراعة الأرض، أو بقيامهم بتلبية المطالب الضرورية من عملهم في الحرف الأخرى، فعليه كذلك أن يهتم بتوفير الحياة المريحة لهم، وعدم تفضيل أحدهم على حساب الآخر. وعليه أن يحثهم على العمل، ويراقبهم عند القيام به، ولا يسمح لهم بالبطالة، وذلك إما بتأنيبهم بالكلام، وإما بضرب المذنبين، لأن العصا جُعلت لرد السفهاء إلى العقل والاعتدال، حتى لا يتشاجر الأطفال كالحيوانات، بل يعيشوا في سلام كالعقلاء، ويتدربوا على طاعة القوانين وطاعة موظفي الكومنولث، ويعامل كل منهم الآخر كما يحب أن يعاملوه به.
ومن الضروري أن توجد في كل بلدة أو مدينة أو دائرة خمسة أنواع من الموظفين: صناع السلام، والمراقبون، والضباط (الذين نسميهم رجال الأمن)، والمندوبون (المكلفون بمهام معينة)، والجلاد. ويشرح ونستنلي مهمة كل منهم على النحو التالي:
عمل صانع السلام
يتم اختيار ثلاثة من صناع السلام أو أربعة أو ستة أو أكثر حسب اتساع المواقع، وتكون مهمتهم مزدوجة.
فهم أولًا: يشاركون في عضوية مجلس الشورى لتنظيم شئون الدائرة، ومنع الاضطرابات وحفظ السلام العام، ويُسمَّون أعضاء المجلس.
وثانيًا: إذا نشب نزاع بين رجل وآخر بسبب شجار أو شغب أو أي تصرفات حمقاء، يقوم الضباط بإحضار أطراف النزاع أمام واحد أو أكثر من صناع السلام الذين يستمعون للقضية، ويحاولون تسوية الخلاف بين الأطراف تسوية سلمية، وبهذا يضعون حدًّا لصرامة القانون، ولا يذهبون لأبعد من ذلك.
وإذا عجز صانع السلام عن إقناع أطراف النزاع أو تسوية الخلاف بينهم، أمرهم بالذهاب إلى ساحة القضاء، في الوقت المحدد لذلك، لتلقي حكم القانون.
وإذا حدثت أي اضطرابات عامة تهدد سلام المدينة أو البلدة أو القطرة في إحدى المقاطعات، يجتمع صناع السلام في كل البلدان القريبة ويتشاورون حول هذا الأمر، وتصدر عنهم — أو عن ستة أعضاء منهم، إذا اقتضت الضرورة ذلك — تصدر الأوامر للموظفين الأقل درجة منهم.
ولكن إذا تعلق الأمر بحدود البلدة أو المدينة فقط، قام صناع السلام في تلك البلدة بإصدار الأوامر للموظفين الأقل منهم درجة لأداء أي خدمة عامة حسب اختصاصهم.
ثالثًا: إذا ثبت إهمال أي موظف لواجبه، يقوم صانع السلام بتأنيبه، وإذا استمر إهماله يقوم بإخطار مجلس الشيوخ بالمقاطعة أو البرلمان المحلي، ومنها يلقى المذنب العقاب الملائم.
وكل ما سبق يهدف إلى ضرورة إطاعة القوانين، إذ لا حياة للحكومة إلا بالحرص على تنفيذ القانون.
عمل المراقب
يوجد في الدائرة أو البلدة أربع درجات للمراقبين الذين يتم اختيارهم سنويًّا.
الأول لمراقبة حفظ السلام في حالة وقوع أي نزاع بين رجل وآخر. ومع أن الأرض وثمارها كنز مشترك للجميع، ويجب أن تتم زراعتها وحصدها بالتعاون بين جميع العائلات، فإن جميع المنازل وكل الأثاث الذي تحتوي عليه ملك للسكان، وعندما تأخذ أي عائلة من المخازن الملابس والطعام أو أي أدوات للزينة تحتاج إليها، فإن هذه الأشياء جميعًا تكون ملكًا للعائلة.
والوظيفة الثانية للمراقب خاصة بالحرف، ويقوم المراقب هنا بالإشراف على إلحاق الشباب بالمعلمين لتلقي التدريب اللازم في عمل أو حرفة أو خدمة معينة، أو توجيههم لخدمة الزبائن في المخازن العامة، بحيث لا يبقى عاطل في أي عائلة في دائرته … والحق أن المباني العامة والشركات في لندن تدار بشكل عقلاني ومنظم جدًّا، والمراقبون لشئون الحرف يستحقون أن يسموا معلمين، وموجهين، ومعاونين في هذه الشركات والحرف المختلفة … وفوق ذلك فإن المراقب لشئون الحرف يجب أن يحرص على ألا يعين أحد في وظيفة مدير منزل إلا إذا تدرب تحت إشراف معلم لمدة سبع سنوات وتعلم حرفته، والغرض من هذا أن يحكم كل عائلة معلمون يتصفون بالرزانة والخبرة، لا شباب مترف. ووظيفة المراقب هنا هي المحافظة على التجانس والانسجام بين الحرف والعلوم والأعمال لمصلحة جميع السكان، بحيث لا يبقى في الكومنولث متسول أو عاطل.
والوظيفة الثالثة للمراقب هي أن يتأكد من أن أصحاب الحرف المختلفة يسلمون إنتاجهم للمخازن والمحلات، وأن القائمين على خدمة الزبائن يؤدون واجبهم … وإذا أهمل أي مستخدم في محل أو مخزن واجبه، يقوم المراقب بتحذيره وتأنيبه. فإن غيَّر سلوكه، كان بها، وإن لم يفعل، يستدعِ مراقب ضباط الشرطة ليأخذوه إلى محكمة صانع السلام، فإن أفلح معه تأنيب المحكمة، سارت الأمور على ما يرام، وإن لم ينصلح حاله يرسله المراقبون إلى ساحة القضاء، فيصدر القاضي حكمه بطرده من منزله ووظيفته، وإرساله إلى المزارع للعمل في الأرض، على أن يشغل شخص آخر مكانه في الوظيفة والمنزل حتى يصلح من نفسه.
رابعًا، يكون جميع الشيوخ الذين تجاوزوا الستين مراقبين عموميين. وعليهم أن يذهبوا إلى أي مكان لمراقبة الأخطاء التي يرتكبها أي موظف أو حرفي، وأن يستدعوا الموظفين أو غيرهم لمحاسبتهم على إهمالهم في واجبهم نحو سلام الكومنولث، ويطلق على هؤلاء اسم الشيوخ.
وظيفة الضابط
يعتبر الضابط حاكمًا مثل الموظف تمامًا، والحقيقة أن كل موظفي الدولة ضباط؛ لأنهم يمثلون السلطة، وإذا لم تكن هناك سلطة في يد الموظفين فلن تمتثل الفظاظة لأي قانون أو حكومة، بل لإرادتهم الخاصة.
لهذا يجب أن يتم اختيار ضابط كل عام يكون بمنزلة قائد المدينة، ولأنه هو الرئيس، سيكون تحت تصرفه عدد من الضباط لمساعدته في حالة الضرورة.
وتنحصر وظيفة الضابط في أوقات السلم في ضبط المذنبين وإحضارهم للمثول أمام الموظف وأمام القضاء، كما يقوم أيضًا بحماية الموظف من كل أنواع الاضطرابات.
عمل المكلف بالمهام (حارس السجن)
إن عمل المكلف بالمهام أو وظيفته هي مراقبة أولئك الذين حكم عليهم القاضي بفقد حريتهم، وتحديد العمل المفروض عليهم، ومراقبة إنجازهم له.
وإذا قاموا بمهامهم يُسمَح لهم بمؤن وملابس كافية للمحافظة على صحة أبدانهم. أما إذا أظهروا اليأس أو التسيب أو الكسل، ولم يخضعوا بهدوء لأمر القانون، فيعاقبهم المكلف بالمهام بالضرب بالسياط وإعطائهم وجبات غذائية قليلة، لأن العصا جعلت لظهور الحمقى حتى تذعن قلوبهم المغرورة للقانون.
وعندما يجد أنهم قد خضعوا للقانون، يمد لهم يد العطف باعتبارهم إخوة مذنبين، ويسمح لهم بوجبات غذائية وملابس كافية أملًا في إصلاحهم، ويستمر مع ذلك في مراقبة عملهم حتى يطلق سراحهم بحكم القانون.
ويحدد لهم المكلف بالمهام أي عمل يشاء من الأعمال التي يقوم بها الإنسان.
فإذا فر أحد هؤلاء المذنبين تطلق وراءه صيحة المطاردة، ويحكم عليه القاضي بالموت عندما يتم القبض عليه مرة أخرى.
عمل الجلاد
إذا اعتدى أحد على حرمة القوانين، وعوقب بالجلد، أو السجن أو الموت، يقطع الجلاد الرءوس أو يشنق أو يطلق الرصاص حتى الموت أو يجلد المذنب طبقًا لحكم القانون. وهكذا ترى كيف يسير عمل كل موظف في البلدة أو في المدينة.
عمل القاضي
إن القانون نفسه هو الذي يحكم كل أفعال البشر، ومن يتم اختياره للنطق بحكم القانون يسمى قاضيًا، لأنه هو اللسان المتحدث باسم القانون، ولا ينبغي لأي شخص بمفرده أن يحكم باسم القانون أو يقوم بتفسيره.
والإنسان الذي يأخذ على عاتقه تفسير القانون إما أن يجعل معنى القانون غامضًا، وبذلك يجعله مشوشًا يصعب فهمه، وإما أن يضيف إليه معنًى آخر، وبالتالي يضع نفسه فوق البرلمان، وفوق القانون، وفوق الشعب كله.
ولهذا فإن عمل من يسمى بالقاضي هو أن يستمع إلى أي قضية تعرض عليه، وفي كل حالات النزاع بين إنسان وآخر، يأمر بإحضار طرفي النزاع للمثول أمامه، ويستمع إلى كل منهما وهو يتحدث عن نفسه دون أن يلقنه محامٍ، كما يتحقق من صدق أي شاهد يقوم بإثبات قضية أمامه.
وعلى القاضي أيضًا أن يعلن النص الصريح للقانون فيما يتعلق بأي أمر من هذه الأمور، لأنه لا يسمى باسم القاضي لمجرد أنه يحكم في أفعال المذنبين المطروحة أمامه وتبعًا لرأيه وإرادته، بل لأنه هو الناطق باسم القانون، والقانون في الواقع هو القاضي الحق. وكل ما يريد أن يحيا في الكومنولث في سلام، عليه أن يضع هذا القانون وهذه الشهادة نصب عينيه.
ولكن من هنا نشأ بؤس كثير في الأمم التي تخضع للحكومة الملكية، وذلك حين ترك للقاضي أن يفسر القانون. وعندما تحولت روح القانون، ورأي البرلمان والحكومة إلى صدور القضاة، ارتفعت الشكوى من ظلم القضاة، والمحاكم، والمحامين ومن مسار القانون نفسه، وكأنما هو قانون شرير.
والسبب في ذلك هو تحريف القانون — الذي كان قاعدة ثابتة — وفقًا لإرادة قاضٍ جشع، حسود أو مغرور. فلا عجب أن تكون القوانين الملكية شديدة التعقيد، وألا يعرف مسار القانون سوى قلة ضئيلة من الناس؛ لأن الحكم في معظم الحالات يكمن في صدر القاضي وليس في نص القانون.
والواقع أن القوانين الصالحة التي يضعها برلمان جاد تشبه البيض الصالح الذي ترقد عليه إوزة بلهاء، وبمجرد أن تضعه تذهب في حال سبيلها وتتركه للآخرين دون أن تلتفت وراءها، حتى إنك لو وضعت حجرًا في عشها لرقدت عليه معتقدة أنه بيضة …
وهكذا نرى أن القوانين وإن كانت صالحة، فإنها إذا تُركت لإرادة القاضي ليفسرها، ثبت بالتجربة في أكثر الأحيان أن تطبيقها فاسد.
ولا شك في أن كلًّا من القضاة الناطقين باسم القانون والقساوسة الناطقين بكلمة الرب، كانوا خدمًا غير مخلصين لا للإنسان ولا للرب، لأنهم أخذوا على عاتقهم نشر ذلك القانون وتفسيره، وهو الذي التزموا بطاعته دون إضافة إليه أو إنقاص منه.
ويجب أن يوجد في كل إقليم أو مقاطعة ساحة للقضاء (محكمة) أو مجلس شيوخ المقاطعة، الذي يتكون من قاضٍ، وصناع السلام في كل مدينة تقع داخل تلك الدائرة، ومن المراقبين والضباط الذين يخدمون فيها.
المحكمة
تنعقد هذه المحكمة في المقاطعة أربع مرات في السنة، أو أكثر من ذلك إذا لزم الأمر، وأربع مرات سنويًّا في المدن الكبرى. وفي الربع الأول من السنة تنعقد في الجزء الشرقي من المقاطعة، وفي الربع الثاني منها في الجزء الغربي، وفي الثالث في الشمالي، وفي الرابع في الجزء الجنوبي.
وتراقب هذه المحكمة الموظفين داخل حدود المقاطعة، للتأكد من أن كل واحد منهم في موضعه يقوم بعمله بأمانة. وإذا ارتكب أي موظف خطأ في حق أي إنسان، تصدر حكمها بعقاب المذنب، وذلك حسب الجرم الذي ارتكبه ضد القانون.
وإذا تقدم إنسان بأي شكوى، وعجز الموظفون عن ترضيته، تسمع المحكمة شكواه بهدوء، وتسوي مشكلته. وفي حالة عدم وجود قانون مناسب، يمكنهم الاتفاق على رأي لتسوية مشكلة المذنب إلى أن ينعقد البرلمان الذي يقر هذا الرأي، إذا وافق عليه، ويرفعه لمستوى القانون، أو يصوغ قانونًا آخر لنفس الغرض، لأن من المحتمل أن تقع في المستقبل أحداث كثيرة لم يتنبأ بها مشرعو القانون في أثناء وضعه.
وإذا اندلعت الفوضى بين جماهير الشعب، تقوم المحكمة بوضع الأمور في نصابها الصحيح. وإذا اضطر أحد للمثول أمام هذه المحكمة، يستمع القاضي لقضيته، ويعلن نص القانون، طبقًا لطبيعة الجرم.
بهذا يكون العمل الوحيد للقاضي هو النطق بنص القانون وروحه. والهدف من وراء ذلك كله هو التأكد من تنفيذ القوانين، والمحافظة على السلام في الكومنولث.
وسيكون للبلاد كلها برلمان، ووزارة للكومنولث، وإدارة للبريد، وجيش.
عمل برلمان الكومنولث
البرلمان هو المجلس الأعلى للعدالة في البلاد، ويجب أن يتم انتخابه سنويًّا. ويُختار من كل مدينة، وبلدة، ومن بعض المقاطعات، يُختار رجلان أو ثلاثة أو أكثر ليؤلفوا هذا المجلس.
ومهمة المجلس هي مراقبة جميع المجالس الأخرى، والموظفين، والأشخاص، والأعمال ولديه سلطة كاملة — باعتباره ممثلًا للبلاد بأسرها — لإزالة جميع الشكاوى، والعمل على راحة المظلومين.
- أولًا: يمنح البرلمان، كأب رحيم، السلطة للموظفين، ويصدر التعليمات التي تقضي بحرية زراعة وحصاد أرض الكومنولث، التي حرم الغزاة والملوك وقوانينهم الطاغية على كل المظلومين استغلالها بحرية، وأصبح من حقهم الآن أن يشرعوا في زراعتها بحرية للحصول على مأكلهم وملبسهم، ومهمة الموظفين هي حماية من يعمل في الأرض، ومعاقبة من يركن إلى الكسل.
-
ثانيًا: وظيفة البرلمان هي إلغاء كل القوانين والعادات القديمة التي كانت
مصدر قوة (الحاكم) الظالم، وسن قوانين جديدة للعمل على راحة الشعب
وحريته، ولكن بشرط أن يكون الشعب على علم بذلك.
ذلك أن مهمة البرلمان هنا مهمة ثلاثية:
- (١) أن القوانين والعادات الملكية القديمة تمثل عبئًا
على الشعب، الذي يريد إلغاءها ووضع قوانين أخرى أصلح
منها.
ومهمة أعضاء البرلمان الآن هي أن يبحثوا على ضوء العقل والعدل عن الوسائل الكفيلة بتخفيف العبء عن الشعب والمحافظة على السلام العام.
- (٢) وعندما يستقرون — من خلال مناقشات المجلس — على رأي يخفف الأعباء من الشعب، يكون عليهم ألا يضعوا هذا على الفور في صيغة قانون، بل أن يصدروا إعلانًا عامًّا للشعب الذي انتخبهم لمعرفة رأيه فيه، وإذا لم يصلهم اعتراض عليه خلال شهر واحد، يعتبرون سكوت الشعب دليلًا على موافقته.
- (٣) وفي المقام الثالث، عليهم أن يسنوا (هذا الإعلان
العام) في صيغة قانون، ليكون قاعدة ملزمة للبلاد كلها،
فكما أن إلغاء القوانين والعادات القديمة تم بموافقة
الشعب، الذي طالما طالب بهذا وسعى إليه، فإن تشريع
قوانين جديدة لا بد أن يتم بموافقته ومعرفته.
ولا ينبغي عليهم أخذ موافقة الأشخاص الذين كانت لهم مصلحة في القوانين القديمة الظالمة، كما اعتاد الملوك أن يفعلوا، بل عليهم أن يحصلوا على موافقة الأشخاص الذين سبق اضطهادهم. ويرجع السبب في هذا إلى أن الشعب بأكمله ملزم بالخضوع للقانون وللعقاب، ولهذا يجب أن يعرفه جيدًا قبل إصداره، وإذا وجد فيه أي ظلم، فيجب أن يكشف عنه ويتم تعديله.
- (١) أن القوانين والعادات الملكية القديمة تمثل عبئًا
على الشعب، الذي يريد إلغاءها ووضع قوانين أخرى أصلح
منها.
- ثالثًا: ومهمة البرلمان أيضًا، في حالة إعلان الحرب لصد غزو خارجي أو إخماد ثورة داخلية، هي النظر في هذا الأمر لحماية السلام العام.
وهكذا نجد أن البرلمان هو رأس السلطة في الكومنولث، ووظيفته هي إدارة الشئون العامة في أوقات الحرب والسلم، وليست مهمته هي تأييد مصالح فئة معينة، بل حماية سلام وحرية البلاد كلها، وكل فرد في البلاد، بحيث لا يُحرَم أحد من الحقوق التي وهبها الخالق له، ما لم يفقد حريته باعتدائه على غيره، كما نصت القوانين على ذلك.
ولا يعتبر الجيش، في كومنولث ونستنلي، هيئة دائمة من الجنود المأجورين أو المجندين، وإنما تتم التعبئة في حالة الطوارئ فقط، ويتكوَّن الجيش من الموظفين الذين يتولون شئون الحكم في أوقات السلم، ومن الشعب الذي يوضع كله تحت السلام إذا لزم الأمر.
ويكون الجيش هو الحاكم في أوقات السلم، فيحافظ على أمن البلاد والحكومة بتنفيذ القوانين التي افتداها الجيش بدمه في ميدان القتال وخلصها من يد البطش والاضطهاد.
وهنا يكون جميع الموظفين، من رب الأسرة إلى برلمان البلاد، هم رؤساء وقادة الجيش، ويهب الشعب كله لحماية الموظفين ومساعدتهم، دفاعًا عن الحكومة المنظمة، إذ ليس الشعب إلا جسد الجيش.
أحس ونستنلي بضرورة تدعيم الروابط الاجتماعية بين الولايات والمقاطعات المختلفة التي يتألف منها الكومنولث، ولهذا تصور أن الحاجة تدعو إلى وجود مديري البريد، الذين لا يختلف دورهم عن دور مراسلي الأخبار في أيامنا، وإن كانوا أكثر منهم إيثارًا وحبًّا للغير:
سيتم انتخاب رجلين من كل مقاطعات الكومنولث (في نفس الوقت الذي يتم فيه انتخاب الموظفين) وسيطلق عليهما اسم مديري البريد. وحيث إن البلاد تنقسم إلى أربعة أقسام هي الشرقي والغربي، والشمالي والجنوبي، فسيتم انتخاب رجلين من سكان المدينة الرئيسية لاستقبال ما يورده مدير بريد القسم الشرقي، ورجلين للشمالي، وآخرين للجنوبي.
وستكون مهمة مديري البريد هي تسليم أو إرسال تقارير شهرية، من المقاطعات الخاصة بهم للمدينة الرئيسية، عن الأحداث التي تقع، والتي تكون مشرفة أو مخزية للكومنولث، ضارة أو نافعة له. وإذا لم تقع في ذلك الشهر أحداث جديرة بالملاحظة، فإنهم يثبتون أن السلام أو النظام مستتبان في تلك المقاطعة.
وعندما يعرض مديرو البريد المختصون بالمقاطعات تقاريرهم أو شهاداتهم من كل أنحاء البلاد، يسجل المستقبلون لهذه التقارير كل شيء بنظام عن كل المقاطعات على هيئة نشرة أسبوعية.
ويقوم هؤلاء المستقبلون الأربعة بنشر التقارير عن أحوال الأقسام الأربعة للبلاد وطبعها في كتاب واحد، وترسل نسخة من هذا الكتاب لكل مدير بريد، بحيث يكون لديهم سجل كامل مطبوع عن جميع شئون البلاد.
والفائدة التي تعود على البلاد من هذا، هي أنه إذا تعرض أي جزء منها لوباء، أو مجاعة أو غزو، أو ثورة أو أي كوارث طارئة، تبلغ بذلك الأجزاء الأخرى من البلاد فترسل النجدة على وجه السرعة.
وإذا وقعت أي حادثة خطيرة بسبب الطيش أو الإهمال، تتخذ الأجزاء الأخرى من البلاد الاحتياطات الكافية لدرء الخطر.
وإذا توصل أحد من خلال المثابرة أو النضوج العقلي إلى اكتشاف سر من أسرار الطبيعة، أو اختراع جديد في الفن أو التجارة أو فلاحة الأرض أو أي شيء من هذا القبيل يمكن أن يعود على الكومنولث بالمزيد من النمو والازدهار والثراء، ينال هؤلاء الأشخاص المتفوقون التكريم من الجهات التي يعيشون فيها، وعندما تسمع الجهات الأخرى بهذا التكريم يتشجع العديد من أبنائها ويبذلون غاية جهدهم لتحقيق مثل هذا الإنجاز، وبمرور الوقت لن يبقى سر من الأسرار التي لا تزال خافية (بسبب العصر الحديدي للحكومة الملكية الظالمة) إلا ويظهره شخص أو آخر إلى النور فيزيد مجتمعنا وبلادنا (الكومنولث) جمالًا.
ويستطرد ونستنلي في وصف مهام وزراء الكومنولث الذين يفترض فيهم أن يكونوا من عامة الناس ويتم انتخابهم سنويًّا من قبل أعضاء المقاطعة. وعندما يعقد مجلس المقاطعة اجتماعه كل يوم أحد يقرأ الوزير بصوت مرتفع قوانين الكومنولث والتقرير الذي تتضمنه النشرة الرسمية لمدير البريد، ثم تعقب ذلك خطب ومناقشات في موضوعات تاريخية وعملية متفرقة. وهكذا نرى أن الدين ليس له مكان في كومنولث ونستنلي، إذ حل محله دراسة الطبيعة والتاريخ. ومما يزيد من طرافة آرائه عن العلم التجريبي وأهمية الاكتشاف والتربية أنها لم تأتِ من فيلسوف أو عالم، بل جاءت من رجل تلقى تعليمه في مدرسة لغات متواضعة:
«إن وجود قوانين صالحة مع جهل الشعب بها، يعادل في ضرره بالكومنولث عدم وجود قوانين على الإطلاق.»
- أولًا: لكي يلتقي الناس في مثل هذه المقاطعة فيرى كل منهم وجه الآخر ويؤلف الحب والمودة بينهم.
- ثانيًا: ليكون يوم راحة أو انقطاع عن العمل، حتى يأخذوا قسطًا من الراحة البدنية لهم ولأنعامهم.
- ثالثًا: ليقرأ الوزير — الذي تم انتخابه لهذا العام عن تلك المقاطعة — على الشعب ثلاثة أشياء:
-
(١)
جميع أحوال البلاد، كما جاءت في تقرير مدير البريد وسجلها المكتب التابع له.
-
(٢)
قانون الكومنولث، لا لكي يقوي ذاكرة الشيوخ فقط، بل لكي يتعلم الشباب، الذين لم تنضج تجربتهم بعد، كيف يميزون الخير من الشر، ومتى يفعلون الصواب أو الخطأ، ذلك لأن قوانين البلاد تمسك في يدها سلطة الحرية والعبودية، والحياة والموت، ولهذا يتحتم أن يحيط الناس علمًا بها، والقانون هو خير معلم لهم، حتى إذا تقدم بهم العمر وبلغوا سن النضج أصبحوا قادرين على الدفاع عن قوانين البلاد وحكومتها. ولكن لا يجوز أن يشرح القارئ هذه القوانين، لأن شرح القانون الواضح، بحجة استخراج المعنى الذي لم يبينه النص الحرفي، إنما يجلب الشر من ناحيتين:
- (أ)
سيشيع الخلط والتشوش في القانون وفي عقول الناس، لأن الإكثار من الكلمات يسدل على المعرفة ظلمات الغموض.
- (ب)
سيمتلئ القارئ غرورًا ويدين مشرعي القانون، وبمضي الوقت يتولد الطغيان ويترعرع، كما أثبتت وزارتنا في هذه الأيام.
- (أ)
-
(٣)
لأن عقول الناس تميل للخطب والأحاديث بصفة عامة — ولهذا يمكن التصريح بها لتدريب الشباب والشيوخ على النحو التالي:
- أولًا: للتعريف بوقائع العصور الماضية وطبائع الحكومات الغابرة، مع إبراز مزايا الحرية في ظل الحكومات الرشيدة، كما حدث في كومنولث (مجتمع) إسرائيل، ومثالب العبودية التي ارتبطت دائمًا بالظلم والظالمين، كما حدث في عهد فرعون وغيره من الملوك والطغاة، الذين زعموا أن الأرض والشعب ملكهم وتحت تصرفهم وحدهم.
- ثانيًا: الخطب والأحاديث التي تُلقى حول العلم والفنون،
كالفيزياء والجراحة، والتنجيم، وعلم الفلك، والملاحة،
والزراعة، وتربية الحيوان وما شابه ذلك، علاوة على
طبيعة جميع الأعشاب والنباتات من أشنان٦ داود حتى شجر الأرز، وذلك كما أمر الملك
سليمان.
كذلك يمكن أن يتعرف الناس على طبيعة الكواكب الثابتة والسيارة، التي تكشف عن قدرة الله وعظمته في السماء، وبذلك يطلعون على أسرار الطبيعة والخلق، التي تنطوي على كل معرفة صادقة، وتحفز النور الداخلي في الإنسان على البحث عنها.
- ثالثًا: ويمكن أن تُلقى بعض الأحاديث عن طبيعة الجنس البشري، عن ظلامه ونوره، وضعفه وقوته، وحبه وكراهيته، وأحزانه وأفراحه، وعبوديته الباطنة والظاهرة، وحرياته الداخلية والخارجية … إلخ. وهذا هو الهدف الذي تسعى إليه وزارة الكنائس بصفة عامة، ولكنهم يخلطون معرفتهم ببحوث خيالية، وذلك حين يتكلف أحدهم الكلام بغير تجربة أو خبرة.
ولأن الأمم الأخرى تتكلم بلغات متعددة، يجب أن تكون الخطب في بعض الأحيان بلغات أخرى وأحيانًا باللغة الأم، بحيث يتيسر للمواطنين في مجتمعنا الإنجليزي تحصيل جميع المعارف والفنون واللغات، ويشجع كل فرد على جده واجتهاده، ويكسب حب جيرانه بالاطلاع على حكمتهم ومعرفتهم التجريبية بالموجودات.
أكد ونستنلي أن التعليم الحكومي في ظل الملكية بقي امتيازًا مقصورًا على القلة:
«فالعبودية الملكية — كما يقول — هي سبب انتشار الجهل في الأرض، عندما تتوطد حرية الكومنولث، ويتم التخلص من عبودية الفريسيين أو العبودية الملكية، ولكن ليس قبل ذلك.» وقد حرص ونستنلي في حكومته المثالية على أن يتلقى كل طفل تعليمه عن طريق الكتاب وأن يتعلم بالإضافة إلى ذلك حرفة معينة، مع الاهتمام أيضًا بتدريب الأطفال على أن يكونوا مواطنين صالحين.
يشبه الكائن البشري في أيام شبابه فتًى غرًّا تستبد به الرعونة والطيش، حتى يقومه التعليم والتوجيه، وإهمال هذا الجانب أو تأديته بطريقة تفتقر إلى الحكمة كان دائمًا ولا يزال هو سبب الفرقة والمتاعب في العالم.
ولهذا يستوجب قانون كومنولث أن يتولى المراقبون والموظفون، لا الآباء وحدهم، مسئولية تنشئة الأطفال على الاخلاق الحميدة، والحرص على تعليمهم حرفة معينة، وعدم السماح لأي طفل في أي ولاية بالحياة في فراغ والانغماس في متع الشباب، كما فعل الكثيرون، بل أن يشبوا كرجال لا كوحوش، حتى يزخر الكومنولث برجال حكماء جادين مجربين، لا بالأغنياء العاطلين.
ويمكن أن ننظر إلى الكائن البشري في مراحله الأربع، وهي الطفولة، والشباب، والرجولة والشيخوخة. فطفولته وشبابه يمتدان من مولده حتى سن الأربعين، وفي أثناء هذه المرحلة، وبعد أن يتم فطامه من أمه (التي ستكون هي مربيته إلا إذا كانت طبيعتها فاسدة)، يعلمه والداه كيف يعامل جميع الناس معاملة مهذبة ومتواضعة. وبعد ذلك يرسلانه إلى المدرسة ليتعلم ويقرأ قوانين الكومنولث، وينمي ذكاءه ومواهبه منذ طفولته حتى يتقدم في تعليمه ويلم بجميع الفنون واللغات. والغرض من هذا هو تحقيق ثلاثة أهداف:
أولًا، عن طريق التعرف على شئون العالم، ومن خلال معرفتهم التقليدية، سيكونون أقدر على التحكم في أنفسهم كرجال عقلاء. ثانيًا، يمكنهم أن يصبحوا مواطنين صالحين في الكومنولث ويساندوا حكومته عن طريق التعرف على طبيعة الحكم. ثالثًا، إذا وجدت إنجلترا الفرصة لإرسال سفراء لأي دولة أخرى، يكون لدينا أشخاص يعرفون لغتها، أو إذا حضر إلينا سفراء من الدول الأخرى، فسيكون لدينا من يفهم كلامهم.
ولكن لا يصح أن ننشِّئ بعض الأطفال على التعلم من الكتب وحدها بغير أن نعلمهم وظيفة أخرى، وذلك كما يحدث في ظل الحكومة الملكية مع من يُسَمَّون بالباحثين، لأن هؤلاء سيستغلون الفراغ الذي يعيشون فيه ويكدون عقولهم المدربة عليه، في قضاء وقتهم في التحايل لكي يصبحوا لوردات وسادة على إخوتهم المجدين، وذلك على نحو ما يفعل سيمون وليفي، مما يتسبب في كل متاعب العالم.
ولكي نتلافى المخاطر الناجمة عن بطالة الباحثين، فإن العقل وضمان السلام المشترك يقتضيان أن نهيئ للأطفال — بعد أن يشبوا في المدراس وتنضج عقولهم — تعلم الحرب والفنون والعلوم التي تلائم قدراتهم الجسدية والعقلية، والاستمرار في ذلك حتى يبلغوا سن الأربعين.
لقد رأينا كيف ألغى ونستنلي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولكنه على خلاف مور وكامبانيلا وأندريا، أبقى على ملكية «السلع الاستهلاكية».
وإذا أراد أي شخص آخر أن يأخذ منه منزله وأثاثه، وطعامه وزوجته أو أطفاله، قائلًا إن كل شيء مشترك، وخرق بذلك قانون السلام، فإن مثل هذا الشخص يعتبر آثمًا، وعليه أن يتحمل العقاب الذي حددته الحكومة والقوانين.
فعلى الرغم من أن المخازن العامة جزء من المال العام، فإن السكن الخاص ليس من الأملاك العامة للدولة، ومهمة قوانين الكومنولث هي حماية سلام الإنسان في شخصه، وسكنه الخاص من الفظاظة والجهل اللذين يمكن أن يصيبا الإنسان.
ومع ذلك فليس في مجتمع ونستنلي المثالي نقود ولا أجور، وكل إنسان يعطي حسب مجهوده ويأخذ حسب احتياجاته. وفي نهاية «قانون الحرية» نجده يرجع لتنظيم مجتمع بلا نقود، ويشرح أسلوب الحياة فيه كما يلي:
«تزرع الأرض وتجمع الثمار ويتم نقلها إلى المخازن بمساعدة كل أسرة. وإذا أراد أي إنسان أو أي أسرة الحصول على ذرة أو أي مؤن أخرى، فيمكنهم الذهاب إلى المخازن وأخذها دون نقود. وإذا أرادوا حصانًا للركوب، يذهبون إلى الحقول صيفًا، أو إلى الإصطبلات العامة شتاء، ويتسلمونه من الحراس، وعندما تنتهي الرحلة التي قاموا بها، يرجعونه إلى المكان الذي أخذوه منه، وذلك دون نقود. وإذا أرادوا طعامًا أو مؤنًا، فإما أن يذهبوا إلى محلات القصابين ويتسلموا ما يشاءون دون نقود؛ وإما إلى قطعان الأغنام أو الماشية، فيذبحوا ويأخذوا ما يحتاجون إليه من اللحوم لعائلاتهم دون بيع أو شراء.»
ويحلل ونستنلي في الفصل الأخير من «قانون الحرية» طبيعة القوانين، محاولًا أن يوضح الفرق بين الأعراف، والتقاليد، والقوانين المكتوبة، وبين القوانين غير المكتوبة التي تنبع من «النور الداخلي للعقل»:
«إن القوانين الملكية القديمة التي كانت صالحة في عصور العبودية لا يمكن أن تصلح أيضًا لعصور الحرية.» ثم يستعين بنزعته الواقعية فيشبه تلك القوانين «بالضباط العجائز الذين يغيرون أسماءهم ثم يتابعون حياتهم وكأن شيئًا لم يتغير». ولهذا يؤكد أن قانون الكومنولث الحقيقي يجب أن يكون «اتفاق سلام لكل الجنس البشري». إنه قانون يحرر «الأرض للجميع ويؤلف بين اليهود والأمميين في أخوة واحدة لا تستثني أحدًا. وهو يعيد ثوب المسيح سليمًا كما كان ويجعل ممالك الأرض مرة أخرى مجتمعات كومنولث. وهو كذلك القوة الباطنة للفهم الصحيح، الذي هو القانون الحق الذي يعلم الناس بالفعل، كما يعلمهم بالكلمات، أن يعاملوا غيرهم بما يحبون أن يعاملوهم به.»
أما قوانين الكومنولث المكتوبة، فيجب أن تكون «قليلة ومختصرة وأن تعاد قراءتها أكثر من مرة … وكل من يعرف متى كانت نافعة ومتى كانت ضارة، سيمكنه أن يتخذ جانب الحذر الشديد من كلماتها وأفعالها، وبهذا يستغني عن المحامين.» ومن العجيب حقًّا، على ضوء العبارة الأخيرة، أن نجد ونستنلي يختم وصف «كومنولثه» المثالي بقائمة من اثنين وستين قانونًا، لا يختلف معظمها كثيرًا عن قانون الملوك التقليدي الذي يقتل الحرية الحقيقية. والظاهر أن ونستنلي يقدم هذه القوانين على سبيل المحاولة، لأنه يمهد لها بهذه الكلمات: «قد تكون هذه هي القوانين الخاصة، أو المنهج القانوني، الذي يمكن أن يحكم به الكومنولث». ومن الأمور المخيبة للأمل، على كل حال، أن نجد ونستنلي، شأنه شأن العديد من الكُتَّاب اليوتوبيين، لا يلتزم كثيرًا آراءه النظرية عندما يبدأ في وضعها موضع التطبيق. والغريب أن الكاتب الذي سبق له أن قال في «قانون الاستقامة»: «كل من يقول إنه يستطيع أن يهب الحياة، فهو يستطيع أيضًا أن يسلب الحياة. ولما كانت قوة الحياة والموت في يد الخالق وحده، فإن أي إنسان يسلب إنسانًا مثله من حياته، باسم أي قانون كان، يرتكب بكل تأكيد جريمة قتل ضد الخليقة.» هذا الكاتب نفسه هو الذي سمح بحرية توقيع عقوبة الموت. وها هو ذا يقدم بعض وصاياه، وكأن في يده سلطة «إعطاء الحياة»: «لا يجوز أن يستغل أحد القانون للتوصل إلى مال أو مكافأة. ومن يفعل ذلك فسيعاقب بالموت باعتباره خائنًا للكومنولث، فعندما يباع العدل ويُشتَرى بالمال، فلا يمكن أن نتوقع إلا الظلم والقهر.»
«ومن يزعم أنه يعيش لخدمة الإله الحق بالوعظ والصلاة، ثم يتاجر أو يعقد صفقة للاستيلاء على الأرض، فلا بد أن يعاقب بالموت باعتباره ساحرًا وغشاشًا.» والواقع أن مفهوم ونستنلي عن العدل مفهوم بربري بشكل كامل:
«ومن يضرب جاره سيضربه الجلاد ضربة بضربة، وسيفقد عينًا بعين، وسنًّا بسن، وعضوًا بعضو، وحياة بحياة، والحكمة من وراء ذلك هي أن يتعلم الناس الرفق في التعامل مع أجساد بعضهم البعض، وأن يعاملوا غيرهم بما يحبون أن يعاملوهم به.»
وهو يوصي بأن تفرض العبودية، كما رأينا في يوتوبيا مور، كعقاب على الجرائم التي تكون أخف من الجرائم السابقة الذكر: «كل من يخالف القوانين للمرة الأولى يتم توبيخه في جلسة خاصة أو عامة، كما بينا من قبل، وفي المرة الثانية يُجلَد بالسوط، أما في المرة الثالثة فيفقد حريته، إما لفترة زمنية محدودة أو للأبد، كما يحرم عليه أن يشغل أي وظيفة.»
ومن فقد حريته يصبح خادمًا لأي رجل حر، ويذهب إلى «فارضي المهام» ويطلب خادمًا للقيام بأي عمل خاص به، وعندما يُلحقه هذا الرجل الحر بعمله بعد موافقة فارضي المهام، يُحظَر على أي رجل حر آخر أن يطلبه للعمل عنده إلا بعد أن ينتهي من عمله السابق.
وإذا سب أحد هؤلاء المذنبين القوانينَ بالكلام، يتم جلده وتقدم له وجبة غذائية رديئة. وإذا شهروا السلاح ضد القوانين يعاقبون بالموت باعتبارهم خونة.
وعندما يقدم العبيد دليلًا واضحًا على تواضعهم واجتهادهم وامتثالهم لقوانين الكومنولث، فإن بإمكانهم في هذه الحالة استرداد حريتهم بعد انتهاء مدة العبودية التي حكم بها القاضي عليهم. أما إذا استمروا في معارضتهم للقوانين، فإنهم يبقون عبيدًا لفترة زمنية أخرى.
وكان ونستنلي مدافعًا صلبًا عن الأسرة، وقد هاجم أولئك الذين يعتقدون «بجهلهم الوحشي الذي لا يتصوره عقل، أنه يجب أن يُجمَع كل الرجال والنساء بغرض الجماع وبذلك يعيشون عيشة البهائم.» ولو نظرنا إلى «الكومنولث الحر» لوجدنا أن كل أسرة «ستعيش مستقلة، كما هي الحال الآن، وسيستمتع كل رجل بزوجته، وكل امرأة بزوجها، كما يفعلون الآن.» أضف إلى هذا أن قوانين الزواج بسيطة إلى أقصى حد. وعلى الرغم من أن الاغتصاب، في بعض الحالات، يعاقب عليه بالموت، إلا أن الزنا لا يعدُّ جريمة:
«سيكون لكل رجل وامرأة حرية الزواج بمن يحبه كل منهما، وذلك إذا استطاع أن يكسب حب الشريك الذي يريد أن يقترن به. ولن يعوق الأصل ولا الإرث ولا الثروة هذا الزواج، لأننا جميعًا من دم واحد هو دم الإنسان. أما عن نصيب كل منهما من الثروة العامة، فإن المخازن العامة من نصيب كل رجل وكل فتاة، وهي مفتوحة الأبواب لكل منهما على السواء.
إذا عاشر رجل فتاة وأنجب منها طفلًا، فعليه أن يتزوجها.
وإذا ضاجع رجل امرأة بالقوة، وصرخت المرأة ولم تجد استجابة، ثم ثبت هذا عن طريق اثنين من الشهود، أو باعتراف الرجل، يُحكم عليه بالموت، ويُخلى سبيل المرأة، لأن فعله هذا يعد من قبيل سرقة الحرية الجسدية للمرأة.
وإذا حاول رجل اختطاف زوجة رجل آخر بالقوة، فإن هذه المحاولة العنيفة يعاقب عليها للمرة الأولى بتوبيخ صانع السلام له أمام الجمهور، وفي المرة الثانية يحكم عليه بأن يكون خادمًا تحت تصرف فارض المهام لمدة عام كامل، أما إذا ضاجع زوجة رجل آخر بالقوة، وصرخت المرأة كما تفعل الفتاة التي يتم اغتصابها بالقوة، فيحكم عليه بالموت.
وإذا اتفق رجل وامرأة على العيش معًا كزوجين، فإنهما يبلغان رغبتهما لجميع المراقبين في دائرتهما، ولبعض الجيران أيضًا. وفي الاجتماع الذي يضمهم جميعًا، يعلن الرجل أمام الجميع أنه اختار هذه المرأة لتكون زوجته، وتعلن المرأة نفس الشيء، ويشهد المراقبون على الزواج.»
إذا كان ونستنلي قد كشف في تخطيطه لقوانين الكومنولث المثالي عن روح تسلطية يشترك فيها معظم اليوتوبيين، فإنه من جهة أخرى متحرر تمامًا من النزعة القومية التي تميز العديد منهم. ولا يقتصر الأمر على امتناع «الكومنولث» عن شن الحروب العدوانية، بل يبدو كذلك أنه آمن بأن الأمم الأخرى في العالم سوف تسارع بالاقتداء بمجتمعه المثالي، وأن البشرية كلها ستعيش في سلام:
«سيزدهر السلام والوفرة في تلك الأمة التي ستقوم فيها حكومة الكومنولث، وستهرع إليها كل أمم لرؤية جمالها، وتعلم أساليبها ونظمها. وستنطلق كلمة القانون من جبل صهيون، وكلمة الرب من أورشليم التي ستحكم الأرض جميعًا» (ميخا، الإصحاح الرابع: ١-٢).
ومعنى هذا أن العالم بأجمعه سيصبح أسرة واحدة ضخمة:
«هذا الحكم الصحيح للحكومة الصحيحة، إذا روعي بالطريقة التي وصفناها، سيجعل البلاد كلها، بل الأرض بأسرها، أسرة واحدة للجنس البشري، وكومنولث واحدًا تحكمه حكومة صالحة، تمامًا كما سميت إسرائيل ببيت إسرائيل الواحد، على الرغم من أنها كانت تتألف من العديد من القبائل والأسر والعشائر.»