يوتوبيات عصر التنوير
إذا كانت يوتوبيات الثورة الإنجليزية قد عُنِيت بالمشكلات الاقتصادية والسياسية، فقد اهتمت يوتوبيات النصف الأخير من القرن الرابع عشر والقرن الثامن عشر، بصورة أساسية، بالقضايا الفلسفية والدينية، واتخذ الأدب اليوتوبي في فرنسا بصفة خاصة معظم أشكاله المتنوعة والأصلية كان لغياب الحرية العقلية تحت سطوة الحكم الملكي المطلق أثره في الكُتَّاب، مما اضطرهم إلى إخفاء آرائهم في شكل روايات خيالية. ولا تدعي أكثر هذه اليوتوبيات أنها مشروعات كاملة لمجتمعات مثالية، لأن التنظيم الاجتماعي فيها لا يعدو أن يكون مجرد تخطيط أولي يمثل الإطار العام لمناقشة آراء حاسمة لا تقبل المهادنة.
كانت التأثيرات الثورية لعصر النهضة والإصلاح الديني قد وجهت انتباه الناس إلى مشكلات الإصلاح الاجتماعي، ولكن مع تدعيم الدول القومية، بروتستانية كانت أو كاثوليكية، أصبح الكلام عن الإصلاح الاجتماعي مضيعة للوقت.
تأثرت اليوتوبيات الفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر تأثرًا شديدًا بتوماس مور. فقد نقلت المؤسسات والتنظيمات التي نجدها في يوتوبياه ووضعتها في إطار جديد مع بعض التغييرات الطفيفة، وإن كانت المناقشات الجريئة للأفكار الفلسفية والدينية قد احتلت مساحة أكبر.
والواقع أن اليوتوبيات المذكورة لها دلالتها من وجهة نظر اجتماعية ودينية، وبخاصة إذا تذكرنا نظام الحكم الذي كُتِبت في ظله، ولكنها في مجملها تبالغ في تقليد يوتوبيا مور إلى الحد الذي يمنعنا من اقتباس شيء منها في هذا الفصل. والاستثناء الوحيد هو يوتوبيا جابرييل دي فوانيي (ولد حوالي سنة ١٦٣٠م ومات سنة ١٦٩١م) عن ذلك البلد المثالي الذي صوره في أستراليا، وأظهر فيه من الأصالة والجرأة ما جعله يفوق معاصريه.
سعى القرن الثامن عشر إلى تحقيق قدر أكبر من الحرية، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية. وقد اهتم اليوتوبيون دائمًا منذ عهد أفلاطون بالمسائل الجنسية، ولكن اهتمامهم كان محصورًا في تحسين النسل أو في النظر إليه نظرة أخلاقية، ولذلك وضعوا قوانين مشددة تُخضِع الزيجات لمصالح الدولة أو الدين. وقد اهتم كذلك الفلاسفة الفرنسيون في القرن الثامن عشر اهتمامًا قويًّا بالمسائل المتعلقة بالجنس، ولكنهم كانوا بعيدين كل البعد عن النظر إليه بوصفه وسيلة للتناسل، لقد كان بالنسبة لهم شيئًا يمكن الاستمتاع به لذاته وسخطوا سخطًا شديدًا على القيود التي فرضتها عليهم الأخلاق الدينية. وكما حاولوا التحرر من كل إلزام ديني، فقد أرادوا كذلك تدمير كل القواعد الأخلاقية المنظمة للعلاقة الجنسية. وعبَّر هذا التمرد عن نفسه إلى حدٍّ ما في القصائد والروايات «الشبقية» التي لم يجد أكثرهم في كتابتها شيئًا ينقص من قدرهم.
«آه! إن الفأس في أيديكم، فوجهوا الضربة النهائية لشجرة الخرافة، لا تقنعوا ببتر الفروع، بل استأصلوا العشب الذي استفحلت أضراره المعدية، كونوا عل وعي مطلق بأن نظام الحرية والمساواة (الذي تسعون لتحقيقه) يتناقض تناقضًا صريحًا مع المهيمنين على مذابح الكنيسة، فليس فيهم فرد واحد يؤمن به (أي بنظام الحرية والمساواة) إيمانًا صادقًا، ولا فرد واحد لا يتورع عن إسقاطه لو تمكن من السيطرة على ضمير الشعب … بادروا إذن بالقضاء قضاءً أبديًّا على ما يمكن أن يدمر جهدكم … وما دامت ثمرة جهودكم ستحفظ لذريتكم وحدها، فتأكدوا أن واجبكم وضمان بقائكم يفرضان عليكم ألا تتركوهم يسممونهما بتلك الجراثيم الخطيرة، التي يمكن أن تهوي بهما في ظلمات الفوضى التي نجونا منها بشق الأنفس.
إن تحيزاتنا السابقة قد بدأت تتلاشى، وأدعياء الإيمان الذين هجروا المأدبة الرسولية، يتركون الخبز المقدس لتأكله الفئران. أيها الفرنسيون، لا تتوقفوا عند هذا الحد، فأوروبا بأكملها تنتظر منكم أن تمزقوا العُصابة المربوطة على عينيها، أسرعوا، لا تسمحوا لروما المقدسة — التي تبذل محاولاتها المحمومة لتعويق جهودكم — باستبقاء القلة التي دخلت في عقيدتها. اضربوا بلا رحمة رأسها المتغطرس المترنح، ولن يمر شهران حتى تلقي شجرة الحرية بظلالها على حطام كرسي القديس بطرس، وتغطي أغصانها المنتصرة كل هذه الأوثان المسيحية البائسة، التي أقيمت بوقاحة فوق رماد رجال من أمثال كاتو وبروتوس.»
لقد كتب هذا النداء الموجه للفرنسيين في عام ١٧٩٥م بعد انهيار نظام الحكم القديم، ولكن الأفكار التي اعتمد عليها ذلك النظام ظلت قائمة. ورأى «صاد» بوضوح أنه لا يكفي أن يتغير شكل الحكومة لتحقيق الحرية، وإنما يجب التخلي أيضًا عن تلك الأفكار القديمة:
وتتطلب الحكومة الجديدة، كما يقول صاد، عادات جديدة، لأن «من المستحيل على دولة حرة أن تتصرف كالعبد بين يدي ملك مستبد … فالكم الفظيع من الأخطاء التافهة والجرائم الاجتماعية الصغيرة — التي كان ينظر إليها نظرة اهتمام شديد في ظل حكم الملوك — لن يكون له أي معنًى، وستختفي الجرائم البشعة الأخرى، كقتل الملوك وانتهاك حرمة المقدسات، في ظل حكومة لم تعد تعرف الملوك ولا الدين، أي في ظل دولة جمهورية …»
ويستطرد «صاد» قائلًا إن القوانين غير إنسانية لأنها لا تفهم البواعث التي تدفع البشر إلى إتيان أفعالهم؛ ولذلك يجب أن تكون «رحيمة» بقدر الإمكان، كما أن الدستور الذي سيضعه ستختفي منه عقوبة الإعدام:
«إنني أشعر، نتيجة لهذا، بضرورة إيجاد قوانين رحيمة، وقبل كل شيء بضرورة القضاء قضاءً أبديًّا على وحشية عقوبة الإعدام؛ ذلك لأن القانون، الذي يكون غير إنساني مع نفسه، لا يمكنه أن يحس بالانفعالات التي تدفع امرأً على ارتكاب جريمة القتل القاسية. إن الإنسان يتلقى من الطبيعة الانطباعات التي تجعله يغفر للقاتل ذلك الفعل الإجرامي، أما القانون الذي هو دائمًا ضد الطبيعة ولا يدين لها بشيء، فلا يجوز أن يسمح لنفسه بالدوافع ذاتها، ولا يمكن أيضًا أن تكون له نفس الحقوق … والسبب الثاني الذي يحتم ضرورة إلغاء عقوبة الإعدام، هو أنها لم تستطع أبدًا أن تقضي على الجريمة، لأنها لا تزال تُرتكَب كل يوم تحت المشنقة. وباختصار، ينبغي إلغاء هذه العقوبة، لأنه لا يوجد حساب أسوأ من ذلك الذي يحكم على إنسان بالموت لأنه قتل إنسانًا آخر، فالنتيجة الواضحة التي تترتب على هذا الإجراء هي أنه بدلًا من أن نخسر إنسانًا واحدًا سنخسر اثنين، ولا شك في أن الجلادين والبلهاء بالوراثة هم وحدهم الذين يمكنهم أن يؤيدوا هذا النوع من الحساب.»
وليس هناك إلا القليل من الأصالة في نظريات «الأب جابرييل دوبونود ومابلي»، وهو حقوقي اعتزل الحياة العامة ولما يزل في شبابه، لكي يكرس نفسه للدراسة وكتابة عدد لا يحصى من الكتب. والواقع أن يوتوبياه، كما وصفها في كتابه «بحث عن حقوق وواجبات المواطنين»، تشبه يوتوبيا السير توماس مور شبهًا كبيرًا:
«سأكشف لكم عن إحدى نقاط ضعفي. فلم يحدث لي أبدًا أن قرأت وصفًا في كتاب من كتب الرحلات لجزيرة مهجورة ذات سماء زرقاء ومياه صافية إلا واشتقت للذهاب إلى هناك وإقامة جمهورية يكون الجميع فيها متساوين، والجميع أغنياء، والجميع فقراء، والجميع أحرارًا، ويكون قانوننا الأول هو تحريم الملكية الخاصة. سوف يتعيَّن علينا أن نحضر للمخازن العامة ثمار جهودنا، وستكون هي ثروة الدولة وميراث كل مواطن. وسوف يكون على جميع الآباء في كل عام أن ينتخبوا متعهدين مهمتهم هي توزيع السلع على المواطنين طبقًا لاحتياجات كل فرد، وإرشادهم للعمل الذي تتطلبه الجماعة.»
إن الملكية وعدم المساواة وحب الثروة هي كما يؤكد باستمرار لعنات الجنس البشري:
«إن عدم المساواة صفة مهينة وتزرع بذور الشقاق والكراهية وتثير الحروب الأممية والأهلية. الملكية هي السبب الرئيسي في تعاسة الجنس البشري …
وكلما فكرت في الأمر زاد شعوري بالاقتناع بأن عدم المساواة في الحظوظ والظروف يفسد الإنسان ويبدل مشاعر قلبه الطبيعية …
والثروة تولد الحاجة، التي هي أكثر الرذائل جبنًا، أو تولد الترف، الذي يصيب الأغنياء بكل رذائل الفقر، كما يبتلى الفقراء بالجشع الذي لا يُشبعونه إلا بارتكاب الجرائم وبأحط أنواع الخسة؛ والانسياق وراء الشهوات التي يثيرها اقتناء الثروات، وهي إذ تضعف أرواح الأغنياء بحيث يصبحون عاجزين عن القيام بأي جهد يتصف بالكرم والأريحية، فإنما تلقي بالناس في البؤس الذي ينتهي بهم إلى الشراسة والغباء.»
وليس صحيحًا، كما يؤكد مابلي، أن الملكية الخاصة تخلق الرغبة في العمل؛ فسوف يعمل الناس بشكل أفضل عندما تصبح جميع السلع مشتركة بينهم، لأن هذه «الفكرة الطيبة» هي التي ستدفعهم للإقبال عليه. وسوف تقدم لهم الحوافز على كل حال في صورة أنواع مختلفة من التكريم أو التقدير التي تمنح للعمال.
ويؤمن مابلي، مثل جان جاك روسو، بأن الإنسان كان خيرًا عندما نشأ بين أحضان الطبيعة، ثم فسدت مفاتيح أوتاره الإنسانية ونشزت أنغامها. ولكنه لا يعتقد، مثل روسو أيضًا، أن من الممكن إلغاء الملكية الخاصة والعودة للعصر الذهبي الذي كانت تسوده المساواة الكاملة. ذلك «أن هذه المشاعية في السلع، كما يقول، لا يمكن — بسبب فساد الأخلاق — إلا أن تكون محض خرافة في هذا العالم … ومن المستحيل إيجاد مثل هذه الجمهورية في وقتنا الحاضر.» ولهذا يكتفي بتقديم بعض الإصلاحات الهينة التي تتعلق بالميراث، والتجارة، والضرائب … إلخ. والظاهر أنه اقتنع بأن الثورات لها ما يبررها في بعض الحالات فقد قال: «إن النظر إلى الحرب الأهلية على أنها ظلم في كل الأحوال، يعتبر مذهبًا مناقضًا» للأخلاق الحميدة للمصلحة العامة.
وقد حاول مابلي، كما فعل العديد من مفكري عصره، أن يوفق بين خيرية الطبيعة البشرية والمساواة الكاملة التي أقامتها الطبيعة، وبين الإعجاب الذي يصل إلى حد العبادة بالحضارة اليونانية القديمة، وبأفلاطون وبلوتارك بصفة خاصة. ولم يدرك هؤلاء الكُتَّاب مدى التناقض الذي وقعوا فيه عندما أقاموا تصوراتهم المثالية على أساس نموذج أسبرطة في عهد ليكورجوس وعلى جمهورية أفلاطون، مع أنهما يمثلان نظامين تأسسا على العبودية وفرضا تراتبية صارمة حتى بين المواطنين.
لقد قضت الطبيعة، كما يخبرنا مورللي، بأن تكون الأسرة هي وحدة المجتمع، وأن تكون الحكومة دورية بالتعاقب، وأن تودع البضائع في المخازن العامة وتوزع منها، وأنه ينبغي على كل مواطن أن يعمل بالزراعة من سن العشرين حتى الخامسة والعشرين، وأن يؤخذ الأطفال من البيوت بعد سن الخامسة ليتلقوا تعليمًا عامًّا، وأن تفرض القوانين الجنائية الصارمة لضمان إنجاز الواجبات العامة. ولم يكن مورللي هو أول من آمن بالطبيعة الخيرة للإنسان، ولكنه بعد أن أكد أن المشرعين هم الذين أفسدوا الطبيعة الإنسانية، راح هو نفسه يؤسس مجموعة من القوانين التي لا تقل تشددًا عن تلك القوانين التي تتحكم في المجتمع الذي سبق له أن هاجمه.
(١) جبرييل دي فوانيي: «اكتشاف جديد للأرض الأسترالية المجهولة»
ولد جبرييل دي فوانيي في قرية صغيرة في «الأردين» حوالي عام ١٦٣٠م، لأسرة كاثوليكية. وبعد أن تلقى قدرًا طيبًا من التعليم دخل الدير التابع لنظام رهبان كوردلييه حيث رشحته موهبته في الخطابة ليكون واعظًا. غير أن سلوكه المخزي سرعان ما أجبره على ترك ذلك النظام وتجريده من ثوب الرهبنة، ولما تعذر عليه العيش في فرنسا، قرر أن يغير بلده وديانته، وذهب عام ١٦٦٦م إلى جنيف في حالة من الفقر الكامل والتلهف الشديد على السماح له بالإقامة في المدينة. وبعد اختبار إيمانه والتحقق من شخصيته من قبل المجلس الكنسي المكون من الوزراء وكبار السن في المدينة، تمت الموافقة على تحوله إلى الإيمان الحق، وسُمِح له بالإقامة.
ولم يمر وقت طويل حتى وجدت الصفوة من مواطني جنيف المبررات الكافية للندم على قرارها والتشكك في دوافع تحوله من الكاثوليكية إلى البروتستانتية. فقد تلقى المجلس الكنسي تقارير مختلفة عن سلوكه الفاضح، وبعد أن أغوى عدة خادمات ونكث وعدًا بالزواج، وأعلن نيته في الزواج من أرملة سيئة السمعة، تم بالفعل طرده من المدينة.
وما إن ظهر الكتاب حتى اهتمت به «الجماعة المبجلة» التي أسسها كالفن، وعهد إليها بحماية الأخلاق في المدينة، وطلبت من أساتذة اللاهوت قراءته وتقديم تقرير عنه. وتولى اثنان من أساتذة أكاديمية جنيف فحص الكتاب، وأبلغا الجماعة المبجلة أنه «مليء بالآراء المتطرفة والأكاذيب، وبأشياء أخرى خطيرة تنم على الضلال والتجديف»، كما اعترضا بصفة خاصة على الفصول التي تتناول عادات الأستراليين ودينهم.
استُدعي فوانيي للمثول أمام الجماعة المبجلة، وأنكر أنه هو مؤلف الكتاب. وروى حكاية غير مقنعة عن كيفية وصول المخطوطة إلى يده، وزعم أيضًا أنه تسلم تصريحًا بنشر الكتاب من موظف حكومي كان قد مات قبل ذلك بأسابيع. وقضت الجماعة ثلاثة شهور في فحص ومناقشة موضوع فوانيي، وتم التحفظ عليه هو وناشره وأودعا السجن. ولما مثل مرة أخرى أمام القضاة اعترف بأنه هو مؤلف الكتاب، والتمس الرأفة بحاله فأُفرِج عنه بكفالة. واستغل فرصة خروجه من السجن في كسب تأييد عدد من أعضاء المجلس الكنسي والمجلس القضائي، ولكن الأمر بقي معلقًا لأجل غير مسمًى.
ولم نستطع هنا تناول الفترة الأخيرة من إقامة فوانيي في جنيف والمصائب الجديدة التي ألمت به، على الرغم من أهميتها في التعرف على الحياة الأخلاقية في مدينة جنيف في ذلك الوقت. ويكفي أن نقول إنه رجع في أواخر حياته إلى فرنسا وإلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ومعه الخادمة (التي كان قد أغواها) وبعض أطفاله الذين لم ينجح سكان جنيف في اختطافهم، وأنه قضى سنواته الأخيرة في أحد الأديرة حيث مات عام ١٦٩٢م.
وعلى الرغم من أن يوتوبيا جبرييل دي فوانيي تؤثر في النفس أكثر من حياته، فلم يكن من المستغرب أن تصدم علماء اللاهوت في جنيف. والواقع أن آراءه حول الدين لا تخلو من التجديف، لأنه يهاجم كل الأسس التي يقوم عليها. فالأستراليون الذين صورهم لا يؤمنون بمذهب الوحي، لأن من المحال في رأيهم أن يفضل الرب بعض مخلوقاته على غيرهم. وهم يسخرون من الاعتقاد في خلود النفس ويرون أنه غير منطقي، لأنه يسمح للموتى بالسفر إلى العالم الآخر بينما يعجز الأحياء عن ذلك، ومعنى هذا أن الموتى يتمتعون بحرية الحركة أكثر من الأحياء، وهو تناقض. والصلاة، في نظرهم فعل يدل على انعدام التفكير، لأنها تفترض أن الله لا يعرف رغباتنا وهذا تجديف، وإذا آمنا بأنه يعرفها، ولكنه لا يريد لنا أن نُشبعها، فنحن غير أتقياء، وإذا تصورنا أنه غير مبالٍ، فقد انتهكنا حرمة المقدسات.
إن الله فوق إدراكنا الضعيف ولا يمكن وصفه بأي أوصاف محددة، والشيء الوحيد الذي يمكننا عمله هو أن نؤكد وجوده. وحتى لو سلمنا بأن معرفة الله ممكنة، فلن يؤدي هذا إلا إلى التفرقة بيننا وجر الشقاء علينا.
ويستبق فوانيي كذلك فلاسفة القرن الثامن عشر بإيمانه بالخيرية المتأصلة في الطبيعة البشرية. فلم يولد الإنسان شريرًا كما يقول الدين المسيحي، وإنما ولد حرًّا وعاقلًا وخيرًا. وقد وصف بعض النقاد يوتوبيا فوانيي بأنها الجنة قبل السقوط في الخطيئة، ولكن الأقرب إلى الحقيقة هو أنه لم يؤمن بالخطيئة الأصلية التي اعتبرها من اختراع الدين.
لقد وُلِد هؤلاء الأستراليون خيرين أحرارًا، ولهذا فإنهم لا يحتاجون إلى الحكومة ولا إلى الدين. إنهم يلتقون لمناقشة شئون الجماعة ولكن ليس لديهم قوانين مكتوبة ولا حكَّام. وليس لديهم، بطبيعة الحال، ملكية خاصة، بل إنهم لا يعرفون الفرق بين «أملك» و«تملك». والأسرة لا تهدد وحدة المجتمع، لأنها غير موجودة.
صدرت الترجمة الإنجليزية ﻟ «مغامرات جيمس سادير» في لندن عام ١٦٩٣م؛ وظهرت فيها صفحة العنوان على النحو التالي:
الذي «تحطمت سفينته وألقى به البحر إلى هناك وعاش خمسة وثلاثين عامًا في تلك البلاد»، «وهو يقدم وصفًا دقيقًا لأخلاق ذلك الشعب الجنوبي وعاداته ودينه وقوانينه ودراساته وحروبه»، مع بعض الحيوانات الخاصة بذلك المكان، بالإضافة إلى: العديد من الأشياء الأخرى النادرة.
حفظت هذه المذكرات لشدة غرابتها في خزانة
وزير كبير في الدولة، ولم يسبق نشرها منذ وفاته
وقد تمت الترجمة عن الطبعة الفرنسية الثانية التي نشرت بإذن خاص من الملك (أو الجهات المسئولة) عام ١٦٩٢م، وذلك بعد وفاة فوانيي بعام واحد. وتختلف هذه الطبعة اختلافًا ملحوظًا عن الطبعة الأولى كما تعد أقصر منها، ولا يعرف إن كان فوانيي هو المسئول عن هذه التغييرات التي طرأت عليها.
وقد أُخذِت الاقتباسات التي سنقدمها هناك من الطبعة الإنجليزية التي ظهرت عام ١٦٩٣م، وتم تحديث الشكل وصُحِّحت بعض الأخطاء في الترجمة (بعد مراجعتها على الطبعة الفرنسية الأولى لعام ١٦٩٢م). كما أضيفت فقرات قليلة من الطبعة الأولى ووضعت بين قوسين. وقد كانت الطبعة التي ظهرت بإذن خاص من الملك أفضل بكثير من تلك التي ظهرت في جنيف وعليها اسم ناشر مزيف، وإنصافًا لعلماء اللاهوت من أعضاء «الجماعة المبجلة» رأينا الاستشهاد ببعض الفقرات التي صدمتهم صدمة كبيرة.
عاش راوي القصة جيمس سادير طفولة مضطربة، فقد ولد أثناء رحلة بحرية، وتعوَّد في كل مرة يسافر فيها عن طريق البحر أن تحدث له مصيبة كبيرة. وزاد من صعوبة حياته أنه لم يكن ينتمي إلى جنس محدد. ومع ذلك فقد أفادته هذه الصفات المميزة عند وصوله إلى أستراليا، وذلك على نحو ما يبين بنفسه من قوله:
«إذا كان في هذا العالم أي شيء استطاع أن يدفعني للاقتناع بالحتمية القدرية للأحوال البشرية، وبضرورة وقوع الأحداث التي تمثل حلقات في السلسلة التي تكون قدر الجنس البشري، فهو بالتأكيد هذه القصة التي أكتبها الآن، وما من حادثة واحدة مرت بي في حياتي إلا وقدمت لي خدمة نافعة، سواء بإرشادي أو مساندتي وشد أزري في هذا البلد الجديد الذي كُتب عليَّ أن أساق إليه ذات يوم. وقد علمتني المرات الكثيرة التي تحطمت فيها سفينتي أن أتحمل تلك الأحداث، وكان كلا الجنسين (اللذين أجمع بينهما) ضروريًّا لحمايتي من التعرض للسحق لحظة وصولي، كما سأبين هذا في سياق قصتي. ومن حسن طالعي أنهم عثروا عليَّ عاريًا، ولولا هذا لعرفوا أنني غريب في بلد يعيش فيه الجميع عراة، ولولا المعركة الرهيبة التي أُجبرت على خوضها ضد الطيور الوحشية الهائلة وجلبت على شهرة كبيرة بين أولئك الذين كانوا شهودًا عليها، لولا ذلك لاضطررت للخضوع لامتحان عسير يؤدي حتمًا إلى الموت. والخلاصة أنه سيتبين بوضوح من خلال العرض المفصل للظروف التي أحاطت برحلاتي والأخطار التي تعرضت لها، سيتبين أن هناك نظامًا حتميًّا للأشياء يتحكم في قدر الإنسان، وسلسلة من النتائج التي لا يقوى شيء على منعها والتي تعجل بنا — عبر آلاف التحولات والتقلبات غير المحسوسة — إلى النهاية المقدرة علينا.
ويشي وصف فوانيي لهذه البلاد بتأثره الملحوظ بالسير توماس مور، بينما ينم للمباني والوحدات السكنية عن احتمال تأثره بالنظام المتبع في الأديرة:
«والشيء المدهش حقًّا في الأراضي الأسترالية هو أنه لا يوجد بها جبل واحد يمكن رؤيته، إذ قام الأهالي بتسويتها جميعًا … وهكذا أصبح هذا البلد الكبير مسطحًا دون غابات ولا مستنقعات ولا صحارى، كما صار كله مأهولًا بالسكان … ويضاف إلى هذه المعجزة ذلك النمط الموحد العجيب للغات والعادات والمباني وكل شيء تقع عليه عينك في هذا البلد، بحيث يكفي أن تعرف حيًّا واحدًا لكي تحكم حكمًا مؤكدًا على سائر الأحياء، وكل هذا ينبع دون شك من طبيعة الناس، الذين فُطروا جميعًا على ألا يحمل أحد منهم أي رغبة في الإساءة إلى أي أحد، وإذا تصادف أن حاز أي شخص منهم شيئًا لا يشترك الجميع في حيازته، فمن المستحيل عليه أن ينفرد باستخدامه.
أما المنزل الكبير الذي يسمونه في كل منطقة بالهاب، أي منزل التسامي، فهو مبني بالأحجار الشفافة التي تشبه أفخر كريستال لدينا، ولكن هذه الأحجار متوافرة بكميات عجيبة متنوعة الأشكال ومن كل الأنواع والألوان. وهذه الألوان شديدة الرقة والحيوية، وتمثل أنواعها غير المحدودة في بعض الأحيان أشكالًا إنسانية، وفي بعضها الآخر حقولًا متناهية في الجمال أو شموسًا وأشكالًا أخرى تفيض بحيوية لا يشبع الإنسان من الانبهار بها. والمبنى كله خالٍ من أي صنعة لافتة للانتباه، باستثناء القطع الغريب للأحجار، والمقاعد المحيطة بها، وست عشرة مائدة كبيرة مصبوغة باللون الأحمر الذي تزيد حيويته على لوننا القرمزي.
وهناك أربعة مداخل ضخمة، تؤدي إلى الطرق الأربع الكبرى القائمة عليها، وتمتلئ جميعها باختراعات نادرة جدًّا. وهم يصعدون إلى قمتها بواسطة ألفي درجة إلى حيث توجد منصة تتسع سهولة لأربعين شخصًا … ولا يعيش أحد فوق هذه المنصات بصفة مستمرة، وإنما يأخذ كل حي دوره في تزويد الموائد بالطعام الذي يكفي اثني عشر شخصًا لإنعاش عابري السبيل …
ونأتي الآن إلى وصف الأستراليين:
«إن جميع الأستراليين من كلا الجنسين وإذا حدث أن وُلِد طفل من جنس واحد، فإنهم يخنقونه باعتباره مسخًا. وهم خفيفو الحركة، شديدو الحيوية والنشاط، يميل لون بشرتهم إلى الأحمر أكثر من القرمزي، ويبلغ طولهم بصفة عامة حوالي ثمانية أقدام، ووجوههم طويلة إلى حد ما، وجباههم عريضة وعيونهم بارزة، وأفواههم صغيرة، وشفاههم قاتمة الحمرة، وأنوفهم تميل إلى الطول أكثر من الاستدارة، ولحاهم وشعورهم سوداء على الدوام، لأنهم لا يحلقونها بسبب ضعف نموها، وذقونهم طويلة ومرتفعة إلى أعلى قليلًا، ورقابهم نحيلة، وأكتافهم عريضة ومرتفعة، وأثداؤهم ضئيلة ومنخفضة (ونهودهم مستديرة وبارزة)، وحمرتها تزيد قليلًا على حمرة اللون القرمزي، وأذرعهم عصبية، وأيديهم عريضة وطويلة (وفيها ست أصابع) وصدورهم مرتفعة، ولكن بطونهم مسطحة، وتزيد قليلًا في شهور الحمل، وأفخاذهم عريضة، وأرجلهم طويلة (وأقدامهم فيها ست أصابع …) وقد اعتادوا أن يمشوا عراة، لأنهم يعتقدون أنهم إذا ارتدوا ملابس فقد صاروا أعداءً للطبيعة، ومجردين من العقل. وفي بعض الأماكن يتدلى من أوراك بعضهم شيء كالذراع يشبه بقية الأذرع في طوله وإن زاد عليها نحولًا، ويمكنهم أن يمدوه بإرادتهم كما أنه أقوى من الأذرع الأخرى.
ويُلزم كل فرد بأن يأتي بطفل إلى بيت التعليم، ولكنهم يأتون به بطريقة شديدة الخصوصية، بحيث يعد الحديث في نظرهم عن ضرورة الزواج لتكاثر الجنس البشري إحدى الجرائم المحرمة.
ولم أكتشف أبدًا طوال الفترة التي قضيتها هناك كيف تتم بينهم عملية التناسل، وإنما لاحظت فقط أنهم يحبون بعضهم بعضًا من صميم قلوبهم ولا يحبون أحدًا أكثر من الآخر. وأستطيع أن أؤكد أنني لم أرَ مشاجرة واحدة، ولم أجد أي إحساس بالعداوة بينهم. وهم لا يفرقون بين ملكي وملكك، ويسود بينهم الإخلاص التام والتجرد من المصلحة أكثر مما نجد بين الرجال والنساء في أوروبا.
وقد تعودت دائمًا أن أعبر عما أفكر فيه، ولكنني تركت لنفسي الحرية أكثر قليلًا مما ينبغي في الإفصاح عما لا يعجبني من أخلاقهم، ورحت أتحدث عن هذا لأحد الإخوة حينًا ولغيره حينًا آخر، مع تعزيز آرائي بالحجج اللازمة، تحدثت عن عريهم بشيء من التقزز الذي آذى مشاعرهم إلى حدٍّ بعيدٍ (وحاولت أحيانًا أن ألاطف بعض الإخوة وأثيرهم بما نسميه اللذة) وفي أحد الأيام استوقفت واحدًا منهم وسألته مداعبًا ولكن بطريقة لا تخلو من الجد عن آباء هؤلاء الأطفال الذين وُلِدوا، وقلت له إنني أعتقد أن من السخف أن يلزموا الصمت في هذا الموضوع. وكانت نتيجة هذا الحديث وأمثاله أن أبدى الأستراليون نحوي شيئًا من الكراهية، وأخذ الكثيرون منهم يؤكدون أنني نصف رجل، حتى انتهوا إلى ضرورة تدميري.»
والنص التالي يبين أن فوانيي كان أول من قدَّم وصفًا لولادة «يوتوبية» للأطفال:
«يغادر الأسترالي شقته بمجرد أن يشعر بالحمل، وينقل إلى «الهيب» حيث يستقبل بحفاوة وكرم بالغَين، ويقدم له الطعام ولا يجبر على العمل. ولديهم مكان مرتفع يذهبون إليه لإنجاب الطفل الذي يوضع بعد ولادته فوق بعض أوراق الأشجار، ثم تأخذه الأم (أو الشخص الذي ولده) وتدلكه بهذه الأوراق وترضعه، دون أن يظهر عليها أو عليه أنه قد أحس بأي ألم.
وهم لا يستعملون أي أقمطة أو مهود، واللبن الذي يرضعه الطفل من الأم يغذيه تغذية جيدة ويغنيه عن أي طعام آخر لمدة عامين، أما الفضلات التي يفرزها فتكون بكميات ضئيلة، بحيث يمكن القول بأنهم لا يخرجون شيئًا.»
ويتم التعليم على أساس المساواة التامة، ويتخرج الطالب من المدرسة في الخامسة والثلاثين:
«يخصص لكل أربعة أحياء بيت يسمى «الهيب»، أي بيت التربية والتعليم، ويتم بناؤه من نفس الأحجار التي بني بها «الهاب» باستثناء السطح الذي يتم صنعه من الأحجار الشفافة التي ينفذ منها الضوء إلى الداخل.
وينقسم هذا المبنى الأنيق إلى أربعة أقسام، يقطعها اثنا عشر معبدًا كبيرًا، صممت على شكل أربعة أنصاف أقطار، ويبلغ قطر المبنى حوالي خمسين ذراعًا، كما يبلغ محيطه حوالي مائة وثلاث وخمسين ذراعًا. ويوزع كل قسم على شباب الحي الذي يتبعه، وهناك على الأقل مائتا طفل، تدخل أمهاتهم هناك بمجرد أن يحملن بهم، ولكنهن لا يغادرن المكان قبل أن يتم الطفل سنتين من عمره، ثم ينصرفن بعد ذلك تاركات الأطفال في رعاية الشبان المقيمين هناك لتعليمهم. وتنقسم الأعداد الكبيرة لهؤلاء الشبان إلى خمس مجموعات، الأولى وظيفتها تعليم المبادئ الأولى، وتتكون من خمسة معلمين، والثانية تشرح العلل والأسباب العامة للموجودات الطبيعية، وتتكون من أربعة معلمين، والثالثة هي التي يسمح لأفرادها بالجدل والمناقشة، وتتكون من معلمين، والرابعة تتألف من الشباب الذين يتوقع اختيارهم ليحلوا محل الإخوة الذين يغادرون الحياة.
ويبدأ الأطفال بصفة عامة في الكلام في الشهر الثامن، كما يبدءون المشي في نهاية العام الأول، والفطام في نهاية العام الثاني، ويشرعون في التفكير في العام الأول، والفطام في نهاية العام الثاني، ويشرعون في التفكير في العام الثالث، وبمجرد أن تتركهم أمهاتهم، يعلمهم المدرس الأول في المجموعة الأولى مبادئ القراءة، ويوجههم في نفس الوقت للمبادئ الأولى للمعرفة المتقدمة. وهم يبقون عادة ثلاث سنوات تحت رعاية المدرس الأول، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى المدرس الثاني الذي يعلمهم الكتابة ويستمرون معه أربعة أعوام، وهكذا مع الآخرين بنفس النسبة، حتى يبلغوا سن الخامسة والثلاثين، وهي السن التي تكتمل فيها معارفهم في كل أنواع العلوم، ولا تلاحظ فيها أي فروق بينهم، سواء من حيث قدراتهم، أو ذكاؤهم أو تعليمهم.
وعندما يتمون على هذا النحو دوراتهم الدراسية، يتم اختيارهم نوابًا، فيشغلون الأماكن التي يرحل أصحابها عن هذه الحياة.
وقد بسطت مشكلة العمل في أستراليا تبسيطًا شديدًا، لأن السكان يعتمدون في غذائهم على الثمار التي تنمو حولهم فوق الأشجار طوال العام. وبعضهم يعمل في الحدائق والبساتين، ولكنهم لا يطهون الطعام ولا يلبسون الملابس وليس لديهم من الأثاث سوى أقل القليل، ولهذا لا يحتاجون إلى الصناعة، إنهم ينظرون لأقمشتنا الزاهية وملابسنا الحريرية، الفخمة وكأنها نسيج العنكبوت، وهم لا يعرفون كثيرًا ماذا تعني أسماء مثل الذهب أو الفضة، وباختصار، فإن كل ما نعده من النفائس لا يخرج في تقديرهم عن أن يكون شيئًا سخيفًا، ويقضي الأستراليون النصف الأول من يومهم في المدرسة أو في دراسة العلم، والنصف الثاني في العمل في حدائقهم التي يزرعونها «بفن ومهارة غير معروفين في أوروبا»، أما الجزء الثالث من يومهم فيقضونه في التمرينات العامة.
وكل خمسة أيام يقضون ثلث يوم في «الهاب» فينصرفون إلى التأمل، دون أن يلفظوا كلمة واحدة، تاركين مسافة خطوة بين كل شخص وآخر، ويكونون جميعًا في حالة انتباه شديد لما يفكرون فيه، بحيث لا يستطيع أي شيء أن يشتتهم عن أفكارهم.»
ويؤدي البحث العلمي والمناقشة دورًا مهمًّا:
«وفي الأيام التي لا يذهبون فيها إلى «الهاب» يُلزَمون بالبقاء في «الهيب» (بيت التعليم)، ليبحثوا في العلوم التي يعكفون عليها بنظام ومنهج شديد الوضوح والاتساق. ويعرض كل واحد منهم جميع الصعوبات التي تواجهه مؤكدًا أقواله بحجج قوية، ثم يجيبون على كل الاعتراضات التي تثار ضدهم. وعندما تنتهي المناقشة يدونون أي اقتراح مهم في الكتاب العام، ويقوم كل فرد منهم بتسجيله بعناية في دفتر خاص. وإذا اكتشف أي واحد منهم أي شيء لا يستريح إليه، أو أي شيء يحس أنه يمكن أن ينفع بلده، فإنه يعرضه على الإخوة الذين يتخذون القرارات المعقولة في هذا الشأن، ودون أن يكون لهم هدف سوى المصلحة العامة.
والجزء الثالث من يومهم موزع بين ثلاثة أنواع من التمرينات المسلية، فالأول مخصص لإنتاج ما تم اختراعه حديثًا، أو تكرار التجارب التي سبق أن أجروها، ونادرًا ما يمر يوم واحد بغير أن يقدموا اقتراحًا باختراع جديد، فيهتموا دائمًا بتسجيل اسم المخترع في سجل عام للطرائف والاكتشافات العجيبة، يعتبرون أنه حقق لهم أعظم الأمجاد. وقد لاحظت خلال اثنين وثلاثين عامًا ما يزيد على خمسة آلاف اختراع جديد تم تسجيله، وهو شيء يمكن أن يعتبر عندنا من قبيل المعجزات.
ويكرس التمرين الثاني لمعالجة نوعين من السلاح، يشبه الأول منهما الرماح شبهًا كبيرًا، والآخر يشبه أنابيب الأرغن، ويتكون من عشرة أنابيب أو اثني عشر، مجهزة بثقوب من أحد طرفيها تسمح للرصاص أن ينطلق منها بقوة شديدة، بحيث يخترق أجساد ستة رجال.»
ويضم جزء مهم من الكتاب المحاورات التي دارت بين جيمس سادير والعجوز الذي أخذه في حمايته وأطلعه على الأفكار والأساليب الفلسفية للأستراليين. والاستماع لما يقوله هذا العجوز يترك في النفس انطباعًا بأنه يسمع بعض الموسوعيين، بل إن بعض الفقرات تذكرنا ببيان دعاة المساواة.
وبعد أن يقول جيمس سادير إنه «لا يوجد في العالم مثل هذا الاهتمام بالمساواة في تعليم الناس»، يلاحظ العجوز:
لقد تسبب عدم الانتظام هذا في ألوان مختلفة من الاضطراب والنزاع والكراهية والشكوى، لأن كل من كان يحس بأنه أقل حظًّا من غيره في المعرفة (التي يتفوق بها غيره عليه) كان يتصور نفسه أتعس الجميع، مع أن الكل قد وُلِدوا متساوين. أما نحن فنؤمن بأننا جميعًا متساوون، ومجدنا يكمن في كوننا متكافئين وجديرين بنفس الرعاية وبنفس الأسلوب. وإذا كان هناك فرق بيننا، فهو يظهر في بعض التدريبات المتنوعة التي نشغل بها أنفسنا، وذلك لكي نتوصل لاختراعات جديدة يمكن أن يهبها المخترعون للمصلحة العامة.
ثم حدثني بعد هذا عن بعض عادات الأوروبيين التي وصفها بأنها سطحية ولا ضرورة لها. وأكدت له أنهم يشعرون بفزع شديد عند رؤية شخص عارٍ، وهو نفس الفزع الذي يصيب الأستراليين عند رؤية الأوروبيين مرتدين ملابسهم، وزعمت أن لهذا مبررات مثل العفة، وقسوة الجو في بعض فصول السنة، والتعود.
وقد أجابني، كما أذكر، بقوله إن العادات تسيطر على عقولكم حتى ليعتقد المرء أن كل شيء تمارسونه منذ مولدكم هو شيء ضروري ولا غنى عنه، وأنكم لا تستطيعون أن تغيروا أي عادة من عاداتكم بغير لجوء إلى العنف الشديد، وكأنكم تغيرون طبيعتكم. وأجبت مؤكدًا إصراري على أن السبب يرجع إلى اختلاف المناخ، وقلت له إن هناك بعض البلاد الأوروبية التي تصل فيها البرودة حدًّا لا يتحمله الجسد الذي هو أرق وأضعف من أجساد الأستراليين، وأن البعض يموت بسبب هذا الجو، ومن المستحيل أن يعيشوا دون ملابس، وأخبرته باختصار أن ضعف طبيعة كلا الجنسيين يصل إلى حد أن الواحد (من الأوروبيين) لا يرى إنسانًا عاريًا إلا ويحمر وجهه خجلًا، ويشعر بالخزي حتى ولو لم يكن شديد الحساسية لهذه المشاعر، ولكن التعفف أجبرني على التغاضي في صمت عن الخوض في هذا الموضوع.
قال لي: أهناك أي اتساق فيما قلت، ومن أين جاءتكم هذه المادة؟ أليس معنى هذا أن تفرضوا على الناس شيئًا مخالفًا للطبيعة؟ لقد ولدنا عراة، ولو غطيت أجسادنا فسوف نشعر حتمًا بأن من العار علينا أن يرانا أحد على هذه الحال، أما ما تقوله عن قسوة الجو فلا يمكنني، بل لا ينبغي لي، أن أوافقك عليه، لأنه إذا كان هذا البلد أو ذاك لا يطاق، فما الذي يجبر الإنسان العاقل على أن يعتبره بلده؟ … وأما عن الضعف الذي تسميه تواضعًا أو تعففًا، فليس لديَّ ما أقوله عنه، ما دمت قد اعترفت بصدق شديد بأنه خطأ. إنه حقًّا لضعف شديد، ولن يسمح بأن ننظر إلى بعضنا بغير استياء من تلك المشاعر الوحشية التي تتحدث عنها. فالحيوانات يرى بعضها بعضًا باستمرار، ولكن هذه الرؤية لن تحدث أي تغير فيها، فكيف بلغ بكم الأمر، أنتم يا من تؤمنون بأنكم أسمى شأنًا منهم، أن تكونوا أضعف منهم؟
لم يضف بعد ذلك شيئًا إلى هذه المسألة، ودون أن يعطيني فرصة للإجابة، انتقل إلى موضوع الجشع.
وأدركت من البداية أنه لا يعرف الكثير عنه باستثناء الاسم، لأني حين طلبت منه أن يشرح معناه، تبين لي أن فكرته عنه هي نوع من الضعف العقلي الذي يجعل الناس يكدسون أشياء كثيرة بغير فائدة.
إن جميع الأستراليين يملكون وفرة من كل ما هو ضروري لحياتهم، ولكنهم لا يعرفون معنى التكوين أو التكديس ولا يحتفظون بأي شيء للغد، وطريقة معيشتهم هذه تعد الصورة الكاملة للوضع الذي كان الإنسان الأول يستمتع به في الجنة.
أما عن الطموح، فقد كانت لديه فكرة فجة عنه، إذ عرفه بأنه هو رغبة الناس في أن يكونوا أرفع شأنًا من غيرهم.
«أخبرته أنهم في أوروبا يسيرون على مبدأ مفاده أن الجماهير إذا لم تخضع للنظام أثارت الاضطراب والفوضى، حيث يختفي التقدير لطيبات الحياة، وأن النظام يفترض وجود رأس مدبر يخضع له الجميع. وهنا انتهز الرجل العجوز الفرصة ليشرح المذهب الذي أدركت معناه، وإن كان من المستحيل أن أُعرِّف به الآخرين بمثل عباراته القوية الحاسمة التي استخدمها لكي يتيح لي أن أفهمه.
قال إن الطبيعة قضت بأن يولد الإنسان حرًّا ويعيش حرًّا، ولهذا فإن إخضاعه لأي شيء لا بد أن يفسد طبيعته وأن يهبط به إلى مستوى أدنى من مستوى الحيوانات، لأن الحيوانات لم توجد إلا لخدمة الإنسان، والخضوع شيء طبيعي بالنسبة لها. أما الإنسان فلم يولد في خدمة إنسان آخر، والإكراه في هذه الحالة سيكون نوعًا من العنف الذي يصل إلى حد تجريد الإنسان حتى من وجوده كإنسان، ثم أخذ يتوسع في هذه الفكرة ليثبت أن إخضاع شخص لشخص آخر هو إخضاع للطبيعة البشرية ذاتها، وجعل الإنسان عبدًا لنفسه، بحيث تنطوي في هذه العبودية على أقصى درجة من التناقض والعنف يمكن تصورها، وأضاف أن ماهية الإنسان تكمن في الحرية، ولا يمكن أن تسلب منه الحرية دون أن يؤدي هذا إلى تدميره، ولهذا فإن الذي يسلب الآخر حريته فإنما يجعله بشكل ضمني يعيش دون ماهيته الخاصة.
إذا حدث أن وقع إنسان في القيد أو الأسر فإنه يفقد الحركة الخارجية التي تكفلها حريته، ولكن حريته الداخلية تظل كاملة لا تنتقص، كالحجر الذي لا يفقد ثقله عنما يُقذَف به إلى أعلى أو يُلقَى به في الهواء، لأنه سيظل محتفظًا بوزنه وثقله ما دام سيسقط على الأرض بمجرد أن نتوقف عن منعه من السقوط، وبنفس الطريقة لا يعاني الإنسان من الأسر إلا لأنه مجبر على ذلك. وبمجرد أن يزول هذا الإجبار يظهر مرة أخرى على حقيقته ويعتبر أن الموت أكرم له من القهر. ولا يعني هذا أنه لا يفعل في كثير من الأحيان ما يريده منه الآخرون، وإنما يعني أنه لا يفعله لأن الآخرين يجبرونه على ذلك أو يأمرونه به. وإن كلمة الأمر بغيضة إلى نفسه، وهو يفعل ما يمليه عليه عقله، وعقله هو قانونه، وحاكمه، ودليله الوحيد. إن الذي يفرق بين البشر الحقيقيين وأنصاف البشر، هو أن كل أفكار النوع الأول ورغباته تبقى هي نفسها دون أي اختلاف لأنها موحدة بالكامل، ويكفي أن تشرح لأي فرد لكي يوافق عليها دون أي معارضة، وذلك ما يتبع العقلاء الطريق الصحيح عن طيب خاطر عندما يدلهم أحد عليه. ولأن أنصاف البشر لا يملكون إلا معرفة غامضة وأضواءً ضعيفة، فلا مفر من أن يفكر أحدهم في شيء ويفكر الآخر في شيء مختلف، وأن يرغب شخص في أن يسلك طريقًا معينًا فيعارضه الآخر بشتى الاعتراضات. والسبب في هذا واضح، فالإنسان الذي لا يمكنه أن يرى رؤية صحيحة، لن يستطيع تجنب أخطار ارتكاب الأخطاء وأخذ شيء بدلًا من شيء آخر.»
إن ديانة الأستراليين كما أشرنا من قبل هي في الواقع نفي لأي ديانة:
«ولا يوجد عند الأستراليين موضوع أكثر إثارة وسرية من موضوع ديانتهم، فمجرد الحديث عنه، سواء عن طريق النقاش أو بأي شكل من أشكال التفسير، يعتبر جريمة شنيعة، وحتى الأمهات يوحين لأطفالهن مع المبادئ الأولى للمعرفة بما تعلمنه من بيوت التأمل (الهاب) عن الكائن الغامض الذي لا يُسْبَرُ غَوْرهُ.
ويعتقد الأستراليون أن الكائن الذي يستعصي على الفهم موجود في كل مكان، وهم يبجلونه ويكنون له كل التوقير والجلال، ولكنهم يحرصون على توصية الشباب بأن يعبدوه دائمًا دون أن يتكلموا عنه، كما أنهم مقتنعون بأن الحديث عن صفاته الكاملة يعد جريمة كبرى، الأمر الذي نستطيع معه أن نقول إن تدينهم العظيم يكمن في عدم الكلام عن الدين.»
ويستطرد العجوز مبينًا أخطار المناقشات حول الدين فيقول:
«لا يستطيع الناس أن يتكلموا عن شيء غير قابل للفهم بغير أن يتخذوا منه آراء مختلفة، بل إن هذه الآراء قد تصل إلى حد التناقض مع بعضها … والأفضل أن نصمت صمتًا ولا نخوض في هذا الأمر، على أن نعرض أنفسنا للتورط في آراء كثيرة مغلوطة عن طبيعة ذلك الكائن الذي يعلو علوًّا كبيرًا على مداركنا. ولذلك فنحن نجتمع في (الهاب) لكي نمجد عظمته السامية، ونستعبد قوته المتعالية، ثم نترك لكل شخص حرية التفكير كما يشاء، بيد أننا أصدرنا قانونًا قاطعًا بتحريم الكلام عنه، خشية التورط في المزالق والأخطاء التي يمكن أن تسيء إليه.
والأستراليون شعب مسالم ولا يتقاتلون أبدًا، ولكنهم يضطرون للدخول في حروب كبيرة للدفاع عن بلدهم ضد الغزاة من الأمم الأخرى. وهم يشنون هذه الحروب الدفاعية بكفاءة وقسوة رهيبة، ولا يتوقفون عن القتال حتى يقضوا على آخر جندي من العدو، وفي بعض الحالات يخربون بلد العدو عن آخره.»
وقد كان أحد هذه الحروب هو السبب في اضطرار جيمس سادير لمغادرة أستراليا، إذ اقترح عليهم فكرة سيئة الحظ، وهي أن من الأفضل أن يأسروا نساء العدو بدلًا من قتلهن، وقد اعتُبر اقتراحه هذا جريمة، وحكم عليه مجلس «الهاب» بالموت وقد كان من عاداتهم عند تنفيذ حكم بالإعدام أن يطلبوا من المحكوم عليه أن يأكل فاكهة معينة تضع نهاية لحياته بطريقة سريعة ومريحة، كما كانوا يسمحون له باختيار لحظة تنفيذ الحكم بالإعدام. وقد استفاد جيمس سادير من هذه الميزة، وعندما سألوه: «إن كان لديه شيء يقوله» أجاب كما يلي:
«خطبت فيهم وأخبرتهم بأنني بدأت أنظر إلى نفسي كواحد توقفت حياته بالفعل، ولما كانت العادة في أمتنا قد جرت — حين يكون أحد أبنائها موشكًا على الموت — على أن نعيش عيشة شديدة التحفظ، وكانت روحي لن تسمح لي بأن أكون نفس الشخص الذي كنته، كما أعلم أنني سأتوقف عن الحياة بعد وقت قصير، لذلك أود أن أشغل اللحظات المتبقية بالتفكير في فعل أخير قد ينفعهم أكثر بكثير من كل ما فعلت. وقد حظيت هذه المبررات برضا أعضاء المجلس فقرروا أن يتركوا لي إنهاء حياتي كما أشاء، وطلبوا مني أن أكف عن الكلام عن كلماتي أو أفعالي. ولما كنت قد أصبحت في عداد الموتى، فقد أطلقوا عليَّ اسم النائب، واعتبروني مجرد شخص يُحتضَر وله الحرية في أن ينهي حياته بالطريقة التي يعتقد أنها مناسبة.»
وعلى الرغم من التعارض الواضح في الطباع بين الأستراليين وجيمس سادير، فقد أُعجِب إعجابًا شديدًا بالكمال الذي وصلوا إليه، وسنسمح له الآن بتعليق أخير عن أخلاقهم وعاداتهم التي تسمو على أخلاقنا وعاداتنا:
«لم يسعني إلا الإعجاب بسلوكهم المخالف لسلوكنا المعيب إلى الحد الذي خجلت معه أن أتذكر كم نحن بعيدون عن الكمال الذي بلغه هؤلاء الناس. وسألت نفسي: أصحيح أننا جميعًا بشر؟ وأضفت قائلًا: إذا لم يكن الأمر كذلك، فما الفرق بين هؤلاء الناس وبيننا؟
لقد ارتفعوا في حياتهم العادية إلى ذروة الفضيلة التي لن نستطيع الوصول إليها إلا ببذل أقصى الجهود التي تقدر عليها أفكارنا النبيلة. وإن أفضل تعاليمنا الأخلاقية لعاجزة عن مجاراتهم في سلامة التفكير ودقة الفهم والانضباط والنظام الذي يمارسون بشكل طبيعي وبغير قواعد ولا تعليمات.
هذا الاتحاد الذي لا يغيره شيء وهذا البعد عن المصالح الدنيوية، وهذا النقاء الخالص، وباختصار، هذا التمسك بالعقل الصارم، الذي يوطد وحدتهم ويوجههم لما هو خير وعدل، لا يمكن أن يكون إلا ثمرة الفضيلة الكاملة التي يستحيل علينا أن نتصور شيئًا أكمل منها، بل لا بد أن نسأل أنفسنا كم من الرذائل والنقائص لم نتركها نحن لكي تتحكم فينا؟ هذا العطش الذي لا يرتوي من الثورة، وهذه المنازعات المستمرة، والخيانات السوداء، والمجازر الوحشية، والمؤامرات الدموية التي يدبرها بعضنا لبعض بصفة مستمرة، ألا يحملنا هذا كله على الاعتراف بأن الانفعالات هي التي تتحكم فينا بدلًا من العقل؟ ألا نتمنى في هذه الحالة أن يأتي إلينا واحد من هؤلاء الذين نسميهم البرابرة فيحررنا من أوهامنا، ويتجلى لنا في ضوء الفضيلة التي يمارسونها بفضل النور الطبيعي، ويخلصنا من الاغترار بمعرفتنا المزعومة التي لم تساعدنا إلا على العيش كالحيوانات؟»
(٢) ديدرو: «ملحق رحلة بوجانفي»
آمن ديدرو (١٧١٣–١٧٨٤م) بأن «الطبيعة لم تعطِ أي إنسان الحق في حكم الآخرين، وحرص على تأكيد إيمانه برفضه أن يصبح، مثل العديد من معاصريه، مشرعًا للقوانين.» وهناك حكاية طريفة تبين أنه استطاع أن يقاوم إغراءات «الملكية». فقد نصب ملكًا على مدى ثلاث سنوات متعاقبة «بفضل الكعكة»، أي أنه أصبح «ملك الليلة الثانية عشرة»، لعثوره على حبة في قطعة الكعك الخاصة به. وكان عليه، بوصفه ملكًا، أن يصدر قانونًا، وهو ما قام به بالفعل في مقطوعة شعرية صغيرة يقول فيها:
وحلت السنة الثالثة فكتب مقطوعة أخرى تخلى فيها حتى عن حقه في أن «يعمل كل إنسان ما يريده»، وأعلن أنه ما دام قد رفض أن يملَى عليه أي قانون، فقد رفض أيضًا أن يفرض على الآخرين أي قانون:
على أن ديدرو قد حاول، بصورة أكثر جدية، أن يقدم وصفًا لمجتمع بدائي حر لا يعرف الحكومات ولا القوانين. و«ملحق رحلة بوجانفيي» وصف خيالي للعادات التي اكتشفها بوجانفيي ورفاقه عندما وطئت أقدامهم الجزيرة لأول مرة. وكان «لوي أنطوان بوجانفيي» قد اكتشف مجموعة جزر في المحيط الهادي من بينها جزيرة تاهيتي، وذلك أثناء رحلته الكبرى التي استمرت من عام ١٧٦٦م حتى عام ١٧٦٩م. ولما رجع إلى بلاده نشر تقريرًا عن رحلاته (١٧٧١م)، وأقبل الناس على قراءته على نطاق واسع. وبعد ذلك بعام كتب ديدرو تقريره الخيالي عن زيارة بوجانفيي لتاهيتي، وهو تقرير وجه فيه الاتهام الشديد «للحضارة» التي تقوم على القوة المسلحة والدين، ولكنه أعطاه فرصة وصف مجتمع بدائي، لا على حالته التي كان عليها، بل كما ينبغي في رأيه أن يكون. ويحتوي «الملحق»، كما يدل على ذلك عنوانه الفرعي، على هجوم عنيف على مجموعة القوانين الأخلاقية السائدة «ومساوئ ربط الأفكار الأخلاقية ببعض الأفعال المادية التي تتعارض معها». وقد حالت صراحة وعنف الانتقادات التي تضمنها الملحق دون نشره، وتم تداول المخطوطة أثناء حياة ديدرو. ولم يتم طبعه إلا بعد الثورة الفرنسية في عام ١٧٩٦م.
كتب الملحق في شكل حوار، وقد عدلنا عن محاولة تلخيصه أو اقتباس فقرات من هنا وهناك، وفضلنا تقديم «وداع الرجل العجوز» بأكمله لأنه يعطي فكرة وافية عن عادات سكان تاهيتي …
(٣) وداع الرجل العجوز
كان أبًا لعائلة كبيرة. ولما وصل الأوروبيون نظر إليهم بازدراء، ولم تظهر عليه الدهشة ولا الخوف ولا حب الاستطلاع. حاولوا الاقتراب منه، ولكنه أدار لهم ظهره وانسحب إلى كوخه. وكشف صمته وقلقه عن الأفكار الحقيقية التي دارت في ذهنه، راح ينعى أيام المجد التي عاشتها بلاده بعد أن أفلت شمسها، ولما تهيأ بوجانفيي للرحيل وأخذت حشود الأهالي تهرول إلى الشاطئ وهم يتعلقون بثيابه ويعانقون رفاقه ويبكون، تقدم الرجل العجوز في كبرياء وتحدٍّ وقال: «ابكِ يا شعب تاهيتي المسكين! ابكِ. ليت هذه كانت ساعة وصول هؤلاء الطموحين الأشرار لا ساعة رحيلهم. سيأتي يوم تعرفون فيه بصورة أفضل. سيعودون يومًا ما، وفي إحدى يديهم قطعة الخشب التي ترونها الآن معلقة بحزام هذا، وفي اليد الأخرى السيف المتدلي من حزام ذاك. بهذين سيستعبدونكم ويقتلونكم أو يذلونكم بنزواتهم ورذائلهم. ويومًا من الأيام ستضعون أنفسكم في خدمتهم، وستصبحون مثلهم فاسدين، حقراء، مقززين.»
«ولكنني أواسي نفسي قائلًا: لقد بلغت نهاية رحلتي، ولن أعيش حتى أرى الكارثة التي أتنبأ بها. آه يا شعب تاهيتي! آه يا أصدقائي! إن لديكم وسيلة للنجاة من هذا المستقبل الفاجع، ولكني أفضل الموت على أن أنصحكم بها. ولهذا أقول لنفسي: دعهم يمضون في طريقهم دعهم يعيشون.»
ثم اتجه إلى بوجانفيي واستطرد قائلًا: أما أنت، يا قائد هذه العصابة التي تطيع أوامرك، فخذ سفينتك وأسرع بالابتعاد عن شواطئنا. إننا أبرياء، سعداء، وليس بإمكانكم إلا أن تفسدوا سعادتنا. ونحن نتبع غرائز الطبيعة النقية، وقد حاولتم محو الأثر الذي طبعته على أرواحنا. كل شيء هنا ملك لكل إنسان. وقد ملأتم أسماعنا بما لا نعلمه من الفروق التي تميز بين «ملكي» «ملكك». بناتنا وزوجاتنا من حقنا جميعًا. وقد شاركتمونا هذا الحق، وأشعلتم فيهن نيران العواطف التي لم يعرفنها من قبل. أصبحن مجانين بين أحضانكم، وصرتم متوحشين بين أحضانهن، بدأن يكرهن بعضهن بعضًا، وقتلتم بعضكم بعضًا من أجلهن ورجعن إلينا ملطخات بدمائكم. نحن شعب حر، وها أنتم قد زرعتم في بلدنا صكوك عبوديتنا في المستقبل. لستم آلهة ولا شياطين، فمن أنتم إذن، لتجعلوا منا عبيدًا؟ أو رؤساء! أنت تفهم لغة هؤلاء الناس، قل لنا جميعًا، كما قلت لي، ماذا كتبوا على هذا اللوح المعدني: «هذا البلد ملكنا». هذا البلد ملككم؟ ولماذا؟ ألأن أقدامكم وطئت أرضها؟ وإذا هبط تاهيتي يومًا على شواطئكم، وحفر على صخوركم أو على لحاء أشجاركم: «هذا البلد ملك شعب تاهيتي» فماذا ستظنون به عندئذٍ؟
أنتم الأقوى! وماذا في ذلك؟ عندما كان أحدنا يأخذ شيئًا تافهًا من أشيائكم الحقيرة التي تمتلئ بها سفينتكم، كنتم تصرخون وراءه وتنتقمون منه. ومع ذلك كنتم في أعماق قلوبكم تدبرون المكائد لسرقة بلد بأكمله. لستم عبيدًا. بل تتحملون الموت ولا يتحمل أحد منكم أن يكون عبدًا، وبالرغم من هذا تريدون أن تستعبدونا. أو تحسبون أن التاهيتي لا يعرف كيف يدافع عن حريته ويموت في سبيلها؟ إن التاهيتيَّ الذي تريدون أن تضعوا تحت قبضتكم كأنه وحش كاسر هو أخ لكم. كلاكما أطفال الطبيعة، فأي حق لكم عليه كذلك من حقه عليكم؟ هل هاجمناكم عندما جئتم إلينا، هل نهبنا سفينتكم؟ هل قبضنا عليكم وعرضناكم لسهام أعدائنا؟ وهل قيدناكم مع الحيوانات لتكدحوا في حقولنا؟ لا. لقد احترمنا إنسانيتنا التي لا تختلف عن إنسانيتكم. اتركونا لعاداتنا التي نشأنا عليها، فهي أحكم وأشرف من عاداتكم. لا نريد أن نقايض ما تسمونه جهلنا بحضارتكم العقيمة. فنحن نملك ما هو ضروري وصالح لنا. هل نستحق الاحتقار لأننا لم نتطلع للحاجات السطحية الزائدة؟ إن لدينا ما يكفي طعامنا إذا جعنا، وما يكسونا إذا شعرنا بالبرد.
لقد دخلتم أكواخنا، فما الذي ينقصها في رأيكم؟ ابحثوا ما شئتم عما تسمونه الرفاهية، ولكن اسمحوا للعقلاء أن يكفوا عن ذلك إذا قنعوا بالخيرات التي يحصلونها بجهودهم المضنية. وإذا أقنعتمونا بتجاوز حاجاتنا المحدودة، فمتى سننتهي من كدحنا؟ ومتى نستمتع بحياتنا؟ لقد خفضنا أعمالنا السنوية واليومية الشاقة إلى أدنى حد ممكن؛ لأننا لم نجد شيئًا أفضل من الراحة.
اذهبوا إلى بلادكم لتعذبوا أنفسكم كما تريدون، ولكن اتركونا في سلام. لا ترهقونا بحاجاتكم المصطنعة ولا بفضائلكم الوهمية. انظر إلى هؤلاء الرجال، أترى كم هم منتصبو القامة، أصحاء، وأقوياء البنية؟ وانظر إلى هؤلاء النساء، أترى قوامهن المعتدل، وصحتهن. ونضارتهن وجمالهن؟ خذ هذا القوس، إنه قوسي، استدعِ واحدًا أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة من رفاقك ليساعدوك ويحاولوا ليَّه. إنني أستطيع ذلك بمفردي. وأنا أحرث الأرض، وأتسلق الجبال، وأخترق الغابات. بإمكاني أن أجري وأقطع فرسخًا فوق السهول في أقل من ساعة وسيصعب على رفاقك الشبان أن يلحقوا بي، برغم أني تجاوزت التسعين.
«الويل لهذه الجزيرة، الويل لشعب تاهيتي ولأجياله القادمة، والويل لذلك اليوم الذي زرتمونا فيه لأول مرة. إننا نعترف بمرض واحد يصيب كل البشر والحيوان والإنسان والنبات، وهو الشيخوخة، لكنكم جئتمونا بمرض آخر ولوثتم دماءنا.»
«ربما تحتم علينا أن نقضي بأيدينا على بناتنا، وزوجاتنا، وأطفالنا، على كل أولئك الذين اقتربوا من نسائكم، وكل اللائي اقتربن من رجالكم.»
«سوف تتشرب حقولنا دماءكم الفاسدة التي تسربت من عروقكم إلى عروقنا، وإلا فإن أطفالنا، الذين حكم عليهم أن يرضعوا الشر الذي نفثتموه في آبائهم وأمهاتهم، سينقلونه للأبد إلى ذريتهم.»
أيها الأوغاد! ستتحملون ذنب المرض المدمر الذي ستجلبه علينا قُبلكم وعِناقكم المشئوم أو ذنب جرائم القتل التي سنرتكبها لوقف انتشار السم.
أتتكلمون عن الجرائم! وهل سمعتم عن جريمة أفظع من جريمتكم؟ ما هو عقابكم لمن يقتل جاره؟ الموت بالسيف، وما هو عقابكم للجبان الذي يدس السم؟ الموت حرقًا. قارنوا جريمتكم بجريمته، ثم أخبروني، يا مَن تسممون شعوبًا بأكملها، ما هو نوع التعذيب الذي تستحقونه؟ قبل أن تأتوا إلينا بلحظات، كانت الفتاة التاهيتية تسلم نفسها لأحضان الشاب التاهيتي ومشاعره الفياضة، انتظرت نافدة الصبر حتى ترفع النقاب عن وجهها وتعري صدرها، بعد أن اعترف الجميع بأنها بلغت سن الزواج. كانت فخورة بأن تثير الرغبة في الرجال المجهولين، والأقارب، وأمها، وأن تجذب نظراتهم المفعمة بالحب. وبغير فزع، ولا خجل، أمام أعيننا ووسط حلقة من التاهيتيين الأبرياء، على أنغام الناي وبين الرقصات، تلقت قبلات الشاب الذي أثار قلبها الشاب وأيقظ مشاعرها الكامنة. ثم جئتم فجاءت معكم فكرة الجريمة وخطر المرض. أفراحنا الحلوة خالطها الندم والرعب. ذلك الشاب الملتف بالسواد الذي يقف بجوارك ويسمعني، لقد تكلم مع أولادنا. لا أعرف ماذا قال لبناتنا. ولكن أولادنا يبدو عليهم التردد، وبناتنا يعتريهن الخجل. توغلوا إذا شئتم في أعماق الغابة المظلمة مع لذاتكم المنحرفة، ولكن دعوا أهالي تاهيتي الطيبين البسطاء يتناسلون بلا خجل، تحت السماء المفتوحة، وفي ضوء النهار الساطع. هل يمكنكم أن تبثوا في قلوبهم شعورًا أرق أو أنبل من ذلك الشعور الذي بعثناه فيهم وما يزال يحركهم؟ إنهم يحسون أن لحظة إغناء أمتهم وأسرهم بمواطن جديد قد حانت، وهم يعتزون بهذه اللحظة. إنهم يأكلون ليعيشوا ويكبروا، ويكبرون لكي يتكاثروا، ولا يرون في ذلك شرًّا ولا عارًا.
استمعوا إلى قصص جرائمكم المستمرة. ما كدتم تختلطون بأهلنا حتى أصبحوا لصوصًا. ولم تكد أقدامكم تطأ شواطئنا حتى تخضبت بالدماء. ذلك التاهيتي الذي جرى نحوكم ليستقبلكم وهو يصيح: تايوا يا صديق، يا صديق، لقد قتلتموه. ولكن لماذا قتلتموه؟ … لأنه انبهر بتألق بيض حياتكم الصغيرة. وأعطاكم من فاكهته، قدَّم لكم زوجته وابنته، تخلَّى لكم عن كوخه، ومع ذلك قتلتموه من أجل حفنة خرز أخذها بغير إذن. والشعب؟ تملَّكه الفزع من صوت طلقتكم القاتلة فهرب إلى الجبال. لكن ثقوا أنه لم يكن لينتظر طويلًا حتى يهبط مرة أخرى. ولولاي لكان مصيركم المحتوم هو الفناء. آه! لماذا هدأت من روعهم؟ لماذا كبحتُ جماحهم؟ ولماذا أبعدتُهم عنكم حتى الآن؟ لا أعرف، لأنكم لا تستحقون الشفقة، ولأن أرواحكم الشرسة لن تشعر بهذه الشفقة أبدًا. لقد تجولت أنت ورفاقك، في كل مكان في جزيرتنا. عاملناكم باحترام، استمتعتم بكل شيء، لم يقف عائق في طريقكم، لم يُرفَض لكم طلب، دعيتم إلى أكواخنا، فجلستم باستثناء اللواتي لم يسمح لهن برفع النقاب عن وجوههن وصدورهن، أحضرت لكم أمهاتهن كل الأخريات عاريات تمامًا. استوليت على الضحية الضعيفة لكرم الضيافة، وكدست الزهور وأوراق الشجر عليك وعليها، ارتفعت الأنغام المنبعثة من آلاتهم الموسيقية، لم يفسد شيء حلاوة قبلاتك وقبلاتها، ولم يعتدِ أحد على حريتكما.
ترنموا بأغنية تحثك على أن تكون رجلًا، وتحث طفلتنا على أن تكون امرأة حنونًا دافئة، رقصوا حول فراشكما. وبعدما استمتعت على صدرها بنشوة السُّكْر ذبحت أخاها، وصديقها أو أباها.
ثم فعلت ما هو أسوأ من ذلك كله، انظر هناك، أترى ذلك المستودع الذي يغص بالأسلحة؟
هذه الأسلحة التي هددت أعداءكم توجه الآن إلى أطفالنا. انظر لرفاق لذَّاتك التعساء. تأمل حزنهم وتعاسة آبائهم ويأس أمهاتهم. لماذا يحكم على هؤلاء بالموت، سواء بأيديكم أو بالمرض الذي أصبتموهم به؟
«ابتعدوا الآن، إلا إذا كانت عيونكم القاسية تتلذذ بمشهد الموت.»
اذهبوا الآن، اذهبوا، ولتكفِّر البحار الآثمة التي أمنت رحلتكم عن ذنبها. وتثأر لنا بابتلاعكم قبل أن ترجعوا لبلادكم.
«وأنتم، يا شعب تاهيتي! امضوا إلى أكواخكم، اذهبوا جميعًا، ودعوا هؤلاء الغرباء يرحلون وهم يسمعون هدير المحيط، ويرون زبد غضبه وهو يكسو الشاطئ المهجور بالبياض.»