القصة الأولى: الشرطي الشاعر
كان اليوم الذي وصل فيه السيد ريدر إلى مكتب النائب العامِّ يومًا مصيريًّا بالنسبة إلى السيد لامتون جرين، مدير أحد فروع بنك لندن سكوتيش آند ميدلاند.
يقع الفرع الذي يُديره السيد جرين على ناصية شارع بيل المُتفرِّع مع شارع فيرلينج في بلدة إيلينج. الفرع عبارة عن مبنًى كبير — على خلاف الفروع في الضواحي — وخُصِّصت المُنشَأة بالكامل للخدمات البنكية؛ لأن البنك يتعامل مع عددٍ هائل من عمليات الإيداع، ومن تلك العمليات كشفُ الرواتب لعدد ثلاثة آلاف موظَّف لدى شركة لونار تراكشن، وعمليات الإيداع من شركة أسوشييتد نوفالتيز التي تُحقِّق مبيعاتٍ هائلة، وشركة لارافون؛ وهذه الشركات ليست سوى ثلاثة من عملاء بنك لندن سكوتيش آند ميدلاند.
تحضيرًا لأيام صرْف المُرتَّبات الخاصة بتلك الشركات، يُؤتى بمبالغَ كبيرةٍ في أيام الأربعاء بعد الظهيرة من المقرِّ الرئيسي، وتُودَع تلك المبالغ في الغرفة المنيعة المصنوعة من الفولاذ والخرسانة، وتقع تلك الغرفة أسفلَ المكتب الخاصِّ للسيد جرين، ولكن لا يستطيع أحدٌ الدخول إليها إلا عبر بابٍ فولاذي في المكتب العام. بإمكان الواقف في الشارع أن يرى هذا الباب؛ وتسهيلًا للمراقبة، وُضِع مصباحٌ عاكسٌ للضوء فوق الباب مباشرة، ومِن ثَمَّ يُلقي بإضاءةٍ قوية على الباب. وللمزيد من إجراءات الأمان، عُيِّن حارسٌ ليلي، وهو عسكريٌّ مُتقاعد اسمه آرثر مولينج.
تتم حراسة البنك بشكلٍ صارمٍ من قِبَل الشرطة؛ حيث يمرُّ الشرطيُّ المكلَّف بالحراسة على البنك كلَّ أربعين دقيقة. ومن عادة الشرطي أن ينظر عبر النافذة ويتبادل الإشارات مع الحارس الليلي؛ إذ كانت التعليمات أن ينتظِر حتى يظهر مولينج.
في ليلة السابع عشر من أكتوبر، وقف الشرطي بيرنت كعادته أمام فتحة المراقبة الواسعة ونظر إلى داخل البنك. وأول شيء لاحظَه هو انطفاء المصباح فوق باب الغرفة المنيعة. لم يرَ الشرطيُّ الحارسَ الليلي؛ ومِن ثَم بدأ الشكُّ يَنخر بداخله، ولم ينتظر حتى يُظهر الرجل نفسه كما يفعل عادةً، بل تجاوز النافذة ووصل إلى الباب وفَزِع لما وجده مواربًا. دفع الباب وفتحه ودخل إلى البنك ونادى على مولينج باسمه.
لم يردَّ عليه أحد.
تخلَّلَت الهواءَ رائحةٌ خافتة حلوة لم يستطع تحديدَ مكان انبعاثها. كانت المكاتب العامة خالية، ولمَّا دخل إلى غرفة المدير التي كان ثَمة ضوءٌ يشعُّ منها، رأى شخصًا مُمَدَّدًا على الأرض. كان الحارسَ الليلي. وجدَه مُكبَّل اليدَين ومشدود الوثاق من الرُّكبتَين والكاحلين بشريطَين.
بات مصدر انبعاث الرائحة الغريبة والخافتة واضحًا الآن. إنها تنبعث من علبة صفيح قديمة مُعلَّقة أعلى رأس الرجل المُمدَّد على الأرض وممسوكة بسلكٍ مُثبَّت في إطار صورة، قعر العلبة مثقوبٌ بحيث تتساقط قطراتٌ من سائلٍ مُتطايِر على الفوطة القُطنية التي تُغطي وجه مولينج.
أُصيب بيرنت بجروح في الحرب؛ ولذا تعرَّف على الفور على رائحة الكلوروفورم، ولمَّا سحب الرجل الفاقد للوعي إلى المكتب الخارجي، نزع الفوطة من فوق وجهه ولم يتركه إلا للاتصال على قِسم الشرطة، وحاول إفاقَتَه ولكن دون جَدْوى.
وصلَت تعزيزات الشرطة في غضون دقائق، وأتى معهم جرَّاح القِسم، ولحُسن الحظ أنه كان في القسم حين ورودِ البلاغ. باءت كلُّ محاولات إنقاذ حياة الرجل البائس بالفشل.
أصدر طبيب الشرطة قرارَه قائلًا: «من المُحتمَل أنه فارق الحياة قبل العثور عليه. ولا نعرف سرَّ تلك الخدوش في راحة يدِه اليُمنى.»
فتح قبضةَ يده وأرى الحاضرين ستةَ خدوش صغيرة. كانت حديثة، حيث كان هناك بقعةُ دمٍ في راحةِ يده.
أُرسِل بيرنت على الفور كي يوقِظَ السيد جرين مدير البنك، الذي كان يَقطُن في شارع فيرلينج على الناصية التي يقع فيها البنك؛ كان الشارع يضمُّ فيلاتٍ شبْهَ منفصلة عن بعضها وبطرازٍ مألوف لدى سكان لندن كثيرًا. وبينما كان الضابط يَعبر الحديقةَ الأمامية الصغيرة مُتجهًا إلى الباب، رأى الأضواءَ من خلال النوافذ، وما كاد يطرُقُ الباب حتى فُتِح وظهر السيد لامتون جرين أمامه مُرتديًا ملابسَه كاملة؛ ولمَّا رآه الضابط، فطنَ إلى حالة الارتباك الشديد التي سيطرَت عليه. رأى الشرطي بيرنت حقيبةً كبيرة ودِثارًا وشمسية على الكرسيِّ في الصالة.
لمَّا أخبر بيرنت المدير الضئيل بما اكتشفه، استمع إليه والدمُ هاربٌ من عروقه.
قال بصوتٍ مُرتجف: «أتقول سُرِق البنك؟ مُستحيل! يا إلهي! هذا فظيع!»
كاد أن يخِرَّ منهارًا لولا أن بيرنت سَنَدَه حتى نزل إلى الشارع.
ولمَّا كان يسير في الطريق المُظلم باتجاه البنك، تلفَّظ بعباراتٍ غير مُتسقة قائلًا: «نوَيت … نويت الذَّهاب في عطلة. الحقيقة هي … كنتُ أنوي ترك العمل في البنك. وتركت مذكرة تشرح الأسباب لمجلس الإدارة.»
دخل المدير إلى دائرة الأشخاص المُشتَبَهِ بهم. فتح دُرج مكتبه ونظر فيه، ثم خرَّ على الأرض.
قال وهو لا يكاد يتمالك نفسَه: «إنها ليست هنا! تركتُها هنا … مفاتيحي … مع المذكرة!»
أُغمِي عليه في ذلك الوقت. ولمَّا أفاق الرجل، وجد نفسه في زنزانةٍ بقِسم الشرطة، وفي وقتٍ لاحقٍ من اليوم نفسِه مَثَل أمام القاضي يَسنُدُه اثنان من رجال الشرطة، واستمع كأنه في حُلمٍ إلى تهمة التسبُّب في قتل آرثر مولينج بالإضافة إلى تحويل مائة ألف جنيه إسترليني إلى حسابه الخاص.
في صباح اليوم الأول من الحبس الاحتياطي، انتقل السيد جون جي ريدر — مُمتعضًا بعضَ الشيء لأنه يتشكَّك في جميع الإدارات الحكومية — من مكتبه الخاص في شارع لوار ريجانت إلى مكتبٍ مُعتمٍ بعضَ الشيء في الطابق العلوي من المبنى الذي يُوجَد به مكتب النائب العام. وكي يتمَّ هذا التغيير، لم يشترط إلا شرطًا واحدًا وهو أن يتصل المكتب بخطِّ هاتفٍ خاصٍّ مع مكتبه القديم.
إنه لم يأمُر بذلك، بل لم يأمُر بشيء مُطلقًا. ولكنه طلب هذا بارتباكٍ واعتذار. كان ثَمة نوعٌ من قلة الحيلة المُؤسفة تُسيطر على جون جي ريدر جعلت الناسَ يشعرون بالأسف نحوه، مما جعل النائب العامَّ حتى تنتابه لحظاتُ شكٍّ غير مريحة بشأن ما إذا كان قرارُه حكيمًا بما يكفي عندما استبدل هذا الرجل الباديَ الضعف الذي كان في منتصف العمر بالمُفتش هولفورد الذي كان يتَّسِم بالمراوغة والكفاءة والغموض الشديد.
كان السيد ريدر يتجاوز الخمسين بقليل، وكان رجلًا مُستطيلَ الوجه له شَعر رمادي مائلٌ إلى الأصفر، وبعض الشعر في جانبَي وجهه ممَّا يصرِف الانتباه عن أُذنَيه الكبيرتَين للغاية. يضع على منتصف أنفه نظارة أنفيَّة ذات إطار فولاذي، ولم يرَه أحدٌ ينظُر من خلال هذه النظارة مُطلقًا، ودائمًا ما كان يُزيلها حين يقرأ. يرتدي قُبعة مُستديرة ذاتَ حائطٍ طويل وتاج مُسطَّح تتفق مع المعطف الطويل المُحكَم الأزرار عبر صدره القليل الشَّعر في بعض الأحيان ولا تتطابق معه في أحيانٍ أخرى. حذاؤه مُربَّع من عند الأصابع وربطة عنقه — ذات النمط العريض الواقي للصدر — جاهزة ومُثبَّتة في مكانها خلف ياقةٍ بطراز جلاديستون. أفضل شيءٍ لدى السيد ريدر هو مِظلته الملفوفة بإحكامٍ بالغ، لدرجة أن مَن يراها يظن أنها عصا مشيٍ رفيعة. وسواءٌ في الجو المطير أو المُشمِس، يُعلِّق مِظلَّته في ذراعه ولا يَفرِدها مُطلقًا حسبما يعيش في الذاكرة الحيَّة.
التقى به المفتش هولفورد (الذي رُقِّي الآن وتَولَّى مسئوليات الحكمدار) في المكتب كي يُسلِّمه واجباته ومجموعةً من المُتعلقات والأثاث القديم.
«سعدتُ بلقائك يا سيد ريدر. لم أسعد بهذا اللقاء من قبل، ولكني سمعتُ الكثيرَ عنك. كنتَ تعمل لدى بنك إنجلترا، أليس كذلك؟»
همس السيد ريدر بأنه حَظِي بهذا الشرف، وتنهَّد وكأنه آسف على القدَر الذي أبعده دون اكتراث عن الألغاز التي كانت تعجُّ بها أعماله. كان تفكير السيد هولفورد المُتأمِّل يعجُّ بالهواجس والتخوُّفات.
قال بحرَج: «هذه الوظيفة مختلفة، على الرغم من أنني أُخبِرت بأنك أحد أفضل المُستنيرين في لندن، وفي هذه الحالة فسيكون العمل سهلًا. ومع ذلك، لم يكن لدَينا مُطلقًا مُحققٌ من خارج الإدارة … أعني مُحقِّقًا خاصًّا — إذا جاز التعبير — في المكتب من قبل، ومن الطبيعي أن تكون شرطة سكوتلاند يارد …»
علَّق السيد ريدر مِظلته الأنيقة، وهمهمَ قائلًا: «أفهم الأمر تمامًا. هذا طبيعيٌّ للغاية. توقع السيد بولوند التعيين. وغضبَت زوجتُه … غضبًا شديدًا. ولكن ليس لديها سبب لذلك. إنها امرأةٌ طَموحة. لديها نصيبٌ ثالث في نادي رقص في منطقة ويست إند، وربما يتعرَّض للمداهمة هذه الأيام.»
فُوجِئ هولفورد. فهذه الأخبار أكثرُ من مجرد شائعة يُتهامَس بها في شرطة سكوتلاند يارد.
قال مندفعًا: «كيف تعرِف هذه الأخبارَ يا رجل؟»
كانت ابتسامة السيد ريدر تنمُّ عن استخفافه بنفسه.
قال معتذرًا: «يلتقط المرءُ بعض المعلومات الغريبة. أنا … أنا أرى الخطأ في كل شيء. إنها سجيَّتي الغريبة والشاذة في التفكير … فأنا أُفكر بعقلية المُجرم!»
التقط هولفورد نفَسًا طويلًا.
«حسنًا، لا يُوجَد الكثير من العمل. قضية إيلينج هذه واضحةٌ كالشمس. جرين مُدان سابق، تم تعيينه في البنك في وقت الحرب وترقَّى حتى وصل إلى منصب المدير. وقد حُكِم عليه بسبع سنين بتهمة الاختلاس.»
همهم السيد ريدر: «الاحتيال والاختلاس. أنا … اممم … أخشى أنني كنتُ الشاهدَ الرئيسي ضده؛ فجرائم البنوك كانت … اممم … هواية لدي. نعم، تورَّط في مشاكل مع مُقرضي الأموال. أحمق جدًّا، أحمق للغاية. ولا يعترف بخطئه.» تنهَّد السيد ريدر من أعماقه. «يا له من بائس! مع تعرُّض حياته للخطر، قد يغفر له المرء ويتغاضى بالفعل عن مراوغاته المُثيرة للشفقة.»
حملق المُفتش في الرجل الجديد بذهول.
«على حدِّ علمي، لا ينبغي أن يُطلَق عليه لقب «بائس». اختلس مائة ألف جنيه إسترليني، وروى أضعفَ حكاية قرأتها في حياتي … ستجد نُسَخًا من تقارير الشرطة هنا، إذا كنتَ ترغب في الاطلاع عليها. الخدوش على يد مولينج تُثير الفضول … كما وجدوا عدة خدوش على يده الأخرى. إنها ليست عميقةً لدرجة تُوحي بأنه كان ثَمة صراع. بالنسبة إلى الحكاية التي يرويها جرين …»
أومأ السيد جيه جي ريدر حزينًا.
وقال أسِفًا: «لم تكن قصةً مُبتكَرة. حسبما أتذكر، فقصته كانت كالتالي: تعرَّف عليه رجل كان مسجونًا معه في سجن دارتمور، وهذا الشخص أرسل له خطابًا يبتزُّه فيه ويُخبره أن يدفع له أو يُخلِيَ المكان. وقبل أن يعود جرين إلى حياة الجريمة، كتب جميعَ الوقائع إلى مجلس الإدارة ووضع الخطاب في دُرج مكتبه مع مفاتيحه، وترك مذكرةً للصرَّاف الرئيسي على المكتب ذاتِه، ونوى مغادرة لندن ليُحاول أن يبدأ من جديدٍ في مكانٍ لا يعرفه فيه أحد.»
قال المفتش بحسم: «لم تُوجَد خطابات في المكتب أو فوقه ولا مفاتيح. الجزء الحقيقي الوحيد من الحكاية هو أنه قضى مدة.»
اقترح السيد ريدر موضحًا: «في السجن، نعم هذا صحيح.»
عندما تُرِك وحده في المكتب، قضى وقتًا طويلًا للغاية في مُكالمة من هاتفه الخاص مع فتاة لا تزال يافعةً على الرغم من أنها لم تَسْلم من تقلُّبات الزمان. وظلَّ يقرأ بقية الصباح في الوثائق التي تركها سابقُه على المكتب وتضمُّ أقوال الشهود.
في وقتٍ مُتأخِّر من بعد الظهيرة، دخل النائب العامُّ إلى غرفته ورأى كومة المستندات الكبيرة الغارق فيها مرءوسه.
سأل بنبرةٍ تنمُّ عن الرضا: «ما الذي تقرؤه؟ … هل هي قضية جرين؟ يُسعدني أن هذه الأوراق تُهمُّك، على الرغم من أنني أراها قضية بسيطة. تلقَّيت خطابًا من رئيس البنك الذي يعمل لديه الرجل، ويبدو أنه لسببٍ ما يعتقد بأن جرين يقول الحقيقة.»
اكتسى وجه السيد ريدر بتعبير الألم الذي يرتسِم على وجهه عندما تُصيبه الحيرة دومًا.
قبل أن أصل إلى البنك، رأيتُ رجلًا يقف على ناصية الشارع، خارج البنك مباشرة. رأيتُه بوضوح بفضل ضوء شاحنةِ بريد وهي تمر. لم أكترث لوجوده على الإطلاق ولم أرَه مرةً أخرى. كان بإمكان الرجل أن يلفَّ حول المُجمَّع ويأتيَ إلى المبنى رقم ١٢٠ في شارع فيرلينج من دون أن أراه. بعدما رأيته مباشرة، ارتطمَت قدمي بقطعةِ حديدٍ على الرصيف. سلطتُ الضوء على قطعة الحديد واكتشفت أنها حدْوة حصان قديمة، وسبق أن رأيتُ الأطفال يلعبون بتلك الحدوة في وقتٍ سابق من ذلك المساء. ولما نظرتُ مرةً أخرى نحو الناصية، اكتشفت أن الرجل اختفى. ربما لمح ضوء المصباح في يدي. لم أرَ أحدًا آخر، وحسبما أتذكر، لم أرَ ضوءًا في منزل جرين لمَّا مررت به.»
نظر السيد ريدر إلى رئيسه.
قال النائب العام: «حسنًا. لا يُوجَد شيءٌ لافت للنظر في هذا. في الغالب كان جرين هو الذي لفَّ حول المُجمَّع ودخل من وراء الشرطي.»
فرَك السيد ريدر ذقنه.
قال مُفكرًا: «نعم، نعم …» غيَّر جِلسته في الكرسي من دون ارتياح. سأل بعصبية: «هل سيعتبر تصرُّفي غيرَ مُهذب إذا أجريتُ بعض الاستجوابات بعيدًا عن استجوابات الشرطة؟ لا أودُّ أن يُفكروا في أني مجردُ هاوٍ يتدخَّل في وظائفهم القانونية.»
قال النائب العام مُتحمسًا: «على الإطلاق، انزل إلى الضابط المسئول عن القضية: سأعطيك مذكرة له — ليس من غير المعتاد إطلاقًا أن يجري مسئول لديَّ تحقيقًا منفصلًا، على الرغم من أنني أظن أنك لن تكتشفَ سوى القليل. أعطت شرطة سكوتلاند يارد مُسوِّغات وجيهة للقضية.»
قال ريدر مُترددًا: «هل مسموحٌ لي أن أرى الرجل؟»
«جرين؟ آه، بالطبع! سأُرسِل لك اللازِمَ من أجل هذا.»
كان الضوء يتلاشى من السماء الرمادية الراعدة المُلبَّدة بالغيوم، وكانت الأمطار تهطل على نحوٍ مُتقطِّع، حين عبَر السيد ريدر، مُعلِّقًا مِظلتَه في ذراعه ورافعًا ياقة مِعطفه، البوابة القاتمة لسجن بريكستون وتم توصيله إلى الزنزانة التي يقبع فيها الرجلُ المُشتَّت واضعًا رأسه فوق يدَيه وعيناه الذابلتان تُحملِقان في الفراغ.
قال جرين بصوت يكاد يكون مُنتحبًا: «هذا صحيح، هذا صحيح! كل كلمة.»
رجل شاحبٌ أوشك شَعره أن يتطاير، وله شارب مُتناثر الشعرات ذو لون أصفر، ويدبُّ فيه الشيب. يتمتع ريدر بذاكرة استثنائية في حفظ الوجوه، ومن ثَمَّ تعرَّف عليه فور رؤيته، على الرغم من مرور بعض الوقت قبل أن يتعرَّف عليه الآخر.
«نعم، أتذكَّرك الآن يا سيد ريدر. أنت مَن ألقى القبض عليَّ من قبل. ولكني استقمْتُ في حياتي تمام الاستقامة. لم آخُذ حتى ولو فِلسًا واحدًا ليس من حقي. فتاتي البائسة، ستُفكر …»
سأل السيد ريدر مُتعاطفًا: «هل أنت مُتزوِّج؟»
«لا، ولكني كنت سأتزوج … تأخرتُ في زواجي. إنها أصغر منِّي بحوالي ثلاثين عامًا، إنها أفضلُ فتاة …»
استمع ريدر إلى الكلمات التي تُعبِّر عن وَجْد الرجل، وكسا الحزنُ كلَّ ملامح وجهه.
«الحمد لله أنها لم تأتِ إلى المحكمة، ولكنها تعلم الحقيقة. أخبرَني صديقٌ لي أنها مصدومة تمامًا.»
هزَّ السيد ريدر رأسه قائلًا: «يا لها من مسكينة!»
تابع الرجل والمرارة باديةٌ في نبرة صوته: «الأدهى أنها تلقَّت الخبرَ في عيد ميلادها.»
«هل كانت تعرِف أنك نويت السفر؟»
«نعم، أخبرتها في الليلة التي سبقَت الحادث. لن أُقحمها في القضية. لو كنَّا مخطوبَين بشكل لائق وسليم، كانت الأمور ستختلف؛ لكنها مُتزوجة وتمشي في إجراءات الطلاق من زوجها، ولكن لم يصدر حكمٌ باتٌّ حتى الآن. وهذا هو السبب في عدم خروجي معها أو رؤيتها كثيرًا. وبالطبع لم يعرف أحد عن خِطبتنا على الرغم من أننا نعيش في الشارع ذاتِه.»
سأل ريدر: «شارع فيرلينج؟» أومأ مدير البنك آيسًا.
«وهي في السابعة عشرة، تزوَّجتْ من رجل لا يختلف عن الحيوان. كان اضطراري إلى عدم البَوح أمرًا مُزعجًا جدًّا بالنسبة إليَّ … أعني ألَّا يعرف أحدٌ عن أمر خِطبتنا. وما مِن حقيرٍ إلا وحاول التقرُّب منها، وكنتُ أجزُّ على أسناني ولا أنطق شيئًا. يا لها من فظاظة! حتى ذلك الأحمق بيرنت، الذي ألقى القبض عليَّ، كان يتقرَّب إليها؛ إذ اعتاد أن يكتب شعرًا لها … لا تعتقد أن هذا يصدُر من شرطي، أليس كذلك؟»
لم يَبدُ أن التناقض الشنيع لشرطي شاعر يصدم المُحقِّق.
قال برفق: «كل إنسان بداخله شاعر، والشرطي رجل.»
على الرغم من أنه أبدى استخفافًا بالتناقض في شخصية الشرطيِّ الشاعر، فإنه شغَل تفكيره طوال الطريق وهو عائدٌ إلى المنزل في طريق بروكلي، كما أنه ظل يُفكر في أمره طوال وقت استيقاظه.
كانت الساعة الثامنة إلا الربع صباحًا، وبدا أن العالَم لا يُوجَد فيه سِوى بائعي اللبن وأفراد توصيل الجرائد إلى المنازل، عندما دخل السيد جيه جي ريدر إلى شارع فيرلينج.
لم يقف إلا بضعَ ثوان خارج البنك الذي ظل لمدة طويلة مصدرَ الرعب والخوف في المنطقة، ثم تابع طريقَه في الشارع العريض. وعلى جانبَي الشارع، يُوجَد صف من الفيلات الجميلة؛ جميلة على الرغم من أنها تحمل تشابهًا قويًّا بين بعضها البعض؛ كل منزل له فِناء أمامي صغير، تجده في بعض الأحيان عبارةً عن قطعةِ أرضٍ عُشبية وأحيانًا أخرى مُزينًا بأحواض الزهور. منزل جرين هو المنزل الثامن عشر على الطريق من جهة اليمين. عاش في المنزل مع مدير منزلٍ يُجيد الطهي، ومن الواضح أن أعمال البَسْتنة لم تكن من هواياته؛ حيث كان الفناء الأمامي مُغطًّى بحشائشَ تُرِكَت لتنموَ على سجيَّتها دون رعاية.
قبل الوصول إلى المنزل السادس والعشرين، توقف السيد ريدر وحملق باهتمامٍ طفيف في الستائر الزرقاء التي تُغطي جميع النوافذ. كان من الواضح أن الآنسة ماجدة جراين من عشَّاق الزهور، فزهور الغرنوقي تملأ الأصص في النوافذ وموضوعة على مسافاتٍ متساوية بطول الحافة الصغيرة تحت النافذة المُقوَّسة. في منتصف قطعة الأرض العشبية، كان يُوجَد حوضُ زهورٍ دائريٌّ به شجرةُ ورد ليس بها زهور وأوراقها مُتدلِّية وجافة.
لما رفع عينَيه إلى النافذة العُلوية، رأى ستائرَها ترتفع ببطءٍ وأدرك بغيرِ وضوح أنه كان ثَمة شخص يقف خلف الستائر البيضاء المصنوعة من الدانتيل. ابتعد السيد ريدر مُسرعًا وكأنه ضُبِط يرتكِب فعلًا غيرَ أخلاقي، واستأنف جولاته حتى وصل إلى مشتل زهور كبيرٍ يقع على ناصية الشارع من الجهة الأخرى.
توقف هنا مُتأملًا لبعض الوقت وواضعًا يده على السياج الحديدي وعيناه تُحملقان في شرودٍ في مشهد الصوبات الزجاجية. ظلَّ في وقفته هذه لمدَّةٍ طويلة لدرجة أن أحدَ عُمال المشتل جاء إليه؛ ظنًّا منه بطبيعة الحال أن شخصًا غريبًا كان يبحث عن وسيلةٍ للدخول إلى الحدائق، وكانت مِشيتُه تنمُّ عن إرهاقِ رجلٍ يكسِب قوته من الطين، وسأله إن كان يُريد أيَّ شخص.
تنهَّد السيد ريدر وقال: «أناسًا كُثْرًا، أناسًا كثْرًا!»
تاركًا الرجلَ المُستاء يُفكر في تفسير صَلافته، عاد أدراجه ببطء. وتوقف مرةً أخرى عند المبنى رقم ٤١٢، وفتح البوابة الحديدية الصغيرة وعبَر المَمرَّ إلى الباب الأمامي. فتحَت له فتاةٌ صغيرة وأدخلَته إلى الصالون.
لم تكن الغرفة مُؤثَّثة جيدًا، بل لم تحتوِ إلا على بعض قطع الأثاث القليلة. كانت الردهة مفروشةً بشريط من مشمع يكاد يكون جديدًا؛ أما أثاث الصالون نفسه فكان مُكوَّنًا من كراسيِّ الخيزران وقطعة مُربَّعة من السجاد اليدوي وطاولة. سمع صوت خطوات أقدام فوق رأسه، أقدام تمشي على سقفٍ خشبيٍّ غير مفروش، وبعد فترةٍ وجيزة انفتح الباب ودخلَت فتاة.
كانت الفتاة فاتنة الجمال، ولكنه رأى على وجهها أمَاراتِ الحزن. بدَت شاحبةً وهزيلة، وبدت عيناها وكأنها توقفَت عن البكاء لتوِّها.
نهض ريدر عندما دخلت الفتاةُ وسألها: «الآنسة ماجدة جراين؟»
أومأت الفتاة برأسها.
سألَت بسرعة: «هل أنت من الشرطة؟»
صحَّح لها المعلومة حذِرًا: «ليس بالضبط. أشغَلُ … اممم … وظيفةً في مكتب النائب العام، وهي تُماثل الوظيفة في قوة شرطة العاصمة، إلا إنها منفصلة عنها.»
عبَسَت، ثم قالت:
«كنتُ أتساءل: هل سيأتي أحد لرؤيتي. هل أرسلك السيد جرين؟»
«أخبرني السيد جرين عنك، ولكنه لم يُرسِلني.»
في تلك اللحظة، فوجئ بالتعبير الذي ارتسم على وجهها. ظهر التعبير على وجهها ومرَّ بسرعة خاطفة، حتى قبل أن تستطيع العينُ الغرة أن تُدرك مروره.
قالت: «توقعتُ أن يأتيَ أحد.» ثم سألَت: «ما الذي دفعه إلى ارتكاب هذا الجُرم؟»
«هل تعتقدين أنه مُذنِب؟»
«الشرطة تعتقد ذلك.» ثم تنهَّدَت تنهيدةً عميقة وقالت: «كنت أتمنَّى من الله أنني لم أرَ … هذا المكان!»
لم يُجِب؛ ولكن ظلَّت عيناه تجُولان في أرجاء الشقة. على الطاولة المصنوعة من البامبو، تُوجَد زَهْرية قديمة مملوءة بتشكيلةٍ بالغةِ الجمال من زهور الأقحوان الذهبية ولكن من دون تنميق. والغريب في الأمر، في وسط تلك الزهور ظهرت زهرةُ نجمٍ كبيرةٌ وكأنها شخصٌ مُحدَث النعمة، وانخرطَ مُصادفة مع طبقة النبلاء.
همهمَ قائلًا: «هل أنتِ مُغرمةٌ بالزهور؟»
نظرَت إلى الزهرية غيرَ مكترثة.
قالت: «نعم، أحبُّ الزهور. وضعَتها الفتاة في تلك الزهرية.» ثم استدركَت: «هل تعتقد أنه سيُعدَم شنقًا؟»
امتعض ريدر من فظاظة السؤال الذي طُرِح من دون تردُّد.
قال: «إنها تهمة بالغة الخطورة.» ثم أردف: «هل لديك صورة للسيد جرين؟»
قطَّبَت جبينها.
«نعم؛ هل تُريدها؟»
أومأ ريدر.
ما كادت أن تُغادر الغرفة حتى وصل إلى الطاولة البامبو ورفع الزهور من الزهرية. كما رأى من خلال الزجاج، كانت الزهور مربوطةً بقطعة خيط من دون إحكام. تفحص الأطراف وتحقَّق من صحة ملاحظته الأولى مرةً أخرى: لم تُقطَع أيٌّ من تلك الزهور، بل انتُزِعت من سيقانها انتزاعًا. تحت الخيط، تُوجَد الورقة التي لُفَّت حول السِّيقان أول مرة. الورقة عبارة عن صفحة مقطوعة من كرَّاسة، رأى الخطوط الحمراء ولكنه لم يستطع تمييز الكتابة بالقلم الرصاص.
لمَّا سمع وقْعَ أقدامها على السُّلَّم، أعاد الزهور إلى مكانها في الزهرية، ولمَّا دخلت وجدَتْه ينظُر من النافذة إلى الشارع.
قال وهو يأخُذ الصورة الفوتوغرافية منها: «شكرًا لك.»
كانت الصورة تحمل عباراتِ غزَل على ظهرها.
«أخبَرَني أنك مُتزوِّجة يا سيدتي، أهذا صحيح؟»
قالت باقتضاب: «نعم، مُتزوجة، ولكنني مُطلقة فعليًّا.»
«هل تعيشين هنا منذ فترة طويلة؟»
أجابت: «منذ ثلاثة أشهر تقريبًا. هو من رغب في أن أعيش هنا.»
نظر في الصورة مرةً أخرى.
«هل تعرفين الشرطي بيرنت؟»
لاحظ تورُّد وجهها ولكن سرعان ما اختفى.
قالت بأسلوب فظ: «نعم، أعرف ذلك الأحمقَ الوقح.» حينذاك، أدركَتْ أنها تتحدث بأسلوب ليس مهذبًا تمامًا ولا يليق بسيدةٍ راقية، فتابعَت حديثها بنبرةٍ ألْيَنَ: «السيد بيرنت رجل عاطفي، وأنا لا أحبُّ الأشخاص العاطفيِّين، خاصة … حسنًا، أنت تفهمني يا سيد …»
همهم الرجل: «ريدر.»
«تفهم يا سيد ريدر أنه عندما تُخطَب الفتاة ويكون وضعها كوضعي، فإنها لا تُحب ذلك النوع من الاهتمام.»
كان ريدر ينظر إليها باهتمام. ما من شكٍّ في أنها حزينة ومُرتبكة. فيما يتعلق بموضوع الانفعالات البشرية والآثار التي تترُكها على وجه الإنسان؛ فالسيد ريدر حُجة في ذلك مثل الروائي الإيطالي مانتيجازا تقريبًا.
قال: «في يوم عيد ميلادك، يا له من أمرٍ مؤسِف! وُلدتِ في السابع عشر من أكتوبر. أنت إنجليزية، أليس كذلك؟»
قالت باقتضاب: «بلى، أنا إنجليزية. وُلِدتُ في وولوورث … في وولينجتون. عشتُ مدَّة في وولوورث.»
«كم عمرك؟»
أجابت: «ثلاثةٌ وعشرون عامًا.»
خلع السيد ريدر نظارته ومسحها بمِنديلٍ حريري كبير.
قال: «المسألة كلها تبعث على حزن لا يمكن وصفه. سعدتُ بفرصة الحديث معك أيتها الشابة. أتعاطف معك من أعماق قلبي.»
وبهذه الطريقة غير المُرضية، غادر السيد ريدر.
أغلقَت الباب خلفه ورأته يتوقَّف في منتصف الممر ويلتقط شيئًا من حوضٍ على الحافة، ومِن ثَم قطَّبت جبينها وتساءلت: لماذا التقطَ هذا الرجل في منتصف العمر حدْوة حصانٍ رَمتْها من النافذة ليلة أمس. وضع السيد ريدر قطعة الحديد الصَّدِئة في جيبه ثم تابع طريقَه مُفكرًا حتى وصل إلى المشتل، حيث كان يودُّ طرح بعض الأسئلة.
لمَّا دخل السيد ريدر مُستحيًا إلى غرفة التحقيقات وأبرز أوراقَ اعتماده للمُفتش المسئول، وجد رجال القسم رقم ١٠ عاكفين على أداء واجباتهم.
قال ذلك الضابط المسئول مُتودِّدًا: «أوه، نعم، السيد ريدر. وصلتْنا مذكرة من مكتب النائب العام، ومن دواعي سروري أن عملتُ معك في تلك القضية الكبيرة [قضية تزوير أموال بنك إنجلترا.] منذ بضع سنوات. والآن، ما الذي يُمكنني تقديمه لك؟ … بيرنت؟ نعم، إنه هنا.»
نادى على الرجل وأتى ضابطٌ شابٌّ حسَن المظهر نحوهما.
قال المفتش: «إنه الرجل الذي اكتشف جريمة القتل، إنه ينتظر ترقية. يا بيرنت، أتى هذا السيد النبيل من مكتب النائب العام ويُريد التحدُّث معك قليلًا. من الأفضل أن تُجرِيَ مُحادثتك في مكتبي يا سيد ريدر.»
ألقى الشرطيُّ الشابُّ التحية وتبع الشخص الذي ظل يمشي حتى اكتنفَته خصوصية مكتب المُفتش. كان شابًّا واثقًا من نفسه؛ بعد أن ظهرت صورته واسمه في الجرائد بالفعل، أصبح التلميح بالترقية حقيقةً لا جدال فيها تقريبًا، وبات واضعًا نصْب عينَيه احتمالَ تحقيق إنجازٍ عظيم.
قال السيد ريدر: «أخبَروني أنك شاعر تقريبًا أيها الضابط.»
تورَّدَت وجنتا بيرنت.
قال مُعترفًا: «عجبًا، أجل يا سيدي. أكتب القليل من الشعر.»
سأل الآخر بلطف: «قصائد حُب، أليس كذلك؟ يجد المرء وقتًا في الليل لمِثل … اممم … هذه الخيالات. ولا يُوجَد مصدرُ إلهام مثل … اممم … الحبُ أيها الضابط.»
احمرَّ وجه بيرنت.
قال: «أكتب قليلًا في الليل يا سيدي، ولكني لم أتجاهل واجبي قط.»
همهم السيد ريدر: «هذا طبيعي؛ فلديك عقل شاعر. يا لها من فكرة شاعرية أن تقطف الزهور في منتصف الليل …»
قاطعَه بيرنت مُسرعًا: «أخبرَني صاحب المشتل أنه يُمكنني أخذُ أيِّ زهور أُريدها. لم أرتكب خطأً.»
أمال ريدر رأسه إشارةً إلى الاتفاق معه.
«أعلم ذلك. قطفتَ الزهور في الظلام. بالمناسبة، قطفتَ بالخطأ زهرةَ نجمٍ مع زهور الأُقحوان وربطتَ قصيدتك الصغيرة في الباقة وتركتَها على عتبة الباب مع … اممم … حدوة حصان. أتساءل: ما الذي حدث لحدوة الحصان.»
صحح الشاب المُرتبك: «رميتُها إليها، إلى حافَة نافذة السيدة. في الحقيقة، لم تلمع الفكرة في رأسي حتى مررتُ بالمنزل …»
كان وجه السيد ريدر يتطلَّع إلى الأمام.
قال بصوتٍ خافت: «هذا ما أريد التأكُّد منه. لم تلمع فكرة ترك الزهور في رأسك حتى مررتَ بمنزلها، هل أنا على صواب؟ هل لمَعَت الفكرة بفضل حدوة الحصان؟ ثُم عُدتَ وقطفتَ الزهور وربطتَها مع قصيدةٍ صغيرة سبقَ أن كتبتَها وقذفتها باتجاه نافذتها … لسنا بحاجة إلى ذِكر اسم السيدة.»
ظهر على وجه الشرطي بيرنت مزيجٌ من المشاعر.
«لا أعرف كيف خمَّنتَ هذا، ولكنها الحقيقة. لو كنتُ ارتكبت خطأً …»
قال السيد جيه جي ريدر بعقلانية: «ليس خطأً أن تقع في الحُب. الحُب شعور جميل … قرأتُ الكثير عنه.»
ارتدَت الآنسة ماجدة جراين ملابسها للخروج بعد الظهيرة وكانت ترتدي قُبعتَها، عندما رأت الرجل الغريب الذي زارها في صباح ذلك اليوم يسير في المَمرِّ المُغطَّى بالفُسيفساء. ومن خلفه رأَت مُحققًا يتولَّى التحقيق في القضية. كانت الخادمة بالخارج، ولا يمكن لأحد أن يدخل إلا لو فتحَتْ هي له. مشَت مُسرعة خلف التسريحة ووقفت أمام النافذة تنظر إلى الطريق جَيئةً وذَهابًا. نعم، ها هي سيارة الأجرة التي عادةً ما تُرافق مثل هذه الزيارات، ورأت رجلًا آخر بجانب السائق، ومن الواضح أنه «مشغول».
سحبت مفرش سريرها وأخذت رزْمة الأوراق المالية التي وجدَتْها ورمتها في حقيبة يدها، ومشت على أطراف أصابعها إلى البسطة، ومنها إلى الغرفة الخلفية غير المُؤثَّثة، وفتحَت النافذة ونزلت إلى سقف المطبخ المستوي. وفي غضون دقيقةٍ أخرى، وصلت إلى الحديقة وخرجت منها عبر البوابة الخلفية. كان يُوجَد شارع ضيق يُفرِّق صَفَّي الفيلات عن بعضهما من الخلف. بلغَتِ الطريق السريع واستقلَّتْ سيارةً قبل أن يتعب السيد ريدر من الطَّرْق على الباب. وحسب معلومات السيد ريدر، فإنه لم يرَها مرةً أخرى.
بناءً على طلب النائب العام، ذهب إلى منزل رئيسه بعد العَشاء وأخبره قصته المدهشة.
«لا شك أن جرين — الذي حصل على ترقيةٍ استثنائية وتجاوز سابقيه في الخدمة بفضل الخدمات الخاصة التي أدَّاها في أثناء الحرب — صاحبُ سوابق، ولكنه ذكَر الحقيقة لمَّا قال إنه تلقى خطابًا من رجلٍ قضى معه مدةً في السجن. اسم هذا المُبتز — أو بالأحرى كان اسمه — آرثر جورج كراتر، وينتحل اسمًا آخر وهو مولينج!»
قال النائب العام بذهول: «أليس هو الحارِسَ الليلي؟»
أومأ السيد ريدر.
«بلى يا سيدي، إنه آرثر مولينج. وُلدت ابنته — الآنسة ماجدة كراتر — كما قالت صادقةً في وولوورث في السابع عشر من أكتوبر عام ١٩٠٠م. قالت وولينجتون بعد ذلك، ولكنها قالت وولوورث أولًا. يُلاحِظ المرء أنه عندما ينتحِل الناس أسماءً مُزيفة لعائلتهم، فنادرًا ما يُغيرون أسماءهم الخاصة، واسم «ماجدة» يسهل تمييزه.
من الواضح أن مولينج وضع خُطة مُحكمة لسرقة البنك. أحضر ابنته باسم عائلة مُزيف إلى إيلينج وتمكَّن من تعريفها بالسيد جرين. تمثلت وظيفة ماجدة في كسب ثقة جرين وأن تعرف كلَّ ما يُمكنها معرفته. ربما كان من مهامها الحصولُ على نسخة من المفاتيح. وسواءٌ تعرَّف مولينج على المدير الذي عرَفَه في السجن قديمًا أو حصل على تلك المعلومات من الفتاة، فلن نعرف هذا مُطلقًا. ولكن لمَّا نمَتِ المعلومة إلى علمه، ارتأى فرصةً أكيدة في سرقة البنك ورميِ التهمة على المدير.
تمثَّل دور الفتاة في أن تكون امرأةً على وشك الطلاق، ويجب أن أعترف بأن هذه الكذبة أربكتْني حتى أدركتُ أن مولينج لن يرغب بأي حالٍ من الأحوال في أن يربط اسم ابنته بمدير البنك.
اختِيرَت ليلة السابع عشر من أجل مُداهمة البنك. نجحت خُطة مولينج في التخلص من مدير البنك. رأى الخطاب على الطاولة في مكتب جرين الخاص وقرأه، ثم حصل على المفاتيح — على الرغم من أن لديه نسخةً منها — وفي اللحظة المناسبة أخرج ما يستطيع حملَه من النقود خارج البنك، وأسرع بها إلى المنزل في شارع فيرلينج، حيث دُفِنَت الأموال في حوض الزهور في مركز الحديقة الأمامية تحت شجرة الورد؛ تخيَّلتُ أن هناك شيئًا يمنع وصول الغذاء إلى هذه الشجرة المسكينة الجافة فورَ رؤيتها أول مرة. لا يسَعني إلا أن آمُلَ ألا تكون الشجرةُ قد ماتت تمامًا، ولذا أعطيتُ تعليماتٍ بإعادة زرعها وتسميدها جيدًا.»
قال النائب العام غيرُ المُهتم بالبستنة على الإطلاق: «نعم، نعم.»
«لمَّا زرع مولينج الشجرة مستعجلًا بعض الشيء، خدَش يده. تحتوي الزهور على بعض الأشواك … ذهبتُ إلى إيلينج للبحث عن شجرة الورد التي خدشَتْ يده. أسرع عائدًا إلى البنك وانتظر لأنه يعرف أن الشرطيَّ بيرنت يتولَّى خدمته في وقتٍ مُعين. جهَّز علبة الكلوروفورم مُسبقًا وكانت الأصفاد والأشرطة في انتظاره، ووقف على ناصية الشارع حتى رأى الضوء من مصباح بيرنت، فأسرع بعد ذلك ودخل البنك وترك الباب مواربًا، وربط نفسه وأوصدَ الأصفاد واستلقى على الأرض، مُتوقعًا أن يصل الشرطيُّ ويعثُر عليه ويُنقِذه قبل أن يتأذَّى كثيرًا.
لكن الشرطي بيرنت كان في علاقة حُبٍّ لطيفة مع الفتاة. لا شك أنها تلقَّت تعليماتٍ من والدها بأن تُسعِده قدْر المُستطاع. بيرنت شابٌّ وشاعر، علِم بيوم ميلادها، ولمَّا كان يمشي بطول الشارع ارتطمت قدمه في حدوة حصان، ولمعت الفكرة في رأسه بأنه لا بدَّ أن يعود، وربَط حدوة الحصان ببعض الزهور التي سمح له صاحبُ المشتل بقطفها، وتركَ باقة الزهور الصغيرة تحت قدمي السيدة — فكرة شاعرية ورجل جديرٌ بأرقى تقاليد قوة شرطة العاصمة. هذا ما فعَلَه، لكن الأمر استغرق بعض الوقت؛ وطيلة الوقت الذي ظلَّ فيه هذا الشاب يُمارس مُغازلاته كان آرثر كراتر يحتضر!
بعد بضع ثوانٍ من استلقائه على الأرض، لا بدَّ أنه فقد وعيَه وظلَّ الكلوروفورم يتقطَّر، ولمَّا وصل الشرطي إلى البنك في نهاية المطاف، بعد تأخُّرٍ عن الموعد المُحدد بعشر دقائق، كان الرجل ميتًا!»
اعتدَل النائب العام في جلسته على الكرسي الوثير، وعبَس في وجه مرءوسه الجديد.
سأل مُتعجبًا: «كيف بحقِّ السماء جمعتَ كل هذا بعضَه مع بعض يا رجل؟»
هزَّ السيد ريدر رأسه بحُزن.
وقال: «لدي ذلك الطبعُ السيِّئ. إنه حظٌّ عاثر للغاية، ولكنها الحقيقة. أرى الشرَّ في كل شيء، في أجمات الزهور الذابلة وفي حدوة الحصان وحتى في الشِّعر. أُفكِّر بعقلية المُجرم. يا له من أمر مُؤسِف!»