القصة الثانية: صيد الكنوز
يشيع في أوساط المُجرمين أنه حتى أصغر ضابط مباحث يمتلك ثروةً وممتلكاتٍ وأن تلك الممتلكات يَحوزها من السرقة والرِّشوة والابتزاز. هذا ما يتهامَس به مَن في الحقول والمحاجر ومحلات الخياطة وغسل الملابس والمخابز التي تتبع خمسين سجنًا وثلاثَ مؤسَّساتٍ لتشغيل المحكوم عليهم في المُقاطعة؛ إذ يقولون إنَّ جميع المُحققين ذَوي المناصب العُليا يتَّبِعون أساليبَ شائنة كي يَكنِزوا الأموال لأنفسهم؛ ومِن ثَم يتحوَّل العمل لديهم إلى هواية، ويُظهِرون أنهم يتقوَّتون على مصادر دخلهم الزهيد.
لمَّا كان السيد جيه جي ريدر يتعامَل مع لصوص البنوك والمُزوِّرين — وهم أصحاب الطبقة الأرستقراطية والرأسمالية في عالَم الجريمة — لمدةٍ تربو على عشرين عامًا، فتقول الأسطورة إنه كان يملك منازلَ ريفيةً ومُدخراتٍ سريةً هائلة. إنه لا يحتفظ بهذه المبالغ المالية الهائلة في البنوك. فقد كان من المُعترَف به أنه كان شديدَ الذكاء بحيث لا يمكن أن يُخاطر باكتشاف السلطات لهذه المبالغ. كلَّا، بل كانت الأموال مُخبَّأةً في مكانٍ ما: كان حُلم المئات من الخارجين على القانون أن يكتشفوا الكنز يومًا ما، ويعيشون باقيَ أيامهم في سعادة. الجانب المُرضي الوحيد من ثرائه (جميعهم اتفقوا على ذلك) هو تقدُّمه في السن — إذ يتجاوز عمره الخمسين عامًا — ولا أحد يأخذ الأموالَ معه إلى القبر، والذهب ينصهر عند درجة حرارةٍ مُعينة، ونادرًا ما تُطبَع الأوراق المالية من الدرجة الأولى على ورق أسبستوس.
في أحد أيام السبت، جلس مدير النيابة العامة في ناديه يتناول الغداء مع قاضي مجلس الملك — ويومُ السبت أحدُ يومَين في الأسبوع يتناول فيهما القاضي طعامًا لائقًا. ثم تحوَّل الحديث إلى السيد جيه جي ريدر، الذي يَشغَل منصب رئيس المُحقِّقين لدى النائب العام.
اعترف مُمتعِضًا: «إنه يتمتع بالكفاءة، ولكني أكره قُبَّعته. إنها من النوع الذي يرتديه فلان.» وذكر اسم أحد السياسيين البارزين «إنني أشمئزُّ من معطفه المشقوق الذيل، مَن يراه وهو يدخل إلى المكتب يعتقد أنه ضابط لدى الطبيب الشرعي، ولكنه كفءٌ في النهاية. أمقتُ شعراتِه الناميةَ على جانبَي وجهه، وأشعر أنني إذا تحدَّثت إليه بأسلوبٍ فظ، فسينفجر بالبكاء — رجل لطيف. ربما لطفه مُبالَغ فيه بالنسبة إلى نوع العمل لديَّ. إنه يعتذر للساعي في كل مرةٍ يدقُّ له الجرس!»
ردَّ القاضي، الذي كان يعرف شيئًا عن الإنسانية، بابتسامة باردة.
وقال بسخرية: «إنه أشبَهُ بقاتل مُحتمَل في نظري.»
ظلَم ميلورد السيد جيه جي ريدر بمُبالغته؛ لأن السيد ريدر كانت لديه القُدرة على خرق القانون — خرقه تمامًا. في الوقت ذاتِه، يُوجَد العديد ممن كوَّنوا فكرةً خاطئة تمامًا عن مُسالَمة السيد جيه جي كفرد. لو كول واحدٌ من هؤلاء، وقد كان يمزج ما بين طباعة الأوراق المالية وعمليات السطو البسيطة.
القول بأن المُهدَّدين يعيشون طويلًا قول مُبتذَل، ولكنه حقيقة مثل معظم الأشياء المُبتذَلة. في عددٍ هائل من القضايا، عندما ينزل السيد جيه جي ريدر من على منصة الشهود، كانت عيناه تلتقيان بعينَي الماثل في قفص الاتهام، ويستمع باهتمام مُعتدل إلى مختلِف الوعود بشأنِ ما سيحدُث له؛ سواءٌ في المستقبل القريب أو البعيد. لأنه كان يتمتع بخبرةٍ واسعة في الأوراق المالية المُزوَّرة، وأرسل العديد من الرجال إلى الأشغال الشاقة.
البذاءة ليست من صفات السيد ريدر، وسبق أن رأى سجناء يرغون ويُزبِدون في فَوْرة غضبهم، ورآهم والدمُ هاربٌ من عروقهم وفي قمة الغضب، وسمع لعناتهم وعويلَهم، والتقى بهم بعد الإفراج عنهم من السجن ووجدهم أرواحًا لطيفة يمتزج فيها الخجلُ والاستمتاع بنوبات غضبهم، وتهديداتهم المُروعة التي كادوا ينسَوْنها.
لكن، في مُستهل عام ١٩١٤م، حينما حُكِم على لُو كول بالسجن لمدة عشرِ سنين، لم يصرُخ بلعناته ولم يتوعَّد بانتزاع قلب السيد ريدر أو رئتَيه أو أعضائه الحيوية من جسده الهزيل.
لم يفعل «لُو» شيئًا سوى أن ابتسم ونظر إلى المُحقِّق لجزءٍ من الثانية — يمتلك المُزوِّر عينَين زرقاوَين شاحِبتين ومُتأمِّلتين، ولم تحمِل الكراهية أو الغضب. بل كانت تُوحي بالعديد من الكلمات:
«سأقتلك في أول فرصة.»
قرأ السيد ريدر الرسالة وتنهَّد من أعماق قلبه لأنه يكره جميع أنواع الشِّجار، ومِن ثَم استاء كل الاستياء من الإجحاف الواقع عليه، واعتبارِه مسئولًا شخصيًّا عن أداء واجبٍ عام.
مرَّت العديد من السنين، وحدثَت تغييراتٌ كبيرة في أقدار السيد ريدر. انتقل من وظيفةٍ مُتخصِّصة وهي اكتشاف مُرتكِبي جرائم تزوير الأوراق المالية إلى عملٍ له مهامُّ أعمُّ لدى مكتب النائب العام، ولكنه لم ينسَ ابتسامة «لُو» مُطلقًا.
سيتزوَّج سير جيمس من ابنة عمه، ولم يمرَّ ثلاثة أشهر على سقوط زوجته التعيسة الحظ من فوق الباخرة وهي تعبُر إلى مدينة كاليه. ثَمَّة شيء مُريب جدًّا في هذه المسألة. الآنسة مارجريت لا تُحبه لأنها تعلم أنه يسعى إلى الحصول على أموالها. ما الدافع من إبعادي إلى لندن في تلك الليلة؟ إنه لا يُحبُّ قيادة السيارة في الظلام أيضًا. وغريبٌ أنه أراد القيادة في تلك الليلة رغم هطول الأمطار بكميات غزيرة.
هذا الخطاب تحديدًا كان يحمِل التوقيع «صديق». العدالة لها العديد من الأصدقاء.
سير جيمس هو سير جيمس تايذرمايت الذي شغَل منصب المدير لدى هيئةٍ حكومية جديدة في وقت الحرب وتلقَّى رُتبة بارونيت نظير خدماته.
لمَّا رأى المديرُ الخطاب، قال: «ابحث في الأمر. أظن أن زوجة تايذرمايت غرقَت في البحر حسبما أتذكَّر.»
قال السيد ريدر بحزن: «وقع الحادث في التاسع عشر من ديسمبر العامَ الماضي. كانت في طريقها مع سير جيمس إلى مونت كارلو، وقطعا رحلتَهما في باريس. قاد سير جيمس، الذي يملك منزلًا بالقُرب من ميدستون، سيارته إلى دوفر، وركن السيارة في فندق لورد ويلسون. هبَّت عاصفةٌ في تلك الليلة وتلاعبت الأمواج بالسفينة، ولمَّا وصلا إلى منتصف المسافة، أتى سير جيمس إلى ضابط المُحاسبات في السفينة وقال إنه فقد زوجته. تمَّ العثور على أمتعتها في المقصورة وكذلك جواز سفرها وتذكرة القطار وقُبَّعتها، ولكن لم يُعثَر على السيدة، وفي الواقع لم تُرَ مرةً أخرى.»
أومأ المدير.
«أرى أنك اطَّلعْتَ على القضية.»
قال السيد ريدر: «بل أتذكَّرها. القضية من القضايا التخمينية التي أُفضِّلها. للأسف أرى الشرَّ في كل شيءٍ وكثيرًا ما فكرتُ في مدى سهولة … ولكن أخشى أنني أرى الحياة بنظرةٍ مُنحرفة. امتلاك عقلٍ إجرامي عيبٌ رهيب.»
نظر إليه المدير بارتياب. لم يتأكَّد مُطلقًا من جدِّية السيد ريدر في حديثه. وفي تلك اللحظة، كانت جِديته خارج نطاق الرِّيبة.
استهل قائلًا: «بالطبع الخطاب كتبه سائقٌ مطرود من عمله.»
عقَّب السيد ريدر: «إنه توماس دايفورد، ويسكن في ١٧٩ شارع باراك، بميدستون. يعمل حاليًّا لدى شركة كِنت موتور باص، ولديه ثلاثة أطفال؛ اثنان منهم توأم وطفلٌ صغير وسيم.»
لم يتمالك المديرُ نفسَه وضحك.
قال: «سأعتبر أنك تعرف كلَّ شيء! استكشِفْ ما وراء الخطاب. سير جيمس شخصية لها ثِقَل في كِنت، إنه قاضي صُلح، ولديه نفوذ سياسي قوي. بالطبع، لا يذكر هذا الخطاب شيئًا. كن حذرًا يا سيد ريدر؛ فأيُّ ضربةٍ تُوجَّه إلى هذا المكتب، سترتدُّ إليك مُضاعفة!»
كانت فكرة السيد ريدر عن الحذَر فريدةً من نوعها. سافر إلى ميدستون في صباح اليوم التالي، ولمَّا عثَر على الحافلة التي تمرُّ ببوابات كوخ عزبة إلفريدا، ارتادها وكانت رحلته مُريحة واقتصادية والمِظلَّة ما بين رُكبتَيه. مرَّ على بوابات الكوخ وسار عبر طريق طويل مُتعرِّج مُحاط بأشجار الحور، إلى أن أصبح أخيرًا على مرأًى من كوخ صاحب العزبة الرمادي.
رأى فتاةً تجلس في كرسيٍّ عميق على المرج، واضعةً كتابًا على رُكبتَيها ويبدو أنها رأَته لأنها نهضَت لمَّا عبَر المرج، وأتت نحوه مُتحمِّسة.
«أنا الآنسة مارجريت ليثربي، هل أنت مِن …؟» ذكرَت اسم شركة مُحاماة مشهورة، واستاءت لمَّا أنكرَ السيد ريدر بأسفٍ علاقتَه بتلك الشركة اللامعة في الخدمات القانونية.
كانت الفتاة فاتنةَ الجمال؛ إذ كانت نَضِرةَ البشرةِ مُستديرةَ الوجه، ولا يبدو أنها من ذَوي الثقافة العالية.
«اعتقدتُ … هل تريد رؤية سير جيمس؟ إنه في المكتبة. إذا ضربتَ الجرس، ستأخُذك إحدى الخادمات إليه.»
لو أن السيد ريدر مِمَّن ينشغل تفكيرهم بأي شيء، لكان تفكيره قد انشغل بالاقتراح القائل بأن أيَّ فتاةٍ لديها مالها الخاصُّ سوف تتزوَّج رغمًا عنها من رجلٍ يكبُرها بكثير. لم يَعُد في الأمر لغزٌ الآن. الآنسة مارجريت كانت ستتزوَّج من أي رجلٍ قويِّ الإرادة يُصِرُّ عليها.
«حتى أنا.» قالها السيد ريدر لنفسه وهو يشعر بشيءٍ من السعادة السوداوية.
لم تكن هناك حاجةٌ إلى رنِّ الجرس. ظهر على عتبة الباب رجلٌ طويل عريض المنكبَين يرتدي بِذْلة جولف. كان شعره الأشقر الطويل تتدلَّى خُصلةً كثيفة مُستويةً منه على جبهته، وله شارب كثيف بُنِّي مائل إلى الأصفر يُخفي فمَه ويتدلى على ذقنه الطويل القوي.
سأل بأسلوبٍ غليظ: «ماذا تريد؟»
همهم السيد ريدر: «أنا من مكتب النائب العام. ووصل إلى مكتبنا خطابٌ من شخص مجهول.»
لم تنزل عيناه الشاحبتان من على وجه الرجل الآخر.
قال سير جيمس بأسلوب فظ: «ادخل.» وبينما يُغلق الباب، اختطف نظرةً سريعة إلى الفتاة أولًا، ثم إلى الشارع المزروع فيه شجرُ الحور. وقال وهو يفتح الباب الذي يبدو أنه باب المكتبة على مِصراعَيه: «أنا أنتظر أحد الحَمْقى المُحامين.»
تحدَّث بنبرة صوتٍ هادئة، ولم يهتزَّ له جَفنٌ أو يُداخله القلق مقدارَ ذرة عندما أخبره ريدر بمُهمته.
«حسنًا … ماذا عن هذا الخطاب ذي المصدر المجهول؟ أنت لا تكترث كثيرًا لهذا النوع من الهُراء، أليس كذلك؟»
وضع السيد ريدر مِظلته وقُبعته ذاتَ التاج المُسطَّح على مقعدٍ قبل أن يُخرج وثيقة من جيبه ويُعطيَها للبارونيت الذي عبَس لمَّا قرأها. هل السيد ريدر يتمتع بخيالٍ مُتَّقِد أم خفَتَ الضوء في عينَي سير جيمس وهو يقرأ؟
قال: «هذه حكاية لا أصل لها من شخصٍ رأى مجوهرات زوجتي تُباع في باريس. الخطاب يتحدَّث عن هُراء. يُمكنني حساب كل قطعةٍ من حُليِّ زوجتي المسكينة. أحضرتُ صندوق المجوهرات ثانيةً بعد تلك الليلة المُروِّعة. لا أعرف صاحب الخط؛ من هو الوغد الكاذب الذي كتب هذا؟»
لم يُنادَ السيد ريدر بالوغد الكاذب من قبل، ولكنه تقبَّل التجرِبة بصدرٍ رحب.
قال وهو يهزُّ رأسه: «اعتقدتُ أن هذا غير حقيقي. لقد تابعتُ تفاصيل القضية بدقةٍ بالغة. لقد غادرتَ هنا بعد الظهيرة …»
قال الآخَرُ بأسلوب فظ: «في المساء.» لم يكن يميل إلى مناقشة المسألة، ولكن نظرة السيد ريدر الطيِّبة لم يكن مِن المُمكن مقاومتُها. «لا تستغرق الرحلة إلى دوفر أكثرَ من ثمانين دقيقة. وصلنا إلى الرصيف في الساعة الحادية عشرة، أي تقريبًا في نفس وقت قطار السفينة، ومِن ثَم صعدنا على متن السفينة على الفور. أخذتُ مفتاح المقصورة من ضابط المُحاسبات وأدخلتُ السيدةَ وأمتعتَها إلى المقصورة.»
«هل كانت سيادتها تحتمل الإبحار دون التعرُّض لدُوار البحر؟»
«نعم، لم تكن تُصاب بدوار البحر أبدًا؛ وكانت في خير حالٍ في تلك الليلة. تركتها في المقصورة لتنالَ قسطًا من الراحة وذهبتُ كي أتمشَّى على ظهر السفينة …»
أومأ السيد ريدر برأسه، وكأنه يُوافق على شيءٍ قاله الآخر، ثم قال: «أمطارٌ غزيرة وأمواجٌ هائجة.»
«نعم — أنا لا أُصاب بدوار البحر — على أيِّ حال، تلك القصة عن مجوهرات زوجتي المسكينة ما هي إلا هُراء. يمكنك أن تُخبر المدير بذلك وتُرسِلَ إليه تحياتي.»
فَتَح الباب لزائره واستغرقَ السيد ريدر بعض الوقت كي يُعيد الخطاب إلى مكانه ويجمع مُتعلَّقاته.
«تمتلك مكانًا جميلًا هنا. يا سيد جيمس … مكان جميل. هل هي عزبة كبيرة؟»
«ثلاثة آلاف فدَّان.» لم يُحاول إخفاء نفاد صبره هذه المرةَ. «مع السلامة.»
ظلَّت ذاكرة السيد ريدر تعمل وهو يمشي في الطريق على مهَل.
فاتَتْه الحافلة التي لو أراد اللَّحاق بها لفعل، واستمر يسير في طريقٍ بدا بلا هدفٍ عبر الطريق المُتعرِّج الذي يمتدُّ على حدود ممتلكات البارونيت. بعدما قطع رُبعَ المِيل، أخذه الطريقُ إلى ممرٍّ يتفرَّع من الطريق الرئيسي بزاويةٍ قائمة ويُمثِّل، كما خمَّن، الحدَّ الجنوبي للعزبة. على الناصية، يقبع كوخ قديم مَبنيٌّ بالحجارة داخل بوابةٍ حديدية منيعة. كان الكوخ في حالةٍ يُرثى لها من الإهمال والحاجة إلى الترميم. كان البلاط مُزالًا من السقف والنوافذ قاتمة أو مكسورة، والحديقة الصغيرة مُمتلئة بنباتات الحماض والشوك. خلف البوابة، كان يُوجَد مَمرٌّ ضيق مُغطًّى بالحشائش يُؤدي إلى زرع بعيد خارج نطاق الرؤية.
لمَّا سمع صوت قفل صندوق البريد، التفتَ ورأى ساعيَ البريد وهو يركب درَّاجته.
أوقف السيد ريدر ساعيَ البريد وسأله: «ما هذا المكان؟»
«الكوخ الجنوبي، إنه مِلك سير جيمس تايذرمايت. إنه لا يستخدمه الآن. إنه لم يُستخدَم منذ سنوات، ولا أعرف لماذا؛ إنه طريق مُختصر إذا صادف وأتوا من هذا الطريق.»
مشى معه السيد ريدر باتجاه القرية، وكان ماهرًا في استخراج مكنونات الصدور حتى ولو كانت خاوية؛ ولكنَّ صدْر ساعي البريد لم يكن خاويًا البتَّة.
«نعم، يا لها من سيدة مسكينة! كانت ضعيفةً للغاية، إنها واحدة من هؤلاء المرضى الذين يعيشون لفترةٍ أطولَ من رجالٍ أصحَّاء كثيرين.»
طرَح السيد ريدر سؤالًا عشوائيًّا ولم يتوقَّع أن يحصل على كل تلك المعلومات.
«نعم، كانت السيدة تُصاب بدُوار البحر. أعلم ذلك لأنها في كل مرة تُسافر إلى الخارج، اعتادت أن تأخذ زجاجةً من الدواء الذي يتناوله الأشخاص لدوار البحر. أوصلتُ العديد من تلك الزجاجات حتى خزَّنها الصيدليُّ ريكس تحت اسم «صديق المسافرين عملاء بيكرز»، وأطلق عليها هذا الاسم. أخبرَني السيد ريكس منذ بضعة أيام أنه تتوفَّر لديه ستُّ زجاجاتٍ من هذا الدواء، ولا يعرف كيف يتصرف فيها. فلا أحد في كليمبري يُسافر عن طريق البحر.»
ذهب السيد ريدر إلى القرية وشغل وقته الثمين في أماكنَ ما فكَّر في الذَّهاب إليها. قضى وقتَه في الصيدلية وفي ورشة الحدَّاد وفي فِناء مبنًى مُتواضع. ولحق آخِرَ حافلة إلى ميدستون وحالَفَه الحظُّ كثيرًا إذ لحق بآخرِ قطارٍ إلى لندن.
وبطريقته الغامضة، أجاب عن استفسار المدير في اليوم التالي بما يلي:
«نعم، رأيتُ سير جيمس: إنه رجل مُثير للاهتمام.»
حدثَت هذه الواقعة يوم الجمعة. وظلَّ مشغولًا طوال يوم السبت. أتى السبت بشيءٍ جديد مُثير للاهتمام.
في صباح يوم الأحد المُشمِس، وقف السيد ريدر مُرتديًا مِبذَلًا مُزهرًا وفي قدَمَيه نعلٌ أسودُ مخملي، في نافذة منزله في طريق بروكلي، يجُول بنظره في الشارع الخالي من المارَّة. دقَّ جرسُ الكنيسة المحليَّة المبنية بارتفاعٍ عالٍ كي يُنبئ عن القُدَّاس المُبكر، وخلا الأفق من أي كائنٍ حي باستثناء قطةٍ سوداء تنامُ في بُقعة مُشمِسة أعلى سُلَّم المنزل المقابل. كانت الساعة تدق السابعةَ والنصف، وقد وصل السيد ريدر إلى مكتبه منذ الساعة السادسة، وجلس يعمل تحت أضواء المِصباح وقد أوشك شهر مارس على الانتهاء.
من الجزء ذي الشكلِ الهلاليِّ في النافذة، نظر إلى قِسمٍ من طريق لويشام السريع وإلى أكبر قدرٍ يُمكن أن يراه في تانرز هيل قبل أن يَحجبه جسرُ السكة الحديدية المؤدِّي إلى ديبتفورد مباشرة.
لمَّا رجَع إلى طاولته، فتح علبةً من أرخص السجائر وأشعل سيجارة ودخَّنَها بطريقةٍ تُوحي بأنه لا يُدخِّن كثيرًا. دخن السجائرَ كامرأةٍ تبغض السجائر ولكنها تشعُر أنها الشيءُ الصحيح.
قال السيد ريدر بصوتٍ خافت: «يا إلهي.»
عاد إلى النافذة ورأى رجلًا ينعطف من طريق لويشام السريع. عبَر الطريق ثم أتى مباشرة إلى منزل دافوديل (التي تعني أزهار النرجس)، كان هذا الاسم المَرِح هو الاسمَ الظاهر على قوائمِ باب منزل السيد ريدر. رجل طويل مُنتصِب القامة له وجهٌ بُني مُتجهِّم، أتى إلى البوابة الأمامية ثم عبَر وتجاوز نطاق الرؤية للرجل الذي يُراقِب من خلف النافذة.
قال السيد ريدر وهو يسمع جلجلة الجرس: «يا إلهي.»
بعد بِضْع دقائق، نقرت مُدبِّرة شئون المنزل على الباب.
وسألت: «السيد كول يُريد رؤيتك يا سيدي، هل أُدخِله؟»
أومأ السيد جيه جي ريدر.
دخل لو كول إلى الغرفة ووجد رجلًا في منتصف العمر يرتدي مِبذَلًا ذا ألوانٍ صارخة يجلس على مكتبه وعلى أنفه نظَّارة أنفية مائلة.
«صباح الخير. يا كول.»
نظر لو كول إلى الرجل الذي أرسله إلى الجحيم لمدَّة سبعِ سنواتٍ ونصف ولوَى شفتَه الرفيعة.
«صباح الخير يا سيد ريدر.» نظرَت عيناه إلى سطح مكتبه شبه الخالي الذي يشبك ريدر يدَيه عليه برفق. «لم تتوقَّع رؤيتي، أليس كذلك؟»
قال ريدر بصوتٍ خافت: «لم أتوقَّعْها في هذا الوقت المُبكر، ولكن كان يجب أن أتذكَّر أن الاستيقاظ مُبكرًا من العادات الجيدة التي تغرِسها الأشغال الشاقة.»
قال هذا على سبيل الثناء على حُسن السلوك.
«أظنُّ أن لديك فكرةً جيدة جدًّا عن سبب حضوري، أليس كذلك؟ أنا لا أنسى بسهولةٍ يا ريدر، والمرء في دارتمور لديه وقتٌ وفير للتفكير.»
رفع الرجل الأكبرُ سنا حاجبَيه الأصفرَين، وانزلقَت النظارة ذات الإطار المَعدِني على أنفه بانحرافٍ أكثر.
أنزل حاجبَيه عابسًا وقال: «تبدو هذه العبارة مألوفةً لي. دعْني أُفكر … قيلت في مسرحية درامية، بالطبع، ولكن ماذا كان اسمُ تلك المسرحية: «سولز إن هارنيس» أم «ذا ماريدج فو»؟»
بَدا حريصًا حقًّا على الحصول على مساعدته في حلِّ هذه المشكلة.
قال «لو» ذو الوجه الطويل وهو يَصُرُّ على أسنانه: «ستختلف أحداث هذه المسرحية. سأنال منك يا ريدر … يُمكنك الذَّهاب إلى رئيسك، النائب العام، وتُخبره. ولكني سأنال منك يا عزيزي! ولن يكون هناك دليلٌ يُدينني. وسأحصل حتى على ذلك الجورب الصغير الجميل يا ريدر!»
كانت أسطورةُ ثروة ريدر فكرةً يتقبَّلها حتى رجلٌ ألمعيُّ الذكاء مثل كول.
أظهر السيد ريدر قدْرًا من الفكاهة وقال: «ستحصُل على جوربي! يا إلهي سأُضطَر إلى أن أمشيَ حافيَ القدمَين.»
«تعرف ما أعني — فكِّر في الأمر. في ساعةٍ مُعينة ويومٍ مُعين ستموت، ولن تقبض عليَّ شرطة سكوتلاند يارد بأسرِها بتهمة قتلك! لقد فكرتُ في كل شيء …»
همهمَ السيد جيه جي ريدر بنبرةٍ مُشجِّعة: «المرء في دارتمور لديه وقتٌ وفيرٌ للتفكير. إنك تتحوَّل إلى واحدٍ من مُفكِّري العالَم يا كول. هل تعرف رائعة رودين — تمثال جميل ينبض بالحياة …»
«قلتُ ما لدي.» نهض لو كول والابتسامةُ لا تزال ترتسِم على جانبَي فمه. «ربما تُقلِّب المسألة في عقلك، وفي غضون يومٍ أو يومَين لن تشعُر بتلك السعادة.»
كان وجه ريدر مُثيرًا للشفقة في حُزنه. يبدو شعره الرماديُّ المائل إلى الأصفر غيرُ المُهندَم واقفًا على أطرافه، الأُذنان الكبيرتان اللتان تقِفان بزاويةٍ قائمة على وجهه، تُوهِمان بحركة ارتعاش.
أمسك لو كول مقبض الباب.
«بوم!»
كان صوتُ شيءٍ خفيفِ الوزن اخترقَ اللوح؛ شيء مرَّ بسرعةٍ شديدة بالقُرب من خدِّه، ثم رأى أمامه ثُقبًا عميقًا يظهر في الجدار، وأُصيب وجهُه بلَسْع حبَّات الجِصِّ المُتطايرة. التفتَ والشررُ يتطاير من عينه.
وجد السيد ريدر مُمسِكًا مُسدَّس براونينج في يده له كاتمُ صوتٍ أُسطواني مُثبَّت على الفوهة، ثم أخذ يُحملق في السلاح مشدوهًا.
سأل مُتعجبًا: «كيف حدث هذا بحق الجحيم؟»
وقف لو كول يرتجف غضبًا وخوفًا، وشحب لونُه.
قال لاهثًا: «أنت … يا لَك من حقير! تُحاول إطلاق الرصاص عليَّ!»
حملق فيه السيد ريدر من فوق نظارته.
«هذا غير معقول … هل تظن أني أفعلُ ذلك؟ هل لا تزال تفكر في قتلي يا كول؟»
حاول كول الكلامَ ولكن الكلمات لم تُسعِفه؛ ولذا فتح الباب على مِصراعَيه واندفع نازلًا من على السُّلَّم ومنه إلى المدخل الأمامي. لمَّا وصلتْ قدمُه عند العتبة الأولى، قُذِف شيءٌ بقوة بحيث تجاوزه وتحطَّم إلى فُتاتٍ عند قدمَيه. كانت زهريةً حجرية كبيرة كانت تُزين عتبة النافذة في غرفة نوم السيد ريدر. مُتخطيًا حُطامَ الزهرية الحجرية والزهور، حملق في وجه السيد جيه جي ريدر الذي تكسوه الدهشة.
قال مُتلعثمًا: «سأقتلك!»
قال الواقف في النافذة بنبرة قلقة: «أرجو أنك لم تتأذَّ. تحدُث هذه الأشياء. في يوم مُعيَّن وفي ساعة معينة …»
ظلَّ المُحقِّق يتحدَّث حتى خرج لو كول إلى الشارع.
لمَّا كان السيد ستان برايد يأخذ حمَّامه الصباحي، دخل صديقه وزميله في السجن إلى غرفته الصغيرة المُطلَّة على ميدان فيتزروي.
لا يحمل ستان برايد أيَّ صفاتٍ توحي بالبراءة، إنه رجل بدين وقصير وله وجهٌ ضخم أحمر ولُغد؛ توقف عن تجفيف نفسِه وحملقَ من فوق حافة المنشفة.
وسأل بحِدَّة: «ما الأمر؟ تبدو وكأنَّ شرطيًّا يُطاردك. ما الأمر الذي خرجتَ من أجله مبكرًا هكذا؟»
أخبره «لو»، وزاد الحِسُّ المرِح على ملامح زميله في الغرفة أكثر وأكثر.
قال هامسًا: «يا لك من أحمق! ما الذي جعلك تذهب إلى ريدر هكذا! ألا تظنُّ أنه في انتظارك؟ ألا تعتقد بأنه يعرف اللحظة التي خرجتَ فيها من دارتمور؟»
قال الآخَر: «أخَفْته على أيِّ حال.» فضَحِك السيد برايد.
وقال ساخرًا: «يا لك من شجاع! أخفتَ هذا الشخص العجوز! (لم يقُل كلمة «شخص».) لو هرب الدم من عروقه كما هرَب منك، فقد أخفتَه! ولكنه لم يهرب. بالطبع أطلق رَصاصةً مرَّت من جانبك؛ ولو أراد تصويبَ الرصاصة عليك، لكنتَ ميتًا الآن. ولكنه لم يفعل. مُفكِّر، أعطاك شيئًا كي تُفكِّر به.»
«من أين أتى هذا السلاح، لا …»
سُمِع طرقٌ على الباب وتبادل الرجلان النظرات.
سأل برايد: «مَن الطارق؟» وردَّ صوتٌ مألوف.
«شرطيٌّ من سكوتلاند يارد.» همس برايد وفتح الباب.
كان «الشرطي» هو الرقيب ألفورد من دائرة التفتيش الجنائي، رجل دمث وبدين ومُحقِّق له مُستقبل واعد.
«صباح الخير أيها الرفاق، ألم تذهب إلى الكنيسة يا ستان؟»
ابتسم ستان ابتسامةً مُتأدِّبة.
«كيف حال التجارة يا لو؟»
«ليست سيِّئة.» أصبح المُزوِّر مُتيقظًا ومتشككًا.
«أتيت إليك بشأن سلاح؛ ورَدَني خبر أنك تحمِل سلاحًا. كولت، أتوماتيك، آر. ٧ / ٩٤٣١٨. هذا غير قانوني. هذه الأسلحة لا تنتمي لهذا البلد.»
قال «لو» مُتجهمًا: «ليس معي سلاح.»
شابَ شعرُ برايد من الخوف؛ لأنه أُدين أيضًا بتهمة لها علاقة بترخيص سلاح، وربما أودَى به هذا الاكتشاف إلى إكمال مدة عقوبته التي لم تنتهِ بعد.
«هل ستأتي معي قليلًا إلى القِسم أم آتي لأُفتِّشك؟»
قال لو: «بل تُفتشني.» ثم رفع ذراعه كي يُتيحَ له تفتيشه، بينما فتش المُحقِّق جسمه بالكامل حتى قدمَيه.
قال المُحقق: «سأُلقي نظرةً على المكان.» ثم «ألقى نظرة» مُتفحصة.
قال الرقيب ألفورد: «لا بدَّ أنَّ هناك سوءَ فَهْم.» ثم قال فجأة: «هل هو ما رميتَه في النهر وأنت تتمشَّى بطول الجسر؟»
جفل لو. كان ذلك أول إنذار يتلقَّاه بأن هناك مَن «تعقَّبه» هذا الصباح.
انتظر برايد حتى رأى ضابط المباحث وهو يعبر ميدان فيتزروي من النافذة، ثم عاد إلى رفيقه حانقًا.
«ذكي، ألستَ كذلك! هذا الكلب العجوز يعرف أنَّ لديك سلاحًا، ويعرف الرقم. ولو وجده ألفورد، «لسحبك» إلى القسم وسحبَني معك!»
قال «لو» بوجهٍ عابس: «رميته في النهر.»
قال برايد وهو يتنفَّس الصعداء: «ذكي … لستَ ذكيًّا جدًّا ولكنك ذكي! أخرج ريدر من عقلك؛ إنه ليس صيدًا سهلًا، وإن لم تسمع عنه، فأنت أصم! أخَفْتَه؟ أنت أحمق كبير! يستطيع أن يذبحَك ثم يكتبَ ترنيمة عن الأمر.»
قال كول مُتذمرًا: «لم أكن أعرف أنهم يتعقَّبونني، ولكني سأنال منه! ومن أمواله أيضًا.»
قال برايد بأسلوب فظ: «نَلْ منه من مكانٍ آخر. لا يُهمني أن تكون مُحتالًا أو قاتلًا حتى؛ ولكني أشمئز من الحماقة. احصل على أمواله لو استطعت، أراهن أنها مُستثمَرة بالكامل في العقارات، ولا يُمكنك رفعُ المنازل — لكن لا تتحدَّث عن ذلك. أنت تُعجبني يا لو، لكن إلى حدٍّ معين؛ لا يزال أمامك الكثير كي تتعلَّمه. أنا لا أُحب ريدر؛ لا أحب الثعابين، ومن ثَم لا أضع يدي في جُحرها.»
وهكذا، أخذ لو كول مسكنًا جديدًا في الطابق العلوي لمنزل رجلٍ إيطالي في شارع دين، وفي هذا المكان كان لديه الوقتُ والحافز لأن يجترَّ أحزانه ويُخطط من جديد لتدمير عدوه. لا بدَّ من خططٍ جديدة، فالمُخططات التي بدَت بالغةَ الإحكام بين جدران زنزانة ديفونشاير المنعزلة ظهرَ العديد من أوجه الضعفِ فيها.
تعرَّض هوَس «لو» بالقتل لتعديلٍ هائل. وقد خضع لاختباراتٍ على يد طبيبٍ نفسي ماهر، على الرغم من أنه لم يُدرِج السيد ريدر ضمن قائمة المرغوب في قتلهم، وفي الواقع، كانت لديه فكرةٌ غامضة عن معنى كلمة هوس القتل. ولكن كانت هناك طرقٌ أخرى لإيذاء ريدر، وظلَّ يعود بعقلِه إلى حلم اكتشاف الكنز الذي يُخفيه هذا المُحقِّق الشرير.
بعد أسبوع تقريبًا، دعا السيد ريدر نفسه إلى غرفة المدير الخاصة، وأنصتَ ذلك المسئول الرائع مشدوهًا لنظرية مرءوسه الصادمة عن سير جيمس تايذرمايت وزوجته المُتوفَّاة. لما انتهى السيد ريدر، دفع المدير كرسيَّه للوراء مُبتعدًا عن الطاولة.
قال بنبرةِ انفعالٍ خفيف: «يا صديقي العزيز، لا يُمكنني إصدارُ أمرٍ بناءً على قوة تخميناتك، ولا حتى أمر تفتيش. القصة رائعةٌ للغاية، مُذهلة، ولكنها تُناسِب أن تُكتَب في صفحات قصةٍ مُثيرة، وليس في تقريرٍ من مكتب النائب العام.»
اقترح المُحقِّق بلُطف: «كانت ليلةً عاصفة ومع ذلك لم تكن السيدة تايذرمايت مريضة. هذه حقيقة لا ينبغي تجاهلُها يا سيدي.»
هزَّ المدير رأسه.
وقال: «لا يُمكنني منحُ الأمر، ليس بِناءً على شهادة. سوف أُثير عاصفةً هوجاء تُطيح بي في وايتهول. ألا يُمكنك أن تفعل شيئًا … غير رسمي؟»
هزَّ السيد ريدر رأسه.
قال بأسلوب مُتحفِّظ: «لوحظ وجودي في الحي. أعتقد أنه يستحيل إخفاء … اممم … آثاري. ولكني حددتُ موقع المكان، ويُمكنني أن أخبرك بالموقع بالضبط.»
هزَّ المدير رأسه مرةً أخرى.
قال بنبرةٍ هادئة: «لا يا ريدر، المسألة كلُّها عبارة عن استنتاجات من جانبك. أوه، نعم، أعلم أنك تُفكر بعقلية المُجرِم، أعتقد أنك ذكرتَ لي هذا من قبل. وهذا سببٌ وجيه لعدم إصدار الأمر. إنك ببساطة تُدين هذا التعيس بقصةٍ بارعة من ابتكارك. هذا كله هُراء!»
تنهَّد السيد ريدر وعاد إلى مكتبه ولكن ليس يائسًا يأسًا كاملًا، حيث دخل عنصرٌ جديد في تحقيقاته.
سافر السيد ريدر إلى ميدستون عدة مرات في ذلك الأسبوع، ولم يُسافر وحده؛ وعلى الرغم من أنه ادَّعى عدم إدراكه لحقيقة وجود شخصٍ يتبعه مثل ظلِّه، فقد رأى لو كول في عدة مناسبات وقضى بضعَ دقائق مشغولًا بالتفكير فيما إذا كانت تَجرِبتُه فَشِلت أم لا.
في المرة الثانية، لمعتْ فكرة في رأس المُحقِّق، ولو كان للضحك سبيلٌ إليه لضَحِك بصوتٍ عالٍ عندما خرَج من محطة ميدستون ذاتَ مساء واستأجر سيارةَ أجرة ورأى لو كول يُنادي على سيارةٍ أخرى.
كان السيد برايد مشغولًا في ممارسةٍ مُملَّة إلا إنها ضرورية؛ وهي تقسيم حزْمة أوراق لعب؛ بحيث تبقى ورقةُ الآس الماسيِّ في الأسفل لمَّا اقتحم شريكه السابق الغرفةَ عليه، وبدا شعاع النصر يلمع في عينَي «لو» الباردتين مما جعل قلب السيد برايد يسقط في قدمه.
قال لو: «نلتُ منه!»
وضع برايد أوراقَ اللعب جانبًا ووقف.
وسأل بنبرةٍ باردة: «نلتَ ممَّن؟ وإذا كنت تقصد القتل، فلا حاجة إلى الرد، ولكن اخرج!»
«ليس قتلًا.»
جلس «لو» معتدلًا على الطاولة ووضع يدَيه في جيوبه وابتسامة حقيقة مُرتسمة على وجهه.
«ظللتُ أُراقب ريدر لمدة أسبوع، وهذا الشخص يحتاج إلى بعض المراقبة!»
لمَّا توقَّف لمدةٍ طويلة: سأل الآخر: «ثم ماذا؟»
«وجدتُ كَنْزه!»
فرك برايد ذقنه وأصبح مُقتنعًا بعض الشيء.
«هل وجدتَه حقًّا؟»
أومأ لو.
«كان يسافر إلى ميدستون كثيرًا في الفترة الأخيرة، ويسير بالسيارة إلى قريةٍ صغيرة على بُعد خمسة أميال خارجَها. ودائمًا ما كنتُ أفقد أثره في تلك القرية. ولكن في إحدى الليالي، لمَّا عاد إلى المحطة لِلَّحاق بآخر قطار، دخل إلى قاعة الانتظار ووجدتُ مكانًا يُمكنني مُراقبته منه. ما الذي تظنُّ أنه فعله؟»
لم يتلفَّظ السيد برايد بأي اقتراح.
قال «لو» بصوتٍ مؤثِّر: «فتح حقيبته وأخرج رزْمة أوراقٍ كبيرة كهذه! ظل يُقلب الأوراق على الطاولة التي أمامه! تتبَّعتُه إلى لندن. دخل المطعم في المحطة لاحتساء كوب من القهوة، ولكني ظللتُ بعيدًا عن أنظاره. لمَّا خرج من المطعم أخرج منديله ومسح فمه. لم يرَ الكتاب الصغير الذي سقط منه، ولكني رأيته. ارتعبتُ من أن يراه أحد آخر أو أن ينتظرَ لمدةٍ طويلة حتى يجدَه بنفسه. ولكنه خرج من المحطة وأنا أخذتُ الكتاب في طرفةِ عين. انظر!»
كانت كرَّاسةً صغيرة متهالكة ومُغطَّاة بجلدٍ رقيقٍ أحمر ذي لونٍ باهت. مدَّ برايد يده كي يأخذها.
قال لو: «انتظِر لحظة، أنا بحاجةٍ إلى بعض المساعدة، فهل أنت معي في هذه العملية مناصفة؟»
تردَّد برايد.
قال: «إن كانت عملية سرقة فقط، فأنا معك.»
قال «لو» مُبتهجًا: «سرقة فقط، كما إنها عملية مُربحة.» ودفع الدفتر عبر الطاولة.
جلسا لفترةٍ طويلة في الليل يتحدَّثان بصوتٍ منخفض ويتناقشان في بعض الأحيان بحيادية عن أسلوب السيد جيه جي ريدر المَنهجيِّ في التسجيل في الدفتر وعدم نزاهته المُفرطة.
هطلَت الأمطار في مساء يوم الإثنين. وهبَّت عاصفة من الجنوب الغربي وامتلأ الهواء بالأوراق المُتساقطة، بينما يقطع «لو» ورفيقُه الأميال الخمسة التي تفصل بينهما وبين القرية سيرًا على الأقدام. لم يكن أيٌّ منهما يحمل أدواتٍ ثقيلة مرئيَّة، ولكن «لو» كان يحمل مجموعة أدوات لها استخدامٌ فريد تحت مِعطفه المقاوِمِ للمياه، وأُثقِلَت جيوب معطف السيد برايد بعتلةٍ صغيرة قوية.
لم يُقابلا أحدًا في طريقهما ودقَّ جرس الكنيسة ليُعلِن الساعة الحادية عشرة لمَّا أمسك «لو» قُضبان بوابات الكوخ الجنوبي ورفع نفسه فوقها، ثم قفز بخِفَّة من فوقها إلى الجانب الآخر. تبعه السيد برايد الذي يتمتع بمرونةٍ فريدة على الرغم من ضخامةِ جسمه. ظهر الكوخ الخرِب في الظلام وعبَرا البواباتِ ذات الصرير إلى الباب ثم أضاء «لو» مصباحه وسلَّطه على ثُقب المفتاح قبل أن يبدأ في التعامُل معه بالأدوات التي أخرَجها من حقيبته.
فُتِح الباب في غضون عشرِ دقائق ودخَلا بعد بضع ثوانٍ إلى غرفةٍ صغيرة ذات سقف منخفض، ولم يكن فيها سوى مِدْفأة عميقة ليس لها نافذةٌ مشبكة. خلع لو معطفه المقاوم للمياه وبسَطَه على النافذة قبل أن يُشعل ضوء المصباح، وجثا على رُكبتَيه ونفَض الرُّكام مِن فوق أرض المدفأة وأخذ يتفحَّص الفواصل بين الحجارة الكبيرة بعناية.
قال: «هذا العمل غير مُتقَن. فأيُّ أحدٍ يُمكن أن يراه.»
وضع مِخلَب العتلة في الشقِّ ورفع الحجارة فتحركَت قليلًا. توقف لحفر شقٍّ أعمق باستخدام مِطْرقةٍ وإزميل، ثم دفع مخلب العتلة داخلَ الشقِّ أكثر. ارتفعت الحجارة فوق حافَة الأرضية ودفع برايد الإزميل إلى الأسفل.
قال «لو» بصوتٍ أجشَّ: «مع بعضنا الآن.»
وضَعا أصابعهما أسفلَ حجارة المدفأة ورفَعاها رَفْعةً واحدة. أخذ «لو» المصباحَ وجثا على رُكبتَيه وسلَّط ضوء المصباح داخل التجويف المُظلم. وبعدئذٍ:
صرخ قائلًا: «أوه، يا ربي!»
بعد ثانية، اندفع الرجلان المُرتعِبان من الكوخ إلى الطريق. وحدثَت معجزة، إذ وجدا البوابات مفتوحةً وشخصًا يقف أمامهما ويلفُّه الظلام.
سمعا صوتًا: «ارفع يدَيك يا كول!» وبقدْر ما كان الصوت كريهًا في أذن لو كول، بقدر ما تمنَّى أن ينقضَّ على عنق السيد ريدر.
في الساعة الثانية عشْرة في تلك الليلة، كان سير جيمس تايذرمايت يُناقش بعض المسائل مع عروسه المُنتظَرة: غباءُ مُحاميها الذي يرغب في حماية ثروتها، وذكاؤه وبصيرته في تأمين حرِّية التصرُّف كاملةً للفتاة التي ستُصبح زوجته.
استهلَّ قائلًا: «هؤلاء الحَمْقى لا يُفكرون إلا في أتعابهم …» وعندها دخل الخادم دون سابقِ إنذارٍ وخلفه مأمورُ المقاطعة ورجل آخَر تذكَّر أنه رآه من قبل.
يعرف المأمور سير جيمس جيدًا، ولكنه سأل دون داعٍ: «هل أنت سير جيمس تايذرمايت؟»
ردَّ البارونيت مُقطبًا جبينَه: «نعم أيها الكولونيل، ما الأمر؟»
«أنت قيد الاعتقال بتهمة قتلِ زوجتك إلينور ماري تايذرمايت مع سبق الإصرار.»
شرح جيه جي ريدر لرئيسه: «لقد اعتمد كلُّ شيءٍ على سؤال ما إذا كانت السيدة تايذرمايت مُعرَّضةً لدُوار البحر أم لا. إذا كانت مُعرَّضة لدوار البحر، فلا يُحتمَل أنها صعدت على متن السفينة ولو لمدة خمسة دقائق بدون استدعاء المُضيفة. والمُضيفة لم ترَها ولم يرَها أحدٌ على متن السفينة لسببٍ بسيط؛ وهي أنها لم تصعد على متن السفينة! قُتِلَت في العزبة ودُفِنت جُثَّتها أسفلَ المِدفأة في الكوخ القديم، وتابع سير جيمس رحلته بالسيارة إلى دوفر وأعطى أمتعتَه للحمَّال وأخبرَه أن يأخذها إلى المقصورة قبل أن يعود ويترك سيارته في مرآب الفندق. ضُبِط وقتَ وصوله بحيث يصعد إلى متن السفينة بين زِحام المسافرين من قطار السفينة ولم يعرف أحدٌ هل كان بمُفرده أم برفقته أحد؛ ولذا لم يهتمَّ أحد. أعطاه ضابط المُحاسبات المفاتيحَ ووضع أمتعته بالإضافة إلى قُبعة زوجته في المقصورة ودفع للحمَّال أُجرته وطلب منه الانصراف. رسميًّا، السيدة تايذرمايت صعدت على متن السفينة لأنه سلَّم تذكرتها إلى مُحصِّل التذاكر واستلم قسيمة ركوبها السفينة. ثم اكتشف أنها اختفَت. تمَّ البحث في السفينة ولكن بالطبع لم يُعثَر على السيدة التعيسة الحظ. كما أشرتُ من قبل …»
قال المدير بخفةِ ظِل: «تُفكر بعقلية المجرم. استمرَّ يا ريدر.»
«لأنني أتمتَّع بتلك الصفة الغريبة والمُستنكَرة، فطنتُ إلى مدى سهولة مسألة الإيهام بأن السيدة صعدت على متن السفينة، وقلتُ في قرارة نفسي لو ارتُكِبت جريمة القتل، فلا بدَّ أنها ارتُكبت على مسافة بِضْعة أميال قليلةٍ من المنزل. بعد ذلك، أخبرني البنَّاء في المنطقة أنه أعطى سير جيمس درسًا بسيطًا في طريقة خَلْط المِلاط. وأخبرني الحدَّاد أن البوابة كُسِرت ربما بسبب سيارةِ سير جيمس؛ رأيتُ القُضبان المكسورة وكلُّ ما أردتُ معرفته هو متى تمَّ إصلاحها. ومن ثَم بتُّ متأكدًا بأنها مدفونة في الكوخ أسفل المدفأة. بدون أمر التفتيش، بات من المُستحيل إثباتُ نظريتي أو دحضُها، ولا يُمكنني أن أُجرِيَ تحرياتٍ فرديةً بنفسي بدون المخاطرة بسُمعة إدارتنا — إذا جاز لي أن أقول «إدارتنا».» قالها مُعتذرًا.
غَرِق المدير في التفكير.
«وبالطبع أغريتَ هذا المدعوَّ كول كي يحفر تحت المدفأة بزعم أنك تملك أموالًا مدفونة تحتها. أفترضُ أنك كشَفتَ عن هذه الحقيقة في كَرَّاستك، أليس كذلك؟ ولكن أخبِرني بحق السماء لماذا تخيَّل أن لديك كنزًا مدفونًا؟»
ابتسم السيد جيه جي ريدر أسفًا.
وقال مُتنهدًا: «عقل المجرم غريب. إنه ينسج أوهامًا وقصصًا خُرافية. ولحُسن الحظ أنني أفهم ذلك العقل. كما أقول دائمًا …»