القصة الثالثة: فرقة العروض المسرحية
ساد الهدوء والسكينة في مكتب النائب العام ممَّا انسجم انسجامًا تامًّا مع ذوق السيد جيه جي ريدر وميوله. فقد كان رجلًا يُحب العملَ في مكتبٍ يسوده الهدوءُ بحيث تُسمَع دقات عقارب الساعة وصوت تقليب الأوراق الخافت.
ذات صباح، طُرِح أمامَه كتالوج مطبوع على الآلة الكاتبة باسم السادة بشركة ويلوبي — وكلاء العقارات البارزون — وأخذ يُقلب في الصفحات مفكرًا. وصل الكتالوج حديثًا، ولم تمرَّ سِوى بضع دقائق حتى وضع الساعي المحفظةَ على مكتبه.
بسَط ورقةً وأعاد قراءة الوصف المُغري لعقارٍ ليس بالأهمية البالغة، ومِن ثَم أصبح تفحُّصه الإعلانَ مَضيعةً للوقت؛ لأنه كُتِب على هامش الورقة باللون الأحمر كلمة «مؤجَّر» مما يعني أن مبنى «ريفرسايد بوور» ليس متاحًا للإيجار. لم يكن الحبر جافًّا؛ ولذا فمن الواضح أن كلمة «مؤجَّر» كُتِبَت هذا الصباح.
قال السيد ريدر: «هممممم!»
اهتمَّ بالمسألة لعدة أسباب. في حرارة شهر يوليو، تشهدُ المساكنُ على ضِفَّة النهر ارتفاعًا زائدًا في الأسعار، ومع بداية شهر نوفمبر، تُصبح مثل المُخدِّرات في السوق. وكقاعدةٍ عامة، لا يستأجر الزائرون العابرون للمُحيطِ الأطلسيِّ الأكواخَ على ضفاف النهر في الأشهر التي تتَّسمُ بهطول الأمطار والضباب وسوءِ الطقس.
غُرفَتا استقبال، غرفتا نوم، حمَّام، أقْبِية جافَّة كبيرة، مَرْج يُطل على النهر، مركب شراعي وقاربُ بنطٍ صغيران. إضاءةٌ بالغاز والكهرباء. سعر الإيجار ثلاثة جنيهات في الأسبوع أو جنيهان في حالة الإيجار لمدة ستة أشهر.
سحَب الهاتف على الطاولة إليه، وطلب رقم الوكلاء.
«مؤجَّر، هل هو … يا إلهي! لرجل أمريكي؟ ومتى سيُتاح مرةً أخرى؟»
أخذ المُستأجرُ الجديد المنزلَ لمدة شهر. اهتمَّ السيد ريدر أكثرَ وأكثر على الرغم من أن اهتمامه «بالرجل الأمريكي» لم يبلغ درجةَ اهتمام الرجل الأمريكي بالسيد ريدر.
عندما أتى آرت لومر العظيم في رحلة عملٍ من كندا إلى لندن، أخذه صديقٌ ومُعجَب في نزهةٍ لمدة يومٍ واحد لرؤية أهمِّ معالم مدينة لندن.
قال الصديق الذي يُطلَق عليه اسم تشيب واسمُه الحقيقي سبارو: «إنه يخرج بوجهٍ عامٍّ في وقت الغداء.»
نظر السيد لومر في أرجاء مدينة وايتهول مُستخفًّا لأنه رأى العديد من المدن في العالَم التي لا تُشبه إحداها الأُخرى في جمالها.
همس تشيب: «ها هو!» على الرغم من عدم الحاجة إلى الغموض أو الإسرار.
خرج رجلٌ في منتصف العمر من أحد أبواب مبنًى كبير رماديِّ اللون. على رأسه، قبَّعة طويلة ذات تاج مُسطَّح وجسده مُغطًّى بإحكام في مِعطفٍ مشقوق الذيل. رجل بجسدٍ هزيلٍ نوعًا ما، وله شعرات على جانبَي وجهه ذات لون أبيض مائل إلى الأصفر ونظَّارة، والنظارة أقربُ إلى نهاية أنفه من بدايتها.
سأل آرت بذهول: «هو؟»
ردَّ الآخرُ مؤكدًا: «نعم هو.»
«هل هذا هو الشخص الذي تخشاه؟ أنت مجنون. يا إلهي، إنه لا يتحمَّل حتى نزلةَ برد! سأعود الآن إلى منزلي في تورونتو …»
يفتخر آرت بموطنِه، وبهذه الروح الفخورة بكلِّ ما هو كندي والتي تُلوِّن حتى الملامحَ القبيحة للمرء بأبهى الألوان، كان يتحدَّث حتى عن الشرطة المَلَكية الكَندية بكل خير — تلك القوة التي عادةً ما يحمِل لها أقصى درجات الاشمئزاز داخل الأجواء المحلية.
قام آرت ﺑ «عمليات» — لم يستخدِم قطُّ أيَّ كلماتٍ أدنى — في تورونتو، والتي أعطَتْه مَيْزاتٍ معيَّنة بسبب قربها من بافالو ومن حدود الولايات المتحدة. سبق له أن نفَّذ «عمليات» في كندا ذاتِها، ولكن الخط الذي سلَكه في تلك الفترة وهو السرقة بالإكراه، وضعه ذات مرةٍ في مواجهة قاضٍ كندي؛ والقاضي في كندا يتمتع بسلطاتٍ غير عادية. حُكِم على آرت بالسجن لمدة خمس سنوات؛ وما زاد الطِّينَ بلَّة، أنه صدر ضدَّه حُكمٌ بالجلْد خمسًا وعشرين جلدةً بسوطٍ له تسعةُ أذناب، وكل ذنب منها مُؤلِم. بعد ذلك، انقطع عن العنف وكرَّس نفسه لتكوين فرقته، وذاع صيتُ فرقة آرت لومر من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادئ.
سبق أن كان اسمه آرثر لومر عندما أُنقِذ من عصابة في لندن ومن عالَم الجريمة وأُرسِل إلى كندا؛ فالهيئات الخيريَّة لديها انطباعٌ أن مستوى جرائم الأحداث مُنخفضٌ في كندا. بفضل البراعة الكبيرة والإدارة الحكيمة في تلك المرحلة والمَيل الفطري إلى اكتساب المال بطرُق سهلة، اشترى لنفسه منزلًا من طابقٍ واحد على الجزُر وشقةً في شارع تشيرش وسيارة ذات ستة أسطوانات، واكتسب لَكْنة أهل نيو إنجلاند التي تَلْقى قَبولًا في أي مكانٍ في العالَم باستثناء نيو إنجلاند.
«سأُخبر العالَم بأنكم بحاجةٍ إلى الاستيقاظ يا رفاق! أهذا ريدر؟ لو كانت كندا والولايات المتحدة تعجُّ بالخِراف أمثالِه، لجمعتُ مبلغًا في شهرٍ واحد أكبرَ مما تدفعه هوليوود لشابلين في عشرِ سنوات. نعم يا سيدي. اسمع، هل يرتدي ساعة؟»
اندهَش دليلُه قليلًا.
«هل يرتدي ساعةَ يدٍ؟ بالتأكيد!»
أومأ السيد آرت لومر.
«انتظِر … سآتيك بها في غضون خمس دقائق … سأذهب لأُريَك شيئًا.»
ارتكب الرجلُ أكبرَ حماقةٍ في حياته؛ أتى إلى لندن في رحلة عمل وخاطرَ بمليون دولار من أجل استحسانٍ رخيصٍ من شخص لا يكترث لرأيه مثقالَ قِطْمير.
كان السيد ريدر واقفًا على الرصيف بعصبية وينتظر ما يصفُه «بحركة مرور السيارات» كي يعبُر الطريق، حينما اصطدم به رجلٌ غريب.
قال الغريب: «عذرًا يا سيدي.»
همهم السيد ريدر: «لا عليك. ساعتي مُتقدِّمة بخمس دقائق، يُمكنك رؤية الوقت الصحيح في ساعة بيج بن.»
شعر السيد لومر بيدٍ في جيب معطفه، وأصبح كالمُنوَّم مِغناطيسيًّا وهو يرى الساعةَ تعود إلى جيب السيد جيه جي ريدر.
سأل السيد ريدر بمرح: «هل تمكث هنا مدَّةً طويلة؟»
«ها، نعم.»
«إنه وقت جميل من السنة.» خلع السيد ريدر نظارته ومسحها في كمِّه برفقٍ وارتداها بوضعية مُعوجَّة. «ولكن البلد ليس جميلًا مثل كندا في الخريف. كيف حال ليوني؟»
لم يُغْمَ على آرت لومر؛ ولكنه ترنَّح قليلًا وأغلق عينَيه وفتحهما بقوةٍ وكأنه يُحاول الاستيقاظ. ليوني هو صاحب ذاك المطعم الصغير في بافالو الذي اتخذه آرت ورفاقُه قاعدةَ انطلاقٍ لتنفيذ عملياتهم المُربحة.
«ليوني؟ هل تقول، السيد …»
«والفرقة، هل تُؤدي في إنجلترا أم أنها في فترة راحة؟ أظنُّ أنها في فترة راحة.»
حملق آرت في الآخَر. وظهر على وجه السيد ريدر تعبيرٌ ينمُّ عن الاهتمام والتساؤل. كان الأمر كما لو كانت أخبارُ فرقة العروض المسرحية أمرًا يستحوذ على تفكيره.
بدأ آرت بصوتٍ أجشَّ: «تقول … اسمع …»
قبل أن يُلملِم شتاتَ أفكاره، كان ريدر يَعبُر الطريق وينظر بعصبيةٍ يمْنةً ويسْرة، وهو يُمسك مِظلته في يده مُحكِمًا قبضته عليها.
قال السيد لومر: «أظن أنني مجنون.» وعاد بخُطًى بطيئةٍ إلى حيث ترك مُرشده القَلِق.
لم يتخلَّ عن كبريائه وقال باقتضاب: «كلَّا، مشى بعيدًا قبل أن ألمسه. تعالَ معي، سنتناول بعض المأكولات، إنها تقريبًا الثانيةَ ﻋﺸ…»
وضع يده في جيبه، ولكنه لم يجد ساعته! وسُرِقَت كذلك سلسلةُ ألبرت البلاتينية الغالية. يُمكن أن يكون مزاح السيد ريدر ثقيلًا في بعض الأحيان.
سأل مدير النيابة العامة الذي يرأس السيد جيه جي ريدر: «آرت لومر … هل يُوجَد ما يُدينه؟»
«لا يا سيدي، إنه ليس محلَّ الشكوى. لقد تمكَّنتُ من الحصول على ساعته، ولما رجعتُ إلى مَلفِّي الخاص، وجدتُها مسروقةً في كليفلاند عام ١٩٢١م؛ إنها مُقيَّدة في ملف الشرطة في ذلك التاريخ. فقط … امممم … وفي رأيي أنه من اللافت للنظر أن يُوجَد هذا الرجلُ في لندن في نهاية الموسم السياحي.»
زمَّ المدير شفَتَيه مُتشكِّكًا.
«اممم، أخبر الناس في سكوتلاند يارد. هذا العمل ليس من اختصاصنا. ما عملُه؟»
«إنه قائدُ فرقة عروضٍ مسرحية؛ أعتقد أن هذا عمله. ارتبط السيد لومر ذات مرة بشركة أعمال مسرحية، في منصب مُتواضع.»
سأل المدير مُتحيرًا: «هل تقصد أنه مُمثِّل؟»
«نعم يا سيدي، منتجٌ وليس مُمثِّل. سمعتُ عن فرقته المسرحية، على الرغم من أنني لم أسعَدْ برؤية عروضهم. مجموعة موهوبة.»
تنهَّد من أعماقه وهزَّ رأسه. ثم قال: «لا أفهمك تمامًا في مسألة فرقة العروض المسرحية. كيف حصلت على ساعته يا ريدر؟»
أومأ السيد ريدر. وقال بصوتٍ مُنخفض: «لم يكن الأمر سوى دعابةٍ من جانبي. مجرد دعابة.»
يعرف المديرُ السيد ريدر معرفةً جيدة جدًّا تمنعه من تتبُّع الموضوع.
كان لومر يعيش في فندق كالفورت في بلومزبري. شغل جَناحًا مُهمًّا، حيث كان في موقع رجل يسعى لاصطياد سمكةٍ كبيرة، ومن ثَم لم يكن ليأبهَ بتكلفة الطُّعم. ابتلعَت السمكة الكبيرة الطُّعمَ بسرعةٍ أكبرَ مما أمَّل آرت لومر. السمكة الكبيرة هي بيرتي كلود ستافن، ووصفُه بالسمكة الكبيرة ليس من فراغ؛ فهو شابٌّ فيه بعض صفات الأسماك مثل العين الباهتة والفمِ الذي لا ينغلق. حَظِيَ والد بيرتي بثروةٍ لا تحلم بها المُمثِّلات. عمل في صناعة الفَخَّار واشترى مَحْلج أقطان واتخذه عملًا إضافيًّا، وجنى أموالًا طائلة ولكنه لم يستأجر سيارةَ أجرة إذا كان بإمكانه ركوبُ الحافلة، ولم يركب الحافلةَ إذا كان بإمكانه المشي. وبتلك الطريقة، حافظ على صحة كبدِه (التي لم ينفكَّ عن الإشارة إليها) ولكنه سرَّع من تدهور حالة قلبه الصحية.
ورث بيرتي كلود من أبيه الوضاعة كما ورث أموالَه التي لم تُترَك للخدَم المُخلِصين ودُور رعاية الأيتام والجمعيات الخيرية من أجل تعزيز الحُب بين الناس، وهذا يعني أن بيرتي ورث كلَّ بنسٍ من أبيه تقريبًا. كان لديه ذقنٌ مُنحسِر وجبهةٌ مائلة تنمُّ عن عقل غيرِ ناضج، ولكنه يعلم أن الشلن يتكوَّن من اثنَي عشر بنسًا، وأن مائة سنتٍ تُساوي دولارًا واحدًا، وهذه المعلومات أكثرُ مما يكتسبها أبناءُ المليونيرات الوحيدون عادةً.
تحلَّى السيد ستافن بصفة لا يشكُّ فيها سوى القَليلين؛ ألا وهي هِبَة الأحلام الرومانسية. في الوقت الذي لم ينشغِل فيه السيد ستافن بخفضِ النفقات العامة أو تسريع الإنتاج، يُحب أن يجلس في هدوءٍ ويضع السيجارة بين شفتَيه ويُغلق عينَيه قليلًا ويتخيَّل نفسه في مواقفَ بطولية. وبذلك، يمكن أن يتخيَّل أنه قُدِّر له العثور على كهوفٍ مُظلمة مليئة بالصناديق المُغبرة المُمتلئة بالكنوز؛ أو يرى نفسه في كازينو دوفيل وأمامه أكوامٌ هائلة من الأوراق النقدية التي ربحها من الأثرياء اليونانيين أو الأرمن أو أي شخصٍ فاحش الثراء في الحقيقة. دارت معظم أحلامه حول الأموال بمبالغَ طائلةٍ من أجل تسديد رسوم نقل المِلكية على ممتلكات والده التي انتزعها منه المُحصِّلون ظلمًا. كان فاحشَ الثراء، ولكن ينبغي أن تَزيد ثروته؛ هكذا كانت نظرته.
عندما وصل بيرتي كلود إلى فندق كالفورد واصطُحِب إلى غرفة الاستقبال الخاصة بآرت، دخل إلى عالم الرومانسية المُسكِرة. تحتوي الغرفةُ على طاولة كبيرة في المنتصف مُغطَّاة بعيِّنات من الكوارتز من جميع درجات النَّقاء، وانتُشِلت هذه العيِّنات من منجمٍ اكتُشِف حديثًا على يد شقيق آرت غيرِ الحقيقي، ويقعُ هذا المنجمُ في مكانٍ لا يعرفه سوى رجُلَين؛ أحدهما هو آرت لومر والآخَر هو بيرتي كلود ستافن.
خلَع السيد ستافن معطفه الخفيف ومشى إلى الطاولة وفحص الكوارتز الخام باهتمامٍ بالغ.
قال: «لديَّ نتيجة الفحص. الرجل الذي أجرى الفحص صديقٌ لي ولم يأخُذ منِّي بنسًا واحدًا، وتقريره مُبشِّر … إنه مُبشر للغاية.»
استهلَّ آرت قائلًا: «الشركة …» ولكن السيد ستافن رفع إصبعه مُحذِّرًا.
«أعتقد أنك تعرف ولستَ بحاجةٍ إلى أن أُذكِّرك بأنني لن أُضارب بدولارٍ واحد في هذا المنجم. لن أدفع أيَّ أموال. ما سأفعله هو استغلال نفوذي للترويج للصفقة. هل تعرف ما أعني؟»
قال آرت: «شيء مقابل لا شيء!» وفي هذا الموقف لم يكن مخطئًا تمامًا.
«حسنًا، لن أدفعَ أموالًا في الشركة. ربما أتولَّى الإدارة في وقتٍ لاحق، عندما يتمُّ تحصيل الأموال وتسير الأمور بسلاسة. لن أُغامر باسمي من أجل … قدرٍ مجهول.»
وافق آرت.
وقال بارتياح: «وفَّر صديقي المال. لو امتلك هذا الرجل مائةَ دولارٍ أخرى، فسيُصبح لديه كلُّ المال في العالَم، إنه فاحشُ الثراء. من المنطقيِّ يا سيد ستافن أنني لن آتيَ إلى هنا وأحاولَ الحصولَ على الأموال من رجلٍ غريب ولا أعرفه البتَّة. لقد تقابَلنا في كندا؛ تقابلنا بالفعل! ولكن ما الذي تعرفه عني؟ ربما أكون محتالًا كبيرًا، ربما أكون نصَّابًا أو أي شيء!»
خطرت فكرةٌ من هذا القَبيل في عقل بيرتي كلود، ولكن صراحة صديقه بدَّدَت قدرًا من شكوكه.
تابع آرت وهو يُدخِّن سيجاره مُتأمِّلًا: «تساءلتُ كثيرًا ما الفكرة التي أخذتها عني وأنا أجلس بين تلك المجموعة من اللصوص. ولكن أُخمِّن أنك قلتَ لنفسك «هذا الرجل لديه خبرة حياتية ضخمة ويجب إشراكه.» وهذا صحيح. في معسكرات المناجم في كندا، اعلَم أنك تُزاحِم أناسًا شرِسِين في السوق، نعم يا سيدي. إنهم لا يعرفون الرحمة.»
على الرغم من أن بيرتي كلود لم يفهم الوضع، فإنه قال: «فهمتُ الوضعَ جيدًا. أنا متأكد من أنني أعرف الرجال. ولو لم يظهر ما جاء في كتاب «أنا إنسان» في تصرفاتي، فاعتبر أني فَشِلت في التعبير.»
قال السيد لومر مُتكاسلًا: «بالتأكيد!» ثم أضاف: «بالتأكيد!» كي يُشدِّد على الأُولى. «إنه كتابٌ جيد تمامًا. عندما أعطيتَني إيَّاه في فندق كينج إدوارد، ظننتُ أنه يتحدَّث عن الحساب. ولكن هذا شِعر رصين، يبدأ كلُّ سطرٍ بحرفٍ كبير وينتهي كلُّ سطرٍ بكلمة لها إيقاعُ السطرِ السابقِ نفسُه. قلتُ لسكرتيري: «لا بدَّ أن السيد ستافن رجل حادُّ الذكاء.» كيفية حصولك على هذه الأفكار تُذهلني. تلك الحكاية عن الأميرة التي خرجت من …»
سارع بيرتي للتوضيح: «محَّارة، كانت تُجسِّد اللؤلؤة. هل تعني حكاية «العذراء البيضاء»؟»
أومأ لومر مُتكاسلًا.
«كانت رائعة. لم أقرأ الشعر مُطلقًا حتى قرأتُ هذا الشعر؛ وجعلني أشعرُ بالرغبة في البكاء وكأني أحمق كبير! ولو كانت لديَّ مواهبك، لما تجوَّلتُ في أونتاريو مُنقبًا. كلَّا يا سيدي.»
قال السيد ستافن بعد تفكير: «إنها موهبة. قلتَ إنَّ لديك المالَ من أجل الشركة، أليس كذلك؟»
«أملك كلَّ سنت. لستُ في وضع يجعلني أُقدِّم لك أي سهمٍ في الشركة … هذه حقيقة. هذا لا يعني أن عليك أن تقلق بشأن ذلك. احتفظت ببعض الأموال من الإعلانات. كلَّا يا سيدي، لم أنوِ أن أجعلَك تدفع سِنْتًا واحدًا.»
نفَضَ الرَّماد من سيجارِه وقطَّب جبينه.
قال ببطء: «تعاملتَ معي بلُطف بالغ يا سيد ستافن، وعلى الرغم من أنني لستُ مُضطرًّا إلى إخبار كلِّ من أقابله عن أعمالي، فإنك شخصٌ نقيٌّ للغاية ومن ثَم أشعر بالثقة تجاهك. وهذا المنجم لا يعني شيئًا.»
رفع بيرتي كلود حاجبَيه.
قال: «لا أفهم قصدك تمامًا.»
ارتسمَتِ ابتسامةٌ مُتثاقلة وحزينة نوعًا ما على شفَتَي آرت.
«ألا يخطر ببالك أنني لو أمتلك رأس المال لهذا المشروع، فسيكون من الحماقة أن أقوم برحلة إلى أوروبا؟»
لا شك أن بيرتي تساءل عن سبب زيارته.
«بيعُ هذا المنجم أشبهُ ببيع سبائكَ من الذهب. لا يستدعي الأمر أيَّ إجراء؛ ربما تمكنتُ من بيعه لو كنتُ أعيش في غابة أماجاني. كلَّا يا سيدي، أنا هنا في عملٍ قد يجعل شعر رأسك يقفُ لو علمتَ ما هو.»
نهض فجأةً وذرَع الغرفة ذَهابًا وإيابًا والقلقُ بادٍ عليه وقطَّب حاجبَيه مُفكرًا.
قال فجأة: «أنت شاعر كبير. ربما يكون خيالك أوسعَ من الآخرين. ما الذي يعنيه المَنجمُ لي؟ حفْنة من مئات الآلاف من الدولارات أرباحًا.» هزَّ كتفَيه ثم استطرد: «ما الذي ستفعله يوم الأربعاء؟»
فوجئ بيرتي كلود من السؤال غير المُتوقَّع.
«في يوم الأربعاء؟ حسنًا، على حدِّ علمي، ليس هناك ما أفعله.»
عضَّ السيد لومر على شفتيه مُفكرًا.
«لديَّ منزل على ضفَّة النهر. تعالَ لزيارتي واقضِ تلك الليلةَ معي، وسأُعرِّفك سرًّا لن تتردَّد الجرائد في دفع مليون دولار كي تعرفه. ولو قرأته في كتاب، فما أنت بمُصدِّقه. ربما تكتب عنه يومًا ما. تحتاج صياغة هذه الحكاية إلى رجلٍ يتمتَّع بمثل خيالِك الخِصْب. انتظر، سأُخبرك به الآن.»
وبعد ذلك، سرد السيد لومر حكايته مُترددًا بعضَ الشيء.
«لا أعرف شيئًا عن السياسة وكلِّ ما يتعلق بها. تفجَّرَت ثورةٌ كبيرة في روسيا وحدثَت فيها أشياءُ غريبة. لستُ غبيًّا كي لا أعرف هذا. اهتمامي بروسيا حينَذاك لا يقلُّ عن اهتمامك ببيكتاون التابعة لمدينة ساسكاتشوان. ولكن منذ ستة أشهر، تواصَلْتُ مع رجلَين من روسيا. خرَجا من الولايات المتحدة في عجَلةٍ من أمرهما وكانت قواتُ الشرطة تُلاحِقهما، وصادفَ أنني كنتُ أمكث في مزرعةٍ بالقُرب من الحدود عندما وصَلا. ما الذي فعلاه في رأيك؟»
هزَّ السيد ستافن رأسه.
قال الآخر بهدوء ورَصانة: «يتجولان لبيع الزمرُّد.»
«الزمرُّد؟ يتجوَّلان لبيعه؟ ما معنى كلامك؛ يُحاولان بيع الزمرُّد؟»
أومأ آرت برأسه.
«نعم يا سيدي. يحمل أحدُهما حقيبةً ورقية مليئة بالزمرُّد، من جميع الأحجام. اشتريتُ الكثير مقابل اثنَي عشر ألف دولار وأخذتُها إلى تورنتو وبلغَت قيمتها هناك مبلغًا يقل عن مليون دولار بقليل.»
جلس بيرتي كلود يستمعُ فاغرًا فاه.
«أتى هذان الرجلان من موسكو. كانا يتجوَّلان ويبيعان المجوهرات منذ أربعة أعوام. أحدهما أمير مُتدهوِر الحال يعمل وكيلًا لأشخاصٍ مُهمِّين آخَرين، لم أُحاول التقصِّيَ عن الأمر لأنني بطبيعة الحال لستُ فُضوليًّا.»
انحنى إلى الأمام وربتَ على رُكبةِ الآخر للتأكيد على ما تفوَّه به.
«لم يبلغ الجزءُ الذي اشتريتُه واحدًا على عشرين من المخزون الذي لديهما. أرسلتهما مرةً أخرى إلى روسيا للحصول على باقي الكمية وسيصِلان إلى هنا الأسبوعَ المُقبل.»
قال بيرتي كلود لاهثًا: «عشرون مليون دولار! كم سيُكلفك الأمر؟»
«مليونَ دولار ومائتَي ألفِ جنيه. تعالَ إلى منزلي في مارلو وسأُريك أكبرَ زُمُرد في حياتك؛ كل ما تبقَّى لديَّ في حقيقة الأمر. بِعتُ أكبر جزءٍ إلى مليونير من بيتسبرج مقابل … حسنًا، لن أقول لك السعر لأنك ستعتقد أنني سرقته! وإذا أعجبَتك أيُّ زمردة تراها … حسنًا، سأبيعها لك، على الرغم من أنني لا أُريد أن أبيع. بطبيعة الحال، لا يُمكنني وضع هامش ربحٍ على صديق.»
استمع بيرتي كلود مشدوهًا وقتَ أن كان مُضيفه يسرد كنوزه ببساطةٍ وذكاء. لمَّا غادر السيد ستافن غرفة صديقه، كان رأسه يدور، على الرغم من أنه تَملَّكَه شعورٌ مُربك بأُلفة الموقف الذي طالما عاشه في أحلامه.
وبينما كان يسير في القاعة، رأى رجلًا في منتصف العمر يرتدي قبَّعةً لها تاجٌ مُسطح، ولكن بعيدًا عن ربطة عُنقه الجاهزة، وعن حذائه المُربَّع من عند الأصابع وعن مظهره الذي يُوحي بأنه موظَّف لدى مُحضر المحكمة، كان بيرتي كلود سيمرُّ به دون أن يُلاحظه، لولا أن الرجل العتيق الطراز وقفَ في طريقه.
«عذرًا يا سيدي، أنت السيد ستافن، أليس كذلك؟»
قال بيرتي باختصار: «نعم.»
«هلا منَحْتني بِضع دقائقَ من وقتك للتحدُّث في مسألةٍ لبعض الوقت؟»
لوَّح بيرتي بيده إشارةً على نفاد صبره.
وقال بأسلوب فظ: «ليس لديَّ الوقت كي أرى أحدًا. وإذا كنتَ تُريد موعدًا، فمن الأفضل أن تُقدِّم طلبًا مكتوبًا.»
وخرج بيرتي وترك الرجل ذا المظهر الحزين يُحملِق مفكرًا فيه.
كان منزل السيد لومر عبارةً عن منزلٍ حجَري صغير ذي طابقٍ واحد يقع بين مارلو وكواري وود، ولو جدَّ السيد لومر في البحث عن منزل، فلن يجد منزلًا يُناسِب أغراضه مثل هذا المنزل. يربط بيرتي كلود النهر بأشعَّة الشمس ووقت الاستجمام بالملابس المُريحة، ومن ثَم ارتعش لمَّا خرج من محطة السكة الحديد، ونظر قَلِقًا إلى السماء المُلبَّدة بالغيوم. كان المطر يهطل وزخَّات المطر تتساقط من فوق كلِّ جزء من سيارة الأجرة التي تنتظره خارج المحطة.
قال مُتذمِّرًا: «إنه شهر ذو طقس سيِّئ وليس مناسبًا لأخذِ منزلٍ على النهر.»
وافقَه السيد لومر الذي لم يكن مُتأكدًا في عقله من الشهر المثاليِّ لاستئجار منزلٍ على النهر.
وقال: «إنه يُناسِبني. يُوفر هذا المنزلُ العزلةَ التي تُناسبني. أكره أن يتطفَّل عليَّ الآخَرون.»
يسير الطريق من المحطة إلى المنزل مُوازيًا للنهر. نظر السيد ستافن من النوافذ التي تتدفَّق عليها مياه الأمطار ولم يرَ سوى المياه الرمادية والحشائش الرطبة في المروج التي يسير فيها الطريق. ولكن بعد السير بالسيارة لمدة ربع ساعة، وصلا إلى كوخٍ صغير جميل مُقام على حديقة زاخرة بالزهور. اشتعلَت النيران في مدفأة الصالة وساد جوٌّ من الراحة والهدوء في أرجاء المكان ممَّا أنعش معنويات بيرتي المُنخفضةَ. بعد بضع ثوانٍ، جلسا في غرفة طعام نِصفُها مُبطَّن بالخشب، حيث قُدِّمَ الشاي.
الجو العام له جاذبيةٌ غير مفهومة لدى معظم الناس، ومن ثَم وجَد بيرتي نفسه مُعجبًا بالدفء الذي يسود المكانَ والخدمةِ غير المُتوقَّعة؛ حيث كانت هناك خادمةٌ جميلة في الانتظار، وكبيرُ خدَمٍ هادئٌ في منتصف العمر، وشابٌّ بَشُوش الوجه يرتدي ملابسَ الخادم، وأخذ الشابُّ معطفَ بيرتي المُبتلَّ وجفَّف حذاءه قبل أن يدخُل إلى غرفة الطعام.
قال السيد لومر الذي لم يكن يكذِب أية كذبةٍ صغيرة غير ضرورية مُطلقًا؛ لأنه يسهل كشف الكذبة الصغيرة: «لا، المنزل ليس ملكي: ولكني أستأجِرُه وقتما أكون في لندن. وجينكينز — كبير الخدم — رَجُلي وكذلك الخادمة؛ أما الآخرون فاستأجرتُهم مع المنزل.»
بعد تناوُل الشاي، اصطحب بيرتي إلى غرفة نومه وفتح دُرجًا داخل دولابه وأخرج صندوقًا فولاذيًّا صغيرًا مُقفلًا بقفلَين. فتح القفلَين ورفع صينيَّةً معدنية مُسطَّحة مغطَّاة بطبقةٍ من الصوف القطني.
قال: «يُمكنك أخذ أيٍّ من هذه الأحجار التي تأسِر عينك. قدِّم عرضًا وسأُخبرك بقيمتها.»
أزاح طبقة الصوف القُطني وكشف عن ستَّة أحجارٍ كريمة رائعة.
أخرج السيد لومر أكبرَ حجرٍ بين إصبعَي السبَّابة والإبهام وقال: «ماذا تقول في هذا؟ إنه يُساوي ستة آلاف دولار، أي: ألفًا ومائتَي جُنيهٍ تقريبًا. ولو عرَضتَ عليَّ هذا المبلغ مقابِلَه، فسأظن أنك مُغفل لأنَّ الطريقة الآمنة الوحيدة للحصول على أحجار الزمرُّد هي شراؤها بخمسين في المائة أقلَّ من قيمتها. أظن أن هذا الحجر كلَّفني نحوَ — وأجرى عملية حسابية في عقله — تِسْعين جنيهًا.»
لمعَت عينا بيرتي. إنه يتمتَّع بخبرةٍ معقولة في أحجار الزمُرُّد ويعلم أنَّ هذه الأحجار أصلية.
سأل من دونِ اكتراث: «ألا تُريد أن تبيعَها مقابل تسعين جنيهًا؟»
هزَّ آرت لومر رأسه.
«كلَّا يا سيدي. عليَّ أن أجنيَ بعض الأرباح حتى من أصدقائي! سأبيعها لك مقابلَ مائة جنيه.»
أدخل بيرتي يده داخل جيبه.
«كلَّا، لا أريد الدفع الآن. على أية حال، ما الذي تعرفه عن أحجار الزمرُّد؟ ربما كانت مُزيفة بمهارة. خُذها إلى المدينة واعرِضْها على خبير …»
«سأُعطيك الشيك الآن.»
«في أي وقتٍ يُناسبك.»
لفَّ آرت الحجَر بحرصٍ ووضَعه في صندوقٍ صغير وسلَّمَه لرفيقه.
في طريق عودتهما إلى غرفة الطعام، شرح قائلًا: «لن أبيع غيرَ هذا الحجر.»
ذهب بيرتي إلى المكتب الصغير وكتب الشيك وقطعَه من الدفتر وسلَّمه إلى السيد لومر. ونظر آرت إلى الورقة وعبَس.
سأل: «عجبًا، ما الذي أفعله بهذا؟ ليس لديَّ حسابٌ في بنكٍ هنا. جميعُ أموالي في شركة أسوشييتد إكسبريس.»
قال بيرتي مُتفضِّلًا: «سأكتبه «الدفع لحامله».»
لا تزال الشكوك تُساور السيد لومر.
«أرجو أن تكتب رسالةً تُخبر الرئيس أو أيًّا مَن كان أن يصرف لي هذه الورقة الصغيرة. أنا أكره البنوك على أيَّةِ حال.»
كتب بيرتي كلود اللطيفُ الرسالةَ المطلوبة. عندما انتهى من الكتابة، انتقل إلى الحديث عن العمل لأنه رجلٌ عمَلي. «هل يُمكنني المشاركة في صفقة المجوهرات هذه؟»
هز آرت لومر رأسه مُترددًا وقال: «اعذُرني يا سيد ستافن، ولكن هذا مُستحيل تقريبًا. سأكون صريحًا معك لأقصى درجةٍ لأنني أُحب المعاملات الواضحة. عندما تدخل في تلك الصفقة، فأنت تطلُب منِّي أموالًا!»
أصدر بيرتي صوتًا خافتًا إشارةً على الاحتجاج.
«حسنًا، هذا أسلوبٌ وضيع لقول ذلك، ولكن المسألة مُتعلِّقة بموضوع الأموال ذاته. أنا مَن تحمَّلتُ المخاطرة. وكذلك نظمتُ تلك العملية وتكبَّدت أموالًا لإخراج هذا الرجل من روسيا؛ تذاكر الطيران والقطارات الخاصة وكل شيء. لا أحِبُّ أن أرفض طلبك لأنني أُحبك يا سيد ستافن. ربما إذا وقَعَت في يدي أيُّ قطعةٍ يُحتمَل أن تودَّ اقتناءها، فسأُعطيها لك بسعر معقول.»
فكَّر بيرتي لمدةِ دقيقة، وراح عقلُه يعمل.
سأل: «ما التكلفة التي تكبَّدتَها في تلك الصفقة حتى الآن؟»
هزَّ السيد لومر رأسه مرةً أخرى. «لا يُهم ما التكلفة التي تكبدتُها؛ لو عرضتَ عليَّ أربعة أضعافِ الأموال التي أنفقتُها في تلك الصفقة، وهذا مبلغٌ كبير، فلن أُشرِكَك فيها. يُمكنني المخاطرة وأمنحك فائدةً صغيرة، ولكني لن آخُذَ الأموال مقابل ذلك.»
لم يفقد بيرتي الأمل، ومن ثَم قال: «سنتحدَّث في تلك المسألة لاحقًا.»
توقَّف المطرُ وتساقطَت أشعَّة الشمس الذهبيةُ الباهتة فوق النهر، وبينما بيرتي يتمشَّى مع مُضيفه في الحديقة، سمع صوتًا خافتًا صادرًا من مُحرِّك طائرةٍ تمرُّ من فوقهما. والآن، يرى الطائرة تدور وتختفي خلف القمة السوداء لكواري وود. سمع الرجل الذي بجانبه يتعجَّب ولما استدار، رأى وجهَ آرت مُقطبًا إشارةً على الانزعاج والشك.
سأل: «ما الأمر؟»
قال آرت مُتثاقلًا: «إنني أتعجَّب. قالوا لي الأسبوعَ المقبل … أوه، كلَّا، أنا أحمق.»
حلَّ الظلام. وأضاء كبيرُ الخدم الأنوارَ وأغلق الستائرَ عندما دخَلا المنزل مرةً أخرى، ولم يصعُب على بيرتي إدراكُ أن شيئًا حدث أزعجَ مُضيفه إزعاجًا شديدًا. لم يتحدَّث كثيرًا، وفي نصف الساعة التالي، كان مُتحفظًا وهو يجلس أمام النيران يُحملق في ألْسِنة اللهَب المُتصاعدة ويجفل لدى سماع أيِّ صوت.
كان العَشاء خفيفًا وقُدِّم في وقتٍ مُبكر، وبينما كان الخدم يرفعون الطعام، دخل الرجلان إلى غرفة الصالون الصغيرة.
«ما المشكلة يا لومر؟»
قال الآخَرُ مُنزعجًا: «لا شيء، فقط …»
في تلك اللحظة، سَمِعا رنينَ الجرس، وتوتَّر آرت عندما سمعه. سمع أصوات المجادلات في الصالة ثم أتى الخادم.
قال: «يُوجَد رجلان وسيدة يُريدون رؤيتك يا سيدي.»
رأى بيرتي الآخر يعَضُّ على شفتَيه.
قال آرت بأسلوبٍ فظ: «أدخلهم.» بعد ثانية، دخَل إلى الغرفة رجلٌ طويل يرتدي معطفًا جلديًّا وخوذة طيار.
«مارشام! ماذا بحقِّ الجحيم …؟»
الفتاة التي تبعَته أسرَت انتباه بيرتي كلود على الفور. كانت الفتاة مَمشوقةَ القوام سمراءَ البشرة جميلةَ الوجه، على الرغم من امتقاع وجنتَيها والتعب الظاهر في عينَيها. أما الرجل الثاني فلم تكن له نفس الجاذبية: كان قصيرًا ويحمل ملامحَ أجنبية وله لحيةٌ قصيرة ويرتدي معطفًا قديمًا من الفرو يلفُّ به جسمه كلَّه حتى رقبته، ولا يرتدي شيئًا على رأسه ذي المظهر الشاذ.
أغلق آرت الباب.
سأل: «ما الدافع وراءَ هذه الزيارة؟»
قال الرجل الطويل بوجهٍ عابس: «وقعَت مشكلة. أتى للأمير عرضٌ آخَر. أرسل بعض البضاعة، ولكنه لن يُعطيَك اللؤلؤَ أو الماس حتى تدفعَ له نصف المبلغ الذي وعَدتَ به. هذه الأميرة بولين ديميتروف، ابنة الأمير.»
رمَق آرت الفتاةَ بنظرةٍ غاضبة.
قال: «انظري هنا أيتها الشابة، أظنُّ أنكِ تتحدَّثين الإنجليزية، أليس كذلك؟»
أومأت الفتاة.
«هذه ليست طريقةَ إتمام الأعمال في بلدنا. أبوك وعَدَ …»
قالت: «تعجَّل أبي كثيرًا. وخاض مُخاطرة كبيرة. في الحقيقة، لستُ متأكدة من مدى صِدقه في تلك المسألة. المسألة بسيطة للغاية، ادفع ما وعدتَ به. إذا دفعتَ أموالك الليلة …» كان حديثها بأقلِّ قدْر من اللكنة الأجنبية، مما استطرب أُذن بيرتي.
انفجر آرت: «الليلة؟ كيف يُمكنني الحصول على الأموال من أجله الليلة؟»
قالت الفتاة: «إنه في هولندا. والطائرة في انتظارنا.»
كرَّر الكَندي غاضبًا: «ولكن كيف يُمكنني الحصول على المال الليلة؟ هل تظنُّون أني أحمل مائة ألف جنيه في جيبي الذي أحمل فيه مُسدَّسي؟»
هزَّت كتفَيها مرة أخرى، واستدارت إلى الرجل القصير الأشعث، وقالت له شيئًا بلُغة لا يفهمها السيد ستافن. ردَّ بصوتٍ أجش، ثم أومأت الفتاة.
«يقول بيتر إن أبي سيقبَل شيكًا منك. إنه يريد فقط التأكُّد من أنه لا يُوجَد …» ثم توقفَت للبحث في رأسها عن كلمة بالإنجليزية.
سأل آرت بأسلوبٍ فظ: «هل خدَعْتِ والدك من قبل؟ لا يُمكنني أن أُعطيَك الأموال ولا الشيك. يُمكنك إلغاء الصفقة، هذا آخر كلام عندي!»
في ذلك الوقت، كان الطيار قد فتح العبوة التي يحملها تحت إبْطِه ووضعها على الطاولة، فذُهِل بيرتي كلود من مرأى الأحجار الكريمة تتلألأ أمام عينيه. كانت هناك ماسات مصقولة وغير مصقولة، وقطع مجوهرات قديمة وفاتنة لا بدَّ أنها من موروثات العائلات القديمة؛ ولكن لم يخطر بباله قيمتُها التاريخية في ذلك الوقت. أشار إلى آرت أن يأخذا جنبًا.
قال بصوتٍ منخفض: «إذا استطعتَ أن تُبقيَ على هؤلاء هنا الليلة، فسأتعهَّد بجمع الأموال التي تُريدها في هذه الصفقة وحدي.»
هزَّ آرت رأسه.
وقال: «لا فائدة من ذلك يا سيد ستافن. أنا أعرف هذا الرجل. إذا لم أُرسِل له الأموال الليلة، فلن نَشَمَّ رائحة تلك البضاعة.»
صفَّق بيدَيه فجأة.
تنفس قائلًا: «نعم! يا لها من فكرة رائعة! أنت لديك دفتر شيكاتك.»
لمع شكٌّ مُريب في عينَي بيرتي كلود.
قال: «بالتأكيد معي دفتر الشيكات، ولكن …»
«تعالَ إلى غرفة الطعام.» كاد آرت أن يسبقه، وعندما دخلا إلى الغرفة أغلقَ الباب. قال وهو يتحدَّث بسرعة: «لا يُمكن تقديم الشيك لمدة يومَين أو ثلاثة. بالتأكيد لن يُقدِّمه غدًا. بحلول ذلك الوقت، يُمكننا توصيل هذه البضاعة إلى المدينة لحفظِها لدى البنك؛ ومِن ثَم يُمكنك الاحتفاظ بها حتى أستردَّها. إضافة إلى ذلك، يُمكنك إيقافُ صرف الشيك صباحَ الغد إذا لم تكن الأحجار تستحقُّ الأموال.»
نظر بيرتي إلى المسألة من عدة زوايا مختلفة في بضعِ ثوانٍ.
قال: «أليس من الأفضل أن نُعطيَهم شيكًا بتاريخ مؤجَّل؟»
«بتاريخ مؤجَّل؟» تحيَّر السيد لومر. «ما الذي يعنيه ذلك؟» لمَّا شرح بيرتي، أشرق وجهه. قال: «ولِمَ لا؟ بالتأكيد! هذه وسيلة حماية مزدوجة. اكتب تاريخ استحقاقه بتاريخ بعد غد.»
لم يتردَّد بيرتي أكثرَ من ذلك. جلس على الطاولة وأخرج دفتر الشيكات وقلَم حبر، وتحقَّق من التاريخ.
عندما توقَّف عن الكتابة، اقترح آرت: «اكتبه «لحامله» مثل الشيك الآخَر.»
أومأ بيرتي وأضاف توقيعه المُميز برسم خطٍّ تحته.
«انتظر لحظة.»
خرج آرت من الغرفة وعاد في غضون دقيقة.
قال مُبتهجًا: «لقد أخَذوه!» ربَّت على كتف الشاب المُبتهِج: «يا رجل، لم أرضَ أن تدخل في تلك الصفقة في البداية، ولكنك شريكٌ فيها الآن. سنتقاسَم الأرباح مُناصَفة، أنا لستُ طماعًا. تعالَ معي، سأُريك شيئًا آخر ما كان في خاطري أن أُريَه لأيِّ شخص.»
خرج إلى المَمرِّ وفتح بابًا صغيرًا يؤدي إلى سُلَّمٍ حجري ينزل إلى القَبْو، وأضاء المصباح وهو ينزل على الدرَج. فتح قفل الباب الثقيل وفتح الباب.
وقال: «انظر هنا، هل رأيتَ شيئًا كهذا في حياتك؟»
حملق بيرتي كلود في الظلام داخل القبو.
استهلَّ قائلًا: «أنا لا أرى …» وعندها دُفِع بعنف إلى الظلام حتى إنه تعثَّر وسقط أرضًا.
أُغلِق عليه الباب في ثوانٍ وسمِع طقطقةَ القفل وصرخ قائلًا: «يا هذا، ما الذي يحدث!»
قال السيد لومر ساخرًا: «يا هذا، ستعرِف في غضون يومٍ أو يومَين.»
أغلق آرت الباب الثانيَ وصعد السُّلَّم بخفة، وانضمَّ إلى الخادم وكبيرِ الخدم والخادمة الجميلة والزائرين الثلاثة في غرفة الصالون.
«إنه بالداخل الآن. وسيظل هنا حتى يأتيَ ميعاد صرفِ الشيك … لديه طعام وشراب في القبو يكفيه لمدة أسبوع.»
سأل الروسيُّ ذو اللحية: «هل أقنعتَه؟»
قال الآخر بازدراء: «أقنعتُه! كان ساذَجًا. والآن، عليكم الهروب بسرعة الآن أيها الشباب والفتيات! حصلتُ على خطابٍ من هذا الرجل إلى مدير البنك يُخبره …» ونظر في الخطاب وقرأ: «صرف الشيك المُرفَق لصديقي السيد آرثر لومر.»
بدأ الحديث بين أفراد فرقة العروض المسرحية إشارةً على الموافقة.
«عادت الطائرة، أليس كذلك؟»
أومأ الرجلُ الذي يرتدي المعطفَ الجلدي.
قال: «نعم، استأجرتُها للمساء فقط.»
«حسنًا، يُمكنك العودة أيضًا. راي وآل، ارجعا إلى باريس وخُذا قاربَ سي بي من هافر. سليكي، تخلَّص من تلك الشعيرات وغادر ليفربول مُستقيمًا. ستُسافر بولين وأجي إلى جنوة، وسنتقابل في ليوني في الرابع عشر من الشهر القادم ونُقسِّم البضاعة بيننا!»
بعد يومين، ذهب السيد آرت لومر إلى مكاتب البنك الشمالي التجاري الأنيقة وطلب مقابلةً مع المدير. قرأ المديرُ الخطاب وتفحَّص الشيك ثم ضربَ الجرس.
قال السيد لومر بصوتٍ مندهش تقريبًا: «إنه مبلغ كبير للغاية.»
ابتسَم المدير. وقال: «إننا نصرف شيكاتٍ كبيرةً للغاية هنا.» ثم قال للمُوظَّف الذي أتى بِناءً على إشارة منه: «يودُّ السيد لومر أكبر قدْر ممكن من هذا المبلغ بالعملة الأمريكية. كيف هو حال السيد ستافن؟»
قال لومر: «أوه، سافرتُ أنا وبيرتي إلى باريس بخصوص شركتي الخاصة تلك. يا إلهي! يصعب تمويل الصناعات الكندية في هذا البلد يا سيد سومز، ولكننا عقَدْنا صفقة رائعةً للغاية في باريس.»
تحدَّث في موضوعات تِجارية بحتة حتى عاد الموظف ووضع كومةً من الأوراق التجارية والأوراق النقدية على الطاولة. أخرج السيد لومر محفظةً ووضع فيها الأموال جيدًا، وتصافح مع المدير وخرج إلى المكتب العام. ثم توقَّف لأن السيد جيه جي ريدر كان يعترِض طريقه مباشرة.
«يوم الدفع للفرقة يا سيد لومر، أم نُسمِّيها «الخزينة»؟ حصيلتي اللُّغوية المسرحية ضعيفة نوعًا ما.»
تلعثَم آرت: «السيد ريدر؛ سعدتُ برؤيتك، ولكنني مشغول الآن …»
سأل ريدر مُتلهفًا: «ما الذي تظنُّ أنه حدث لصديقنا العزيز السيد بيرتي كلود ستافن؟»
«حسنًا، إنه في باريس.»
همهم ريدر: «هل لَحِق أن يصل إلى هناك! أخرجَته الشرطة من قبو منزلِك في الضاحية منذ ساعة! ما أروعَ الأنظمة الحديثة في النقل والمواصلات! مارلو في دقيقة، وباريس الدقيقة التالية، وموسكو، لِنَقُل إنها التالية.»
لم يتردَّد آرت بعد ذلك. دفع المُحقِّقَ جانبًا واندفع وتجاوزه وأسرع إلى الباب. كان في حالةِ هياج شديدة لدرجة أن الرجُلَين اللذَين كانا في انتظاره واجَها صعوبةً بالِغة في وضع الأصفاد في مِعصَمَيه.
قال السيد ريدر لرئيسه: «نعم يا سيدي، دائمًا ما يُسافر آرت مع فرقته. أثار اختفاءُ الفرقة شكوكًا كبيرةً بداخلي وبالطبع وضعتُ المنزلَ تحت المراقبة منذ اختفاء السيد ستافن.» قال مُعتذرًا: «بالطبع هذا ليس من عملي وفي الحقيقة ما كان لي أن أتدخَّل. لكن كما شرحتُ لك سابقًا، المسألة تتعلَّق بعقلي الغريب …»