القصة الخامسة: ميلودراما بحتة
السيد ريدر هو الذي وضع خُطة مداهمةِ وَكْر تزوير الأموال التابع لتومي فينالو وأعدَّ جميع التفاصيل باستثناء تكوين قوة المُداهمة. يقع الوكر في جولدرز جرين حيث يأتي إليه الوُكلاء المَوثوقون من أجل شراء أوراق النقد مقابل سبعة جنيهات إسترلينية وعشر شلنات لكلِّ مائة جنيه إسترليني، أو سبعين جنيهًا إسترلينيًّا لكل ألف. لا يُعرَف الفرق بين العُملة التي يُزوِّرها تومي والعُملة المُعتمَدة والمطبوعة لخِزانة صاحبة الجلالة. كانت درجات اللونَين البُنيِّ والأخضر متطابقةً مع العملات الأصلية، وكذلك الأرقام متطابقة مع السلاسل الصادرة؛ وكانت الأوراق مُتماثلة. كانت تُطبَع في ألمانيا مقابل ثلاثة جنيهات إسترلينية لكل ألف، وجمع تومي أرباحًا بالآلاف.
اكتشف السيد ريدر كلَّ شيءٍ عن وكر تومي في وقت فراغه، وقدَّم تقريرًا بالأمر إلى رئيسه وهو النائب العام. المسافة مِن وايتهول إلى شرطة سكوتلاند يارد دقيقتان سيرًا على الأقدام، وانتقلت المعلومات في تلك المدة.
أمره الرئيس: «خذ المُفتش جرياش معك وتولَّ الإشراف على المداهمة.»
ترك المُفتش يُعد كلَّ الترتيبات، ومن بين الذين عَلِموا بالمداهمة المُخطَّط لها، مُحقق جمع أموالًا من علاقاتٍ مشبوهة أكثرَ مما جمع من الحكومة. هذا الضابط «أفشى سر» المداهمة لتومي، وعندما وصل السيد ريدر ورجاله الشجعان إلى جولدرز جرين، وجَدوا تومي وثلاثةً من أصدقائه يلعبون لعبةَ جسر المزايدة في هدوء، ولم يجدوا سوى أوراقِ نقدٍ قديمة وأصلية.
لمَّا وصلوا إلى الشارع، تنهَّد جيه جي قائلًا: «يا للأسف، يا لغاية الأسف. بالطبع لم يكن لديَّ أدنى فكرة عن أن المُحقِّق ويلشور من ضمن القوة. إنه … اممم … ليس مُخلصًا تمامًا.»
سأل الضابط مصدومًا: «ويلشور؟ هل تقصد أنه «أفشى سر» المداهمة لتومي؟»
حكَّ السيد ريدر أنفه وقال بلطفٍ إنه يعتقد ذلك.
«إنه يُحقق دخلًا كبيرًا من عدة مصادر؛ بالمناسبة، لديه حسابٌ في بنك مديلاند آند دربيشاير، والحساب مكتوب باسم زوجته قبل الزواج. أخبرك هذا في حالة … اممم … قد يُفيدك أن تعرف.»
أفادت كلماته في سرعة طرد ويلشور غير المُخلص من القوة، ولكنها لم تكفِ للإمساك بتومي إذ كانت آخِرَ كلماته:
«أنت ذكي يا ريدر، ولكن يجب أن تكون محظوظًا كي تُمسِك بي!»
اعتاد تومي على تَكْرار هذه العبارة لكل مَن يُهمه أمره. كان لقاءً يستحق أن يفخر به لأنه قلَّما يُواجِه المتعاملون في الأوراق المالية المُزيفة السيد جيه جي ثم يفلتون بجريمتهم.
«يستحق الأمر ألف جنيه؛ بل عشرة آلاف! لو بيدي، لدفعت هذا المال كي أجعل جيه جي يبدو أحمق، على أية حال، هذا الكلب العجوز! أظن أن شرطة سكوتلاند يارد ستُفكر أكثرَ من مرة قبل أن تُداهِمني مرة أخرى، وهذه ضربة حقيقية لفكرة المداهمة. جيه جي اسمه جوناه في المقرِّ الرئيسي، ولو كان الأمر بيدي، لجعلت اسمَه في الوحل!»
روى السيد فينالو هذه القصة تحديدًا للسيد راس لال بونجابي — ضيف شريف (ويدفع جيدًا) — وقد أسفرَت عن نتائجَ مُثيرةٍ للفضول.
النبيذ الجيد مَذاقه أفضل في بلده، ويُمكن للرجل أن يشرب برميلًا من النبيذ الإسباني في خيريز دي لا فرونتينا ولا يتعب، ولكن إذا حاول شربَ زجاجةٍ من هذا النبيذ في شارع فليت، فسيُلِمُّ به تعبٌ شديد. وكذلك تحتفظ السجائر المصرية بأفضلِ توليفة لها عندما تُدخَّن في رَدْهة أيِّ فندق في القاهرة.
الجريمة كذلك لها خصائصُها التي لا تحتمل الانتقال من بلدٍ إلى آخر. فسارق الخِزَن في أمريكا لا تنتعش صَنعته في فرنسا إلا إذا تسلَّح بالمعرفة عن الطرق الأوروبية وكرَّس نفسه لإتقانها. وبإمكان اللصِّ الأوروبي أن يجنيَ دخلًا جيدًا في البلدان الشرقية، ولكن لا يُوجَد مشهدٌ في العالم أصعبُ على النفس من العقل الشرقي الذي يسعى جاهدًا للتكيُّف مع تعقيدات وسائل المكر الأوروبية.
يحظى راس لال بونجابي بسُمعة بين دوائر الشرطة الهندية بصفته أذكى مجرمٍ عرَفَته الهند. قضى راس لال مدة قصيرة في سجن بونا ولم يدخل أيَّ سجنٍ آخَر في حياته، واشتُهر بذلك في أوساط دوائر الشرطة الهندية؛ وفي فترة سجنه القصيرة، أُقيمت صلواتٌ من أجل خَلاصه في معابدَ بعينها وعُقِد الاتفاق على أنه لم يكن ليُدان على الإطلاق، لولا أن مُفوَّض الشرطة الأوروبي أقسمَ على ذلك بأغلظِ الأيمان، ومن المعروف أن كل السادة البِيض في الهند يُؤازر أحدُهم الآخَر، ومن ثَم ألقاه في السجن قاضٍ أوروبي.
مارس جميع أنواع الجرائم، إلا أنه كان يميل إلى سرقات المجوهرات. رجل ذو مظهر مُهندَم بل وحتى نبيل، له شعرٌ أسود ولامع ومفروق من الجنب ومُتموِّج فوق جبهته وكأنه مَوجةٌ سوداء، وكان يتحدَّث الإنجليزية والهندية والتاميلية بطلاقة، ولديه معرفةٌ سطحية بالقانون (مكتوب على بطاقات زياراته عبارة «ساقط بكالوريوس قانون») ولكن لديه معرفة تامَّة بعِلم الأحجار الثمينة.
في الفترة القصيرة التي قضاها السيد راس لاس بونجابي في سجن بونا، تزوَّج مفوضُ الشرطة الأوروبي الأبيض، الذي كان اسمه غيرُ العاطفي سميث، بفتاةٍ ليست جميلةً تتمتع بثراء فاحش. علم سميث أن الجمال الظاهري زائلٌ وأنَّ لها قلبًا طيبًا، والمعلوم أن طِيبة القلب مُقدَّمة على الزينة الخارجية. وفي الواقع كانا حبيبَين مُتماثلين. كان والدها يمتلك مطاحن جوت في كالكوتا؛ وفي المناسبات الاحتفالية مثل احتفال الحاكم العام، اعتادت أن تتزيَّن بعدة آلاف من الروبيات؛ ولكن حتى الأغنياء يُحَبُّون لشخصهم فقط.
حُكِم على راس لال بالسجن بسبب عدم نجاحه في محاولةٍ لسرقة عِقدَين من اللؤلؤ تمتلكهما السيدة محلُّ الحديث، ولمَّا خرج من السجن وعلم أن المفوض سميث تزوَّج من الفتاة المتألقة وأنه ذهب إلى إنجلترا، بات من الطبيعي تمامًا أن يُوجِّه الكراهية والمرارة من المُفوض سميث إلى أسباب شخصية بحتة، ومن ثَم أقسم على الانتقام.
وفي الهند الآن، أصبحت أعمالُ الخدم من أعمال أسيادهم. عمليات التقصِّي الأولية التي يُنفِق عليها سارق المجوهرات الإنجليزي أو الأمريكي ثروة صغيرة، أصبحت تُجرى مقابل بضعة آنات (عملة هندية قديمة). عندما أتى راس لال إلى إنجلترا، وجد أنه غفل عن تلك الحقيقة البالغةِ الأهمية.
غادر المفوض سميث وزوجته المدينة؛ في الواقع كانا في طريقهما عبر البحار إلى نيويورك وقتما أُلقي القبض على راس لال بتهمته التقليدية «كونه مُشتبَهًا به». تتبع راس خادم سميث ولمَّا أغراه بالشراب، أغرقه بالأموال كي يُفشيَ سر المكان الذي تحتفظ فيه زوجة المفوض بمجوهراتها سواء كان المكان خزانة أو دُرجًا أو صندوقًا أو حتى علبة مجوهرات. وكان مُبرره لطرح السؤال هو أنه راهن أخاه على أن تلك المجوهرات محفوظة تحت سرير زوجة المفوض، وهو مُبرر كشفَ عن عجزٍ كبير في ملَكته الإبداعية. ولمَّا كان الخادم رجلًا مُخلصًا، رغم أنه يشرب الجِعَة، فقد أخبر الشرطة؛ لذا أُلقي القبض على راس لال وصديقه والمساعد رام ومَثَلوا أمام القاضي وأوشك القاضي أن يُخلي سبيلهم لولا اطلاعُ السيد جيه جي ريدر على القضية وتقديمِه وقائعَ غايةً في الأهمية من مِلفاته الخاصة عن الماضي الأسود للرجل. ولذلك حُكِم على السيد راس لال بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة ستة أشهُر، ولكن الشيء الذي جنَّ جنونه بسببه هو أن قصة فشله الذريع انتشرت كالنار في الهشيم في أرجاء الهند، وهذا ما توقَّعه.
تشتَّت بسبب هذه الفكرة في زنزانته الانفرادية في سجن وورموود سكرابس. كيف ستُفكر فيه الهند؟ سيُصبح محلَّ استهزاء في الأسواق، «محل استهزاء أصحاب القدرات الضئيلة» على حدِّ تعبيره. لذا حوَّل كراهيته من المُفوض سميث إلى السيد جيه جي ريدر. وكان كرهه حقيقيًّا للغاية، وقد زادت حقيقيَّته بسبب تفاهة هذا الصاحب ريدر وقلَّة قيمته؛ إذ إنه شبَّهَه بالبقرة العجوز والثعلب المكَّار وأشياء أخرى يصعُب التعبير عنها. ظلَّ مدة الأشهر الستة التي قضاها في السجن يُفكر في محاولات انتقامٍ يائسة وجادة.
لمَّا خرج من السجن، قرَّر أن الوقت لم يَحِن بعدُ للعودة إلى الهند. أراد أن يتعرَّف على السيد جيه جي ريدر وعاداته عن قُرب، ولمَّا كانت الأموال معه لا حصر لها، استطاع أن يُوفر الوقت، وأيضًا استطاع أن يمزج بين العمل والمُتعة.
استطاع السيد تومي فينالو أن يتواصَل مع الرجل الآتي من الشرق أثناء وجوده في سجن وورموود سكرابس، كما أن سيارة الليموزين الأنيقةَ التي انتظرت راس لال أمام بوابات السجن وقت خروجه استأجرها تومي وانتظره فيها، رجل أعمال ذكي عرَض عليه من قبل مسئولُ الطباعة الألماني خطًّا جديدًا من الأوراق النقدية الهندية من فئة المائة روبية التي من السهل أن تتطوَّر إلى خط أعمال ثانوي يُدِرُّ رِبحًا عظيمًا.
قال تومي المتعاطف: «سوف تأتي وتُقيم على حسابي يا رجل.» يتصف تومي بقِصَر القامة والبدانة، وله عينان مُنتفختان مثل عيون كلب البج. ثم أردف: «لقد عاملك ريدر العجوز معاملةً سيئة، وسأقول لك طريقةً للانتقام منه، ولا تُوجَد خطورة في تلك الطريقة، وأرباحها تسعون في المائة. اسمع، صديق لي …»
مَن يبيع الأوراق المالية المُزوَّرة ليس تومي؛ بل دائمًا مَن يبيع الأوراق النقدية المزوَّرة «صديق» غامض.
سكن راس في شقة مفروشة في مُربع سكني يمتلكه السيد فينالو؛ فقد كان رجلًا فاحشَ الثراء في الحقيقة. بعد بضعة أسابيع، عبَر تومي شارع سانت جيمس كي يقطع الطريق على عدوِّه القديم.
«صباح الخير يا سيد ريدر.»
توقف السيد جيه جي ريدر واستدار للخلف.
باعتناءٍ كريم يليق بصاحب المعطف المشقوق الذيل والحذاء المُربع من عند الأصابع، قال: «صباح الخير يا سيد فينالو. أنا سعيد أنك خرجتَ من السجن مرة أخرى، وأنا واثق من أنك ستبحث الآن … اممم … عن طرُقٍ مشروعة تُمارِس فيها مواهبَك التي لا أشكُّ فيها.»
استشاط تومي غضبًا.
«لم أدخل إلى «السجن»، وأنت تعرف هذا يا ريدر! ولم يكن ذلك نتيجةَ توقُّفِك عن محاولة الإمساك بي. ولكن يجب أن تتحلَّى بما هو أكبرُ من الذكاء كي تُمسِك بي؛ يجب أن يُحالفك الحظ! هذا لا يعني بالطبع أن هناك ما يُدينني كي تُمسِك بي؛ لم أرتكب احتيالًا في حياتي، وأنت تعرف هذا جيدًا.»
انزعج انزعاجًا شديدًا لدرجة أنه نسي تبادُل عبارات الملاطفة التي خطط لها.
التقى مع راس لال وابتهج من المُقابلة أيَّما ابتهاج. وتوجَّه السيد راس لال في تلك الليلة إلى موعدٍ عُقِد في مكانٍ لم يرتَحْ له وهناك قابلَ صديقه الجديد.
قال تومي مُتحمسًا: «هذا آخر مكان في العالَم قد يُفكر فيه ريدر العجوز، ولو فعل فلن يعثُر على شيء. قبل أن يدخل إلى المبنى، ستختفي البضاعة عن الأنظار.»
قال راس لال: «إنه موطن للراحة القُصوى.»
قال تومي مُنتشيًا: «إنه لك يا فتى. لا أحتفظ بهذا المكان إلا من أجل إدخال البضاعة وإخراجها. لا تبقى البضاعة هنا لمدة ساعةٍ حتى، ويبقى المخزن فارغًا لبقية الوقت. كما أقول دومًا؛ ريدر العجوز يجب أن يكون لديه ما هو أكثرُ من الدهاء، يجب أن يُحالفه الحظ!»
وقت الفراق، سلَّم لعميله مِفتاحًا، ومع إعطائه هذه الأداةَ الضرورية، تفوَّه ببعض الكلمات التي تجمع بين النصيحة والتحذير.
«لا تأتِ إلى هذا المكان إلا في وقتٍ متأخر. تمرُّ دورية الشرطة من نهاية الطريق في الساعة العاشرة والواحدة والرابعة. متى ستُغادر إلى الهند؟»
قال راس: «في الثالث والعشرين، وقبل رحيلي، لا بدَّ أن أنتقمَ من هذا النَّذل ريدر.»
قال تومي: «لا أحبُّ أن أكون في مكانه.» كان بإمكان تومي أن يتملَّق؛ إذ يمتلك في جيبه ما يساوي مائتي جنيه من المال الحقيقي دفعها راس مُقدمًا مقابل مبلغٍ أكبرَ من الأموال غير الحقيقية.
مرَّت بضعة أيام، ثم ذهب راس لال إلى مسرح أورفيوم، ولم تكن مصادفةً أن يذهب في الليلة ذاتِها التي يُرافق فيها السيد ريدر سيدةً جميلة إلى مكان التنزُّه ذاتِه.
عندما يذهب السيد جيه جي ريدر إلى المسرح (ويتوقف ذَهابُه بالكامل على تلقِّيه تذكرةً مجانية)، فدائمًا ما يختار الأعمال الميلودرامية، ويُفضِّل أن تكون إحدى أعمال دروري لين؛ لأنه بجانب خطابات المُمثلين الحماسية، تُضاف أحداث تحطيم قطارات السكك الحديدية والسفن التي يَشيب لها الشعر، وسباقاتُ الخيل الضخمة التي يفوز فيها البطل المُفضَّل بفارقٍ ضئيل. ربما يبدو من المُستبعَد جدًّا أن تُثير هذه الأعمال نُقَّاد الدراما — لا سيما الأعمال التي يفوز فيها الأبطالُ المُفضَّلون — لكن السيد ريدر يرى الواقعية في كل هذه العروض.
جلس ذات مرة كي يُشاهد مسرحيةً هزلية صاخبة، وكان الرجل الوحيد الذي جلس في المسرح ولم يضحك. في الواقع، بات مصدرَ تأثيرٍ مُحبِط لدرجة أن المُمثلة بطلةَ العرض قدمت طلبًا انفعاليًّا إلى المدير بأن يُعيد ثمن التذكرة لهذا «العجوز البائس الجالس في منتصف الصفِّ الأول» وأن يطلب منه مغادرة المسرح. ولأن السيد ريدر دخل بتذكرةٍ مجَّانية، فقد وضع المدير في مأزقٍ حرج للغاية.
ما فتئ يذهب بدون رُفقاء، مرَّ اثنان وخمسون عامًا من دون أن تدخل الرومانسية أو الذوبان عشقًا الذي يولِّد الأحلام إلى حياته. بطريقةٍ ما، تعرَّف السيد ريدر على فتاةٍ ليست كأيِّ فتاة سبق أن تعامَل معها السيد ريدر. اسمها بيلمان — مارجريت بيلمان — سبق أن أنقذ حياتها على الرغم من أن هذه الواقعة لم تلمَعْ في ذاكرته كثيرًا مثل واقعة أنه عرَّض حياتها للخطر قبل أن يُنقِذها. كذلك كان يتملَّكه شعورٌ بالذنب لسببٍ آخرَ تمامًا.
كان يُفكر فيها يومًا ما؛ قضى حياته يُفكر في الناس، على الرغم من أن غالبية هؤلاء الناس لم يرتَقوا إلى احترام الآنسة مارجريت بيلمان. ظنَّ أنها ستتزوَّج الشابَّ ذا المظهر الأنيق الذي اعتاد أن يُقابل عربة الشارع التي ترتادُها عند ناصية الجسر كلَّ صباح ويعود معها إلى طريق لويشام السريع كلَّ مساء. سيكون حفلَ زفافٍ لطيفًا للغاية، حيث تتوافر فيه السيارات المُستأجرة ويُؤدي القسُّ طقوسَ الزواج بنفسه ويُحضر الطاهي المحلي إفطارَ حفل الزفاف، وبعدها تُلتقَط الصور الفوتوغرافية للعريس والعروس على المرج مُحاطين بأقاربهم السعداء غير الجذابين. بعد ذلك، تُقِلُّهم سيارة مُستأجرة خِصِّيصى إلى إيستبورن لقضاء شهر عسل بتكلفة عالية. وبعد انقضاء كلِّ تلك الأحداث الرتيبة، ينهضان ويخرجان من مسكنهما المُترَف إلى سيارتهما الصغيرة ليُشاهدا مباريات التنس يوم السبت بعد الظهيرة.
تنهَّد السيد ريدر من أعماقه. كم كانت الدراما المسرحية مُرضيةً، حيث تبدأ كلُّ المشاكل في الفصل الأول وتُحَل بطريقةٍ مُرضية في الفصل الأخير. تلمَّس بأصابعه شاردًا قُصاصتَين من الورق الأخضر أتَتَا إليه في ذلك الصباح. الصف أ، المقعدان ١٧ و١٨. التذكرتان أرسلهما مدير يدِين له ببعض الامتنان. المكان هو مسرح أورفيوم، موطن الدراما العالمية، والمسرحية هي «نيران الانتقام». يبدو أنها أمسيةٌ رائعة.
أخذ مظروفًا من على الرفِّ ووجهه إلى شباك التذاكر وبدأ في كتابة الخطاب المُرفق لإرجاع التذكرة الزائدة، وعندئذٍ خطرَت له فكرة. إنه يدين للآنسة مارجريت بيلمان بشيءٍ ما، ولا يرتاح له بالٌ بسبب هذا الدَّين. لقد وصفها ذات مرة، لأسباب تتعلق بالأصوبية، بأنها زوجته. ادَّعى هذا الادعاءَ المُستحيل استرضاءً لامرأة مجنونة، هذا صحيح، ولكنه تذرَّع به. إنها تَشغَل منصبًا مرموقًا الآن؛ إذ تَشغل منصبَ الأمين لدى أحد المقرَّات السياسية، ويرجع الفضلُ في الحصول على تلك الوظيفة إلى السيد جيه جي ريدر، ولكنها لا تعلم ذلك.
أخذ الهاتفَ واتصل على رقمها وبعد تأخُّر الرد لمدةٍ طبيعية، سمع صوتها.
سعَل السيد ريدر: «اممم … الآنسة بيلمان، لديَّ … اممم … تذكرتان للمسرح الليلة. وأتساءل عما إذا كنتِ تهتمِّين بالذَّهاب؟»
كادت دهشتُها أن تُسمَع.
«هذا لطفٌ كبير منك يا سيد ريدر. بالطبع أحبُّ أن آتيَ معك.»
شحب لون السيد جيه جي ريدر.
«ما أعنيه هو، معي تذكرتان؛ ظننتُ أنه ربما … اممم … يحبُّ شخصٌ آخرُ أن يذهب … ما قصدتُه هو …»
سمع ضحكةً لطيفة على الطرف الآخر من الهاتف.
قالت: «ما قصدتَه هو أنك لا ترغب في اصطحابي.» وبالنسبة إلى رجل في خبرته، فقد تخبَّط في الحديث كثيرًا.
قال مُرتعبًا من أن يُسيء إليها: «يجب أن أُقدِّر أنه شرفٌ لي أن أصحبك، ولكن الحقيقة، ظننتُ …»
«سأقابلك في المسرح، ما اسم المسرح؟ أورفيوم؛ رائع جدًّا! في الساعة الثامنة.»
وضع السيد ريدر سماعة الهاتف وشعر أنه واهنُ القُوى ويتصبَّب عرقًا. الحقيقة أنه لم يصحَب سيدةً إلى أي مناسبةٍ اجتماعية في حياته قط، ولمَّا تراءت له جسامة هذه المغامرة تملَّكه شعورٌ بالارتباك والانبهار. قاتلٌ يستيقظ من أحلام العربدة ويجد نفسه مُدانًا داخل زنزانة ما كانت لتغمره مشاعر الأسى أكثرَ مما غمرَت السيد ريدر، مُمزَّق من تيارات الحياة الناعمة، وإن كانت غادِرةً ويقترِب أكثرَ وأكثر من الدوَّامة المُرعبة لغير المألوف.
قال السيد ريدر: «يا ربي!» كان يستخدم هذا التعبير الخاصَّ دومًا ويُبقيه من أجل اللحظات الحرجة بالنسبة إليه.
وظَّف في مكتبه شابةً تتَّصِف بالدقة المُتناهية في ترتيب المستندات، إلا أنها لا تمتلك مقوِّمات الجمال التي تجعل الرجلَ يتحوَّل إلى مَلاك، أو تجعل بيرسيوس يتحرك بجيوشه إلى أسوار طروادة في الأيام الغابرة. وما فتئ السيد ريدر يُناديها باسم «آنسة». يعتقد أن اسمها هو «أوليفر». في الحقيقة، كانت امرأةً متزوجة ولديها طفلان، ولكن أُقيمَ حفلُ زفافها من دون علمه.
انطلق السيد ريدر إلى الطابق العلوي في مبنًى كائنٍ في شارع ريجنت من أجل التعليمات والتوجيهات.
«ليس … اممم … من عادتي … اممم … أن أصحب سيدات إلى المسرح، وأشعر أني تائهٌ بشأن ما هو مُتوقَّع منِّي، هذا بالإضافة إلى أن الفتاة … اممم … غريبة عني.»
سخرت منه المساعدة ذاتُ الوجه الخالي من التعبير خُفْية. في زمان السيد ريدر، ما كان في آدابهم أن تتغيَّر هذه المشاعر الطبيعية لأنها ما كانت تَضمُر!
كتب اقتراحاتها.
«الشوكولاتة حقًّا؟ من أين أشتري …؟ أوه، نعم، أتذكر أنني رأيتُ الموظفين يبيعونها. شكرًا جزيلًا لك يا آنسة … اممم …»
لمَّا خرَج وأغلق الباب خلفه، لم تُخفِ سُخريتها.
قالت بنبرةٍ مُهينة: «جميعهم يسلكون الطريق الخطأ عند السبعين.»
كانت مارجريت بالكاد تعرف ما ينبغي أن تتوقَّعه عندما دخلَت إلى البهو المُبهرج لمسرح أورفيوم. ماذا ستبدو السهرة مع رجل يرتدي قبعةً مستديرة من الأعلى ومعطفًا مشقوق الذيل مُحكَم الأزرار ذا تصميمٍ قديم كان يُفضله في ساعات العمل؟ كادت أن تتجاوز الرجل المُتأنِّق في ملبسه إلى حدٍّ ما ويرتدي صدريةً ملائمة من النسيج المُضلع وربطة عنق فراشة مربوطة بطريقة مثالية، لولا أنه جذب انتباهها.
قالت مُتلهِّفة: «السيد ريدر!»
إنه السيد ريدر حقًّا؛ حتى أزرار القميص تتناسَب تمامًا مع تلك البذَّة من آخر صيحات الموضة ويرتدي حذاءً لامعًا مُدبَّبًا من عند الأصابع. السيد ريدر شأنه شأن رجالٍ كثيرين، يرتدي الملابس التي تُرضيه في ساعات العمل، ولكنه يقبل اقتراحاتِ الخياط بشأن التأنُّق في الملبس من دون تفكير. لم يهتمَّ السيد جيه جي ريدر يومًا بأمور الملابس مُطلقًا — سواء أكانت أنيقةً أم لا — ولكنه مع ذلك، كان يهتم بشدة بمسئوليته الغريبة.
أخذ رِداءها الخارجي (سبق أن اشترى برنامجَ فِقرات المسرح وصندوق شوكولاتة كبيرًا حمله من شريط الساتان المربوط به). باقٍ من الزمن رُبعُ ساعة على رفع الستار، وشعرت مارجريت بضرورة تقديم تعليل.
«تحدثت عن «شخص» آخر؛ هل تقصد روي؛ الرجل الذي يُقابلني في بعض الأحيان عند وستمينستر؟»
قصد السيد ريدر هذا الشاب. قالت: «كنَّا صديقَين حميمين، لا أكثر من ذلك؛ ولم نَعُد صديقين مُقرَّبين الآن.»
لم تذكر السبب. ربما عللت الأمر في جملةٍ واحدة لو قالت إن والدة روي تُغالي في تقدير صفات ابنها الوحيد الجسدية والعقلية، وأن روي يُؤيد رأي والدته تأييدًا تامًّا، ولكنها لم تقُل شيئًا.
قال السيد ريدر بنبرة حزينة: «آه». بعد هذه المحادثة مباشرة، قطعتِ الأوركسترا أيَّ أملٍ في إكمال الحوار، حيث كانا يجلسان في الصف الأول في أقرب نقطةٍ إلى ضجيج الآلات النحاسية كما أنهما ليسا بعيدَين عن صخَب آلات النفخ الخشبية. وفي بعض الأحيان، وعلى مدار الفصل الأول المُثير، كانت تسترقُ النظر إلى رفيقها. توقَّعَت أن تجد هذا الرجل مُستمتعًا قليلًا أو ضَجِرًا بعض الشيء من التناقُض السخيف بين الحقائق التي يعرفها والعروض المسرحية التي تُقدَّم على المسرح. ولكنها كانت كلما نظرَت إليه، تجده غارقًا في أحداث المسرحية؛ ربما شعرَت به يرتجف عندما رُبِط البطل في جذع شجرة وأُلقي به من فوق الجبل في التيارات المائية الجارفة، وأيضًا عندما أُنقِذ البطل على المسرح بينما يُسدَل الستار، سمعت — بشيء من التعجب — السيد ريدر يتنفَّس الصُّعَداء ارتياحًا.
لمَّا أُضيئت الأنوار في صالة العرض، قالت مُحتجَّة: «اصدُقني القول يا سيد ريدر، ألا تسأم من هذا؟»
«هذا؛ تقصدين المسرحية؛ أسأم منها؟ يا إلهي، كلَّا! أعتقد أنها جيدة جدًّا، جيدة للغاية.»
«ولكن الواقع غير ذلك، أليس كذلك؟ القصة بعيدة الاحتمالِ تمامًا، كما أن الأحداث … أوه، نعم، إنني أستمتع بها؛ أرجو ألا تنزعِج هكذا! كل ما هنالك أنني اعتقدتُ أنك بما تعرفه عن عِلم الإجرام … هل استخدمتُ المصطلح الصحيح؟ … لن تستمتع بها إلى هذه الدرجة.»
نظر إليها السيد ريدر بقلق.
«أخشى أن المسرحية ليست من النوع …»
«أوه، إنها كذلك … أحبُّ الميلودراما. ولكن ألا تصدمك هذه الأحداث باعتبارها … بعيدة الاحتمال؟ على سبيل المثال، ألا يصدمك هذا الرجل الذي رُبِط في جذع شجرة وتلك الأم التي تُوافق على قتل ابنها؟»
حكَّ السيد ريدر أنفه مفكرًا.
«عصابة يبرموندزي قيَّدَت هاري سولتر بالسلاسل في لوحٍ خشبي، وقلبَته ثم أسقطته، وقع الحادث في الجهة المقابلة لسوق بيلينجسجيت. حضرت إعدام تود رو واعترف بجريمته وهو على مقصلة الإعدام. وكانت «لي» وهي والدة بيرسون هي التي سمَّمته في تيدينجتون للحصول على أموال التأمين كي تتزوَّج مرةً أخرى. حضرتِ المحاكمة وتلقَّت الحُكم وهي تضحك؛ والآن، ما الأحداث الأخرى التي تضمَّنَها ذلك الفصل؟ أوه، نعم، أتذكر أن صاحب ورشةٍ لنشر الخشب حاول أن يُجبر شابةً على الزواج منه بتهديدها بسجن والدها. وقعت هذه الأحداث مئات المرات؛ ولكن بصورة أسوأ. في الحقيقة، لا يُوجَد شيء مُبالَغ فيه في الميلودراما سوى أسعار المقاعد، وعادةً ما أحصل على التذاكر مجانًا!»
استمعَت في البداية وهي لا تكاد تُصدق، ثم راحت تُقهقه مُستمتعة.
«يا للعجب … ومع ذلك … حسنًا، بصراحة، لم أشاهد الميلودراما سوى مرةٍ واحدة في حياتي، ولا أصدقها حتى الآن. ما الذي يحدث في الفصل الثاني؟»
اطَّلع السيد ريدر على البرنامج لديه.
قال بالتحديد: «أعتقد أن الفتاة التي ترتدي فستانًا أبيضَ ستتعرَّض للأَسْر وتنتقل إلى حريم حاكِم شرقي.» وضحكت الفتاة هذه المرةَ بصوتٍ عالٍ.
سألتْ وهي تشعُر بنشوة النصر: «هل مرَّت عليك قصة كهذه؟» واضطُرَّ السيد ريدر أن يعترف بأنه لم يمرَّ بقصةٍ مُماثلة، ولكن …
قال: «إنها مصادفة لافتة للنظر، مصادفة لافتة للنظر كثيرًا!»
نظرت إلى البرنامج لديها، وتساءلت لو أنها غفلت عن أي شيءٍ لافت للنظر كثيرًا.
«في هذه اللحظة، يُوجَد رجل يُراقبني من الصف الأمامي في مقاعد الشُّرفة؛ أرجو ألا تُديري رأسك، إن لم يكن حاكمًا فلا شك أنه شرقي؛ في الحقيقة يُوجَد رجلان من أصحاب البشرة السمراء، ولكن يُعتبَر واحد منهما فقط مُهمًّا.»
سألت متفاجئة: «ولكن لماذا يُراقبانك؟»
قال السيد ريدر بجدية: «ربما لأنني أبدو لافتًا للنظر كثيرًا في ملابس السهرة.»
في تلك اللحظة، التفت أحد الرَّجلَين ذَوَيِ البشرة السمراء إلى رفيقه.
«إنها المرأة التي يذهب معها كلَّ يوم؛ إنها تعيش في الشارع ذاته، ولا شك أنها تُهمه أكثر من أي شخصٍ في العالَم يا رام. انظر كيف تضحك في وجهه وكيف ينظر إليها صاحبنا العجوز! عندما يشيب الرجل، يُصبح سخيفًا تجاهَ المرأة. يمكن إنجاز هذا العمل الليلة. أُفضِّل الموت هنا ولكن لن أعود إلى بومباي من دون إنجاز عملي مع هذا الرويبضة.»
واقترح رام — وهو السائق والحليف وزميل السجن الذي وُضِع في قالبٍ أقلَّ بطولةً كما أنه ليس له ثأرٌ شخصي— مُتعجلًا التروِّيَ في الأمر.
قال راس لال باللغة الإنجليزية: «فكرتُ مَليًّا في كل فرضيةٍ وفي نتائجها المنطقية.»
قال رفيقه على عجل: «ولكن يا سيدي أليس من الحِكمة أن نترك هذا البلد ونجنيَ ثروة من الأموال الجديدة التي سيبيعها لنا الرجل البدين القصير؟»
قال راس لال بالإنجليزية: «الثأر ثأري.»
جلس طيلة الفصل التالي، الذي دارت أحداثه كما قال السيد ريدر تمامًا حول خداع فتاة بريئة حتى وقعَت في براثن باشا تركي؛ وأثناء مشاهدة تطوُّر الأحداث، ظلَّ يُراجع مُخططه. لم ينتظر حتى أن يُشاهد أحداث الفصلَين الثالث والرابع؛ إذ كانت هناك تحضيراتٌ لا بدَّ من إنجازها.
لمَّا مشَت مارجريت مع السيد ريدر عبر الرِّواق المُزدحِم، قالت: «ما زلتُ أعتقد أنه على الرغم من أن القصة مُثيرة للغاية، إلا أنها مُستحيلة تمامًا. في الحياة الواقعية، في البلدان المُتحضرة، أعني … لا يظهر الرجال المُقنَّعون فجأة من العدم ومعهم مُسدسات ويقولون «ارفع يديك!» هذا ليس حقيقيًّا، أليس كذلك يا سيد ريدر؟» قالت هذا مُلاطِفة.
تمتمَ السيد ريدر بموافقةٍ على غير رضًا منه.
قالت مُتحمسة: «لكني استمتعتُ بها كثيرًا!» ولمَّا نظر السيد ريدر إلى الوجه المُتورِّد، أحسَّ بشعورٍ غريب لم يكن سرورًا تامًّا ولا ألمًا تامًّا.
قال: «سعدتُ للغاية.»
انفضَّ الجالسون في مقاعد الشرفة وصالة العرض إلى البَهْو، وظلَّ ينظر حوله بحثًا عن وجهٍ رآه حينما وصل. ولكن لسوء الحظِّ لم يظهر راس لال ولا رفيقه. كان المطر يهطل زخَّات، ومر بعض الوقت قبل العثور على سيارة أجرة.
لمَّا جلس بجوار مارجريت، ابتسمت وقالت: «يا لها من فخامة. يُمكنك التدخينُ إذا رغبت.»
أخرج السيد ريدر علبة سجائر ورَقية من جيب صدريته، واختار سيجارةً رفيعةً وأشعلها.
قال وهو يرمي عود الثقاب بحذرٍ من بين حافة زجاجِ النافذة والإطار: «المسرحيات لا تُشبه الحياةَ الواقعية تمامًا أيتها الفتاة. تستهويني مسرحياتُ الميلودراما لِما فيها من مثالية.»
التفتَت وحملقَت فيه.
كرَّرَت وهي لا تكاد تُصدق: «مثالية؟»
أومأ ريدر.
«هل سبق أن لاحظتِ خُلوَّ الميلودراما من مشاهدِ الإسفاف؟ شاهدت مرةً دراما كلاسيكية — «أوديب» — وأشعرَتْني بالغثيان. في الميلودراما، حتى الأشرار يُؤدُّون أدوارًا بطولية، والعبرة الحتمية والثابتة هي «الحق سينتصِر في النهاية حتى وإن غاب في البداية.» أليست هذه مثالية؟ كما أنها صحية للغاية. لا تُوجَد مشاكلُ جنسية، ولا تُعرَض الأشياء غير السارَّة مُطلقًا بطريقةٍ جاذبة؛ ولذا تسمو بالنفس.»
ابتسمت قائلة: «لو أنك صغير في السن قليلًا.»
قال السيد ريدر بهدوء: «يجب أن يتحلَّى المرء بروح الشباب كي يبتهِجَ بانتصار الفضيلة.»
عبرا جسر وستمينستر واتَّجها يسارًا إلى طريق نيو كِنت. من خلال النوافذ التي تعتَّمَت بسبب المطر، التقطَ جيه جي المَعالمَ المألوفة وأمسى يُقدِّم تعليقاتٍ عليها وكأنه مُرشد. لم تُدرك مارجريت من قبل أن التاريخ صُنع في جنوب لندن.
«كانت تُوجَد مشنقة في هذا المكان … محطة البضائع ذات المنظر القبيح هذه كانت المِحطةَ الختامية لأول خط سكك حديديَّة في لندن … ركبت الملكة أليكساندرا من هذا المكان عندما تزوَّجَت … أُطلِق على الطريق جهة اليمين بعد عبور جسر القناة اسمٌ غريب وهو بيرد إن بوش …»
أتت سيارة كبيرة وسارت حَذْوَ سيارة الأجرة، وأخذ السائق يَصيح بشيءٍ ما إلى سائق سيارة الأجرة. حتى السيد ريدر المُتشكِّك ظنَّ أن الأمر مجرد تبادُل شتائم حتى انعطفَت سيارة الأجرة فجأة إلى الطريق الذي كان يتحدَّث عنه. وتأخَّرَت السيارة، ولكنها تقترِب الآن.
قال جيه جي: «ربما الطريق الرئيسي مزدحِم.» وفي تلك اللحظة تباطأت سيارة الأجرة وتوقفَت.
حاول الإمساك بالمِقبض حينما فُتِح الباب بعُنفٍ ورأى السيد ريدر رجلًا عريض المنكبَين يقف على الطريق في الضوء الخافت.
«ترجَّلَ بسرعة!»
كان الرجل يُمسِك في يده مُسدسَ كولت أسود طويلًا وكان وجهه مُغطًّى بقِناع من الذقن حتى الجبهة.
«بسرعة، وارفع يدَيك!»
نزل السيد ريدر في المطر وأوشك أن يُغلق الباب.
«والآنسة أيضًا؛ انزلي هيا!»
«ما الذي يجري هنا؟ أخبرتَني أن طريق نيو كروس مغلق.» كان المُتحدِّث هو سائق سيارة الأجرة.
«هذه ورقة بخمسة جنيهات … أبقِ فمَك مغلقًا.»
رمى الرجلُ المُقنَّع ورقة نقدية إلى السائق.
«لا أُريد مالك …»
سأل راس لال مُتهكِّمًا: «هل تريد أن تخترق تلك الرصاصةُ صدرك يا صديقي؟»
تبعت مارجريت رفيقها إلى الطريق في تلك اللحظة. توقفَت السيارة خلف سيارة الأجرة مباشرةً. وُضِعَت فوهة المسدس في ظهر السيد ريدر ومشى إلى الباب المفتوح ودخل السيارة. تبعته الفتاة وقفز الرجل المُقنَّع خلفهما وأغلق الباب. وعلى الفور فاضت السيارة بالنور من الداخل.
«هل هذه المفاجأة تليق بمُحقِّق ماهر وذكيٍّ في الشرطة؟»
جلس الخاطف في المقعد المقابل ومُسدَّسُه على ركبتَيه. ومن خلال الفتحات في القناع الأسود، لمعت عينان بُنِّيتان خبيثتان. لكن تفكير السيد ريدر انصبَّ على الفتاة. تغيَّر لون وجهها من الصدمة، ولكن لحُسن الحظ لاحظَ أن الشعور المُسيطر عليها ليس الخوفَ. أفقدها الذهولُ القدرةَ على الحركة، وباتت لا تستطيع الكلام.
استدارت السيارة وسارت مُسرعةً عائدة في الطريق الذي أتَوا منه. شعر بالصعود على جسر القناة، ثم استدارت السيارة فجأة إلى اليمين وبدأَت في النزول من فوق منحدرٍ حاد. كانوا يسيرون باتجاه روثرهيث؛ فالسيد ريدر يعرف طبوغرافية لندن عن ظهر قلب.
لم تستغرق الرحلة وقتًا طويلًا. شعر أن عجلات السيارة تتخبط على طريق غير مُعبَّد لمسافة مائة ياردة، ظلَّت السيارة تتأرجح على الطريق بطريقةٍ غيرِ مُريحة، ثم توقفت فجأةً بالضغط على الفرامل.
وقفوا في حارةٍ طينية ضيقة. على أحد الجوانب، تُوجَد قناة ذات سقفٍ مُقوَّس لخطِّ سككٍ حديديَّة، وعلى الجانب الآخر أرضٌ فضاء مُحاطة بسورٍ عالٍ. من الواضح أن السائق توقف بعيدًا عن وجهتهم؛ لأنهم اضطُرُّوا إلى الخوض والانزلاق على الوحل لمسافة خمسين ياردة أُخرى قبل أن يصلوا إلى بوابةٍ ضيقة في السور. دخلوا إلى مَمرٍّ أسطوانيِّ الشكل يؤدي إلى مبنًى مُربع وخمَّن السيد ريدر أنه كان مصنعًا صغيرًا في يوم ما. أضاء خاطفُهم مصباحًا على الباب وقرأ المُحقق عبارةً تآكلَت حروفها وهي:
«شركة ستورن فيلتون للجلود».
لمَّا أضاء الرجل النور، قال: «والآن! والآن أيها الشرطي الكاذب والفاسد، لديَّ فاتورة بسيطة ينبغي تسويتُها معك.»
كانوا في ردهة مُغبرة ومحاطةٍ بالألواح المُعشَّقة في ثلاثة جوانب.
تمتم السيد ريدر: ««حساب»؛ تلك هي الكلمة التي تريدها يا راس لال.»
صُدِم الرجل لدقيقةٍ ثم خلع القناع من فوق وجهه وقال:
«أنا راس لال! وستندم على ما فعلت! هذه ليلةٌ ستُعاني فيها أنت والفتاة من الرُّعب!»
لم يضحك السيد ريدر على اللكنة الإنجليزية الغريبة. البندقية التي في يد الرجل تحدَّثَت كلَّ اللغات بدون أخطاء، ويُمكن أن تقتل عندما تكون في يدِ مُهرِّج غير واعٍ تمامًا كما تفعل عندما يُمسك بها أشرسُ الرجعيِّين.
انتابه القلق بشأن الفتاة: فهي لم تتفوَّه بكلمة منذ أسرهما. تورَّدَت وجنتاها مرةً أخرى، وكانت هذه إشارةً جيدة. كان هناك لمعانٌ في عينَيها لم يربطه ريدر بالخوف.
أخذ راس لال حبلًا طويلًا مُعلقًا على مسمارٍ في حاجزٍ خشَبي، ولكنه بات مُتردِّدًا.
قال وهو يهزُّ كتفيه: «ليس ضروريًّا، تعرفت على ما يكفي من الغرفة … لن تتسبَّب في المتاعب هناك.»
فتح الباب وأمرَهما بالمرور وصعود الدرَج غير المفروش المواجِه لهما. في الأعلى، تُوجَد بسطة وباب حديدي كبير مُثبَّت في الطوب الصُّلب.
سحب المِزلاج الحديدي ودفع الباب، ففتحه مُحدِثًا صريرًا. كانت غرفة كبيرةً ومن الواضح أنها استُخدِمت من قبلُ لتخزين شيءٍ سريع الاشتعال؛ لأن الحوائط والأرضية مصبوبة بالخرسانة الخشنة ويُوجَد كتابة على مكتب مُغبر تقول: «خطر. ممنوعٌ التدخين في هذا المخزن». لا يُوجَد نوافذ ما عدا نافذةً مُربعة بطول ثماني عشرة بوصة أعلى الجدار بالقُرب من السقف. في أحد أركان الغرفة، تُوجَد كومة من الملفات الورقية المُتَّسخة، ويُوجَد على المكتب عشراتُ الصناديق الخشبية الصغيرة كان أحدها مفتوحًا لأن الغطاء ذا المسمار المُنتصِب كان مرفوعًا من إحدى الزوايا.
وقف راس لال عند الباب مُمسكًا مُسدَّسه الذي يتباهى به، ثم قال: «أمتع نفسك لمدة نصف ساعة أو ربما أربعين دقيقة. في خلال ذلك الوقت سآتي من أجل تلك الأُنثى؛ وغدًا سوف تصعد على سفينةٍ معي للذَّهاب إلى … أها، مَن يعلم إلى أين؟»
قال السيد ريدر: «أغلِق الباب خلفك وأنت خارج، يُوجَد تيار هواء شديد البرودة.»
أتى السيد تومي فينالو سيرًا على الأقدام في الساعة الثانية صباحًا، ولمَّا عبر الحارة المُوحِلة، كشف مصباحه الكهربائي فجأةً عن آثار سيارة. وقف تومي وكأنه أُطلِق عليه النار. ارتعدَت فرائصه ووقَع قلبه في قدمَيه حينما أتى إلى البوابة الضيقة. ظلَّ لبعض الوقت لا يعرف هل الأفضل أن يجريَ أم يمشي مُبتعدًا. ليست لديه نية في التقدُّم. بعد بُرهة، سمع صوتًا. إنه مساعد راس لال، وكاد أن يُغمى عليه من الفرحة. مشى مُتعثرًا وأتى إلى الرجل الذي يرتجف.
سأل هامسًا: «هل أتى سيدُك الأحمق بالسيارة إلى هنا؟»
قال رام الذي لم تكن اللغة الإنجليزية قويةً لديه: «نعم، السيد راس لال.»
قال تومي مُتذمرًا: «إذن فهو أحمق! يا إلهي! لقد ارتعدت فرائصي!»
لمَّا كان رام يستجمعُ الكلمات الإنجليزية لشرح ما حدث، تجاوَزَه تومي. وجد عميله يجلس في الردهة وسيجارة شيروت بين أسنانه وترتسِم على وجهه الأسمر ابتسامةٌ تنمُّ عن الرِّضا.
قال بينما يُغلق تومي الباب: «مرحبًا! أوقَعْنا الثعلبَ المكَّار في الفخ.»
قال الآخر باستياء: «لا تهتمَّ بالثعلب المكار. هل حصلتَ على الروبيات؟»
هزَّ راس لال رأسه.
قال السيد فينالو مُتوجسًا: «ولكني تركتها في المخزن؛ عشَرة آلاف روبية. ظننتُ أنك حصلت عليها وهربت قبل هذا.»
«لديَّ شيء أهم في المخزن، تعال وانظر يا صديقي.»
صعد السُّلَّم أمام تومي المُرتبِك وأضاء مصباح البسطة وفتح الباب.
قال: «انظر …» ولم يقل غيرَ هذا.
قال السيد جيه جي: «عجبًا، إنه السيد فينالو!»
تُمسِك يدٌ رزمةً من الروبيات التي تُشبه الحقيقية تقريبًا؛ بينما تُمسك اليد الأخرى …
همس تومي: «كان عليك أن تعرف أن معه مُسدَّسًا أيها القِرد الأسود الملعون. والعجب أنك وضعته في غرفة تُوجَد بها البضاعة ويُوجَد بها هاتف!»
اقتِيدَ إلى قسم الشرطة المَحلِّي وقُيِّد بالأصفاد مع رفيقه في ذلك الوقت.
قال راس جادًّا: «سأقول للقاضي في الصباح إنها كانت مجرد مزْحة أو مزحة ثقيلة.»
تضمَّن ردُّ تومي فينالو الكثيرَ من الشتائم.
أعلنت كنيسة سانت جون دقَّات الساعة الثالثة وصحب السيد ريدر الفتاة المُتحمِّسة إلى الباب الأمامي للنزل الذي تسكن فيه.
قالت: «لا أستطيع التعبير عن … مدى استمتاعي بالليلة.»
نظر السيد ريدر غيرَ مرتاح إلى الواجهة المُظلِمة من السكن.
«أرجو … اممم … ألا يَلفِت رجوعُك في هذه الساعة المُتأخِّرة انتباهَ أصدقائك …»
على الرغم من أنها طمأنَته، عاد ببطءٍ إلى المنزل وهو يشعُر بعدم الارتياح بأن يُصبح اسمها على ألسِنة الناس. وفي الميلودراما، عندما يُصبح اسم البطلة على ألسنة الناس، فلا بدَّ أن يتزوَّجها أحدٌ ما.
التفكير في هذا الأمر أقضَّ مضجع السيد ريدر طوال الليل.