الأمير عمر طوسون في صباه
تمهيد
من الخير لمحبِّي التاريخ، بل نقولُ إنَّ الأجدى لأولئك الذين يرغبون في الاستقصاء عن الحقائق — عندما يعرضون لتحليلِ شخصيةٍ عظيمةٍ لأحد هؤلاء البارزين من أعلام البشر — أن يتناولوا النَّشأة الأُولى لميلاده؛ حتَّى يأتي تاريخه سِفرًا كاملًا حافلًا، يُطالعه النَّاس فيُلِمُّوا بالأسباب التي كونت عناصر حياته الزَّاهرة وملأتها بالمكارم وأسرار البطولة!
وهم حين ينهجون هذا النَّهج إنَّما يكشفون عن الجوانِبِ الثمينة التي تنطوي عليها نفسه الفتيَّة، ممَّا يصح أن يكون مبعث فخار، ومثار مجدٍ وزهوٍ لأمته حيال الأمم الأخرى!
وعلى هذا الأساس، فنحنُ نُورِد تاريخ الأمير الجليل المغفور له ساكن الجنان عمر طوسون منذ مولده السعيد.
النشأة الأولى
وُلِد أميرنا العظيم — رحمه الله — في مدينة الإسكندرية، في يوم الأحد (٥ رجب سنة ١٢٩١ﻫ) الموافق (٨ سبتمبر سنة ١٨٧٢م)، وكان والده هو الأمير محمد طوسون باشا، نجل والي مصر العظيم المغفور له محمد سعيد باشا، ابن المغفور له محمد علي باشا الكبير، رأس الأسرة العلويَّة الكريمة، ومُنشِئُ مصر الحديثة، ويعتبر أبوه من أعاظم أُمراء البيت المالك في مصر.
وقد تُوفِّي والده الكريم والأمير لم يُكمل من سنيه الرَّابعة؛ فكفلته جدته لأبيه خير كفالة، وعُنِيَت بتربيته على أحسنِ الوجوه، هو وإخوته وأخواته الكرام. وقد تلقَّى سموه وهو في حداثته مبادئ العلوم على أيدي أساتذة مُختارين، في قصر والده، فنشأ مُحِبًّا للدرس، مولعًا بالبحث، ولمَّا شبَّ عن الطوق سافر إلى سويسرا للعلمِ والتحصيل، فأكبَّ على الاغتراف من مناهل المعرفة، ودرس في كُبرى جامعاتها دراسة مُستفيضة، حيثُ استكمل تعليمه، وغَدَا في أسمى درجات الكمال.
سياحاته إلى الخارج
وقد قام الأمير عمر بعد ذلك بعدَّة سياحات في البلدان الهامَّة من أوروبا؛ فنزع إلى بلاد الإنجليز، وفرنسا وغيرها للدراسة، ووقف خلال سياحاته على أسرار تقدُّم هذه الأمم في النواحي الاجتماعية، وانتفع بهذه الرحلة، بإحاطته بأسباب الحضارة العصرية السائدة في هذه الأمم، وتمييزه بين الغثِّ والسمين فيها، وتدقيقه وبحثه في العوامل التي كفلت تفوقها الصناعي والعلمي والزراعي؛ ممَّا أفاده في النِّهاية فوائد جزيلة، استغلَّها في التوجيه الذي كان يُشيرُ أو ينصح أن تتَّجِهَ إليه البلاد، لاقتباس ما يُلائِمُ طبيعتها وبيئتها وتقاليدها منه، من دون أن تصطدمَ بقوميتنا التي كان يحرص سموه على الاستمساك بها!
اللغات التي كان يجيدها
وحين عاد الأمير عمر طوسون من رحلته، بعد أن اختمرت نفسه بالرؤية والدرس، تفاعلت مُشاهداته مع ما كان يعتَمِلُ في صدره من الرَّغبات القويَّة لخدمة بلاده؛ فبعثت فيه عقلًا صقلته مباهج المعرفة، وهمَّة وثَّابة تحفزها حماسة الشباب إلى عظائم الأمور، وسِعَة إدراكٍ بالمشكلات الكُبرى التي تشغل أذهان المفكِّرين في العالم المتمدين، وجعلت منه كل هذه المواهب، مُفكِّرًا حصيفًا، وألمعيًّا يُشارُ إليه بالبنان.
وقد دفعته رغبته في الاطِّلَاعِ، ومحبَّتُهُ للقراءة على إجادة عدَّة لُغات حيَّة، أهمها — فوق العربية — التركية والإنجليزية والفرنسية؛ ممَّا ينمُّ على سعة دائرة المعارف التي كان يُحيطُ بها، ويقفُ منها على كلِّ نافعٍ ومُفيد.
اقترانه وأنجاله
وفي ١٤ أغسطس من سنة ١٨٩٨، عندما ناهز الأمير عمر طوسون السادسة والعشرين من عمره، تزوَّجَ بإحدى كريمات المغفور له الأمير حسن باشا نجل الخديوي العظيم المغفور له إسماعيل. وقد أَنجَبَ من البنين «النبيل سعيد طوسون» في ٧ يناير سنة ١٩٠١، و«النبيل حسن طوسون» في أول ديسمبر سنة ١٩٠١، و«النبيلة أمينة طوسون» في ٢ فبراير سنة ١٩٠٣، «والمغفور لها النبيلة عصمت طوسون» في ١٧ مارس سنة ١٩٠٤. وقد سهر سموه على تعليمهم وتثقيفهم بما يتَّفِقُ وما هو عليه من سموِّ الهِمَّة، وعالي الإدراك، وبما يُطابِقُ طالعهم السعيد، حتَّى غدا كل منهم — لا سيما نجليه الكريمين — خير خلفٍ لأحسنِ سَلَفٍ — أو كما يعبِّرون — «هذا الشبل من ذاك الأسد!»
عادات الأمير ورحلاته وهوايته
ومنذُ كان الأميرُ في صباه، حين كان ليِّن العود، ريق الشباب، وهو مُولَعٌ بالسياحة، محبٌّ للرياضة، وشغفه بالفروسية — على وجهِ التَّحديد — يعرفه كل من كان له به صلة، فهو من الرماة المَهَرَة، وله في الصيد قدمٌ راسِخَةٌ.
وظلَّ شغفه هذا بالرياضة مُلازمه في كلِّ مراحل حياته العامرة بالمجد، والجدِّ، والدأب على العمل، ولمَّا تقدَّمت به السن، استحال هذا الشغف إلى رعايةٍ كريمةٍ، كان يُوليها للهيئات الرياضية في البلاد. فكانت أياديه البيضاء عليها تحفزها إلى الإقرار بأفضاله، وتنشط همتها، وتضاعف عزيمتها لرفع شأن البلاد، وكان دائمًا يختار رئيسًا لها بالإجماع من حينٍ إلى حين.
أمَّا سياحاته فتنطق بها آثاره المشهورة، وكان كلفه بها داعيًا له على أن يجعل له حاشية خاصَّة تُرافِقُهُ إلى الجهاتِ النَّائية التي يرحلُ إليها، باحثًا مُنَقِّبًا. والجميعُ يعلمون أن سموه كان رحَّالة بحَّاثة، وإليه يرجعُ الفضل في التعريف بالكثير من مجاهل طرابلس، والصحراء الغربية، والأمكنة التي لم تكن معروفة في مريوط ووادي النطرون. ولعلَّه المصري الوحيد الذي أحاطَ بدقائق المعلومات عن هذه الأماكن، بدوام تردُّدِهِ عليها، ومُخالطته لأهليها، وتدارسه عن عاداتها مع علمائها وعِليَةِ النَّاس فيها!
كما لا ينسى أحد ما كان لرحلاته إلى الواحات الخارجة وغيرها عن طريق الصحراء من عميم النفع، وما توصَّل إليه في هذه الرحلة العظيمة من المعلومات المفيدة، وزيارته لدير المحرق في عام ١٩٣٥، وما أثمرته هذه الرحلة وسواها من المؤلَّفات النفيسة التي أصدرها سموه ناطقة بأمجاد تاريخنا، ممَّا سنفصِّله في الفصولِ القادمة.