وصيته الأخيرة ومعانيها الفاضلة
نشرت جريدة «الإنذار» الغرَّاء، في عددها الصَّادر في أول مارس سنة ١٩٤٤ خبرًا لأحد مندوبيها الذي سأل حضرة الأستاذ باشمعاون دائرة المغفور له الأمير عمر طوسون، عن موعد الأربعين لوفاته، قال له: «لا ندري يوم الأربعين، ونحن مقيَّدُون بنصِّ وصية سموه في عدم إقامة الأخمسة أو ما يُشابهها، وحتى هذه الحفلات التأبينيَّة التي يُعلَن عنها في الصحف سيكون موقفنا منها سلبيًّا، ولن نحضر واحدة منها — إذا اضطررنا — إلَّا كشهود عاديين احترامًا للوصيَّة التي نحرِصُ على تنفيذها.»
وكان الناس قد طالعوا أن بعض الهيئات كان قد اعتزم أعضاؤها إقامة حفلات تأبين لفقيد البلاد الأمير عمر، ولكن لم تمضِ أيَّام إلَّا وأعلن أن هذه الهيئات لا يسعها إلَّا النزول على ما تضمنته وصية المغفور له الأمير الراحل بالعدول عن إقامة هذه الحفلات التأبينية. ومن أجل ذلك أحببنا أن نورد فيما يلي ما تضمَّنَته هذه الوصيَّة من المبادئ العالية، وما ترمُزُ إليه من المعاني الفاضلة.
فقد نصَّ المغفور له الأمير الكريم في وصيته بأن يُحمَل جثمانه الطَّاهر من سراياه بباكوس في رملِ الإسكندرية إلى مدافن النبي دانيال على السيارة مُباشرة، بدون تشييع رسمي لها، ثم يُكتفى في العزاء على ما يُعمل ويُجرى عقب الدفن مباشرةً، مع منع إقامة الأخمسة، والأربعين، وحفلات التأبين، وإقامة معالم الحداد، وذلك بارتداء الملابس السوداء، والكرافتات السوداء أو حتَّى المناديل المجللة بالسواد.
ومن يتأمَّل هذه الوصية العظيمة الجمَّة المعاني، وما تنطوي عليه من مبادئ، يرى أنها في محلها، وأن الأمير الراحل حتى في مماته — رحمه الله — يستنُّ للعالمين سُننًا حميدة؛ ذلك لأن أهم ما يأخذه علينا الغربيُّون إسراف الشرقيين في مظاهر الحداد، ومبالغتهم في إقامة المعالم التي تنطقُ بالحزن على من فقدوه من الأهلِ والأحبَّةِ، نطقًا قد ينبو في كثيرٍ من الأحيانِ عن مُحيطِ الاعتدال. ومن هذا يتَّضِحُ للنَّاس أجمع كيف كان الأمير عمر حكيمًا فيلسوفًا في وصيته العظيمة، رحمه الله أوسع الرحمات!