فضل الأمير عمر طوسون على النهضات الوطنية
النهضات الوطنيَّة في كلِّ الأمم، وفي جميعِ أدوار التاريخ القديم والحديث، والحركات الاستقلاليَّة في جميعِ الشعوب، لم تَقُم إلَّا على أساسٍ من إرشادات الحكماء من أهل الغيرة الوطنية، الذين أشربت نفوسهم بروح الحرية إلى جانب نهوضها على كواهل الشباب ورجال التضحية، الذين يغذونها بالدِّماء الذَّكيَّة، ويبذلون في سبيلها كلَّ غالٍ وثمين!
وفضل الأمير عمر طوسون على النهضة الوطنية المصرية معروفٌ يذكره كل إنسان؛ فقد دفعته مبادئه السامية ورجولته الكاملة إلى تأييدِ أعلامها منذ مهدها، فساهم في النهضة منذُ كانت فكرة، وظلَّ يواليها بالتشجيع في كلِّ مراحلها.
فضله في تأليف الوفد المصري
كان الأمير عمر المصريَّ الأوَّلَ الذي فكَّرَ في تأليف الوفد؛ إذ كان في طليعة من أشاروا على سعد زغلول باشا ورفاقه بإيفاد مندوبين مصريين إلى مؤتمر الصلح الذي يُعقَدُ في باريس، عقب أن وضعت الحرب الماضية أوزارها لتوضيح مطالب مصر، والإفصاح عن عدالة قضيتها وحقِّها في الحرية والاستقلال وتقرير المصير!
وقد استنَّ سموه بهذا العمل الجليل سُنَّة حميدة، وخلق تقليدًا لم يكن معروفًا من قبل في شئون مصر العامة؛ إذ كان المتَّبَع أن أُمراء البيت العلوي يكونون بمنأًى عن مثل هذه الحركات، فلمَّا اقتحم سموُّهُ غمار هذه المعركة عمل على تغذية نهضة البلاد الوطنية بالقوَّة التي تحتاجها، وضرب بشجاعته مثلًا أعلى للجميع، وكان له الفضل العميمُ في ضمِّ صوت الأُمَرَاء إلى أصوات أبناء الشعب في المُطالَبَةِ بالاستقلال!
ولم يخشَ الأمير عمر ما كان يخشاه الكثيرون حين نزل إلى هذا الميدان، بل خاضَ المعمعة في جُرأة معدومة النظير، ثابتًا كالجبل، مُؤمنًا لا تلينُ له قناة، مُضحِّيًا بالمالِ في مناصرته للحركة الوطنية، ضاربًا أعظم الأمثال في الثبات على الرأي، مُنتهزًا للفرصِ في إسداء النصائح وإبداءِ الأفكار التي فيها تفريج للعقد أو حلٌّ للمشكلات!
كان صديق الجميع!
كان الأمير عمر «السياسي المصري» ذا المكانة والكلمة النافذة، الذي ظلَّ دائمًا أبدًا بين «الأحزاب» وبين العناصر السياسية المختلفة «على الحياد»! فكان لا يُجامِلُ ولا يتحيَّزُ. فإذا ما تهدَّدَت سلامة البلد بالخلاف قَامَ لإصلاحِ ذاتِ البَينِ، وأجرى حكمه على المختلفين! وفقده كان فقدًا لهذا الصنف من الرجال الذين ترعى الأحزاب جانبهم وتخضع لرأيهم ووساطتهم، وتسوِّي مشاكلها عند أبوابهم!
نظرة إلى الماضي
وحين ارتفع صوت المغفور له مصطفى كامل باشا باسم مصر وحقِّها في الحرية والاستقلال، كان ساكن الجنان المغفور له عمر طوسون باشا في طليعة مُؤيِّدِيه. وكانت صداقتهما القويَّة من مشجعات زعيم الحزب الوطني على السير في طريق جهاده، ولا سيما فيما بين عامي ١٩٠٤–١٩٠٨. وظلَّ سموه قدوة للوطنيين في التضحية من أجلِ الوطن، والذود عن قضيته.
وقد ذكرت مجلة الشعلة حادثة انفردت بها، تناولت فيها موقفًا عظيمًا للأمير العظيم مع معالي الأستاذ غنَّام بك — وزير التجارة والصناعة الحالي — الذي كان لا يزالُ طالبًا في سنة ١٩٢٢، وقت حدوثها؛ قالت فيها ما يلي: «كَان غنَّام ثوريًّا — من يومه — فكان يكتب في الصحف عن الأحكام العُرفية، وما أَصابَ مصر من أضرارٍ جسيمةٍ خلال الحرب الماضية. وكان يستعدُّ لإصدار كتاب «مصر في ميدان التضحية»، وكان يجمع له المواد والوثائق، فكتب إلى «باشمعاون دائرة الأمير عمر» يطلب تفصيلات عن أرض «أبو قير» التي يملكها سموه، والتي وضعت السلطة العسكرية يدها عليها، فتلقَّى خطابًا لمقابلة سموِّهِ شخصيًّا في فندق شبرد، وتشرَّفَ بالمقابلة شخصيًّا مُدَّة استغرقت ساعتين كاملتين، ثمَّ أصدر سموه أمره بوضعِ كلِّ المستندات الخاصَّة بالموضوعِ تحتَ تصرُّفه؛ لأنه — رحمه الله — كان يرى فيها خدمة لقضية البلاد!»
وهذه القصة الصغيرة التي ذكرتها هذه الصحيفة تُوضِّحُ للجميعِ كيف كان يهتم كلَّ الاهتمام بالقضية المصرية، ويُولِي كل أمرٍ يتصل بها بالغ العناية.