خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أكرم والد وولد، محمد وآله صلاةً تبقى وتتأبد.
أعلم أن الله تعالى فتح بصائر أوليائه بالحِكم والعِبر، واستخلص هممهم لمشاهدة عجائب صنعه في البَدو والحضر، فكلَّما لاحظوا شيئًا لاحظوا فيه عبرة؛ لأن جميع الموجودات مرآة للوجود الحق المحضر، فالظاهر بذاته هو الله سبحانه، وما سواه فآيات ظهوره ودلائل نوره.
ونحن نعرج في هذا الكتاب من مدارج معرفة النفس إلى معرفة الحق جلَّ جلاله، ونذكر مخ ما تؤدي إليه البراهين من حال النفس الإنسانية، ولباب ما وقف عليه البحث الشافي من أمرها وكونها منزهة عن صفات الأجسام، ومعرفة قواها وجنودها، ومعرفة حدوثها وبقائها وسعادتها وشقاوتها، بعد المفارقة على وجه يكشف الغطاء ويرفع الحجاب، ويدل على الأسرار المخزونة والعلوم المكنونة، المضنون بها على غير أهلها.
ثم إذا ختمنا فصول معرفة النفس فحينئذ ننعطف على معرفة الحق جل جلاله؛ إذ جميع العلوم مقدمات ووسائل لمعرفة الأول الحق جل جلاله، وكل ما يراه لشيء فدون حصول مقصوده يكون ضائعًا، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه وعرف صفاته وأفعاله، وعرف مراتب العالم مبدعاته ومكوناته، وعرف الملائكة ومراتبهم، وعرف لمة الملك ولمة الشيطان والتوفيق والخذلان، وعرف الرسالة والنبوة وكيفية الوحي، وكيفية المعجزات والأخبار عن المغيبات، وعرف الدار الآخرة وسعادتها وشقاوتها وأقسامها ولذة البهجة فيها، وعرف غاية السعادة التي هي لقاء الله تعالى، فمن يُسِّر له هذا السفر لم يزل في سيره متنزهًا في جنة عرضها السماوات والأرض، وهو ساكن بالبدن مستقر في الوطن، وهو السفر الذي يسفر فيه عن وجه المعرفة، وتنحل أزرار الأنوار في هذه الأسفار، وهو السفر الذي لا تضيق فيه المناهل والموارد، ولا يضر فيه التزاحم والتوارد، بل تزيد بكثرة المسافرين غنائمه، وتتضاعف ثمراته وفوائده. فغنائمه دائمة غير ممنوعة، وثمراته متزايدة غير مقطوعة، ومن لم يؤهل للجولان في هذا الميدان، والتطواف في منتزهات هذا البستان، فليس بيده إلَّا القشر يأكل كما تأكل الأغنام، ويرتع كما ترتع البهائم.
وشرح هذا السفر وبيان هذا العلم العظيم القدر، لا يمكن في أوراق وأطباق، ويقصر عن شرح عجائبه العبارات والأقلام، ونحن — بعون الله تعالى وتوفيقه — نشير إلى كل واحدة من هذه الجمل على وجه يستقل به المتفطن، وأما الجامد البليد الذي يأخذ العلم بالتقليد، فهو عن معرفة مثل هذه العلوم بعيد؛ إذ كلٌّ مُيَسر لما خُلق له، فمن رشح للسعادة وشارف نيل الإرادة أُعطي أولًا كمال الدرك، من وفور العقل وصفاء الذهن، وصحة الغريزة، واتقاد القريحة وحدة الخاطر، وجودة الذكاء والفطنة، وجزالة الرأي وحسن الفهم، وهذه تحفة من الله وهدية لا تنال بيد الاكتساب، وتنبتر دونها وسائل الأسباب، ومن وُهبت له هذه الفطنة فحينئذ عليه استكداد الفهم والاقتراح على القريحة، واستعمال الفكر، واستثمار العقل بتحديق بصيرته إلى صوب الغوامض، وحل المشكلات بطول التأمل، وإمعان النظر والاستعانة بالخلوة، وفراغ البال والاعتزال عن مزدحم الأشغال، والقيام بوظائف العبادات حتى يصل إلى كمال العلوم.
وسمينا الكتاب «معارج القدس في مدارج معرفة النفس»، وفقنا الله لإتمامه.