النفس وحاجتها إلى البدن
- أحدها: انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات، على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها، ومراعاة المشترك فيه والمتباين به، والذاتي وجوده والعرضي وجوده، فيحدث للنفس عن ذلك مبادئ التصور عن استعمالها الخيال والوهم مثل الجنس والفصل والعرض العام والعرض الخاص.
- والثاني: إيقاع النفس مناسبات بين هذه الكليات المفردة، على مثال سلب وإيجاب، فما كان التأليف فيه ذاتيًّا بينًا بنفسه أخذه، وما كان ليس كذلك تركه إلى مصادفة الواسطة.
- الثالث: تحصيل المقدمات التجريبية، وهو أن يوجد بالحس محمول لازم الحكم لموضوع ما كان حكمه بالإيجاب والسلب، أو تالٍ موجب الاتصال أو مسلوبه، أو موجب العناد أو مسلوبه. وليس ذلك في بعض الأحايين دون بعض على المساواة، بل دائما حتى تسكن النفس، على أن طبيعة هذا المحمول أن يكون فيه هذه النسبة إلى هذا الموضوع، والتالي أن يلزم هذا المقدم أو ينافيه لذاته لا بالاتفاق، فيكون ذلك اعتقادًا حاصلًا من حس وقياس — أما الحس فلأجل مشاهدة ذلك — وأما القياس فلأنه لو كان اتفاقًا لما وجد دائمًا أو في الأكثر، وهذا كالحكم بأن السقمونيا مسهل للصفراء بطبعه؛ لأحساسنا ذلك كثيرًا، وبقياسنا أنه لو كان لا على الطبع بل بالاتفاق لوجد في بعض الأحايين.
- الرابع: الأخبار التي يقع بها التصديق لشدة التواتر، فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور والتصديق، ثم إذا حصلتها رجعت إلى ذاتها فإن تعرض لها من القوى التي دونها بأن يشغلها شغلته عن فعله، وأضرت بفعله إلا في أمور تحتاج فيها إليها النفس، خاصة بأن تعود إلى القوى الخيالية مرة أخرى لاقتناص مبدأ غير الذي حصل، أو معاونة بإحضار خيال، وهذا يقع في الابتداء كثيرًا ولا يقع بعده إلا قليلًا.
وأما إذا استكملت النفس وقويت، فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق، وتكون القوى الخيالية والحسية وسائر القوة البدنية غير صارفة لها عن فعلها، بل شاغلة لها.
ومثال ذلك أن الإنسان قد يحتاج إلى دابة وآلات ليتوصل بها إلى المقصد، فإذا وصل إليه ثم عرض من الأسباب ما يحول عن مقارنته، صار السبب الموصل بعينه عائقًا.
بيان أن هذه القوى كيف يرأس بعضها بعضًا؟ وكيف يخدم بعضها بعضًا
فإنك تجد العقل المستفاد رئيسًا مطلقًا ويخدمه الكل وهو الغاية القصوى، ثم العقل بالفعل يخدمه العقل بالملكة، والعقل الهيولاني — لما فيه من الاستعداد — يخدم العقل بالملكة، ثم العقل العملي يخدم جميع هذا؛ لأن العلاقة البدنية لأجل تكميل العقل النظري، والعقل العملي هو مدبر تلك العلاقة، ثم العقل العملي يخدمه الوهم، والوهم يخدمه قوتان قوة بعده وقوة قبله.
فالقوة التي بعده هي القوة التي تحفظ ما أداه الوهم، والقوة التي قبله هي جميع القوى الحيوانية، ثم المتخيلة يخدمها قوتان مختلفتا المأخذ؛ فالقوة النزوعية تخدمها بالائتمار؛ لأنها تبعثها على التحريك، والقوة الخيالية تخدمها بقبول التركيب والتفصيل فيما فيها من صورها، ثم هذان رئيسان لطائفتين. أما القوة الخيالية فيخدمها بنطاسيا، وبنطاسيا يخدمها الحواس الخمس، وأما القوة النزوعية فتخدمها الشهوة والغضب، والشهوة والغضب تخدمها القوة المحركة بالفعل، وإلى ها هنا تنتهي القوى الحيوانية، ثم القوى الحيوانية بالجملة تخدمها النباتية، وأولها وأرأسها المولدة، ثم المربية تخدم المولدة، ثم الغاذية تخدمها جميعًا، ثم القوى الطبيعية الأربع تخدم هذه وهي الهاضمة، وتخدمها من جهة الماسكة ومن جهة الجاذبة، وتخدمها جميعها الدافعة وتخدم جميعها الكيفيات الأربع، لكن الحرارة تخدمها البرودة وتخدم كليهما الرطوبة واليبوسة، وهناك آخر درجات القوى.