الأرواح البشرية حادثة
- أحدهما: باختلاف النوع والماهية كتغاير النار والماء، وتغاير السواد والعلم.
- الثاني: بالعوارض التي لا تدخل في الماهية، كتغاير الماء الحار للماء البارد، فإن كان تغاير الأرواح البشرية بالنوع والماهية فمحال؛ لأن الأرواح البشرية متفقة بالحد والحقيقة، وهي نوع واحد؛ لأن الحد — وهو الحيوان الناطق — يشملها. وإن كانت متغايرة بالعوارض، فمحال لأن الحقيقة الواحدة إنما تتغاير عوارضها إذا كانت متعلقة بالأجساد منسوبة إليها بنوع ما، ولا تعلق لها بالأجسام قبل وجود الأبدان، فكان الاختلاف محالًا؛ إذ الاختلاف في أجزاء الجسم ضرورة، ولو كان في القرب من السماء والبعد منه مثلًا. أما إذا لم يكن كذلك كان الاختلاف والتغاير محالًا، وهذا ربما يحتاج تحقيقه إلى مزيد بيان، ولكن في هذا القدر تنبيه عليه.
فإن قيل: فكيف تكون حال الأرواح بعد مفارقة الأجسام، ولا تعلق لها بالأجسام فكيف تكثرث وتغايرت؟
فالجواب أن نقول لأنها اكتسبت بعد التعلق بالأبدان أوصافًا مختلفة من العلم والجهل، والصفاء والكدرة، وحسن الأخلاق وقبحها، فبقيت بسببها متغايرة، فعقلت كثرتها بخلاف ما قبل الأجساد، فإنه لا سبب لتغايرها، فقد اتضح أن النفس تحدث كما تحدث مادة بدنية صالحة لاستعمالها إياها، ويكون البدن آلة ومملكة لها، ويكون للنفس الحادثة في جوهرها هيئة نزاع طبيعي إلى الاشتغال بذلك البدن خاصة، والاهتمام بأحواله والانجذاب إليه، وتلك الهيئة تكون مقتضية لاختصاصها بذلك البدن، ولا بد أن تكون مناسبة له مناسبة خاصة لصلوح سياسة بدن خاص دون آخر، وإن خفيت علينا تلك المناسبة بعينها، فإن تلك المناسبات غير محصورة ولا ظاهرة، والله سبحانه وتعالى يتولَّى أسرارها وسرائرها.
فإن قيل: لا نسلم بأن النفوس الإنسانية متفقة في النوع والمعنى، ولسنا نسلم أن الأنواع إنما تتكثر من جهة النسبة إلى المادة والمكان والزمان فحسب، بل الماديات إنما تتكثر بالمقادير والكائنات الزمانية، والنفوس الإنسانية ليست بمادية في ذاتها، وإنما نسبتها إلى المادة بوجه التدبير والتصرف لا بوجه الانطباع في المادة، حتى يستدعي مكانًا مميزًا وزمانًا مميزًا، والتدبير والتصرف لا يوجب تعددًا ذاتيًّا، فإن الواحد يجوز أن يكون متصرفًا في أشياء، والعدد الكثير يجوز أن يكون متصرفًا في شيء واحد، فهذه النسبة لذاتها لا توجب الكثرة في الذات.
قلنا: الدليل على أن النفوس الإنسانية متفقة النوع ما ذكرناه، وهو أن حد الإنسان يشملها وهو الحي الناطق وما شمله حد النوع، فهو متفق في النوع، والدليل على أن أسباب التكثر ما ذكرته أن الأشياء التي ذواتها حقائق فقط، إنما تكثرها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو بنسبة ما إليها وإلى أزمنتها فقط، فإذا كانت مجردة لم تقترن بذلك فمحال أن يكون بينهما مغايرة وتكثر.
وأما قولهم أن النفس الإنسانية ليست بمادية فتتمايز بالمادة فمسلم، لكنها ذات نسبة إلى المادة أي نسبة كانت، وإن لم تكن نسبة الانطباع فنسبة التدبير والتصرف، وهذه النسبة مؤثرة في التمييز كافية، فيقال إن النفس الإنسانية ملك تلك المدينة الفاضلة.
فإن قيل لا نسلم أن الأسباب المكثرة محصورة فيما ذكرتم من أقسام الحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو النسبة إليها، فما الدليل على الحصر؟ أليست المفارقات متغايرة الذوات والحقائق ولا حوامل لها ولا قوابل، ولا مكان ولا زمان، وإنما تتمايز وتتغاير بحقائقها الذاتية وإنما نوعها في شخصها — أعني في ذاتها — فهلا قلتم في النفوس الإنسانية أنها تتغاير بخواصها أو بأمر آخر سوى الحوامل، أليست النفوس بعد المفارقة تتغاير بالعدد؟ وتقولون إنها تتغاير بما اكتسبت من الأبدان من الأخلاق والعلوم، وقلتم يكفيها في التمييز هيئة أنها كانت نفس البدن الفلاني، ولئن كان هذا القدر كافيًا في التمييز، فهلا كان كافيًا في التمييز هيئة أنها ستكون نفس البدن الفلاني، فإن الانطباع في البدن ليس بشرط.
قلنا: في المفارقات قد قام الدليل على أنها متغايرة الحقائق، أما النفوس البشرية فيشملها حد واحد — كما ذكرنا — وإنما يمكن وجودها وتعددها بعد المفارقة بهيئات وأخلاق اكتسبت من الأبدان، وقبل الاتصال بالبدن لا يمكن أن تكتسب من الأبدان شيئًا؛ إذ لا أبدان. وما لا يكون ليس له تأثير فإنا نعلم قطعًا أنها بعد الاتصال بالبدن إنما تكمل بمعاونة البدن، وتكتسب فضائل ورذائل من العلاقة البدنية، فقبل البدن لا علاقة فلا اكتساب فلا تغاير، فثبت أنها تحدث مع البدن.
فإن قيل: أحلتم وجود النفوس البشرية قبل الأبدان ببيان ما ذكرتم من أنها لا تتصور قبل الأبدان، ونحن نورد إشكالين واقعين على نحو وجودها متصلة بالأبدان، وحادثة مع حدوث الأبدان؛ وذلك لأنه من المسلم بيننا أن النفوس الإنسانية ليست مادية ولا منطبعة في مادة، وما هذا سبيله، فليس حدوثه على تدريج شيء بعد شيء أو زمان بعد زمان، بل يكون وجوده إبداعيًّا محضًا، ووجود البدن ليس بإبداعي محض، بل على تدريج شيء بعد شيء واستحالة جزء بعد جزء، فأي جزء بعينه انتهت النوبة إليه في الاستحالة، حتى يحدث عنده النفس ويتصل به، وليس جزءًا بعينه إلا ويمكن حدوث النفس قبله بلحظة أو بعده بلحظة. ولو قلتم إنها تحدث عند كمال الاستعداد، فيقال: وكمال الاستعداد ليس يحصل بغتة ودفعة، بل على تدريج كمال بعد كمال، وقد بان أنها كمال واحد يحصل إبداعًا لا تدريج فيه. ثم إن الاستعداد وكمال الاستعداد إنما يشترط فيما هو صورة مادية — أعني منطبعة في المادة — فيكون الاستعداد سببًا ما بوجه ما لحصول الصورة فيه من واهب الصور، ولا يشترط ذلك في النفوس التي ليست منطبعة في مادة أصلًا، ولا علاقة بينها وبين القوى المادية إلا علاقة التدبير والتصرف في المملكة، فالتصرف فيه كيف يكون سببًا لوجوب المتصرف المدبر فيه، والمدبر أولى بأن يكون متقدمًا في الوجود على المملكة واشتراط الاستعداد لقبول الصورة، حتى توجد الصورة في المستعد غيرٌ، واشتراط الاستعداد لقبول تصرف النفس غيرٌ، فإن الاستعداد الأول يصلح سببًا لوجود النفس بوجه ما، بل هو سبب لقبول تصرفه فيه، إما ليفيده كمالًا أو ليستفيد منه فائدة وهذا إشكال عظيم.
فالجواب عنه كلمة واحدة، فإن العلم نكتة واحدة كثرها الجهل. فنقول: لا ارتياب في أن النفوس إبداعية وأنها ليست منطبعة في المادة، وإنما تحدث من مبدعها عند كمال الاستعداد الذي عبر عنه في التنزيل بقوله: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ومبدعها أعلم بكمال الاستعداد، وليس في طاقة القوى البشرية الإحاطة بتفاصيل الاستعدادات، ولكن على الجملة نعلم أن الصور تفيض من مبدعها وواهبها كما يقتضيها جود الجواد المحض عن كمال العلم المحيط بتفاصيل المعلومات، فيعطي كل مستحق ما يستحقه وكل قاصر ما يكمله، بل ماهيات الأشياء واستعداداتها من جوده الفياض، بواسطة الأسباب المعطية للاستعدادات الخاصة من الأجرام العنصرية وامتزاجاتها، وحركات السموات وأجرامها وأشكالها وخواصها، وفيض العقول على النفوس وإفاضة النفوس طلبًا للاستكمال تحريكًا للسماوات، فالكل من جود الجواد الحق الذي يعطي كل حقيقة وجودها، وهو أعلم بكمال الاستعداد، وأي استعداد يستحق أي صورة. وعلوم البشر قاصرة عن إدراك ذلك، وإذا بلغ الكلام إلى الله سبحانه فينقطع سؤال لِمَ، كما ينقطع مطلب ما لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
الإشكال الثاني: إن النفوس إذا كانت متشابهة في النوع فائضة من واهب الصور، وليس في فيضانه اختلاف، فمن أين يجب أن يكون كل نفس حادثة ذات هيئة نزاعية طبيعية إلى الاشتغال ببدن مخصوص، والاهتمام بأحواله؟ ومن أين يلزم أن يكون لها مناسبة خاصة تصلح لسياسة بدن خاص دون بدن؟ فإن كانت هذه الهيئة لازمة لذاتها فهي متخصصة بهذه الهيئة قبل وجود البدن، وإن كانت هذه الهيئة تكتسب هذه الهيئة من البدن، فكيف يسبق الموجب على الموجب، وكيف تكون تلك الهيئة نزاعية طبيعية؟
وجملة القول: إن لم تكن هيئة مختصة فلم اختصت ببدن دون بدن، وإن كانت الهيئة طبيعية على حالتها، فهي المخصصة لذاتها بعد الاتفاق في النوع، وإن كانت مكتسبة من خارج — وهو إما هذا البدن أو غيره — فليتحقق لها وجود حتى تكتسب الهيئة المخصصة، وكل ذلك محال، ثم اختلاف المناسبات والهيئات تستدعي اختلاف الأسباب، وواهب الصور واحد في ذاته أحدي الإفاضة، فلا اختلاف هناك ولا تأثير لاختلاف الأمزجة في اختلاف هيئات النفوس؛ إذ لا انطباع ولا حلول ولا اتصال بين المجردات وبين الأمزجة، بخلاف النفوس النباتية والنفوس الحيوانية والصور الجسمانية والصور الطبيعية، فإن اختلاف النفوس والصور لاختلاف موادها وصورها مقدرة على استعداداتها.
وحل هذا الإشكال أن تقول: نعم إن المناسبات والهيئات المختلفة تستدعي أسبابًا مختلفة، وأسباب الاستعدادات وأسباب الامتزاجات، وجميع ما يحدث في العالم العنصري منوطة بالحركات السماوية، وحتى الاختيارات والإرادات فإنها لا محالة أمور تحدث بعد ما لم تكن، ولكل حادث بعد ما لم يكن علة وسبب حادث، وينتهي ذلك إلى الحركة، ومن الحركات إلى المستديرة، فجميع الاستعدادات تابعة للحركات السماوية، ثم الحركات المستديرة مستندة إلى اختيارات النفوس الفلكية، والكل يستند إلى العقل الإلهي المستعلي على الكل، الذي منه ينشعب المقدورات، فالجود الإلهي بواسطة العقول والنفوس والحركات السماوية، يعطي كل مادة استعدادها لصورة خاصة، والنفوس لا تحدث بالاستعداد الخاص، بل عند الاستعداد الخاص وفرق بين أن تحصل عنده أو به.
ثم الهيئة النزاعية في النفس إنما تكون بعد الاتصال بها، فإذا حدوث النفس له صفة في الفاعل وصفة في القابل. أما صفة الفاعل فالجود الإلهي الذي هو ينبوع الوجود، وهو فياض بذاته على كل ماله قبول الوجود حقيقة وجوده، ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة، وإن أضفت هذا الفيض إلى الوسائط فواهب الصور.
ومثاله: فيضان نور الشمس على كل قابل للاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما، والقابل للاستنارة هي المتلونات دون الهواء الذي لا لون له.
وأما صفة القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل بالتسوية كما قال: سويته. ومثال صفة القابل صقالة الحديد، فإن المرآة التي ستر الصدأ وجهها لا تقبل الصورة وإن كانت محاذية للصورة، وإذا اشتغل المصقل بتصقيلها، فكلما حصلت الصقالة حدثت فيها الصورة من ذي الصورة المحاذية لها، فكذلك إذا حصل الاستواء والاستعداد في النطفة، حدثت فيها النفس من واهبها وخالقها من غير تغير في الواهب، بل إنما حدث الروح الآن لا قبله لتغير المحل بحصول الاستواء الآن لا قبله، كما أن الصورة فاضت من ذي الصورة على المرآة في حكم الوهم من غير تغير في الصورة، ولكن كان لا تحصيل من قبل لأن الصورة ليست مهيئة لأن تنطبع في المرآة، لكن لأن المرآة لم تكن صقيلة.
فإن قيل: فإذا كانت الأرواح حادثة مع الأجساد، فما معنى قوله ﷺ: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام.» وقوله عليه السلام: «أنا أول الأنبياء خلقًا وآخرهم بعثًا.» وقوله عليه السلام: «كنت نبيًّا وآدم لمنجدل بين الماء والطين.»
قلنا: شيء من هذا لا يدل على قدم الروح، بل على حدوثه وكونه مخلوقًا. نعم، ربما دل بظاهره على تقديم وجوده على الجسد، كما ظن جماعة من الحكماء وأمر الظواهر هين، فإن تأويلها ممكن، والبرهان القاطع لا يدرأ بالظواهر بل يسلط على تأويل الظواهر، كما في ظواهر الآيات المتشابهات في حق الله تعالى.
أما قوله عليه السلام: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد.» أراد بالأرواح أرواح الملائكة، وبالأجساد العالم من العرش والكرسي والسموات والكواكب والهواء والماء والأرض، وكما أن أجساد الآدميين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلى جرم الأرض، وجرم الأرض أصغر من الشمس بكثير، ثم لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكه، ولا لفلكه إلى السموات التي فوقه، ثم كل ذلك اتسع له الكرسي إذ وسع كرسيه السموات والأرض، والكرسي صغير بالإضافة إلى العرش. فإذا تفكرت في جميع ذلك استحقرت أجساد الآدميين، ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد. فكذلك فاعلم وتحقق أن أرواح البشر بالإضافة إلى أرواح الملائكة، كأجسادهم بالإضافة إلى أجساد العالم، ولو انفتح لك باب معرفة الملكية لرأيت الأرواح البشرية كسراج اقتبس من نار عظيمة طبقت العالم، وتلك النار العظيمة هي الروح الأخير من أرواح الملائكة، ولأرواح الملائكة ترتيب، وكل واحد منفرد برتبته، ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان، بخلاف الأرواح البشرية المتكثرة مع اتحاد النوع. أما الملائكة فكل واحد نوع برأسه وهو كل ذلك النوع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وبقوله عليه السلام: «إن الراكع منهم لا يسجد، والقائم لا يركع، وإنه ما من واحد إلَّا وله مقام معلوم، فلا تفهمنَّ إذًا من الأرواح والأجساد المطلقة، إلَّا أرواح الملائكة وأجساد العالم.»
- الوجه الأول: إنا شاهدنا الموجودات كلها بشهادة الحس والعقل على ترتب وتفاضل في النوع
والشخص.
أما في المركبات التي هي أقرب إلى حواسنا، فالمعادن والنباتات والحيوان والإنسان على تفاضل، وانتهى ذلك بالإنسان، وانتهى الإنسان بالشخص الواحد الأفضل من الكل، كالنبي في زمانه والولي في كل زمان.
وأما في البسائط الجسمانية — أعني المتشابهة الأجزاء — فهي أيضًا على تفاضل في الجوهر والحيز والعظم والحركة، والأفضل من الكل الجرم الأقصى، وهو الذي عبر عنه التنزيل بالعرش والكرسي الذي وسع السموات والأرض.
وأما في البسائط الروحانية — أعني المجردة عن المواد المنزهة عن المكان والزمان — ففيها ترتب وتفاضل، فما كان أشد قوة وأوسع علمًا وإحاطة، وأبلغ في الوحدة وأشبه بكمال الربوبية كان في المقام الأعلى والمرتبة الأقصى، ولا بد أن ينتهي بواحد، فإن المترتبات المتفاضلات إن لم تنته بواحد أوجب ذلك الحكم بالتسلسل، وذلك محال، فالمترتبات في كل قسم انتهت بواحد هو مبدؤها.
وربما يعبر لسان النبوة عن ذلك الواحد بأنه أول ما خلق الله تعالى، فالروحانيات انتهت بروح القدس أو العقل الفعال أو شديد القوى ذو مرة فاستوى، وهو أول المبدعات، ثم ينزل بالترتب والتفاضل، كما قيل: أول ما خلق الله عز وجل العقل، ثم النفس، ثم الهيولى، أو ما روي في الخبر: إن أول ما خلق الله عز وجل القلم، ثم اللوح، ثم الظلمة الخارجة.
وأما الجسمانيات٢ فقد انتهت بالجرم الأقصى، وهو ما روي أن أول ما خلق الله العرش ثم الكرسي، وأما في المركبات فقد انتهت بجوهر النبوة وأكملها وأفضلها جوهر محمد ﷺ، وذلك ما روي إن أول ما خلق الله تعالى جوهر محمد ﷺ، فقد وجدت لكل مقال مجالًا، ولكل مذهب محملًا ومساغًا، ثم الأولية في كل صنف منها هل هي أولية بالزمان أو أولية بالمكان أو أولية بالذات — أعني العلة الفاعلية أو الكمالية — فذلك مطلب آخر سهل التناول قريب المأخذ والمجتنى. - الوجه الثاني: إن المبادئ تساق إلى الكمالات، حتى لو لم يكن كمال لم يكن مبدأ، كما لو لم يكن
مبدأ لم يكن كمال، وإن المعقولات تظهر بالمحسوسات، وكما أن كمال جلال الحق إنما
يظهر بأفعاله وصنائعه، وكذلك الأمر الحق إنما يظهر بخلقه، وكذلك العقل إنما يظهر
بالنفس، والنفس إنما تظهر بالطبيعة، والطبيعة إنما تظهر بالجسم الكلي، وكذلك جميع
الموجودات، إنما يظهر بالإنسان حتى يكون جسمه وطبيعته مظهر الجسم، والطبيعة ونفسه
وعقله مظهر النفس، والعقل وتسليمه مظهر الأمر الحق، فيظهر به جلال الباري تعالى
وإكرامه.
ويصح أن يُقال لولاك ما خلقت الأفلاك، فهو الخلاصة من الخليقة والصفوة من البرية، وهو الكمال والغاية والسدرة المنتهى، وهو أول ما خلق، وآخر ما بعث، كما ذكره عليه السلام.
- الوجه الثالث: إن الطبيعة المسخرة تؤثر في إعداد المادة لقبول فيض الأمر والعقل والنفس، حتى يحصل في المركبات باستصفاء العناصر، واستخلاص اللباب من المواد، وابتلاء الأمشاج من المزاج طبقة بعد طبقة، واستصفاء بعد استصفاء حتى يحصل في المركبات الجزئية شخص في مقابلة العقل الكلي، بل هو شخص العقل أو عقل الشخص، وذلك هو نبي زمانه فيكون العود به كما كان البدء إليه، فيضاهي صاحب المبدأ صاحب الكمال، وتكون النهاية هي الرجوع إلى البداية، ويكون أول الفكر آخر العمل، ويظهر معنى قول النبي ﷺ: «نحن الآخرون السابقون.»
- الوجه الرابع: كما ابتدأ الدين والشريعة من آدم عليه السلام، واستكمل نوع كمال بنوح عليه السلام، ونوع كمال بموسى عليه السلام، ونوع كمال بعيسى عليه السلام، ونوع كمال بالمصطفى عليه السلام. وابتدأ العود من المصطفى ﷺ في دار الجزاء؛ ولذلك قال: «أنا أول من ينشق عنه الأرض، وأنا العاقب، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي.»