إثبات العقل المفارق الفعال والعقل المنفعل في النفوس الإنسانية ومراتب العقول
وإثبات العقل الفعال من حيث الشرع أظهر من أن يثبت لوروده جليًّا في النصوص.
- الأول: ما ذكرناه قبل ذلك من ترتب الموجودات وتفاضلها، وأنها في أجسام البسائط تنتهي إلى العرش وفي الروحانيات إلى العقل والنفس، وفي المركبات إلى جوهر محمد ﷺ، وقد بسطنا ذلك الفصل فلا نعيده.
- الوجه الثاني: قد بان لك أن المرتسم بالصورة العقلية غير جسم ولا في جسم؛ لأن الجسم ينقسم
وما في الجسم أيضًا والصور العقلية كلية متحدة لا تنقسم، فلو حلت جسمًا لانقسمت وانقسامها
محال، فحلولها في الجسم وما في الجسم محال.
وأنت تعلم أن المرتسم بالصورة التي قبلها،٤ أعني الوهم والخيال والحس قوًى مركوزة في الأجسام، وأن الصورة إذا كانت حاصلة في القوى ولم تغب عنها، وأن الإنسان يدرك صورًا عقلية ثم تغيب عنه، وإن أراد أن يعود إليها يعود على قرب من غير تكلف اكتساب، بل يحتاج إلى الإقبال عليها. فهذه الصور العقلية التي غابت إما أن تكون قد انعدمت، فينبغي أن يحتاج إلى الاكتساب كما كان أولًا يحتاج إليه، وإن لم تنعدم فإما أن تكون في النفس أو في البدن أو خارجًا، فإن كانت في النفس، فينبغي أن تكون شاعرة بها عاقلة؛ لأنه لا معنى للتعقل إلا حصول تلك الصورة في النفس، ولا يجوز أن تكون في البدن؛ لما ذكرنا أن المعقولات لا تحل الأجسام، وما في الأجسام وإن كانت خارجة، فإما أن تكون قائمة بنفسها، أو تكون في جوهر آخر شأنه إفاضة المعقولات على الأنفس البشرية، ولا يجوز أن تكون قائمة بنفسها؛ لأن المعاني قيامها بالجوهر فلا تقوم بنفسها، فبقي أن تكون في الجوهر المفيض للمعقولات، فثبت بهذا وجود ملك شأنه ما ذكرناه، وذلك هو العقل الفعال وهو روح القدس.
ثم الدليل على أن التعقل لا يكون غير التمثل، فإنها لو غابت عنها، ثم عاودتها لا يحصل غير التمثيل، فلو كان هذا التمثيل ثابتًا للنفس كانت شاعرة بها عاقلة لها، فيجب أن تكون الصورة قد زالت عن النفس زوالًا ما، وهذا بخلاف ما يدركه الوهم ثم يغيب عنها، فإن للقوة الوهمية خازنًا يحفظ مدركاتها، فمتى غابت عن الوهم والتفت إليها أخذ منه المعاني التي استفادت من الصور.
نعم لا ننكر أن الزوال يكون على قسمين؛ فتارة يزول عن القوة الدراكة، ويتحفظ في قوة أخرى كالخازن لها، وتارة يزول عن القوة وعن الخازن، ففي الوجه الثاني يحتاج إلى تجشم كسب جديد، وعلى الأول لا يحتاج إلى كسب، بل إلى التفاوت ومطالعة للخزانة من غير تجشم كسب، وفي المعقولات يحتمل القسمين، ولكن قد بينا أنه لا خازن لها لا في النفس ولا في البدن، فبقي أن يكون شيئًا خارجًا إذا وقع بين نفوسنا وبينه اتصال ما، ارتسم منه فيها الصور العقلية الخاصة بذلك الاستعداد لأحكام خاصة.
وإذا أعرضت النفس عنه إلى ما يلي العالم الجسداني أو إلى صورة أخرى، انمحى ما تمثل أولًا، كأن المرآة التي تحاذي بها جانب القدس قد أعرض بها عنه إلى جانب الحس أو إلى شيء آخر من أمور القدس، وهذا إنما يكون أيضًا إذا اكتسبت ملكة الاتصال بالعقل الفعال.
- الوجه الثالث: إن النفس الإنسانية قد تكون عاقلة بالقوة ثم تصير عاقلة بالفعل، وكل ما خرج
من القوة إلى الفعل فإنما يخرج بسبب هو بالفعل يخرجه، فها هنا سبب هو الذي يخرج نفوسنا
في
المعقولات من القوة إلى الفعل، وإذ هو السبب في إعطاء الصور العقلية، فيكون عقلًا بالفعل
عنده
مبادئ الصور العقلية مجردة، فهذا الشيء سمي بالقياس إلى العقول التي تخرج منه إلى الفعل
عقلًا
فعالًا، كما يسمى العقل الهيولاني بالقياس إليه عقلًا منفعلًا، ويسمى العقل الكائن بينهما
عقلًا منفعلًا، ويسمى العقل الكائن بينهما عقلًا مستفادًا.
ونسبة العقل الفعال إلى نفوسنا نسبة الشمس إلى أبصارنا، فكما أن الشمس تبصر بذاتها بالفعل ويبصر بنورها ما ليس مبصرًا بالفعل، كذلك حال هذا العقل عند نفوسنا؛ فإن القوة العقلية إذا اطلعت على الجزئيات في الخيال وأشرق عليها نور العقل الفعال، استحالت مجردة عن المادة وعلائقها، وانطبعت في النفس الناطقة لا على أن نفسها تنتقل من التخيل إلى العقل منا، ولا على أن المعنى المغمور في العلائق، وهو في نفسه واعتباره مجرد يعقل مثل نفسه، بل على معنى أن مطالعتها تعد النفس لأن يفيض عليها المجرد من العقل الفعال، فإن الأفكار والتأملات حركات معدة النفس نحو قبول الفيض، كما أن الحدود الوسطى معدة بنحو أشد تأكيدًا لقبول النتيجة، وإن كان الأول على سبيل والثاني على سبيل، فتكون النفس الناطقة إذا وقعت لها نسبة ما إلى هذه الصورة بتوسط إشراق العقل الفعال، حدث فيها شيء من جنسها من وجه وليس من جنسها من وجه، كما أنه إذا وقع الضوء على الملونات فعل في البصر منها أثرًا ليس على جملتها من كل وجه.
فالخيالات التي هي معقولات بالقوة تصير معقولات بالفعل، لا أنفسها بل ما يلتقط عنها، كما أن الأثر المتأدي بواسطة الضوء من الصور المحسوسة ليس هو نفس تلك الصور، بل شيئًا آخر مناسبًا لها، يتولد بتوسط الضوء في القابل المقابل. كذلك النفس الناطقة إذا طالعت تلك الصور الخيالية، واتصل بها نور العقل الفعال ضربًا من الاتصال، استعدت لأن يحدث فيها من ضوء العقل مجردات تلك الصور من الشوائب، فأول ما يتميز عند العقل الإنساني أمر الذاتي منها والعرضي، وما به يتشابه به وما به يختلف، فتصير المعاني معنًى واحدًا في ذات العقل بالقياس إلى التشابه، لكنه بالقياس إلى ما تختلف به تصير معاني كثيرة، فيكون للعقل قوة على تكثير الواحد من المعاني وعلى توحيد الكثير، أما توحيد الكثير فمن وجهين:- أحدهما: أن تصير المعاني الكثيرة المختلفة في التخيلات بالعدد، إذا كانت لا تختلف في الحد معنًى واحدًا.
- والثاني: أن تركب من معاني الأجناس والفصول معنًى واحدًا بالحد، ويكون وجه التكثير بعكس هذين الوجهين، فهذا من خواص العقل الإنساني وليس ذلك لغيره من القوى، فإنها تدرك الكثير كثيرًا كما هو، والواحد واحدًا كما هو، ولا يمكنها أن تدرك الواحد البسيط بل الواحد من حيث هو جملة مركبة من أمور وأعراضها، ولا يمكنها أن تفصل العرضيات وتنزعها عن الذاتيات، فإذا عرض الحس على الخيال صورة وعرض الخيال على العقل تلك الصورة يأخذ العقل معنى، فإن عرض عليه صورة أخرى من ذلك النوع، وإنما هو آخر بالعدد لم يأخذ منه العقل صورة ما غير ما أخذه أولًا، إلا من جهة العرض الذي يخص هذا من حيث ذلك العرض بأن يأخذه مرة مجردًا، ومرة مع ذلك العرض. ولأجل هذا يقال: إن زيدًا وعمرًا لهما معنى واحد في الإنسانية؛ أعني أن السابق منهما إذا أفاد النفس صورة الإنسانية، فإن الثاني لا يفيد البتة شيئًا من ذلك المعنى، بل يكون المعنى المنطبع منهما في النفس واحدًا هو عن الخيال الأول، ولا تأثير للخيال الثاني. وللعقل إذا أدرك أشياء فيها تقدم وتأخر أن يعقل معها الزمان ضرورة، ويكون ذلك لا في زمان، بل في آن والعقل يعقل الزمان في آن.
وأما تركيبه للحد والقياس فهو لا محالة يكون في زمان، إلا أن تصور النتيجة والمحدود يكون دفعة، والعقل ليس قصوره عن تصور الأشياء التي هي في غاية المعقولية والتجريد عن المادة لأمر في ذات تلك الأشياء، ولا لأمر في غريزة العقل، بل لأجل أن العقل مشغول بالبدن ويحتاج في كثير من الأمور إلى البدن، فيبعده البدن عن أفضل كمالاته، فإذا زال عنه هذا الغمور كان تعقل النفس للمجردات أفضل التعقلات وأوضحها وألذها.
وأما مراتب العقل من الهيولاني والملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد فقد ذكرناها، وأما العقل القدسي فسنذكره إن شاء الله تعالى في خصائص النبوة.