قاعدة في النبوة والرسالة
تشتمل على بيانات: بيان أن الرسالة هل تقتنص بالحد أم لا، وبيان أن الرسالة مكتسبة أم أثرة ربانية، وبيان إثبات الرسالة بالبرهان، وبيان خواص الرسالة وهي المعجزات، وبيان كيفية الدعوة وما يؤخذ من السمع وما لا يؤخذ.
بيان أن الرسالة لا تقتنص بالحد والحقيقة بذكر جنسها وفصلها
وذلك لأن معرفة الأشياء لا تتوقف على الظفر بحدودها ووجدان جنسها وفصلها، فكم من موجود لا جنس له ولا فصل ولا حد ولا رسم، وماله جنس وفصل فربما لا يظفر بجنسه وفصله، وأكثر الأمور كذلك، فإن إعطاء الحدود صعب عسر على الأذهان.
نعم يستدل على وجوده وحقيقته بآثاره، فإن العقل والنفس وكثيرًا من المفارقات تتصور، ولا حد لها ولا رسم وإنما يدل عليها برهان.
الرسالة هل هي حظوة مكتسبة أم أثرة ربانية
إثبات الرسالة بالبرهان
بيان إثباتها بطريقين: أحدهما جملي، والآخر تفصيلي. أما الجملي فهو كما أن نوع الإنسان تميز عن سائر الحيوانات بنفس ناطقة، هي فوقها بالفضيلة العقلية والمسخرة لها والمالكة عليها والمتصرفة فيها، كذلك نفوس الأنبياء عليهم السلام تميزت عن نفوس الناس بعقل هادٍ مهدي، هو فوق العقول كلها بالفضيلة الربانية المدبرة لها والمالكة عليها والمتصرفة فيها، وكما أن حركات الإنسان معجزات الحيوان؛ فليس حيوان يتحرك مثل حركته الفكرية والقولية والفعلية، كذلك جميع حركات النبي معجزات للإنسان، فليس إنسان يتحرك مثل حركته الفكرية والقولية والفعلية.
- الطريق الأول: برهان أنشئ من الحركات الاختيارية وهي أقسام ثلاثة: فكرية وقولية وعملية، والحركة الفكرية يدخلها الحق والباطل، والقولية يدخلها الصدق والكذب، والعملية يدخلها الخير والشر. وهذه العبارات اصطلاحية والمعنى مستقيم فيها مفهوم عنها، ولا يشك في أنها على تضادها واختلافها ليست واجبة الفعل بجملتها واجبة التحصيل، فإن من أفتى بهذه الفتوى٧ يكون مستحق القتل بفتواه؛ لأن قتله من جملة الحركات وهو واجب الفعل وليس كلها واجب الترك، فإن من أفتى بهذا ينبغي أن لا يتنفس؛ لأن التنفس منه حركة وهي واجبة الترك، فظهر من هذا أن بعضها واجب الترك وبعضها واجب الفعل، وإذا ثبت هذا فقد ثبت حدود في الحركات حتى كان بعضها خيرًا واجب الفعل وبعضها شرا واجب الترك، فالتمييز بين حركة وحركة بالحدود. ولا يخلو إما أن يعرفه كل أحد أو لا يعرفه أحد، أو يعرفه بعض دون بعض، وظاهر أنه لا يعرفه كل أحد وباطل أنه يعرفه كل أحد، فظهر أنه يعرفه أحد دون أحد، فثبت بالتقسيم الأول حدود في الحركات، وثبت بالتقسيم الثاني أصحاب حدود يعرفونها، وهم الأنبياء وأصحاب الشرائع عليهم الصلاة والسلام، والإنسان إذا راجع نفسه علم أنه إذا لم يكن عارفًا بالحدود، يجب أن يكون في حكم أصحاب الحدود، فثبت وجود النبوة بضرورة الحركات.
- الطريق الثاني: أن نقول إن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع على صلاح في حركاته الاختيارية ومعاملاته المصلحية، ولولا ذلك الاجتماع ما بقي شخصه ولا انحفظ نوعه، ولا احترس ماله وحريمه، وكيفية ذلك الاجتماع تسمى ملة وشريعة.
وبيان ذلك أنه في استبقاء حياته واستحفاظ نوعه وحراسة ماله وحريمه يحتاج إلى تعاون وتمانع، أما التعاون فلتحصيل ما ليس له مما يحتاج إليه في مطعمه وملبسه ومسكنه، وأما التمانع فلحفظ ما له من نفسه وولده وحريمه وماله، وكذلك في استحفاظ نوعه يحتاج إلى تعاون في الازدواج والمشاركة، وتمانع يحفظ ذلك على نفسه، وهذا التمانع والتعاون يجب أن يكونا على حد محدود وقضية عادلة وسنة جامعة مانعة، ومن المعلوم أن كل عقل لا يفي بتمهيد هذه السنة على قانون يشمل مصالح النوع جملةً، ويخص حال كل شخص تفصيلًا إلا أن يكون عقل مؤيد بالوحي مقيض للرسالة، مستمد من الروحانيات التي قيضت لحفظ نظام العالم، وهم بأمره يعملون وعلى سنته في الخلق سائرون وبحكمه حاكمون، فيكون الفيض متصلًا بها من المقادير في الأحكام، ثم منها فائضًا على الشخص المتحمل لتلك الأمانة القابل لأسرار الديانة، يتبع الحق في جميع الأمور، ويتبعه الخلق في جميع الحركات، يكلم الناس على مقادير عقولهم بعقله الواقف على تلك المقادير، ويكلف العباد على قدر استطاعتهم بقدرته المحيطة بتلك الأقذار.
خواص النبوة
للنبوة خواص ثلاث:
إحداهما تابعة لقوة التخيل والعقل العملي، والثانية تابعة لقوة العقل النظري، والثالثة تابعة لقوة النفس.
-
الخاصية الأولى: اعلم أولًا أنه ليس يمكن أن يبرهن على مبادئ العلوم ومقدماتها من العلوم
نفسها، فيسلم لنا ها هنا أن كل معلول معلول، فيجب أن يلزم عن علته حتى يوجد، وأن الحركة
السماوية اختيارية، وأن الحركة الاختيارية لا تلزم إلا عن اختيار بالغ موجب للفعل، وأن
الاختيار للأمر الكلي لا يوجب أمرًا جزئيًّا، فإنه إنما يلزم الأمر الجزئي بعينه عن اختيار
جزئي يخصه بعينه، وأن الحركات التي بالفعل كلها جزئية، فيجب إن كانت اختيارية أن تكون
عن
اختيار جزئي، فيجب أن يكون المحرك لها مدركًا للجزئيات ولا يكون البتة عقلًا صرفًا، بل
يكون
نفسًا تستعمل آلة جسمانية تدرك بها أمورًا جزئية إدراكًا، إما أن يكون تخيلًا أو تعقلًا
عمليًّا هو أرفع من التخيل، وله أيضًا عقل كلي يستمد من العقل المفارق الذي يدرك العلوم
الكلية. وهذا كله مبين في العلوم الإلهية، فيظهر من تسليم هذه أن الحركات السماوية يحرك
كل
واحد منها جوهر نفساني، يتعقل الجزئيات بالنحو من التعقل الذي يخصها، ويرتسم فيه صورها
وصور
الحركات التي يختارها كل واحد منها، ويجاوزه حتى تكون هيئات الحركات تتجدد فيها دائمًا،
حتى
تتجدد الحركات ويكون يتصور لا محالة حينئذٍ الغايات التي يؤدي إليها الحركات في هذا العالم.
ويتصور هذا العالم أيضًا بتفصيله وتلخيصه والأجزاء التي فيه لا يغرب عنها شيء، ويلزم
ذلك أن
يتصور الأمور التي تحدث في المستقبل، وذلك أنها أمور، ويلزم وجودها عن النسبة التي بين
الحركات المتعلقة عنها بالشخصية، والنسب التي بين الأمور التي ها هنا، والنسب التي بين
هذه
الأمور وتلك الحركات، فلا يخرج شيء البتة من أن يكون حدوثه في المستقبل لازمًا لوجود
هذه
على ما هي عليه في الحال، فإن الأمور إما أن تكون بالطبع، وإما أن تكون بالاختيار، وإما
أن
تكون بالاتفاق، والتي تكون عن الطبع إنما تكون باللزوم عن الطبع، إما طبع حاصل ها هنا
أوليا، أو طبع حادث ها هنا عن طبع ها هنا، أو طبع حادث ها هنا عن طبع سماوي.
وأما الاختيارات فإنها تلزم الاختيار والاختيار حادث، وكل حادث بعد ما لم يكن فله علة وحدوثه بلزومه وعلته، إما شيء كائن ها هنا على إحدى الجهات، أو شيء سماوي أو شيء مشترك بينهما، وأما الاتفاقيات فهي احتكاكات ومصادمات بين هذه الأمور الطبيعية والاختيارية بعضها مع بعض في مجاريها، فيكون إذًا الأشياء الممكنة ما لم تجب لم توجد، وإنما تجب لا بذاتها بل بالقياس إلى عللها وإلى الاجتماعات التي لعللٍ شتى، فإذًا يكون كل شيء متكون متصورًا بجميع الأحوال الموجودة في الحال من الطبيعة والإرادة الأرضية والسماوية، ولمأخذ كل واحد منها ومجراه في الحال، فإنه يتصور ما يجب عن استمرار هذه على مأخذها من الكائنات ولا كائنات إلا ما يجب عنها كما قلنا، فالكائنات إذًا قد تدرك قبل الكون لا من جهة ما هي ممكنة بل من جهة ما يجب، وإنما لا ندرك نحن؛ لأنه إما أن يخفى علينا جميع أسبابها الآخذة نحوها أو يظهر لنا بعضها ويخفى علينا بعضها، فبمقدار ما تظهر لنا منها يقع لنا حدس وظن بوجودها، وبمقدار ما يخفى علينا منها يتداخلنا الشك في وجودها.
وأما المحركات للأجرام السماوية، فيحضرها جميع الأحوال المتقدمة معًا، فيلزم جميع الأحوال المتأخرة معًا، فتكون الهيئة للعالم بما يريد أن يكون فيه يرتسم هناك، ثم تلك الصور — لا وحدها بل الصور العقلية التي في الجواهر المفارقة — غير محتجبة عن أنفسنا بحجاب البتة من جهتها، إنما الحجاب هو في قبولنا إما لضعفنا أو لاشتغالنا بغير الجهة التي عندها يكون الوصول إليها والاتصال بها، وأما إذا لم يكن أحد المعنيين فإن الاتصال بها مبذول، وليست مما تحتاج أنفسنا في إدراكها إلى شيء غير الاتصال بها ومطالعتها، فأما الصور العقلية فإن الاتصال بها بالعقل النظري.
فأما هذه الصور التي الكلام فيها، فإن النفس إنما يتصورها بقوة أخرى وهو العقل العملي، ويخدمه في هذا الباب التخيل، فتكون الأمور الجزئية تنالها النفس بقوتها التي تسمى عقلًا عمليًّا من الجواهر العالية النفسانية، وتكون الأمور الكلية تنالها النفس بقوتها التي تسمى عقلًا نظريًّا من الجواهر العالية العقلية التي لا يجوز أن يكون فيها شيء من الصور الجزئية البتة، وتختلف الاستعدادات للنفوس جميعًا في الأنفس خصوصًا الاستعداد لقبول الجزئيات بالاتصال بهذه الجواهر النفسانية، فبعض الأنفس يضعف فيها ويقل هذا الاستعداد لضعف القوة المتخيلة، وبعضها لا يكون فيه هذا الاستعداد أصلًا لضعف القوة المتخيلة أيضًا، وبعضها يكون هذا فيه أقوى، حتى أن الحس إذا ترك استعماله القوة المتخيلة وترك شغله بما يورد عليها جذبتها القوة العملية إلى تلك الجهة حتى انطبعت فيها تلك الصور، إلَّا أن القوة المتخيلة لما فيها من الغريزة المحاكية والمنتقلة من شيء إلى غيره تترك ما أخذت وتورد شبيهه أو ضده أو مناسبه، كما يعرض لليقظان من أنه يشاهد شيئًا، فينعطف عليه التخيل إلى أشياء أخرى يحضرها مما يتصل به بوجه حتى ينسيه الشيء الأول، فيعود على سبيل التحليل والتخمين ويرجع إلى الشيء الأول بأن يأخذ الحاضر مما قد تأدى إليه الخيال، فيفطن أنه خطر في الخيال تابعًا لأي صورة تقدمته وتلك لأي صورة أخرى، وكذلك حتى ينتهي إلى البدء ويتذكر ما نسيه. كذلك التعبير هو تحليل بالعكس لفعل التخيل حتى ينتهي إلى الشيء الذي تكون النفس شاهدته حين اتصالها بذلك العالم، وأخذت المتخيلة تنتقل عنه إلى أشياء أخرى، فهذه طبقة.
وطبقة أخرى يقوي استعداد نفسها حتى تستثبت ما نالته هناك، ويستقر عليه الخيال من غير أن يغلبه الخيال وينتقل إلى غيره، فتكون الرؤيا التي لا تحتاج إلى تعبير.
وطبقة أخرى أشد تهيئًا من تلك الطبقة، وهم القوم الذين بلغ من كمال قوتهم المتخيلة، وشدتها أنها لا تستغرقها القوى الحسية في إيراد ما يورد عليها، حتى يمنعها ذلك عن خدمة النفس الناطقة في اتصالها بتلك المبادئ الموحية إليها بالأمور الجزئية، فيتصل لذلك في حال اليقظة ويقبل تلك الصور.
ثم إن المتخيلة تفعل مثل ما تفعل في حال الرؤيا المحتاجة إلى التعبير، بأن تأخذ تلك الأحوال وتحاكيها وتستولي على الحسية حتى يؤثر ما يتخيل فيها من تلك في قوة بنطاسيا، بأن تنطبع الصور الحاصلة فيها في البنطاسيا المشاركة، فيشاهد صورًا إلهية عجيبة مرئية، وأقاويل إلهية مسموعة هي مثل تلك المدركات الوحيية، وهذه أدون درجات المعنى المسمى بالنبوة، وأقوى من هذا أن يستثبت تلك الأحوال والصور على هيئتها مانعة للقوة المتخيلة على الانصراف إلى محاكاتها بأشياء أخرى.
وأقوى من هذا أن تكون المتخيلة مستمرة في محاكاتها، والعقل العملي والوهم لا يتخليان عما استثبتاه، فثبت في الذاكرة صورة ما أخذت، وتقبل المتخيلة على بنطاسيا، وتحاكي فيه ما قبلت بصور عجيبة مسموعة ومبصرة، ويؤدي كل واحد منهما على وجهه.
وهذه طبقات النبوة المتعلقة بالقوى العقلية العملية والخيالية، وانظر قصص القرآن كيف أتت على جزئياتها كأنه شاهدها وحضرها، وكأنها كانت بمرأى من النبي ومسمع، وكيف صدقت بحيث لم ينكرها أحد من منكري النبوة، ولا يتعجبن متعجب من قولنا أن المتخيل قد يرتسم في بنطاسيا فيشاهد، فإن المجانين قد يشاهدون ما يتخيلون؛ ولذلك علة تتصل بإبانة السبب الذي لأجله يعرض للممرورين أن يخبروا بالأمور الكائنة فيصدقون في الكثير؛ ولذلك مقدمة: وهي أن القوة المتخيلة كالموضوعة بين قوتين مستعملتين لها سافلة وعالية.
أما السافلة فالحس، فإنها تورد عليها صورًا محسوسة تشغلها. وأما العالية فالعقل، فإنه بقوته يصرفها عن التخيل للكاذبات التي لا توردها الحواس عليها ولا يستعملها العقل فيها، واجتماع هاتين القوتين على استعمالها يحول بينها وبين التمكن من إصدار أفعالها الخاصة على التمام، حتى تكون الصورة التي تحضرها بحيث تنطبع في بنطاسيا انطباعًا تاما فيحس، فإذا أعرض عنها إحدى القوتين لم يبعد أن تقام الأخرى في كثير من الأحوال، فلم يمتنع عن فعلها فتمنعها، فتارة تتخلص عن مجاذبة الحس فتقوى على مقاومة العقل، وتمعن فيما هو فعلها الخاص غير ملتفت إلى معاندة العقل وهذا في حال النوم، وعند إحضارها الصورة كالمشاهدة، وتارة تتخلص عن سياسة العقل عند فساد الآلة التي يستعملها العقل في تدبير البدن، فيستعصي على الحس ولا يمكنها من شغلها، بل يمعن إيراد أفاعيلها حتى يصير ما ينطبع فيها من الصور كالمشاهدة لانطباعه في الحواس، وهذا في حال الجنون.
وقد يعرض مثل ذلك عند الخوف؛ لما يعرض من ضعف النفس وانخذالها، واستيلاء الوهم والظن المعينين للتخيل على العقل، فيشاهد أمورًا موحشة فالممرورون والمجانين يعرض لهم أن يتخيلوا ما ليس موجودًا بهذا السبب.
وأما أخبارهم بالغيب، فإنما يتفق أكثر ذلك لهم عند أحوال كالصرع والغشي الذي يفسد حركات قواهم الحسية، وقد يعرض أن تكل قوتهم المخيلة لكثرة حركاتهم المضطربة؛ لأنها قوة بدنية، وتكون هممهم عن المحسوسات مصروفة فيكثر رفضهم للحس، وإذا كان كذلك فقد يتفق أن لا تشتغل هذه القوة بالحواس اشتغالًا مستغرقًا، ويعرض لها أدنى سكون عن حركاتها المضطربة، ويسهل أيضًا انجذابها مع النفس الناطقة، فيعرض للعقل العملي إطلاع إلى أفق عالم النفس المذكور، فيشاهد ما هناك ويتأدى ما يشاهده إلى الخيال فيظهر فيه كالمشاهد المسموع، فحينئذٍ إذا أخبر به الممرور وخرج وفق مقاله يكون قد تكهن بالكائنات المستقبلة. والآن فيجب أن نختم هذا البيان، فقد أدينا فيه نكت الأسرار المكتومة، والله الموفق.
فإن قال قائل: إذا كان أصحاب الجن والكهنة والعرافون، وبعض المجانين ربما يخبرون عن الغيب ويصدق خبرهم، وينذرون بالآيات ويتحقق أثرها، فبطلت الخاصية النبوية.
فالجواب أن نقول: قد بينا قبل ذلك في البيانات المتقدمة أن التخيل في الحيوانات على تفاوت وتفاضل وتضاد وترتب، حتى قال بعض الحكماء: إن أعلى درجاته أن تصل النفس إلى النفس التي هي مدبر فلك القمر، الذي هو واهب الصور، ولولا أن الجزئيات من الموجودات الكائنة الفاسدة متصورة متخيلة في ذات النفس الفلكي، لما أفاض على كل مادة ما تستحقه من الصور، ولا مانع لها من تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري، وكأنه بهذا المعنى صار للأجسام السماوية زيادة معنى على العقل المفارق لتظاهر رأي جزئي وآخر كلي، وإن كان الرأي الكلي مستمدًا من العقول، فإذا فهمت هذا، فللنفوس البشرية أن تنتقش من ذلك العالم بحسب الاستعداد وزوال المانع، وتكون كالمرآة المقابلة للنفس الفلكي، حتى يقع فيها جميع ما في النفس الفلكي، فإلى هذا الحد عظموا أمر الخيال.
وأما في جانب السفل فإلى حيوان عديم التخيل أو ضعيف التخيل سريع النسيان، لا يمكنه أن يستثبت الصورة ساعة أو لحظة، بل يتجدد له الخيالات بحسب تجدد الحركات، وهذا على نمط التفاوت بالتفاضل، وأما ما هو على نمط التفاوت بالتضاد، فكخيال وتخيل كله حق نشأ عن نفس خيرة، وكخيال وتخيل كله باطل نشأ عن نفس شريرة، وكخيال وتخيل بين الطرفين، إن التفتت إلى الخير التحق به، وإن التفتت إلى الشر التحق به، وها هنا نمط آخر من الكلام، وهو إثبات عقل تجرد عن كل خيال، وإثبات خيال تجرد عن كل عقل، وإثبات عقل كله خيال، وإثبات خيال كله عقل، وها هنا حس عمل من خيال، وخيال عمل من حس، وعقل عمل من خيال، وخيال عمل من عقل. وها هنا علم على مزاج الظن، وظن على مزاج العلم وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا١١ إشارة إلى الظن الأول، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا١٢ إشارة إلى الظن الثاني، واختصاص الظن بالجن في القرآن لسر في خصائص الجن؛ وهو أن وجودهم خيالي وتصوراتهم خيالية، وصورهم لا تتراءى إلا للخيال، وكما أن الخيال على وسط بين الحس والعقل، فكل ما هو خيالي على وسط بين الجسماني والروحاني كالجن والشياطين، والأوساط أبدًا تكون ممزوجة من الطرفين، أو تكون خالية عن الطرفين. -
أما الخاصية الثانية للنبوة: وهي تابعة للقوة النظرية، فنقول:
من المعلوم الظاهر أن الأمور المعقولة التي يتوصل إلى اكتسابها بحصول الحد الأوسط بعد الجهل، إنما يتوصل إلى اكتسابها في القياس، وهذا الحد الأوسط قد يحصل على ضربين من الحصول؛ فتارة يحصل بالحدس، والحدس هو فعل الذهن يستنبط بذاته الحد الأوسط، والذكاء قوة الحدس، وتارة يحصل بالتعلم ويتأدى التعليم إلى الحدس، فإن الابتداء ينتهي لا محالة إلى حدوس استنبطها أرباب تلك الحدوس، ثم أدوها إلى المتعلمين، فجائز أن يقع للإنسان بنفسه الحدس، وأن ينعقد في ذهنه القياس بلا معلم بشري، وهذا يتفاوت بالكم والكيف؛ أما في الكم فلأن بعض الناس يكون أكثر حدسًا للحدود الوسطى.
أما بالكيف، فلأن بعض الناس يكون أسرع زمان حدس، ولأن هذا التفاوت ليس منحصرًا في حد بل يقبل الزيادة والنقصان، فمنهم غبي لا يعود عليه الفكر برادة، ومنهم له فطانة إلى حد ما ويستمتع بفكره، ومنهم من هو أثقب من ذلك وله إصابة في المعقولات، وتلك الثقابة غير متشابهة في الجميع، بل ربما قلت وربما كثرت، فكما أنك تجد جانب النقصان ينتهي إلى حد يكون منعدم الحدس، فأيقن أن جانب الزيادة يمكن أن ينتهي إلى حد يستغني في أكثر أحواله عن التعلم والتفكر، فيحصل له العلوم دفعة ويحصل معه الوسائط والدلائل، فيمكن إذًا أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس لشدة الصفاء وكمال الاتصال بالمبادئ العقلية، إلى أن يشتعل حدسًا في كل شيء فيرتسم فيه الصورة التي في العقل الفعال، إما دفعة وإما قريبا من دفعة، ارتسامًا لا تقليديًّا بل يقينيًّا مع الحدود الوسطى والبراهين اللائحة والدلائل الواضحة.
والفرق بين الحدس والفكر، أن الفكرة هي حركة للنفس في المعاني، مستعينًا بالتخيل في أكثر الأمور يطلب بها الحد الأوسط وما يجري مجراه؛ مما يقاربه إلى علم بالمجهول في حالة الفقد استعراضًا للمخزون في الباطن وما يجري مجراه، فربما تأدت إلى المطلوب وربما انبتت، وأما الحدس فهو أن يتمثل الحد الأوسط في الذهن دفعة بأن يعلم العلة فيعلم المعلول، أو يعلم الدليل فيحصل له العلم بالمدلول دفعة أو قريبًا من دفعة، وهذا الحصول تارة يكون عقيب طلب وشوق، وقد يكون من غير طلب واشتياق بأن يكون نفسًا شريفة قوية مستضيئة في نفسها، فيحصل له العلوم ابتداء كأنه ما تخلى إلى اختياره، يكاد زيتها يضيء ضوء الفطرة ولو لم تمسه نار الفكرة، ولا يفارق طريق الإلهام والحدس طريق الاكتساب والفكر في نفس العلم، ولا في محله ولا في سببه؛ لأن محل العلم النفس.
وسبب العلم العقل الفعال أو الملك المقرب، ولكن يفارقه في وجهه زوال الحجاب، فإن ذلك ليس باختيار العبد ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك، بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم.
فإن قال قائل: إذا كانت هذه القوة الحدسية موجودة في غير النبي، فإن الإنسان يجد في نفسه هذا التحدس في مسائل كثيرة، ولكل أحد في صناعته حدوس، فإن شرط في النبي أن يكون في جميع المعقولات فهو شرط غير موجود، فإنه ربما يمتنع عليه الحدس في مسألة أو مسائل، وأيضًا فإن عقله حينئذٍ يكون غير مشتبه عليه شيء ما من الغيب والشهادة، فيكون بعينه عقلًا بالفعل فلا يحتاج إلى وسط فلا يكون له حدس، وقد أثبتم له الحدس فهذا خلف، وإن كان الحدس في بعض المسائل فقد شاركه فيه غيره وليس بخاصية له.
وأيضًا ليس بعض المسائل أولى من بعض، وليس له حد محدود يختص بالنبوة، فلم تتعين الخاصية النبوية، وأيضًا قد رتبتم العقل أربع مراتب: الهيولاني، والملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، ففي أي مرتبة توجد للنبي خاصية يتميز بها عن سائر الناس؟
الجواب أن نقول: من لم يثبت في العقول الإنسانية تضادا وترتبًا لم يستقم له إثبات هذه الخاصية. أما التضاد فعقل النبي وعقل الكاهن، وأما الترتب فكعقل النبي وعقل الصديق، والمتضادان خصمان يحتاجان إلى حاكم ليس فوقه حاكم، والمترتبان ينتهيان بعقل ليس فوقه عقل، وعلى الوجهين جميعًا عقل النبي فوق العقول كلها وحاكم عليها ومتصرف فيها، ومخرجها من القوة إلى الفعل، ومكملها بالتكلف إلى أقصى غايات الكمال اللائق بكل واحد منها، فلا يمكن التنصيص على حد محدود، أما إذا كان يمكن أن يقال إن هذه القوة قابلة للزيادة والنقصان، فعقل النبي فوق العقول كلها.
- أما الخاصية الثالثة التابعة للنفس: فنقول: قد ظهر لنا في العلوم الإلهية أن الصورة التي هي في الأجسام العالمية تابعة في الوجود للصور التي في النفوس والعقول الكلية، وأن هذه المادة طوع لقبول ما هو متصور في عالم العقل، فإن تلك الصور العقلية مبادئ لهذه الصور الحسية، يجب عنها لذاتها وجود هذه الأنواع في العوالم الجسمانية، والأنفس الإنسانية قريبة من تلك الجواهر، وقد نجد لها فعلًا طبيعيًّا في البدن الذي لكل نفس، فإن الصورة الإرادية التي ترتسم في النفس يتبعها ضرورة شكل قسري للأعضاء، وتحريك غير طبيعي، وميل غير غريزي يذعن لها الطبيعة، والصورة الخوفية التي ترتسم في الخيال يحدث عنها في البدن مزاج من غير استحالة عن محيل طبيعي شبيه بنفسه، والصورة الغضبية التي ترتسم في الخيال يحدث عنها في البدن مزاج آخر من غير محيل شبيه، والصورة المعشوقية عند القوة الشهوانية، إذا لمحت في الخيال حدث عنها مزاج يحدث ريحًا من المادة الرطبة في البدن، ويحدره إلى العضو الموضوع آلة للفعل الشهواني حتى تستعد لذلك الشأن، وليست طبيعة البدن إلا من عنصر العالم، ولولا أن هذه الطبائع موجودة في جوهر العنصر لما وجد في هذا البدن، ولا ننكر أن يكون من القوى النفسانية ما هو أقوى فعلًا وتأثيرًا من أنفسنا نحن، حتى لا يقتصر فعلها في المادة التي رسم لها وهو بدنها، بل إذا شاءت أحدثت في مادة العالم ما تتصوره في نفسها، وليس يكون مبدأ تلك الأحداث تحريك وتسكين وتبريد وتسخين وتكثيف وتليين، كما تفعل في بدنها، فيتبع ذلك أن يحدث سحب هاطلة ورياح وصواعق وزلازل وصياح مثير، ويتبعه مياه وعيون جارية، وما أشبه ذلك في العالم بإرادة هذا الإنسان، والذي يقع له هذا الكمال في جبلة النفس، ثم يكون خيرًا متحليًا بالسيرة الفاضلة ومحامد الأخلاق وسير الروحانيين، مجتنبًا عن الرذائل ودنيات الأمور، فهو ذو معجزة من الأنبياء؛ أي من يدعي النبوة ويتحدى بها، وتكون هذه الأمور مقرونة بدعوى النبوة أو كرامة من الأولياء، ويزيده تزكية لنفسه وضبطه القوى وإسلاسها من هذا المعنى زيادة على مقتضى جبلته، ثم من يكون شريرًا ويستعمله في الشر فهو الساحر الخبيث.
واعلم أن هذه الأشياء ليس القول بها، والشهادة لها هي ظنون إمكانية سير إليها من أمور عقلية فقط، وإن كان ذلك أمرًا معتمدًا لو كان، ولكنها تجارب لما ثبتت طلب أسبابها، ومن حسن الاتفاق لمحبي الاستبصار أن يعرض لهم هذه الأحوال في أنفسهم أو يشاهدوها مرارًا متوالية في غيرهم، حتى يصير ذلك ذوقًا في إثبات أمور عجيبة لها وجود وصحة، وداعيًا له إلى طلب سببها، فإنه إذا اقترن الذوق بالعلم كان ذلك من أحسن الفوائد وأعظم العوائد، والله ولي التوفيق.
خاتمة: ما أفضل النوع البشري؟
فأفضل النوع البشري من أوتي الكمال في حدس القوى النظرية، حتى استغنى عن المعلم البشري أصلًا، وأوتي للقوة المتخيلة استقامة وهمة، لا يلتفت إلى العالم المحسوس بما فيه حتى يشاهد العالم النفساني بما فيه من أحوال العالم ويستثبتها في اليقظة، فيصير العالم وما يجري فيه متمثلًا لها ومنتقشًا بها، ويكون لقوته النفسانية أن تؤثر في عالم الطبيعة حتى ينتهي إلى درجة النفوس السماوية.
ثم الذي له الأمران الأولان وليس له الأمر الثالث، ثم الذي له هذا التهيؤ الطبيعي في القوة النظرية دون العلمية، ثم الذي يكتسب هذا الاستكمال في القوة النظرية ولا حصة له في أمر القوة العلمية من الحكماء المذكورين، ثم الذي ليس له في القوة النظرية لا تهيؤ طبيعي ولا اكتساب تكلفي، ولكن له التهيؤ في القوة العلمية، فالرئيس المطلق والملك الحقيقي الذي يستحق بذاته أن يملك هو الأول من العدة المذكورين، الذي إن نسب نفسه إلى عالم العقل وجد كأنه يتصل به دفعة واحدة، وإن نسب إلى عالم النفس وجد كأنه من سكان ذلك العالم، وإن نسب نفسه إلى عالم الطبيعة كان فعالًا فيه ما يشاء، والذي يتلوه أيضًا رئيس كبير بعده في المرتبة، والباقون هم أشراف النوع الإنساني وكرامه.
واما الذين ليس لهم استكمال شيء من القوى، إلا أنهم يصلحون الأخلاق ويقتنون الملكات الفضيلة، فهم الأذكياء من النوع الإنساني ليسوا من ذوي المراتب العالية، إلا أنهم متميزون من سائر أصناف الإنسان.