النفس جوهر
بيان أن النفس جوهر، وذلك ثابت من جهة الشرع والعقل
أما الشرع فجميع خطابات الشرع تدل على أن النفس جوهر، وكذلك العقوبات الواردة في الشرع بعد الممات تدل على أن النفس جوهر، فإن الألم وإن حلَّ بالبدن فلأجل النفس، ثم للنفس عذاب آخر يخصه، وذلك كالخزي والحسرة وألم الفراق، وكذلك ما يدل على بقائه — على ما سنبين فيما بعد إن شاء الله تعالى.
أما من حيث العقل فمن وجهين؛ وجه عام يمكن إثباته مع كل أحد، ووجه خاص يتفطَّن له أهل الخصوص والإنصاف.
أما الأول فهو أن يعلم أن حقيقة الإنسان ليس عبارة عن الجسم فحسب، فإنه إنما يكون إنسانًا إذا كان جوهرًا، وأن يكون له امتداد في أبعاد تفرض طولًا وعرضًا وعمقًا، وأن يكون مع ذلك ذا نفس، وأن تكون نفسه نفسًا يغتذي بها ويحس ويتحرك بالإرادة، ومع ذلك يكون بحيث يصلح لأن يتفهم المعقولات، ويتعلم الصناعات ويعملها إن لم يكن عائق من خارج، لا من جهة الإنسانية، فإذا التأم جميع هذا حصل من جملتها ذات واحدة هي ذات الإنسان، فإذا ثبت بهذا أن حقيقة الإنسان لا تكون عرضًا؛ لأن الأعراض يجوز أن تتبدل، والحقيقة بعينها باقية، فإن الحقائق لا تتبدل، فإذا ما هو ثابت فيك مذ كنت فهو نفسك، وما يطرأ عليك ويزول فهو الأعراض.
وأما الوجه الثاني وهو البيان الخاص، فهو الذي يصلح لأهل الفطانة، ومن فيه لطف الفهم والإصابة، فهو أنك إذا كنت صحيحًا مطرحًا عنك الآفات، مجنبًا عنك صدمات الهوى وغيرها من الطوارق والآفات، فلا تتلامس أعضاؤك ولا تتماس أجزاؤك، وكنت في هواء طلق — أي معتدل — ففي هذه الحالة أنت لا تغفل عن إنيتك وحقيقتك بل وفي النوم أيضًا، فكل من له فطانة ولطف وكياسة يعلم أنه جوهر، وأنه مجرد عن المادة وعلائقها، وأنه لا تعزب ذاته عن ذاته؛ لأن معنى التعقل حصول ماهية مجردة للعاقل وذاته مجردة لذاته، فلا يحتاج إلى تجريد وتقشير، وليس ها هنا ماهية ثم معقولية، بل ماهيتهُ معقوليته ومعقوليته ماهيته (وهذه نكتة نفيسة عظيمة وستقف عليها إن شاء الله أشرحَ من هذا).
ثم الدليل على صحة هذا البيان الخاص أنه لو لم يكن المدرك والمشعور به هو حقيقتك أي نفسك، بل يكون هو البدن وعوارضه، لكان لا يخلو؛ إما أن يكون الشعور به جملة بدنك أو بعضه وبطل أن تكون الجملة؛ لأن الإنسان في الفرض المذكور قد يكون غلا عن جملة البدن، وهو مدرِكُ نفسه، وإن كان بعضًا منه، فلا يخلو إما أن يكون ظاهرًا أو باطنًا، فإن كان ظاهرًا فهو مدرَك بالحس، والنفس غير مدركة بالحس، كيف ونحن في الفرض المذكور قد أغفلنا الحواس عن أفعالها وفرضنا أن الأعضاء لا تتماس، وإن كان النفس والذات عضوًا باطنًا من قلب أو دماغ، فلا يجوز أيضًا؛ لأن الأعضاء الباطنة إنما يوصل إليها بالتشريح، فثبت أن مُدركك ليس شيئًا من هذه الأشياء، فإنك قد لا تدركها وتدرك ذاتك ضرورة، فما أُلجِئْتَ إلى إدراكه ضرورة لا يكون قطعًا ما لا يدرك إلَّا بالنظر، فإذا ثبت بهذا أن ذاتك ليس من عداد ما تدركه بالحس أو مما يشبه الحس بوجه من الوجوه.
زيادة إيضاح من جهة الإدراك
فنقول إنك تدرك في جميع الأحوال ذاتَك، فماذا تدرك؟ فإنه لا بدَّ من مُدرَك، فلا يخلو إما أن يكون أحد مشاعرك ظاهرًا أو عقلك أو قوة غير مشاعرك، فإن كان عقلك فلا يخلو إما أن يكون ذلك الإدراك بوسَط أو بقياس أو بقوة متوسطة بين الإدراك والنفس، أو بغير وسط، وما أظنك تفتقر في ذ لك إلى وسط، فإنه لو كان ثم وسط لما أدركتَ ذاتك، فإنه لا وسط بين ذاتك وشعورك بذاتك، فبقي أن تدرك بغير وسط، وإذا كان كذلك فلا يخلو إما أن يكون ذلك الإدراك بمشاعرك أو بذاتك، ولا يتصوَّر أن يكون بمشاعرك، فإن الحواس لا تدرك إلَّا الأجسام، وما يتعلق بالأجسام من الألوان والنغمات وغير ذلك، فبقي أنك تدرك ذاتك بذاتك، فمن هذا ثبت أنك جوهر مفارق.
فإن قال قائل إنما أثبت ذاتي بواسطة، وذلك الوسط هو فعل من أفعالي، فأستدل بأفعالي على وجود النفس، فالجواب على هذا من وجهين؛ أحدهما أن هذا لا يتمشى في الفرض المذكور، فإنا جعلناك بمعزل عن الأفعال، ومع هذا تثبت ذاتكَ وأنيتك، والثاني أن هذا الفعل إما أن تثبته فعلًا مطلقًا، فيجب أن تثبت به فاعلًا مطلقًا لا نفسك، وأن أثبته فعلًا مطلقًا، فيجب أن تثبت به فاعلًا مطلقًا لا نفسك، وإن أثبته فعلك وخصصته بالإضافة، فقد أثبت أولًا نفسك وأدركت أولًا ذاتك، فإنك أخذت ذاتك جزءًا من فعلك، والشعور بالجزء قبل الشعور بالكل أولًا أقل من أن يكون معه، فذاتك إذًا مثبتة معه أو قبله لا به (وهذا فصل لطيف يُبتنى عليه باب من المعرفة شريف، كما سنذكر إن شاء الله تعالى).