حقيقة اللقاء والرؤية
اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال: كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة والمتشكلة من أشخاص الحيوان والنبات، وإلى ما لا يدخل كذات الله سبحانه، وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها، ومن رأى إنسانًا ثم غمض بصره وجد صورته حاضرة في خياله كأنه ينظر إليها، ولكن إذا فتح العين وأبصر أدرك تفرقة بينهما، ولا يرجع التفرقة إلى اختلاف بين الصورتين؛ لأن الصورة المرئية تكون موافقة للمتخيلة، وإنما الافتراق بمزيد الوضوح والكشف، فإن صورة المرئي صارت بالرؤية أتم انكشافًا ووضوحًا، وهو كشخص يرى في وقت الإسفار قبل انتشار ضوء النهار، ثم يرى عند تمام الضوء فإنه لا تفارق إحدى الحالتين الأخرى إلا في مزيد الانكشاف، فإذًا الخيال أول الإدراك والرؤية هو استكمال إدراك الخيال وهو غاية الكشف، لا لأنه في العين بل لو خلق الله تعالى هذا الإدراك الكامل المكشوف في الجبهة أو الصدر مثلًا استحق أن يسمى رؤية.
وإذا فهمت هذا في المتخيلات، فاعلم أن المعلومات التي لا تتشكل في الخيال أيضًا لمعرفتها وإدراكها درجتان؛ إحداهما أولى والثانية استكمال لها، وبين الثانية والأولى من التفاوت في مزيد الكشف والإيضاح ما بين المتخيل والمرئي، فتسمى الثانية أيضًا بالإضافة إلى الأولى مشاهدة ولقاء ورؤية، وهذه التسمية حق؛ لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف، وكما أن سنة الله جارية بأن تطبيق الأجفان، يمنع من تمام الكشف بالرؤية ويكون حجابًا بين البصر والمرئي، ولا بد من ارتفاع الحجاب لحصول الرؤية وما لم يرتفع كان الإدراك الحاصل مجرد التخيل، فكذلك مقتضى سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات، وما غلب عليها من الصفات البشرية فإنها لا تنتهي إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجية عن الخيال، بل هذه الحياة حجاب لها مانع عنها بالضرورة، كحجاب الأجفان عن رؤية الأبصار.
ولذلك قال الله تعالى لموسى عليه السلام: لَنْ تَرَانِي، وقال تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي في الدنيا، فإذا ارتفع الحجاب بالموت بقيت النفس ملوثة بكدورات الدنيا، غير منفكة عنها بالكلية، وإن كانت متفاوتة في ذلك التلوث؛ فمنها ما تراكم عليها الخبث والصدأ، فصارت كالمرآة التي قد فسد بطول تراكم الخبث جوهرها، ولا تقبل الإصلاح والتصقيل، وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبد الآباد، نعوذ بالله منه.
ومنها ما لم ينته إلى حد الرين والطبع، ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل، فيعرض على النار عرضًا يقلع منه الخبث الذي هو متدنس به، ويكون عرضه على النار بقدر الحاجة إلى التزكية، وأقلها لحظة خفيفة، وأقصاها في حق المؤمنين كما ورد في الخبر سبعة آلاف سنة، ولن يرتحل نفس من هذا العالم إلا ويصحبها غبرة وكدورة ما وإن قلت.
ولما كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي أيضًا على درجات متفاوتة، فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف المعارف، كاختلاف النبات بالإضافة إلى اختلاف البذور؛ إذ تختلف لا محالة بكثرتها وقلتها وحسنها وقوتها وضعفها؛ ولذلك قال عليه السلام: «إن الله تجلى للناس عامة، ولأبي بكر خاصة لأنه فضل الناس بسر وقر في صدره.» بلا جرم تفرد بالتجلي، وكل من لم يعرف الله في الدنيا لا يراه في الآخرة؛ إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه، ولا يموت إلا على ما عاش عليه، فما صحبه من المعرفة هي التي يتنعم بها بعينها فقط، إلا أنها تنقلب مشاهدة بكشف الغطاء عنها، فتتضاعف اللذة كمل تتضاعف لذة العاشق إذ استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته، فإن ذلك هو منتهى لذته، فإذًا نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى، وحب الله تعالى بقدر المعرفة، فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنها بالإيمان.
فإذا قلت: فلذة الرؤية إن كان لها نسبة إلى لذة المعرفة، فهي قليلة وإن كانت أضعافها؛ لأن لذة المعرفة في الدنيا قليلة ضعيفة، فتضاعفها إلى حد قريب لا ينتهي في القوة إلى أن يستحقر سائر لذات الجنة فيها.
فاعلم أن هذا الاحتقار للذة المعرفة مصدره الخلو عن المعرفة، فمن خلا عن المعرفة كيف يدرك لذتها، وإن انطوى على معرفة ضعيفة وقلب مشحون بعلائق الدنيا، فكيف لذتها، فللعارفين في معرفتهم وفكرتهم ولطائف مناجاتهم لله تعالى لذات، لو عرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلًا عنها لم يستبدلوا بها الجنة.
ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلًا إلى لذة اللقاء والمشاهدة، كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته، وإظهار عظم التفاوت بينهما لا يمكن إلا بضرب مثال، فنقول:
لذة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا تتفاوت بأسباب؛ أحدها: كمال جمال المعشوق ونقصانه، والثاني: كمال قوة الحب، والثالث: كمال الإدراك، والرابع: اندفاع العوائق المشوشة والآلام الشاغلة للقلب، فقدر عاشقًا ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من وراء ستر رقيق على بعد، بحيث يمنع انكشاف كنه صورته في حالة اجتمع عليه عقارب وزنابير تؤذيه وتلدغه وتشغل قلبه، فهو في هذه الحالة لا يخلو عن لذة ما من مشاهدة جمال معشوقه، فلو طرأت على الفجأة حالة انهتك بها الستر وأشرق به الضوء، واندفع عنه المؤذيات وبقي سليمًا فارغًا، وهجم عليه الشهوة القوية المفرطة والعشق المفرط حتى بلغ أقصى الغايات، فانظر كيف تتضاعف اللذة حتى لا يبقى للأولى إليه نسبة يعتد بها. فكذلك فافهم نسبة لذة النظر إلى لذة المعرفة، فالستر الرقيق مثال للبدن والاشتغال به، والعقارب والزنابير مثال للشهوات المتسلطة على الإنسان من الجوع والعطش والغضب والغم والحزن وضعف الشهوة، والحب مثال لقصور النفس في الدنيا، ونقصانها عن الشوق إلى الملأ الأعلى، والتفاته إلى أسفل السافلين، وهو مثل قصور الصبي عن ملاحظة لذة الرئاسة والعكوف على اللعب بالعصفور، فالعارف وإن قويت في الدنيا معرفته فلا يخلو عن هذه الشهوات، ولا يتصور أن يخلو عنها البتة. نعم، قد تضعف هذه العوائق في بعض الأحوال ولا تدوم، فلا جرم يلوح من كمال المعرفة ما يبهت العقل ويعظم لذته بحيث يكاد القلب ينفطر لعظمته، ولكن يكون ذلك كالبرق الخاطف وقلما يدوم، بل يعرض من الشواغل والأفكار والخواطر ما يشوشه وينغصه، وهذه ضرورة دائمة في هذه الحياة الفانية، ولا تزال هذه اللذة منغصة إلى الموت، وإنما الحياة الطيبة بعد الموت، وإنما العيش عيش الآخرة، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.
وكل من انتهى إلى هذه الرتبة فإنه يحب لقاء الله، فيحب الموت ولا يكرهه إلا من حيث ينتظر زيادة استكمال في المعرفة، فإن بحر المعرفة لا ساحل له والإحاطة بكنه جلال الله محال، وكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وبأفعاله وبأسرار مملكته وقويت كثر الابتهاج باللقاء وعظم.
اللهم لا تخرجنا من هذه الدار إلا عارفين مستكملين في المعرفة، مستغرقين في الوحدانية، منقطعين عن علائق الدنيا وزخارفها، برحمتك يا أرحم الراحمين.