معرفة الباري جل جلاله
تنعطف فائدتها على ما سبق من معرفة النفس وقواها، وبذلك نتدرج إلى معرفة الحق جل جلاله ومعرفة صفاته وأفعاله؛ لأن المبادئ إنما تراد للنهايات، والنهايات إنما تظهر للمبادئ، فكل علم لا يؤدي إلى معرفة الباري جل جلاله فهو عديم الجدوى والفائدة، وقليل النفع والعائدة.
- الأمر الأول: أنه لا يكون عرضًا؛ لأنه يتعلق بالجسم ويلزم عدمه بعدم الجسم.
- الثاني: لا يكون جسمًا؛ لأن الجسم منقسم بالكمية إلى الأجزاء، فتكون الجملة متعلقة بالأجزاء فتكون معلولة، وأيضًا فإن الجسم مركب من المادة والصورة، وكل واحد منهما متعلق بالآخر نوع تعلق.
- الثالث: أنه لا يكون مثل الصورة؛ لأنها متعلقة بالمادة، ولا يكون مثل المادة؛ لأنها محل الصورة ولا توجد إلا معها.
- الرابع: أنه لا يكون وجوده غير ماهيته؛ لأن الماهية غير الآنية، والوجود الذي الآنية عبارة عنه عارض للماهية، وكل عارض معلول لأنه لو كان موجودًا بذاته ما كان عارضًا لغيره، إذ ما كان عارضًا لغيره فله تعلق بغيره، وعلته إن كان غير الماهية فلا يكون واجب الوجود الذي يتعلق به كل الموجودات، وإن كان علته الماهية فالماهية قبل الوجود لا تكون علة؛ لأن السبب ما له وجود تام، فقبل الوجود لا يكون له وجود، فثبت أن واجب الوجود آنيته ماهيته، وإن وجوب الوجود له كالماهية لغيره. ومن هذا يظهر أن واجب الوجود لا يشبه غيره البتة، ولا يصل أحد إلى كنه معرفته.
- الخامس: أنه لا يتعلق بغيره على وجه يتعلق ذلك الغير به، على معنى أن يكون كل واحد منهما علة للآخر فيتقابلان، فإن هذا محال.
- السادس: أنه لا يتعلق بغيره على وجه يتعلق ذلك الغير به على سبيل التضايف؛ لأنه يكون ممكن الوجود.
- السابع: أنه لا يجوز أن يكون شيئان كل واحد منهما واجب الوجود، كما لا يكون للبدن الواحد إلا نفس واحدة، فلا يكون للعالم إلا رب واحد هو مبدع الكل، ويتعلق به الكل تعلق الوجود والبقاء، وأيضًا فلو كان واجب الوجود اثنين فبِمَ يتميز أحدهما عن الآخر؟ فإن كان بعارض فيكون كل منهما معلولًا، وإن كان بذاتي فيكون مركبًا ولا يكون واجب الوجود.
- الثامن: إن كل ما سوى واجب الوجود ينبغي أن يكون صادرًا من واجب الوجود، كما أن النفس كمال جسم طبيعي آلي، فكذلك الرب موجد الكل وبه كمال الكل وبقاء الكل وجمال الكل، وقد ذكرنا أن واجب الوجود لا يكون إلا واحدًا، فما عداه لا يكون واجبًا بل ممكنًا، فيفتقر إلى واجب الوجود.
فإن قيل: فما الدليل على أن في الوجود موجدًا واجب الوجود، يتعلق الكل به ولا يتعلق وجوده بغيره، فيكون منتهى الموجودات ومن عنده نيل الطلبات.
قلنا: لأن الموجود؛ إما أن يكون واجب الوجود أو ممكن الوجود، وممكن الوجود لا بد وأن يتعلق بغيره وجودًا ودوامًا، والعالم بأسره ممكن الوجود فيتعلق بواجب الوجود، أما ما يبتنى على بيان أن النفس جوهر ليس له مقدار وكمية — وقد أثبتنا ذلك ببراهين — فاعلم أولًا أن النفس جوهر والباري ليس بجوهر؛ لأن الجوهر هو الموجود لا في موضوع، أي إذا وجد يكون وجوده لا في موضوع، وهذا يشعر بالحدوث، والجوهر عبارة عن حقيقة وجود، وواجب الوجود حقيقته وجوده، ووجوده حقيقته، فإذا عرفت هذا فاعلم أنا أثبتنا وجود النفس، وأنه جوهر ببرهان خاصي وبرهان تقريبي المقدمات، والبرهان الخاصي أن النفس لا يعزب ذاته عن ذاته، وإذا كان في الوجود من مبدعاته ما يكون بهذه الصفة، فما تقول في موجود ينال به كل حق وجوده، فإن كل حق من حيث حقيقته الذاتية التي بها هو حق متفق واحد غير مشار إليه، فكيف القيوم على الملكوت، وإذا كانت النفس لا تعزب ذاته عن ذاته مع أنه ليس بواحد صرف، فالواحد الحق الذي لا يحوم حول وحدانيته التكثر والتجزي والتثني أولى بأن لا يعزب ذاته عن ذاته، فيكون عالمًا بنفسه وعالمًا بجميع ما أبدعه واخترعه وأوجده وكونه، لا تأخذه سِنَة ولا نوم، وهذا هو معنى الحي؛ فإن الحي هو الواحد العالم بذاته. وقد بيَّنَّا أن النفس واحد ليس لها كمية ومقدار، فكذلك فاعلم أنه ليس للمبدع الحق سبحانه كمية ومقدار.
وإذا ثبت أن واجب الوجود ليس في ذاته كثرة بوجه من الوجوه ولا بد من وصف واجب الوجود بأوصاف، فلا بد أن تثبت الأوصاف على وجه لا يؤدي إلى الكثرة، فننزهه عن أن يكون له جنس أو فصل، فإن من لا اشتراك له مع غيره، فلا فصل له يفصله عن سواه، ومن هذا يعلم أن جميع أسمائه تعالى حتى الوجود على سبيل الاشتراك لا على سبيل التواطؤ، ولا تثبت الصفات على وجه يكون عرضيًّا كاللون القائم بالمحل وكعلمنا العارض على الذات؛ لأن هذا يؤدي إلى تقدم وتأخر وتكثر، بل تثبت الصفات على وجه الإضافة إلى الأفعال أو على سبيل العلل والأسباب والمواد عنه.
فيتبين من هذا أنه حي لأنه عالم بذاته، ونثبت أنه عالم لأنه مجرد عن المادة ووجوده لذاته، وما يكون واحدًا بريئًا عن المادة تكون ذاته حاصلًا له، فيكون عالمًا بذاته لا يعزب عنه ذاته، وعلمه بذاته ليس زائدًا على ذاته حتى يوجب فيه كثرة وذلك؛ لأن الإنسان إذا علم نفسه فمعلومه أهو غيره أو عينه، فإن كان غيره فإنه لم يعلم نفسه بل علم غيره، وإن كان معلومه هو عينه، فالعالم هو نفسه والمعلوم هو نفسه، فقد اتحد العالم والمعلوم، فكذلك فافهم في الباري جل جلاله، وكما أن العالم هو المعلوم فكذلك العلم هو المعلوم، كما أن الحس هو المحسوس؛ لأن المحسوس هو الذي انطبع في الحاس لا الخارج، فكذلك العلم هو المعلوم وإنما تختلف العبارات بالعلم والعالم والمعلوم، وتبين منه أنه عالم بجميع أنواع الموجودات وأجناسها، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر؛ لأنه يعلم ذاته فينبغي أن يعلمه على ما هو عليه؛ لأن ذاته مجرد لذاته، وذاته مبدأ ومبدع لجميع الموجودات، وهو فياض يفيض الوجود على الكل، فيعلم ما يوجده ويتبع ذاته، وكثرة العلوم المتعددة لا تؤدي إلى كثرة في ذاته؛ لأن علمه لا يبتني على تقديم المقدمات وإجالة الفكر والنظر، وذاته فياضة للعلوم على الخلق لا أنه يكتسب من الخلق علمًا، فعلمه سبب الوجود لا الوجود سبب علمه، وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، وهو كما يعلم الأجناس والأنواع يعلم الممكنات الحادثة وإن كنا نحن لا نعلمها؛ لأن الممكن ما دام يعرف ممكنًا يستحيل أن يعلم وقوعه أو لا وقوعه؛ لأنه إنما يعلم منه وصف الإمكان، ومعناه أنه يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون، ولكن كل ممكن بنفسه فهو واجب بسببه، فإن علم وجود سببه كان وجوده واجبًا، فلو اطلعنا على جميع أسباب شيء واحد، وعلمنا وجودها قطعنا بوجود ذلك الشيء.
والأول الحق يعلم الحوادث وأسبابها؛ لأن الكل يرتقي إليه في سلسلة الترقي. فلما كان عالمًا بترتيب الأسباب كان عالمًا بالكل أسبابها ونتائجها، فنزه علمه من الحس والخيال والتكثر والتغير، ثم بعد ذلك فافهم علمه، فإذا فهمت علمه فاعلم أنه مريد وله إرادة وعناية، ولكن إرادته وعنايته لا تزيد على ذاته، وبيانه أنه مريد؛ لأن الفاعل إما أن يكون بالطبع وتعالى عنه، أو بالإرادة، والطبع هو الفعل الخالي عن العلم بالمفعول، بل بدخل الأفعال الطبيعية في الوجود على سبيل التسخير، والفاعل بالإرادة هو الذي له العلم بمفعولاته، فإذًا هو عالم بمفعولاته ومخلوقاته، وهو راضٍ به غير كارهٍ، فيجوز أن يعبر عن هذا بالإرادة.
وعلى الجملة، فتخصيص الأفعال وتميزها بعضها عن بعض دليل على وجود الإرادة، وعنايته هو تصور نظام الكل وكيفية معلولاته على الوجه الأحسن الأبلغ في النظام، وليس له ميل وغرض يحمله على ما يريده فليس شيء أولى به، ولا يفعل ليخلص عن مذمة أو يطلب محمدة.
وكذلك كما أنه عالم مريد فهو قادر؛ لأن القادر عبارة عمن يفعل إن شاء ولا يفعل إن لم يشأ، والقادر قادر باعتبار أنه يفعل إن شاء لا باعتبار أنه لا بد وإن يشأ، فكل ما هو مريد له فهو كائن وما ليس مريدًا له فغير كائن، والأول تعالى حكيم؛ لأن الحكمة إما أن تكون عبارة عن العلم بحقائق الأشياء ولا أعلم منه، أو تكون عبارة عمن يفعل فعلًا مرتبًا محكمًا جامعًا لكل ما يحتاج إليه من كمال وزينة، وفعله هكذا في غاية الإحكام والكمال والجمال والزينة، أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وهو جواد؛ لأن الجود إفادة الخير والإنعام به من غير غرض، فالأول تعالى أفاض الجود على الموجودات كلها كما ينبغي وعلى ما ينبغي، من غير ادخار ممكن من ضرورة أو حاجة أو زينة، وكل ذلك بلا غرض ولا فائدة، فهو الجواد الحق والوهاب المطلق، واسم الجود على غيره مجاز، والأول تعالى مبتهج بذاته على معنى كمال العلم وكمال المعلوم، أو كمال الجود والفضل على الموجود؛ لأنه أشد الأشياء إدراكًا لأشد الأشياء كمالًا، الذي هو منزه عن طبيعة الإمكان والمادة والكمال في البراءة عن المادة ولوازمها، والتقدس عن طبيعة الإمكان ولواحقها.
خاتمة واعتذار
اعلم أنا وإن تدرجنا إلى معرفة ذاته وصفاته من معرفة النفس، فذلك على سبيل الاستدلال، وإلا فالله تعالى منزه عن جميع صفات المخلوقات فلا يوصف، جل أن يوصف، وجل أن يقال جل، وعز أن يقال عز، وأكبر أن يقال أكبر، وإذا بلغ الكلام إلى الله تعالى فامسكوا «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.» وفوق ما يصفه الواصفون، فلك العلو الأعلى فوق كل عالٍ، والجلال الأمجد فوق كل جلال، ضلت فيك الصفات وتقدست دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، وهذه كلمات الأبرار المصطفين الأخيار.
وهذا دليل على أنه لا يجوز أن يقال في حقه ما يجر نفعًا أو يدفع ضرا، أو يجلب سرورًا أو يوجب لذة وابتهاجًا، أو يحدث فرحًا وضحكًا، أو يورث عشقًا ومحبة، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وما ورد من هذه الألفاظ في القرآن والأخبار، فتفسر بثمراتها ونهاياتها لا بعوارضها ومباديها.