القوى الحيوانية
والقوى الحيوانية تنقسم محركة ومدركة؛ والمحركة إما أن تكون محركة على أنها باعثة على الفعل، أو على أنها فاعلة. والباعثة إما أن تكون على جذب النفع أو على دفع الضرِّ، والباعثة على جذب النفع هي التي يُعبر عنها بالشهوة، وهي التي إذا ارتسم في الخيال معنًى يُعلم أنه خير عنده أو يُظن، تبعث القوة الفاعلة على جذب ذلك النفع.
وأما الباعثة على دفع الضر فهي التي يُعبَّر عنها بالغضب، وهي القوة التي إذا ارتسم في الخيال ما يعلم أو يظن أنه يضر، تبعث على تحريك يدفع به ذلك الضرر أو المؤذي طلبًا للانتقام والغلبة.
وأما القوة المحركة على أنها فاعلة، فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات، من شأنها أن تشنج العضلات، فتجذب الأوطار والرباطات المتصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ، أو ترخيها فتصير الأوطار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ، وهذه القوة هي التي يُعبر عنها بالقدرة، والباعثة هي الإرادة.
وتحرير هذا هو أن كل فعل اختياري يدخل في الوجود، فلا يدخل ما لم يأت إليه رسول القدرة، وهو ذلك المعنى المودع في العضلات، والقدرة لا تنبعث من وطنها ومكامنها، بل كأنها في دعة ورفاهية ما لم يأت إليها رسول الإرادة؛ إما إرادة جذب النفع أو إزالة الأذى والدفع. والإرادة لا تنتهض من مكانها ولا تخرج من مكامنها ما لم يأتِ إليها رسول العلم، فإذا أتى وجزم الحكم انبعثت الإرادة، ولا تجد بدًّا من الانقياد والإذعان، وإذا جزمت الإرادة الحكم انبعثت القدرة لتحريك الأعضاء، فلا تجد محيصًا وخلاصًا من الامتثال والارتسام بموجب رسمها، وإذا جزمت القدرة الحكم تحركت الأعضاء بحيث لا تجد محيصًا من الحركة، فما دام رسول العلم متردِّدًا تكون الإرادة مترددة، وما دامت الإرادة مترددة تكون القدرة مترددة، وما دامت القدرة مترددة فالأفعال لا تدخل في الوجود، ولا تظهر على الأعضاء، فإذا اتصل الحكم الجزم وجدت الأفعال.
زيادة تحقيق
اعلم أن الحركة الاختيارية التي هي خاصية الحيوان لها مبدأ ووسط وكمال.
أما المبدأ، فحاجة الناقص إلى الكمال واشتياق الطالب.
وأما الكمال فنيل المطلوب وبينهما وسط وهو السلوك الطلبي، فالحركات الاختيارية التي للحيوان هي حركات مكانية فعلية إلى جهات مختلفة، عن علم وشعور وطلب، بخلاف حركات النبات؛ فإنها لما كانت غير اختيارية توجهت إلى جهات مختلفة من غير علم وشعور وطلب للخير، وحركاتها تكون حركة النمو والذبول، والحركات الاختيارية للإنسان حركات فكرية، وحركات قولية، وحركات فعلية، وإنما جهات اختلافها بخلاف حركات الحيوان، فإنها عدمت قسمين منها وهي الفكرية والقولية، والحركة النباتية احتاجت إلى حسن تعهد وتشذيب، حتى تصل إلى كمالها المطلوب وهو الثمرة وتوليد المثل.
أما الثمرة فللانتفاع بشخصه، وأما توليد المثل فللانتفاع بنوعه، فلا يخلو وجوده في الكون عن نفع جزئي بشخصه، وعن نفع كلِّي بنوعه.
والحركة الحيوانية احتاجت أيضًا إلى حسن رعاية وتسخير، حتى تصل إلى كمالها المطلوب، وهو الانتفاع بشخصه حملًا وركوبًا وأكلًا وحراثة، والانتفاع بنوعه سومًا وتوليدًا وإنتاجًا، فلا يخلو وجوده في الكون عن نفع جزئي بشخصه، وعن نفع كلي بنوعه.
وأما الحركة الإنسانية فاحتاجت إلى حسن عناية وتكليف بتأييد وتسديد وتعريف، فإن الحركة الفكرية يدخلها حق وباطل، فيجب أن يختار الحق دون الباطل. والحركات القولية يدخلها صدق وكذب، فيجب أن يختار الصدق دون الكذب. والحركات الفعلية يدخلها خير وشر، ويجب أن يختار الخير دون الشر، ولن يتحقق هذا الاختيار إلَّا من تأييد وتسديد وتعريف.
فأما التأييد فيظهر أثره في الأفعال حتى يختارَ من الحركات الفعلية الخير ويترك الشر، وأما التسديد فيظهر أثره في الأقوال حتى يختار من الحركات القولية الصدق ويترك الكذب، وأما التعريف فيظهر أثره في الأفكار حتى يختار من الحركات الفكرية الحق ويترك الباطل.
وإنما هذه المراتب الثلاثة مقدرة على المراتب الثلاثة العلوية، التي يعبر عنها تارة بالملائكة المؤيدين، وتارة بالجدود الروحانيين، وتارة بالحروف والكلمات في عليين، وكما أن الحركات النباتية احتاجت إلى تشذيب، والحركات الحيوانية إلى تهذيب، كذلك احتاجت الحركات الإنسانية إلى تأديب.