القوى المدركة
وهي منقسمة بالقسمة الأولى قسمين: مدركة من ظاهر ومدركة من باطن، والمدركة من الظاهر تنقسم خمسة أقسام، وهي الحواس الخمس، فنذكرها ونذكر كيفية تأديتها إلى الحس المشترك.
والحكمة في القوة اللمسية هي أن الحكمة الإلهية لما اقتضت أن يكون حيوان يتحرك بالإرادة مركبًا من العناصر، وكان لا يؤمن عليه أضرار الأمكنة المتعاقبة عليه عند الحركة، أيد بالقوة اللمسية حتى يهرب بها من المكان الغير الملائم، ويقصد بها المكان الملائم.
ثم يليها من الحواس حاسة الشم: ولما كان مثله من الحيوانات لا تستغني جبلَّته عن التغذي، وكان اكتسابه للغذاء بتصرف إرادي، وكان من الأطعمة ما لا يوافقه، ومنها ما يوافقه أُيد بالقوة الشمية. إذًا كانت الروائح تَدُل الحيوان على الأغذية الملائمة دلالة قوية.
وحاسة الشم قوة مبثوثة في زائدتي الدماغ كحلمتي الثدي، ويدرك بها الروائح المختلفة الطيبة منها والكريهة. والحامل لها أيضًا جسم لطيف في الحلمتين، والممد لها الهواء اللطيف لا على أنه ينقل الرائحة من المتروح إلى الحاسة فقط، بل على أنه يستحيل إليه بالمجاورة، كما يستحيل بمجاورة النار والبرد، والهواء بلطافته أسرع قبولًا للروائح منه للحرارة والبرودة، وهذه القوة في الحيوانات أشد وأكثر، وأول ما يتصل بالجنين بعد قوة اللمس هو قوة الشم؛ ولهذا تحفظ الأم عن الروائح الكريهة، وأن لا تشم شيئًا من المطعومات إلَّا أكلته حتى لا يظهر خلل في الجنين، وقد يُظن أن النملة تحس بحس الشم حبًّا من الحبوب، فتخرج من البيت فتطلبه وتصل إليه، وإن كان من وراء جدار، وليس ذلك شمًّا مجردًا بل هو حسٌّ وقوة في حسٍّ. وكيف لا والمطلوب ربما لا تكون له رائحة، وقد يعبر كثيرًا عن الحس بالشم، وفي الخبر «الأرواح جنود مجندة تشام كما تشام الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.» وإنما المراد بالتشام الإحساس.
أما حاسة الذوق فهي أيضًا طليعة تعرف الطعوم الموافقة والمنافية، وهي قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان، تدرك الطعوم المتحلِّلة من الأجرام المماسة لها، المخالطة للرطوبة العذبة التي فيه مخالطة محيلة، فإنها تأخذ طعم ذي الطعم، وتستحيل إليه وربما تحيله إليها، وكلما اتصل الطعم بذلك العصب أدركه العصب، وهي التي تتلو الشم وتتصل هذه القوة بالجنين بعد قوة الشم، فتظهر فيه عند الولادة، فيتحرك الجنين ويحرك لسانه ويلعق نفسه بنفسه.
أما حاسة البصر ووجه منفعتها؛ فإن الحيوان المتحرك بالإرادة لما كان تحركه إلى بعض المواضع كمواقد النيران، وعن بعض المواضع كقلل الجبال وشطوط البحار، ربما يؤدي إلى الإضرار به، أوجبت العناية الإلهية إعطاء القوة المبصرة في أكثر الحيوان، وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة، تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية، من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة.
ولا تظن أنه ينفصل من المتلون شيء ويصل إلى العين، ولا أن ينفصل من العين شعاع فيمتد إلى المتلون، لكن يحدث صورة في الصقيل المستعد لقبول الصورة، بشرط المقابلة المخصوصية وتوسط الشفاف، فإذا حصلت الصورة في الجليدية أفضت إلى العصبة المجوفة التي فيها روح هو جسم لطيف، مثل ما تقع الصورة على الماء الراكد، فيفضي إلى ملتقى الأنبوبتين المتصلتين بالعينين في مقدمة الدماغ، فيدرك الحس المشترك من الصورتين المتحدتين صورة واحدة، وإلَّا كان يجب أن يرى شيئين؛ إذ الصورة في الجليدية صورتان، ولما كانت الرطوبة الجليدية كروية، والذي يقابل من سطح الكرة إنما يقابلها بالمركز على خطوط موهومة خارجة من السطح إلى المركز، فحيثما قربت المسافة بين الرائي والمرئي كانت الخطوط أكثر، والشكل المخروط منها إلى المركز أقصر والزاوية أكبر، وحيثما بعدت المسافة كانت الخطوط أقل والشكل المخروط منها إلى المركز أطول والزاوية أصغر؛ وذلك بسبب رؤية البعيد صغيرًا والقريب على هيئته.
وأما حاسة السمع فهي قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط من قرع أو قلع، انضغاطًا بعنف يحدث منه صوت يتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ، ويحركه بشكل حركته فتماس الأمواج المختلفة تلك العصبة، فتتأدى بها إلى الحس المشترك.
وقيل إن تلك العصبة مفروشة في أقصى الصماخ، ممدودة مد الجلد على الطبل، إلَّا أنها على دقة نسج العنكبوت وصلابة الجلد المدبوغ.
وقيل إنها أعصاب كأوتار العود، ممدودة في جوانب الصماخ، وتتحرَّك تلك الأوتار بتحرك الهواء الراكد فيه، فيحصل منه طنين، وإنما يتحرك على ترتيب تعاقب الحروف والأصوات، واختلافها في الرفع والخفض والخفة والثقل والدقة والغلظ، وكما أن الضياء شرط في الإبصار كذلك الهواء في السمع.
والسمع إنما يسمع من محيط الدائرة، والبصر إنما يبصر على خط مستقيم، على أن تلك الخطوط المستقيمة تخرج من المحيط وتصل إلى المركز من الكرة المدورة، حتى ظن ظانون أن تلك الخطوط أشعة منبعثة من البصر إلى القاعدة، أو صور مقبوضة من القاعدة إلى البصر، وكلا الوجهين خطأ كما ذكرناه.
والقوة السامعة تلي المبصرة في النفع، ووجه منفعتها أن الأشياء الضارة والنافعة قد يستدل عليها بخاص أصواتها، فأوجبت العناية الإلهية وضع القوة السامعة في أكثر الحيوان، على أن منفعة هذه القوة في النوع الناطق من الحيوان تكاد تفوق الثلاث.
وأما القوى المدركة من باطن، فتنقسم بالقسمة الأولى ثلاثة أقسام: منها ما يُدرك ولا يحفظ، ومنها ما يُحفظ ولا يُعقل، ومنها ما يدرك ويتصرف، ثم المدرك إما أن يدرك الصورة أو المعنى، والحافظ إما أن يحفظ الصورة أو المعنى. والمتصرف تارة يتصرف في الصورة وتارة في المعنى، والمدرك تارة يكون له إدراك أوَّلي من غير واسطة، وقد يكون له إدراك ولكن بواسطة مدرك آخر.
والفرق بين الصورة والمعنى؛ أن الصورة نعني بها في هذا المقام ما يدركه الحس الظاهر، ثم يدركه الحس الباطن من غير أن يكون للحس الظاهر فيه مدخل، فهذه تقاسيم المدركات على الجملة.
أما تفصيلها وبيان إثباتها ومحالها، فالمدرك للصورة هو الحس المشترك، ويسمى بنطاسيا وخازنه الخيال، والمدرك للمعنى القوة الوهمية وخازنها الحافظة والذاكرة، والذي يدرك ويعقل هو القوة المتخيلة، وما لا يعقل ما ذكرناه من الوهم والحس.
أما بيان إثباتها فهو بحسب الوجدان: إما إثبات الحس المشترك؛ فهو أنك تبصر القطر النازل خطًّا مستقيمًا، والنقطة الدائرة بسرعة خطًّا مستديرًا كله على سبيل المشاهدة لا على سبيل التخيل، ولو كان المدرك هو البصر الظاهر لكان يرى القطر كما هو عليه والنقطة كما هي عليها، فإنه لا يدرك إلَّا المقابل النازل، وذلك ليس بخط، فعلمنا أن ثَمَّ قوة أخرى ارتسم فيها هيئة ما رأى أولًا، وقبل أن تمحى تلك الهيئة لحقتها أخرى وأخرى، فرآها خطًّا مستقيمًا أو خطًّا مستديرًا. والدليل عليه أنه لو أديرت النقطة لا بسرعة لترى نقطًا متفرقة، فعندك إذًا قوة قبل البصر، إليها يؤدي البصر ما يشاهده، وعندها تجتمع المحسوسات فتدركها، وكذلك الإنسان يحس من نفسه أنه إذا أبصر شخصًا أو سمع كلامًا أدرك المبصر شخصًا واحدًا، وأدرك المسموع كلامًا واحدًا، وما في العين عنده شخصان؛ أعني شبحين في العينين وكلامين في الأذنين، فعلم يقينًا أن محل الإدراك أمر وراء العينين والأذنين، فالقوة المدركة لهما قوة واحدة اجتمعت عندها الصورتان؛ أعني الشبحين في العينين على اتفاقهما، والمدركان؛ أعني المبصر والمسموع على اختلافهما. فتلك القوة مجمع المتماثلات والمختلفات، فسميناها الحس المشترك؛ إذ لا تكون النفس مدركة إلَّا بهذه القوة. وسميناها اللوح؛ إذ لا تجتمع المحسوسات إلا في هذه القوة، وليس لها إلَّا الإدراك فقط، وإنما يكون الارتسام والحفظ لقوة أخرى، ومن خواص هذه القوة استحضار المحسوسات في الحواس أولًا، ثم إدراكها ثانيًا، ومن خواصها أنها تدرك الجزيئات الشخصية دون الكليات العقلية، ومن خواصها أنها تحس باللذة والألم من المتخيلات كما تحس بالألم واللذة من المحسوسات الظاهرة.
وأما بيان القوة الوهمية فإن الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك من الأشخاص الجزئية المحسوسة معاني جزئية غير محسوسة، كما تدرك الشاة أن هذا الذئب عدوها. والعداوة والمحبة غير محسوستين، وتحكم عليهما كما تحكم على المحسوس، فعلمنا أن هذه لقوة أخرى. وللقوة الوهمية في الإنسان أحكام خاصة، منها حملها النفس أن تمنع وجود أشياء لا تتخيل ولا ترتسم في الخيال مثل الجواهر العقلية، التي لا تكون في حيز ومكان، ومنها إثبات الخلاء محيطًا بالعالم، ومنها موافقة المبرهن على تسليم المقدمات ثم مخالفته في النتيجة.
وقد قيل إن القوة الوهمية هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكمًا ليس فصلًا كالحكم العقلي، ولكن حكمًا تخيليًّا مقرونًا بالأشياء الجزئية والصور الحسية، وعنها يصدر أكثر الأفعال الحيوانية.
وأما بيان القوة الحافظة، فإنا نعلم أنا إذا أدركنا المعاني الجزئية لا تغيب عنا بالكلية، فإنا نتذكرها ونستحضرها بأدنى تأمل، فعلمنا أن لهذه المعاني خازنًا يحفظها، فتلك هي الحافظة ما دامت باقية فيها، فإذا غابت واستعادت فهي الذاكرة، ونسبة الحافظة إلى المعاني كنسبة المصورة إلى المحسوسات المتصورة في الحس المشترك.
وأما بيان قوة التخيل، فإنا نعلم أنا يمكننا أن ندرك صورة، ثم نفصل ونركب ونزيد وننقص وندرك معنى فنلحقه بالصورة، فهذا التصرف لغير ما ذكر من القوى، ومن شأن هذه القوة أن تعمل بالطبع عملًا منتظمًا أو غير منتظم، وإنما ذلك لتستعملها النفس على أي نظام تريده، ولو لم يكن كذلك لكان أمرًا طبيعيًّا غير مفتنٍ، ولما كان للإنسان أن يتعلم الصناعات المختلفة والنقوش العجيبة والخطوط المنظومة، ليكون مطبوعًا على فعل واحد كسائر الحيوانات، فهذه القوة تستعملها النفس في التركيب والتفصيل، تارة بحسب العقل العملي، وتارة بحسب العقل النظري، وهي في ذاتها تركَّب وتفصَّل ولا تُدرك، وإذا استعملتها النفس في أمر عقلي سميت مفكرة، وإذا أكبَّت على فعلها الطبيعي سميت متخيلة، والنفس تدرك ما تركبه وتفصله من الصور بواسطة الحس المشترك، وما تركبه وتفصله من الصور بواسطة القوة الوهمية.
وأما محال هذه القوى، فاعلم أن هذه قوًى جسمانية، فلا بدَّ لها من محال جسمانية خاصة واسم خاص، فالحس المشترك آلتها ومحلها الروح المصبوب في مبادئ عصب الحس، لا سيما في مقدم الدماغ.
وأما القوة المصورة وتسمى الخيال، فآلتها الروح المصبوب في البطن الأول من الدماغ، ولكن في جانبه الأخير.
وأما القوة الوهمية فمحلها وآلتها الدماغ كله، ولكن الأخص بها التجويف الأوسط، لا سيما في جانبه الأخير.
وأما القوة المتخيلة فسلطانها في الجزء الأول من التجويف الأوسط، وكأنها قوة ما للوهم وبتوسط الوهم للعقل.
وأما البواقي من القوى وهي الذاكرة والحافظة، فسلطانها في حيز الروح الذي في التجويف الأخير وهو آلتها، وإنما هدي الناس إلى القضاء بأن هذه هي الآلات، وأنها مختلفة المحال بسبب اختلاف القوى، وأن الفساد إذا اختصَّ بتجويف أورث الآفة فيه، ثم اعتبار الواجب في حكمة الصانع الحكيم تعالى أن يقدم الأقنص للجرماني، ويؤخر الأقنص للروحاني ويقعد المتصرف فيهما حكمًا واسترجاعًا للمثل المنمحية عن الجانبين في الوسط، جلَّت قدرته.