تظاهر العقل والشرع وافتقار أحدهما إلى الآخر
اعلم أن العقل لن يهتدي إلَّا بالشرع، والشرع لم يتبين إلَّا بالعقل، فالعقل كالأس
والشرع
كالبناء، ويغني أسٌّ ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس.
وأيضًا فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يُغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني
الشعاع ما لم يكن بصر، فلهذا قال تعالى:
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ
وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ
السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ.
١
وأيضًا فالعقل كالسراج، والشرع كالزيت الذي يمده، فما لم يكن زيت لم يحصل السراج، وما
لم
يكن سراج لم يضئ الزيت، وعلى هذا نبَّه الله سبحانه بقوله تعالى:
اللهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله:
نُورٌ عَلَى
نُورٍ. فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متَّحدان، ولكون
الشرع عقلًا من خارج سلب الله تعالى اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن، نحو
قوله
تعالى:
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقلُونَ.
٢ ولكون العقل شرعًا من داخل، قال تعالى في صفة العقل:
فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ
الدِّينُ
الْقَيِّمُ.
٣ فسُمي العقل دينًا، ولكونهما متحدين، قال: نورٌ على نور؛ أي نور العقل ونور
الشرع.
ثم قال:
يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ٤ فجعلها نورًا واحدًا، فالشرع إذا فقد العقل لم يظهر به شيء وصار ضائعًا
٥ ضياع الشعاع عند فقد نور البصر، والعقل إذا فقد الشرع
٦ عجز عن أكثر الأمور عجز العين عند فقد النور.
واعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء لا يكاد يتوصل إلى معرفة كليات الشيء دون جزئياته،
نحو أن
يعلم جملةً حسن اعتقاد الحق وقول الصدق، وتعاطي الجميل، وحسن استعمال المعدلة وملازمة
العفة
ونحو ذلك، من غير أن يعرف ذلك في شيء، والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته وبيَّن ما الذي
يجب أن
يعتقد في شيء شيء.
وعلى الجملة، فالعقل لا يهتدي إلى تفاصيل الشرعيات، والشرع تارة يأتي بتقرير ما استقرَّ
عليه العقل، وتارة بتنبيه الغافل وإظهار الدليل حتى يتنبه لحقائق المعرفة، وتارة بتذكير
العاقل
حتى يتذكر ما فقده، وتارة بالتعليم؛ وذلك في الشرعيات وتفصيل أحوال المعاد، فالشرع نظام
الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة، والدَّال على مصالح الدنيا والآخرة، ومن عدل
عنه فقد
ضلَّ سواء السبيل، وإلى العقل والشرع أشار بالفضل والرحمة بقوله تعالى:
وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا
قَلِيلًا،
٧ وعني بالقليل المصطفين الأخيار.