في تطبيق المذهب على الحقائق الجديدة
«كان أنِّقْريز» من معاصري هِجِسْياس، ولقد بلغت الآداب القورينية بظهوره أسمى مبلغ من الصفاء والتهذيب، على أنه كان ابن عصره، طبع بطابعه ودرج على سنته، فإنه لم يكن أثبت من هِجِسْياس عقيدة في توقع الحصول على السعادة الفعلية، ولكنه قضى بأن الحكيم «سعيد» وإن كان نصيبه من اللذة ضئيلًا جهد تصورك.
حقائق العلم
قضينا بأنَّ مذهب أرسطبس أقرب إلى أساليب العلم الحديث من مذهب أرسطوطاليس، وقصدنا بهذا أنَّ مذهب أرسطبس مذهب عملي، يقومُ على أصول ثابتة في جوهر الطبع، فهل في علم النفس الحديث ما يؤيّد هذا المذهب الذي نذهبه في تعريف المذهب القوريني؟ يخيل إليَّ أنَّ طرق البحث في الطبيعة الإنسانية تُؤيد مذهب أرسطبس تأييدًا كبيرًا، فهو يغلّب الشهوة والميول على العقل وعلى الإرادة، ويجعل السيطرة في السلوك البشري خاضعة للنواحي المحررة من قسر القوانين الحديدية، تلك التي حاول أرسطوطاليس أن يخضع لها الخلق والسلوك، ذلك بأنَّ تلبية نداء الفطرة، مهما كان فيه من مخالفة للمثل العليا الخيالية، ومهما كان فيه من تعرض للمخاطر وبُعد عن السلام، فإنه أرضى للنفس وأرخى للميول والرغبات.
ولكن هل ما ندعوه الطبع البشري شيء محدود محصور؟ لا شك في أننا لا نستطيع أن نحصر نزعات الطبع البشري في كل التفاصيل التي تتجلى فيها مظاهره، ولكن في مُكنتنا أن نحصر الكليات التي تنطوي تحتها ظواهر الطبع البشري، والتي نجد في كل لغة من اللغات ألفاظًا تدل على التعريف بما يقصد منها، ولا شك في أنك إذا قلت «الطبع البشري» فإنما تقصد بذلك مجموعة من الصفات الفطرية تتجلَّى مظاهرها في كل أفراد النوع البشري، أمراء وصعاليك، علماء وجهلاء، نبلاء ودهماء، أغنياء وفقراء.
يدلك على صحة هذا القول أنه لا يستعصي عليك — بقليل من صفاء النفس والحب والعطف — أن تكسب صداقة من تريد من الناس، مهما بَعُدَ ما بينك وبينهم من الفوارق الثقافية والسلالية، ذلك بأن الطبع البشري أصيل في كل الناس، ولا شكَّ في أنه يستجيب لبواعث بعينها، ويستيقظ مطاوعة لمنبهات خلقية واحدة، ولا شبهة في أنك لا تحتاج إلى وسيلة اللغة لتوقظ في غيرك استجابات الطبع، فإنَّ الابتسامة توقظ الابتسامة، والخير يوقظ الخير، والحزن يوقظ الشفقة، والألم يبعث العطف، كذلك نجد أن الغضب والخوف والمقت والتعجب والفخر والاستكانة والحب إلى غير ذلك من الصفات الفطرية؛ تظهر ملابسة لصور واحدة، وتتبعها حركات وإشارات لا تتغير على وجه التقريب بتغير الأفراد والشعوب، وليس هذا بمحصور في الأفراد البالغين، فإن الأطفال الذين لا يستطيعون استعمال كثير من الكلمات يفقهون من تلك الحركات والإشارات نفس ما تؤديه الكلمات، وتستقوي عليهم معها نفس الاستجابات التي توحي بها اللغة، وهنالك أشخاص يرهبهم الأطفال على اختلاف سلالاتهم، وهنالك غيرهم يألفهم الأطفال ويَلجئون إلى أحضانهم وعلى شفاههم ابتسامة الغبطة والحبور.
وفي كل هذا براهين ظاهرة على أن خصائص الطبع البشري مشاع بين كل السلالات البشرية، ولكن ممَّ تتكون هذه الصفات؟ وإلى أي حد يذهب أثرها؟ وعلى أن العلم يعجز عن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة على صورة محدودة كاملة، فإن شرح بعض الأصول التي يتكون منها الطبع البشري يكفي في هذا الموطن للدلالة على ما نقصد من الكلام، في أن مذهب أرسطبس أقرب إلى مطالب الطبع البشري من كل المذاهب الأخلاقية التي ذاعت في بلاد الإغريق القديمة، وعلى الأخص فلسفة أرسطوطاليس.
وليس لنا في هذا الموطن أن نستطرد إلى بحث كل من تلك الصفات الفطرية، ولكن لنا أن نعدد أكثرها أثرًا في سلوك الإنسان، وأظن أن مجرد تعدادها يظهر الباحث على أنها من خصائص الطبع وليست الملكات التي تكسب بالمرانة والعادة، وإليك هي:
-
(١)
الذكاء.
-
(٢)
الميول الانفعالية.
-
(٣)
قواسر الطبع.
-
(٤)
الميل الجنسي.
هذه بعض الطبائع الرئيسة في فطرة الإنسان، وتحت كل منها ينطوي عدد من الصفات الثابتة في تضاعيفه، فهل يجدر بنا أن ننكرها لنقول بالمثاليات، أم ندرسها لنهذبها ونضبط انفعالاتها، ودرجات تنوحها بين حدي الإفراط والتفريط.
إن أرسطوطاليس يقول بنكرانها البتة بجانب المثاليات التي يدعو إليها، بل يقول بقمعها لتصح نظرياته، أما أرسطبس فيعترف بها ليستطيع أن يحكمها ويهذبها، وهذا فرق بين فلسفة المعلم الأول، ومذهب الفيلسوف القوريني، ولهذا كان اعتماد أهل الكلام على فلسفة أرسطوطاليس عامًّا شاملًا، كما أن نفورهم من أصحاب اللذة والقائلين بالمذهب الذري كان عامًّا شاملًا.
ولكن لنا أن نتساءل بجانب هذا: متى، وفي أي عصر من العصور استقوت النظريات الأخلاقية على نزعات الطبع؟ وفي أية جماعة من الجماعات الإنسانية استطاع المنطق — مهما كان سليمًا — أن يخضع الميول والشهوات؟ إنما يكون الطريق إلى تحويل النزعات وتهذيبها ممهدًا ذلولًا، والعمل في سبيل الاستقواء على بعض الميول الدنية بتقوية بعض الميول السامية ممكنًا مستطاعًا، إذا نحن أكببنا على درسها الدرس الوافر أو تحليل أجزائها والنظر في مفصلاتها نظرًا شاملًا صحيحًا، وكيف يمكن الوصول إلى هذا إذا نحن أنكرنا خصائص الطبع وميول الفطرة وحاولنا أن نقمعها بالنظريات والمنطق؟
أودكسس هيدوني متقشف
تقلبات المذهب القوريني عند النظر في الحياة الإنسانية
يدلنا تاريخ المذهب القوريني على أن وجهة النظر التي نظر من ناحيتها أعلام المذهب في الحياة الإنسانية، قد انتابتها تغايرات عديدة، ولقد دار الخلاف بينهم على أمرين: الأول: هل السعادة شيء في منال الإنسان؟ والثاني: مم تتكون السعادة؟
بالرغم من هذا كله يبقى أمامنا سؤالان خطيران لتفهُّم حقيقة المذهب: أولهما: «ما هي العناصر العملية التي يقوم عليها هذا المذهب أو غيره من المذاهب الأخلاقية؟» وثانيهما: «كيف يمكن استنتاج قواعد السلوك التي يدعو إليها هذا المذهب استنتاجًا نظريًّا من المبادئ الجوهرية التي يقوم عليها؟»
العناصر العملية في المذهب القوريني
ليس لدينا من مصادر صحيحة مفصلة الأبواب يمكن الاعتماد عليها في درس العناصر العملية التي يقوم عليها المذهب القوريني باعتباره مذهبًا أدبيًّا، على أن انعدام المصادر نفسه مع القليل مما وصل إلينا عن حقيقة هذا المذهب، كمذهب أدبي، من العبارات التي لا تقلُّ عن مقطوعة ولا تزيد عن مقطوعتين، يمكن أن نستنتج معه أن مثل الحياة التي عكف عليها هؤلاء السقراطيون لا تختلف كثيرًا عن المثل التقليدية التي عُرف بها المذهب السقراطي، ويقال: إنَّ أرسطبس نفسه قد أجاب على سؤال وُجه إليه مرة «عما هو الخير الذي يُمكن أن يجنى من الفلسفة؟» فقال: «إنَّ الغرض الأول منها هو أن تمكن الفيلسوف من أن يعيش حتى لو فرض وألغيت كل الشرائع كما كان يعيش وهي قائمة.»
على أنَّ القيمة التاريخية التي يمكن أن تعزى إلى مثل هذه الأقول المأثورة وما يجري مجراها من الأمثال والحِكم؛ ضئيلة من غير شبهة، وكلمة مأثورة كهذه على الرغم من أننا نكاد نجزم بأنها لم تُقَلْ إلا لتظهر مقدار ما يسمو إليه ذو الحكمة من الاستعلاء فوق قسر الشرائع، لا يمكن أن تنتحل على رأس المدرسة القورينية ومؤسسها، إذا كانت تختلف في مرماها وغايتها مع المثاليات المقبولة في المذهب القوريني، شأن نظام الكلبيين مثلًا.
وهذا التخريج يكون — ولا شبهة — أكثر تقبلًا لدى الباحث، إذا عرف أن كل الذين أكبوا على درس الفلسفة اليوناينة لم يعثروا في طيات المذهب القوريني على إشارة أو بادرة أو معنى يرمي إلى معاندة النظام الاجتماعي، وأنَّ كل رجال هذا المذهب حتى من تطرف منهم في الهرطقة الدينية مثل ثيوذورس كانوا على أحسن صلات الود مع حكام عصورهم، وفي هذا دليل قاطع على أنهم لم يعاندوا النظم الاجتماعية ولا التقاليد لا قولًا ولا فعلًا.
ومما يدل على حقيقة هذا الأمر أن العلَّامة روبرتسون الإنجليزي قد قرر في كتابه «مختصر تاريخ الأخلاق» ص١٣٢، لدى الكلام عن القورينيين أشياء تدل على صحة هذا التخريج، فقال بأن من تعاليم هذه المدرسة «أنَّ النَّاس يجبُ أن ينشدوا اللذة، وأن الاختيار العقلي ونُشدان اللذة، هما غايتا الحياة العقليَّة، تلك التي لا يجبُ أن تَعتبر الفضائل والنفائس الخلقية، إلا وسائل تؤدي إليها.»
قواعد في السلوك تُستنتج نظريًّا من مبادئ جوهرية
والحقيقة أن هذا المذهب، أو بالأحرى قسمًا منه؛ قد خَصَّ اللذائذ الحسية بأوفر قسط من الانتباه، وعزى إليها أعظم الآثار، ومن أجل هذا أيَّد الفكرة السائدة في استخدام العقاب البدني في دور التعليم وفي تطبيق قانون العقوبات بصرامة.
وهنا ينتقل المذهب برمته إلى أوج جديد تدرجت فيه مبادئ المذهب القوريني الأدبية، وهو أوج دلف فيه المذهب نحو أمرين: الأول: الإمعان في الرفه، والثاني: الإمعان في التشاؤم.
على أن التشاؤم كان الطابع الثابت الذي ترك أثره الباقي في جبين كل ما أخرجت ثقافة ذلك العصر من الآثار.
هجسياس: رسول الموت
فلا عجب إذن بعد هذا إذا عرفنا أن هذا الفيلسوف قد اعتقد بأن السعادة لا تنال في هذه الحياة، وأن واجب الحكيم ينحصر في اتقاء الشرور أكثر من نشدان الخيرات، على أنَّ الذين لم يتعودوا التغلغل في مختلف الاتصالات الفكرية العميقة، مع ما يتولد عنها من الحنايا والشعاب التي تفرعت فيها الفكرة السقراطية؛ لَيعجبون أشد العجب لما يرون من تواتر فكرة عدم المبالاة في المذهب القوريني، وهي فكرة تكاد تكون خصيصة بمذهب الكلبيين.
فلقد دعا هجسياس إلى عدم المبالاة بكل الظواهر والأمور الخارجية، لا على الصورة أو الطريقة التي دعا بها الكلبيون، ولكن على قاعدة أنه ليس من شيء هو بالطبع ملذ أو مؤلم، بل الجدة والندرة، التي نجد أحدهما في شيء ما أو إشباع الشهوة بالحصول على ذلك الشيء، هي التي تحدث اللذة والألم.
على هذا كان يعلِّم، وإلى هذا كان يدعو، وما هذا لدى الحقيقة سوى مغالاة في التعبير عن شعور صحيح بأن «السعادة» يمكن أن تزيد إلى القدرة على الصبر والاحتمال، وأن تخفف من حدة المشاعر.
وفي مذهب سقراط الذي قال فيه بعدم الاختيار في فعل الشر؛ نرى الجرثومة الأولى لذلك التمادي نحو الخطأ الذي أخذه هِجِسْياس قضية مسلمًا بها، ودعا إليه بعد أن شرب به المذهب القوريني بكل ما أوتي من حماسة وقوة.
لا تكره ولا تبغض بل علِّم وثقِّف، هذا هو الحمل الثقيل الذي حمله هجسياس، ودعا الناس أن يحملوه معه، وإن هذا لَيذكرنا ببعض الفلاسفة المحدثين، مثل: إسبينوزا، وهلفتيوس، فكلاهما بدأ شوطه بمثل هذه المقدمات.
تلاقح المذاهب من القورينيين إلى الرواقيين
من الأمثال التي نضربها على تلاقح المذاهب جملة وتفصيلًا، أن المذهب الرواقي — وهو مذهب نشأ من تدرجات دقيقة، تدرَّج فيها المذهب الهيدوني — قد نقل عن هجسياس فكرته في الانتحار، ولكنه جعل الانتحار وسيلة يحقق بها الإنسان حريته إذا أراد، ولا شك في أن هذه الفكرة تنطوي من ورائها فكرة الحياة الأخرى، فكان ذلك من الممهدات الأولية التي أفسحت السبيل لذيوع الديانة النصرانية، بما فيها من فكرات أساسية في الحياة بعد الموت، وفكرة الثواب والعقاب والخلاص وما إلى ذلك.
جمعت الفلسفة الرواقية بين فكرتين، فكما أنها حضت على أن لا يفر الإنسان من القيام بواجب من واجباته فإنها أجازت للإنسان أن يتخلص من حياته وأن يتصرف فيها بكامل حريته، وفي الفكرة الأولى عنصر قوريني أصيل، أما في الثانية فعنصر دخيل منقول عن هجسياس ترجيحًا.
غير أنَّ فكرة الانتحار لم تبلغ مبلغها الأقصى إلا في عصر الإمبراطورية الرومانية، وعند رواقيي الرومان، حيث تحددت فكرتها وكملت صورتها الفلسفية، فمنذ عهد من الزمان عهيد، كانت فكرة التضحية بالذات قد حبذت على اعتبار أنها من الطقوس الدينية.
أينما أدرت وجهك رأيت رذائل، وإنَّك لترى أيضًا تلك الهاوية السحيقة، ففيها تستطيع أن تهبط إلى الحرية، هل أنت تنشد طريق الحرية والخلاص؟ إنك لتجدها في أي شريان من شرايين جسمك الزائل.
لو خُيرتُ بين ميتة عنيفة وأخرى هينة لينة، فلماذا لا أختار الثانية؟ وكما أختار السفينة التي أمخر فوق ظهرها العباب، والمنزل الذي أعيش فيه، كذلك أستطيع أن أختار الميتة التي أفارق بها الحياة، وليس من شيء يجب أن نكون أكثر حرية في اختياره، منا إذا أردنا أن نموت بطريقة ما.
فارق الحياة بالطريقة التي توحي إليك بها قواسرك كيفما كانت بالسيف أو بالحبل أو بالسم يسري في شرايينك، اقتحم طريقك وحطم سلاسل العبودية، يحاول الإنسان في حياته أن يحوز ما يستحسن غيره، أما ميتته فذلك أمر له وحده حق اختياره، إنَّ القانون الأبدي لم يبدع من شيء أروع من أنَّ للحياة مدخلًا واحدًا، في حين أن لها مخارج كثيرة، لماذا أحتمل آلام الأمراض وقساوة الاستبداد الإنساني، ما دمت قادرًا على أن أحرر نفسي من كل الأوجاع، وأن ألقي بعيدًا بكل الأصفاد والقيود؟ لهذا السبب وحده أرى أن الحياة ليست شرًّا ما دام الإنسان غير مجبر على أن يعيش، إنَّ الإنسان لسعيد طالما أنه لا يعيش شقيًّا إلا بإرادته، إذا حسنت لديك الحياة فعش، أمَّا إذا لم تحسن لديك، فلك الخيار في أن تعود من حيث أتيت.
من هذه الفقرات التي اخترناها من كثير من أشباهها تدرك إلى أي حد بلغت شهوة أكبر ممثل للمدرسة الرواقية وأعظم رجالها تأثيرًا في العصر الروماني في الدفاع عن فكرة الانتحار، ولا شبهة في أن لمذهب هِجِسْياس أثرًا في هذا غير قليل، ولكن ألا نستطيع أن نرد هجسياس والرواقيين معه — وكلاهما فرع من دوحة المذهب القوريني — إلى مبادئ أصيلة عند أرسطبس؟ أليست الحرية التي دعا إليها الرواقيون حتى بالموت صورة ارتكاسية من صور التحرر من الألم؟
أنِّقْريز
والظاهر أنه علم أن نصيب الفرد من السعادة الدنيوية تتمةُ أو تكملة تلك الانفعالات العاطفية التي نطويها تحت عنوان الصداقة وعرفان الجميل والتقوى والوطنية، ولا مراء في أنَّه رفض الاعتقاد بالمذهب القائل بأن «سعادة الصديق يجب أن تُنشد لذاتها»، على أنه مذهب منقوض من ناحية سيكولوجية (نفسية) كما رفض هلفتيوس في الأعصر الحديثة، الاعتقاد بحقيقة المذهب القائل بحب «الخير لمحض الخير» على قاعدة أنَّ القول به تَناقُض نفساني.
وفضلًا عن هذا فإنه أنصف كل الإنصاف عند الكلام في تلك الحقيقة السيكولوجية التي محصلها أنَّ مشاعر الغيرية — مهما كانت مصادرها وأصولها — تحرز، تدرجًا، قوة مستقلة خاصة بها، وأن هذه المشاعر تحتفظ بتلك القوة حتى ولو لم تتزن مع اللذة، وهذا تفسير رائع لحقيقة الأفعال العكسية المتحولة، وهو المذهب النفسي الذي أدخله پافلوف الروسي في حيز العلم ببحوثه وتجاريبه، والفارق بينه وبين أنِّقْريز ثلاثة وعشرون قرنًا من الزمان، وليس هنا موضع شرح هذا المبدأ، ولسوف نشرحه بعد.
بيد أن أنِّقْريز لم يأخذ هذه الظاهرة على أنَّها حقيقة لا غير، بل إنَّه برر تَضْحية الذات باعتبارها أسمى مراتب الغيرية، مثبتًا أن الحكيم وإن كان يستمسك باللذة على أنها الغرض الأسمى ويتأفف من كل ما ينتقصها؛ فإنه يرضى قانعًا بما ينتقص ملذاته في سبيل الحب لصديقه، على أنه لم يصلنا — مع أشد الأسف — شيء من البراهين التي أقامها على تأييد موقفه وتبرير مذهبه هذا.
حلقات وصل بين الأنانية والغيرية
إنَّ أرسطبس لا يعترف بأن شيئًا من الأشياء هو حق بالطبيعة، ويقول بأنَّ كل شيء إنما هو نتيجة شريعة أو قانون، ويخفِّف من حدة هذا المذهب قوله: إنَّ الحكيم يعيش بالقوانين كما يعيش بغيرها؛ أي إنَّه لا يؤثر في سلوكه قيام القانون أو عطله.
على أنني لا أرى في قول أرسطبس من الحدة ما يرى الأستاذ إردمان، فضلًا عن أن الأستاذ جومبرتز قد أبدى كثيرًا من الشك في الحكم والأمثال السائرة التي تنسب إلى أرسطبس، وله في ذلك أكبر الحق؛ لأنَّ المذهب الذي لم تصلنا منه إلا نتفًا وفقرات لا يصح أن يعتمد في تفسيره على كلمات مأثورة تنسب إلى واضع المذهب، تنوقلت على مدى أزمان طويلة، من غير أن يقوم على صحة نسبتها إلى أرسطبس أيُّ دليل إلا دعوى قائليها.
•••
لقد اتبع أبيقور خطوات القورينيين في المسائل الأخلاقية غير أنَّ طبيعته المتقدة المتوثبة لم تجد في أسلوبهم الذي اتبعوه لدى استنتاج «النواهي» الخلقية ما يرضيها الرضا الكامل، فإنه لم يرضَ بأن يقف «تهذيب الأخلاق» عند حد وضع القواعد الأولية، فتكون كالأمثال السائرة كقولك: «الأمانة أحسن سياسة»، أو كقولك: «إذا لم توجد الأمانة لوجب أن نوجدها»؛ فإنَّ هذه القاعدة الأخلاقية إذا بلغت هذا الوضع — أي الوضع الذي تصل معه حد التوسط بين «حب الفرد لنفسه» وبين «الخير العام» — لم تصبح بعدُ مجردَ نظرية تحذيرية في الأخلاق، بل وجب أن تكون كقوة القانون، التي تكمل من ناحية، وتنظم من أخرى؛ قوة الرأي العام.
على أنَّ كلًّا من هذين المؤثرين يَظهران جليين في تعاليم القورينيين، فقد اعتبروا أنَّ احترام العقوبات القانونية واحترام الرأي العام مؤثران لهما نتائجهما الثابتة في ضمان حسن السلوك، وقد نجد في العصور الحديثة أن الذين مثلوا هذا الوضع من الفكرة الأخلاقية كانوا جميعًا من القائلين بوجوب «الإصلاح التشريعي» فإن هلفتيوس قد وضع نصب عينيه الوصول إلى غرض واحد هو أن يلبس القانون ذلك الثوب الذي يمكن به التوفيق بين المصالح الذاتية والمصالح العامة، وكذلك بنتام، فإنه حاول أن يحقق هذه الناحية نفسها مستخدمًا في سبيلها كل ما أوتي من قوَّة تفكير ونبوغ، وكل ما خُصَّ به من خصب القريحة وكفاية الخلق والإبداع.
وضح لنا الآن أن أوَّل وجه من أوجه العلاقة بين الذاتية والغيرية، إنما يقوم على احترام القانون واحترام الرأي العام، أمَّا الوجه الثاني فيقوم على فكرة تقدير المشاعر الغيريَّة باعتبارها عنصرًا من عناصر السعادة الذاتية.
وتطبيق هذه الفكرة ينحصر في العمل على «تأصيل» هذه المشاعر، بأن ننسى أصلها الأناني الذي نشأت عنه، وأن نحيا حياة كلها «صبر واحتمال وتضحية» في سبيل ما يعود من خير على إخواننا الذين يعايشوننا باعتبار أن عملنا هذا ما هو إلا وسيلة نَصِلُ من طريقها إلى سعادتنا الذاتية.
ولأجل أن نضرب مثلًا على ما يعني بهذه القاعدة، نذكر كلمة دالمبير المأثورة «إنَّ حب الذات إذا استنار أصبح المصدر الذي تنبع منه تضحية الذات»، أو نذكر تعريف هولباك الذي استعاره من لبنتز في الفضيلة، بأنها «فن إسعاد الذات بالعمل على إسعاد الغير.»
وقد نقع على آثار تدلنا على أن الوجهين الثاني والثالث من أوجه العلاقة الهيدونية (إسعاد الذات) وبين الأخلاق الاجتماعية (إسعاد الغير) قد تناوبا التأثير في أخلاقيات أبيقور وفي أخلاقيات القورينيين من قبله، ولا يسعنا إلا أن نُذَكِّر الباحث بما سبق لنا الكلام فيه عند شرح مذهب أنِّقْريز الأخلاقي، وأن نضيف إلى ذلك قولًا ننقله عن هذا الفيلسوف أطلقه على المذهب القوريني في مجموعه، ولم يخصَّ به ناحية بعينها منه فقال: «إنَّ سعادة أوطاننا ورفاهيتها واعتبارها مساوية لسعادتنا؛ كافيةٌ وحدها لأن تغمرنا بالابتهاج.»
تأصيل مشاعر الغيرية ومذهب پافلوف
ما من شكَّ في أن الفيلسوف أنِّقْريز قد بلغ بالمذهب القوريني أسمى المراتب عمليًّا ونظريًّا؛ فإنه من حيث النظر قد بلغ من تصور التضحية بالذات إلى ذروة ما يبلغ التصور من الكمال المستطاع، ومن الوجهة العملية وضع للمذهب قاعدة ثابتة لم يعرف ما لها من أثر إلا ببحوث پافلوف الاختبارية، كما عرفناها نظريًّا من كتابات هرتلي، فإنَّ قول أنِّقْريز: «إن مشاعر الغيرية مهما كانت مصادرها وأصولها تحرز — تدرجًا — قوةً مستقلة خاصة بها، وإن هذه المشاعر تحتفظ بتلك القوة، حتى ولو لم تتزن من اللذة، يدل على أن هذا الفيلسوف قد نفذ ببصيرته الوقادة إلى أعماق لم يبلغها أحد قبله من الذين حاولوا وضع نظريات الأخلاق موضع التطبيق العملي، على أن هذا الأثر الذي خلَّفه أنِّقْريز لم نقف على ما له من نتائج عملية إلا في عصرنا هذا» — خيَّل إلى المشتغلين بالبحث العلمي عندما طغت المادية العلمية على فروع المعرفة الإنسانية في أواخر القرن الثامن عشر بطوله؛ أن الفلسفة قد انقضى عهدها وبادت، فلم تصبح أكثر من أحاديث تذكر عن الماضي، وآدابًا قديمة يقصد بالوقوف عليها تنمية الإطلاع وتوسيع دائرة المعارف؛ أي إنها أضحت وسيلة إلى أغراض ثانوية، وإنها لم تصبح أداة للتأثير في الحياة الإنسانية من طريق عملي.
وكان هذا ولا شكَّ طغيانًا وإفراطًا في تقدير ما للعلم العملي من قيمة، فلما أشرف القرن التاسع عشر على الختام نامت عاصفة العلم وهبط طغيان العلماء؛ إذ بانَ للناس أن للعلم حدًّا يقف عنده، بانَ لهم أن وظيفة العلم تنحصر في وصف الظاهرات الطبيعية وآثارها وعلاقة بعضها ببعض، وأنه بعيد عن أن يفسر «الماهيات» أو يتناول كثيرًا من الأشياء الإنسانية بتجاريبه، وبين جدران معامله، أو في ثنايا قواريره وأنابيبه، بل ظهر لهم أنَّ العلم خدم الفلسفة بقدر ما خدمت الفلسفة العلم، ولكن ما أعطت الفلسفة للعلم، كان أضعافَ ما أعطى العلمُ الفلسفةَ، وما تطبيقات پافلوف إلا مثلًا رائعًا يبين لنا وجوه الارتباط بين الطرفين.
•••
وفي سنة ١٧٤٧ ظهر كِتاب هرتلي الذي أوسع نطاق هذه النظرية وشرحَها أمتع شرح، وطبَّقها أقْوم تطبيق، وضرب مثلًا بحب المال، فقال: إن المال في ذاته ليس فيه من جمال أو لذة، ولكنه لما كان الأداة التي تمكننا من الاستمتاع بالجمال وجلب اللَّذَّات وإكفاء الكثير من رغباتنا، تحول الحب إليه بالذات، ثم تطرف «المال» في الاستيلاء على النفس، فقضى على كل المثاليات التي كان يرغب الإنسان في الوصول إليها من طريق المال، باعتباره وسيلة، وتفرد هو بالبقاء دونها حتى لترى البخلاء يضحُّون بكل معاني الجمال وينبذون كل لذائذهم في سبيل المال، وكذلك الحال إذا نظرت في حبنا للقوة والسلطة، فإننا إنما نحب القوة لأنها بديًّا وسيلتنا إلى إكفاء كثير من رغباتنا، وما نلبث غير بعيد حتى يشترك حبنا للقوة مع هذه الرغبات، ثم نستدرج إلى حالة نطرح فيها هذه الرغبات ونشغف بالقوة لِذاتها كل شغف، ونهيم بها كل هيام، وعلى هذا فَقِسْ كثيرًا من ظاهرات الخلق الإنساني. أما پافلوف فقد تلقى هذه الظاهرة كنظرية، وأخرجها بتجاريبه علمًا صرفًا.
على أن الفلسفة القديمة لم تهمل النظر في هذه الظاهرة كما قدمنا، فقد تضمنها المذهب القوريني، ونماها أنِّقْريز ثم تلقاها أرسطوطاليس، فتجد في مذهبه الأخلاقي آثارًا منها، وطبَّقها بعض الأبيقوريين على الصداقة، فقالوا بأننا إذا أحببنا أصدقاءنا أول شيء لما تبعث صداقتهم فينا من شعور اللذة، فإن هذا يتحول مع الزمن إلى حب الصديق من أجل ذاته، بعيدًا عن كل الاعتبارات الأخرى.
أما ما تَطَوَّرت إليه هذه النظرية في العصر الحديث؛ فينحصر في تجاريب العالم پافلوف الروسي كما قدمنا، ولقد حصر هذا العالم الكبير كل تجاريبه في الكلاب، فإنه من المعروف أن الكلب إذا رأى قطعة من الحلوى سال لعابه، فكان پافلوف يستغل هذه الظاهرة ويدخل في فم الكلب أنبوبة حتى يتستطيع أن يعرف بالضبط مقدار اللعاب الذي يسيل من فم الكلب عند مرأى الحلوى. وسيل اللعاب في الفم عند تناول الطعام أمر غير اختياري، ولذا سُمي فعلًا عكسيًّا؛ أي إنه أحد تلك الأفعال التي يؤديها الجسم بقاسر ذاتي، ومن غير أن يكون لتجاريب الحياة فيها أقل نصيب
بعد أن استرشد پافلوف بهذه القاعدة مضى يطبقها على ما يخطر بباله من ممكنات التطبيق، فإنه لم يقتصر على امتحان منبهات الطعام الشهي، بل عمد إلى الأحماض المكروهة، يأخذ منها منبهات يستعملها في تجاريبه حتى يستطيع أن يؤصل في كلابه استجابات «التوقي» كما يؤصل فيهم استجابات «التشهي». فبعد أن ينبِّه فعلًا عكسيًّا أصيلًا، يعمد إلى قمعه بفعل آخر، فإذا كانت العلامة أو الإشارة التي يعمد إليها تعقبها نتيجة مرغوب فيها طورًا، ونتيجة مكروهة طورًا آخر، فإنَّ الكلب يصاب حتمًا باضطراب عصبي مثل الهستيرية أو النيروستانية، وتظهر عليه العلامات المميزة لأحد المرضين.
ويروي پافلوف رواية يجدر بكل المشتغلين بالتربية أن يحيطوا بها، فقد جرَّب في بعض كلابه تجاريب عديدة، فكان يرسم أمام كلب منها دائرة من الضوء اللامع عندما يعطيه الطعام، وإهليلجًا (شكلًا بيضيًّا تقريبًا) عندما يقذفه بشحنة كهربائية، فاستطاع الكلب أول الأمر أن يميز تمامًا بين الدوائر والإهليلجات، فكان يسرُّ بمرأى الأولى، ويمتعض من مرأى الثانية، فأخذ پافلوف يقلل شيئًا بعد شيء من تفلطح الإهليلج حتى يظهر — تدرجًا — أقرب إلى الدائرة، ولكن الكلب ظل قادرًا على التمييز بين الاثنين، فلما زادت استدارة الإهليلج إلى درجة كبيرة، انقلبت الآية تمامًا، فقد حدث أنه كان يحاول أن يميز بينهما، ولكنه كان يخطئ دائمًا! واستمر على هذا أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، ثم فقَد كل قدرة على التمييز بين كل من الدرجات التي تدرج فيها من قبل، وحتى بين الإهليلج والدائرة جليين، وتغيرت أخلاقه وساء سلوكه، فكان بدلًا من أن يقف ساكتًا، أخذ يُعَرْبد ويعوي عواءً شديدًا، فأعاد عليه پافلوف الكَرَّة في نفس التجربة، مبتدئًا بها كما بدأها أول مرة، فكانت قدرة الكلب على التمييز بين الشكلين أضعف بكثير من المرة الأولى، وأخذت تصيبه نوبات العربدة والعواء، عندما أصبح التمييز بين الشكلين أكثر صعوبة بعض الشيء.
ولا شك مطلقًا في أن حالات كهذه تتكرر كل يوم بين جدران المدارس وفي معاهد التنشئة، وإليها يرجع السبب في كثير مما يبدو على الطلاب من مظاهر البلادة والخمول، بله اضطراب الأعصاب في بعض الحالات، فإن كل طالب له استعداد خاص به يوجهه توجيهًا خاصًّا، فمنهم من يميل إلى اللغات ويمقت الرياضة، ومنهم من هو على عكس ذلك تمامًا، وهذا الاستعداد الذي كثيرًا ما يلوكه المربُّون، ولا يدركون من سرِّه شيئًا، هو بعينه «الاستجابة» عند پافلوف؛ فإذا أخذنا المثل الأول من طالب يحب اللغات ويمقت الرياضة كان تعلم اللغات هو الدائرة البيضاء، وكان تعلم الرياضة هو الإهليلج في كلب پافلوف، فإذا فرض على هذا الطالب قسرًا أن يجتاز امتحان الرياضة، كما يجتاز امتحان اللغات، وهو يعلم أن ذلك فُرض عليه، كما يَفرض پافلوف على كلبه طعامًا شهيًّا عند ظهور الدائرة، وشحنة كهربائية عند ظهور الإهليلج، كانت النتيجة اضطرابًا عصبيًّا يقل أو يزداد أثره بمقتضى الظروف، ولا أظن أن طالبًا واحدًا يفلت من هذا التأثير في معاهد التعليم قاطبة، ولكن النتائج تختلف باختلاف الأشخاص، ومقدار ما في أعصابهم من قدرة على تحمل هذه التجاريب القاسية، ولو كان التخصص في دور العلم يبدأ مع ظهور الاستعداد، أو بالأحرى الاستجابة في الطالب؛ إذن لاستطعنا أن نخلق أمة جديدة خلال جيل واحد، ناهيك بأنَّ التخصص من مميزات العصر الحديث بل هي ميزته التي ندعي أنه يمتاز بها على العصور الفارطة، وناهيك أيضًا بأن الطالب الذي لا يستجيب استعداده لفرع ما من فروع المعرفة، لن يُفلح فيه أبدًا، بل لا بد من أن يرتد إلى استجابته الأصيلة، بعد أن يكون قد فَقَد في أطوار تعليمه جزءًا لا يُستهان به من ملكاته الفطرية، فإنَّ سبنسر كان مهندسًا فارتد فيلسوفًا، وولز كان عالمًا فانقلب أديبًا، ودروين كان بليدًا في استيعاب المبادئ فانقلب عالمًا طبيعيًا فذًّا في تطبيق المبادئ واستكشافها، وإنما نقول إننا نقتل أولادنا ونحطم مستقبلهم كرجال، في معاهد التعليم بنظاماتها الحاضرة وبرامجها.
وما من شك في أن نظام التعليم في العصور القديمة كان أقوم من هذه الوجهة منه في العصور الحديثة، فكان المدرس حرًّا والطالب حرًّا، كان المدرس مختصًّا. وكان التلميذ مختارًا في تنمية الناحية التي يتفوق فيها استعداده أو «استجابته»، ولا بد لنا من الرجوع إلى نظام يشابه هذا النظام، وإلا فإن التعليم والتربية سيكونان محنة العصر الحديث، وعلى الأخص بعد أن أخذت المعرفة الإنسانية تدخل في مفاوز مظلمة موحشة، أين منها هندسة فيثاغورس أو رياضيات إقليدس.
فإذا صح معتقد پافلوف فلا شك في أن أصحاب المزاجين الصفراوي والسوداوي تقتلهم معاهد العلم قتلًا بطيئًا، مع أن المرجح أنهم أكثر ذكاء من أصحاب المزاجين الآخرين، كما أننا لا نشك في أن أصحاب المزاجين اللمفاوي والدموي تؤثر فيهم طرق التعليم تأثيرًا يضعف من مواهبهم الطبيعية.
أما المحصل من هذا كله — وإن كنا قد استطردنا إلى نواح لا تَمُتُّ إلى موضوعنا بسبب مباشر — فينحصر في أن أنِّقْريز الهيدوني وبعض الأبيقوريين، قد نفذوا ببصيرتهم النقادة إلى أعماق قصية في تعليل السلوك الإنساني، يؤيدهم فيها العلم الحديث بطريق عملي تجريبي، سوف يكون له أكبر الأثر على مستقبل الحضارة.
الهيدونية والنفعية
إنَّ اللمحة السابقة كافية لأنْ تقنعنا بأنَّ الهيدونية، وبالأحرى النظرية التي تجعل اللذة والألم عند شعور الذات بهما النبعَ الأصيل الأوحد للأفعال الإنسانية — لا تنطوي على إنكار ما يتضمن الخلق الإنساني من ممكنات الأنانية وحب الذات، فضلًا عن أنها لم ترسم طريقًا عمليًا يقضي على الأنانية ويمحو أثرها من الدنيا.
- أولًا: انحلال أسلوب التفكير اللاهوتي في دوائر العلم.
- ثانيًا: ظهور كفاية المشاهدة والاختبار وتساميها إلى درجة عليا بالتحرر من كل ميل إلى الزخرف والتنميق اللفظي.
- ثالثًا: الرغبة في إقامة الحياة الفردية والحياة المشتركة على أساس عقلي على وجه العموم، وعلى أساس علمي على وجه التخصيص، وللوصول إلى هذا الغرض شاعت فكرة الشك في كل الظواهر الخلابة، والاستعاضة عنها لدى البدء في بحث أي موضوع، بمقدمات أقل ما تكون عرضة للانتقاص والجدل؛ لأن المقدِّمات إذا كانت كذلك أصبحت أقل خضوعًا لروح المداورة وتضمنت فكرات واضحة جلية.
انتقاد النظرية الهيدونية
علينا الآن أن نمضي في شرح الأسباب التي تحملنا على الاعتقاد بأنه من الصعب أن نجيب على هذا السؤال بصيغة الإيجاب، وهذا رأي الأستاذ جومبرتز، لهذا ينبغي علينا أن نمضي في سرد أدلته التي سوف نرد عليها بعد أن نكمل سردها بإسهاب.
إن الهيدونية لا تستحق كل ذلك اللوم الذي يوجه نحوها عادة، غير أن الظاهر أنها تعجز دائمًا عن أن تزودنا بتفاصيل وافية في شرح الحقائق التي تحاول تبيانها، أو ترمي إلى الكشف عنها، وهي ككثير غيرها من المذاهب القديمة مدخولة بنقيصة، هي الناحية العكسية لما ندعوه «جوهر الموضوع»، وتنحصر هذه النقيصة في أن الهيدونية تغالي في السعي وراء الحصول على درجة من الغرارة (البساطة) لا تحتملها الحقائق، فإن تلك الظاهرة الإنسانية التي اتخذتها الهيدونية، كما اتخذها بنتام أعظم نصرائها في العصور الحديثة؛ أساسًا لكل ما يصدر من الأعمال الإنسانية — تنزل في غور سحيق بعيد العمق، ولكنه مع ذلك ليس بأبعد الأغوار التي يمكن أن تصل إليها عين الباحث المستعمق.
ولنأخذ للبحث مثلًا من سعي الإنسان والحيوان لطلب الغذاء، فهل صحيح أن الإنسان والحيوان إنما يرغبون في الغذاء بسبب اللذة التي يستشعرونها عند الأكل؟ أما إذا بحثنا هذا الموضوع بحثًا أدق، فالظاهر أننا سوف نجد أنَّ الحقيقة على خلاف ذلك، فإن رغبتنا في الغذاء رغبة عاجلة، تنشأ من قاسر غريزي يدفعنا إلى حفظ الحياة وتقويمها، أما اللَّذَّة فظاهرة تأتي تبعًا لذلك، وتشترك معه اشتراك كل الأفعال الأخرى التي تحفظ الحياة وتوازن مكملاتها، والغالب أننا لا نخطئ كثيرًا إذا فسرنا هذه الحقيقة على قاعدة طبيعية.
فإنَّ تركيب المادة التي يتكون منها جسم الحيوان عرضة دائمًا إلى التحلل، وهذا التحلل يستمر إذا لم تعوض الأجسام عما تفقده من طريقه، ونجد من جهة أخرى أن تركيب مادة الأجسام الحية فيه قوة المقاومة، وهي حقيقة تظهر جلية في الفعل العكسي الذي يصدر عن الخلايا الحية تلقاء المؤثرات المضرة، وهذا الفعل العكسي وغيره من الحقائق ذوات الآصرة به مما نقع عليه في الطبيعة، لا يمكن تعليلها بغير هذا.
وقد نسعتين بذكر ناموس الوراثة الذي يرتكز على نزعة في نظام طبيعي، بدأت مرة لتستمر في تأثيرها إلى غير نهاية، ثم الناموس الأول من نواميس الحركة الذي تتجلى فيه هذه النزعة على صورة نتبين منها كيفية تطبيقها بوضوح تام، وعلينا بعد هذا أن نذكر أيضًا أن المفاعلات الطبيعية التي تحدث في الكائن العضوي تشرف عليها، إشرافًا جزئيًّا على الأقل، ظاهرات لها طابع نفسي، يتجلى فيه أثر الحركة الانفعالية، ومن هنا يحصل بتأثير قوة من قوى التكافؤ القصدي أو الغائي، إن لم تكن لتبعث فينا شيئًا من العجب الشديد، فإنها عميقة المدى بعيدة الأثر، أن تستشعر الكائنات الحية بلذة تستخلصها من كل المفاعلات الطبيعة المؤدية إلى بقائها، وأن تستشعر ألمًا في كل المفعالات التي لا تؤدي إلى هذه الغاية، ومن هنا تتحول اللذة والألم إلى ظاهرات تصحب هذه النزعة البدائية، على أننا في كل هذه الملاحظات التي نقع على جرثومتها في كتابات أرسطوطاليس، قد اعتبرنا الإنسان جزءًا من الطبيعة، لا شيئًا منفصلًا عنها وقائمًا إلى جانبها.
هذا مجمل الانتقاد والشرح الذي يمضي فيه الأستاذ جومبرتز إزاء النظرية الهيدونية في هذه الناحية، غير أنه بدأ بحثه بسؤال لا يجاب عليه بغير ما أجاب به في نقده هذا، ولكن قليلًا من التأمل يَدلُّك على أن السؤال قد وُضع بصورة عكسية ليؤدي إلى جواب واحد.
تساءل جومبرتز: «هل صحيح أن الإنسان والحيوان إنما تحفزهم الرغبة إلى الغذاء بسبب اللذة التي يستشعرونها عند الأكل؟» ثم مضى في التدليل متخذًا من هذا السؤال أساسًا لبحثه، غير أنك إذا وضعت السؤال في صيغة أخرى تلتئم والحالة الطبيعية، وقلت: «هل يشعر الإنسان والحيوان برغبة في الغذاء ليطرد بالغذاء ما يستشعر من ألم الجوع؟» حصلت على نتائج تنافي النتائج التي وصل إليها جومبرتز تمامًا، ولم يصبح بك من حاجة لأن تستطرد إلى بحوث ما وراء الطبيعة كالقصد والغاية، وغيرهما من البحوث المجردة أنت في غنى عنها.
إنَّ الجُوع يُحدث ألمًا يتحرر منه الكائن الحي بالغذاء، فإذا اعتبرنا الجوع سبب الرغبة في الغذاء، أتت اللذة عن طريق التحرُّر من الألم الذي يحدثه الجوع، لا مجرد لذة يحدثها الأكل لذاته، وأصبح الاحتفاظ بالذات من طريق التغذية تابعًا لما يستشعر الإنسان من لذة التحرر من ألم الجوع بالغذاء، والسبب في خطأ الأستاذ جومبرتز يرجع إلى أنه أهمل النظر في السبب الذي يحدث الرغبة في الغذاء، وهو ألم الجوع، واتخذ اللذة التي يستشعرها الحي عند التحرر من ألم الجوع، أصلًا للرغبة في الأكل والالتذاذ به.
على أن الأستاذ جومبرتز كان يستطيع أن يقع على حالة أبعد غورًا في الطبيعة الحيوانية من رغبة الحيوانات في الغذاء، تلك هي رغبة الأحياء في التناسل، فإن الغذاء إذا حفظ الذات فإن التناسل يحفظ النوع، والطبيعة لا تقيم للذوات وزنًا بجانب النوع، فهي تضحي بالذوات لتحتفظ بالنوع، ومع هذا يمكن تعليل الرغبة في حفظ النوع تعليلًا علميًّا لا ضرورة معه للالتجاء إلى مباحث ما وراء الطبيعة، فإن التبادل الجنسي في الأحياء، استجابة لرغبة مُلحَّة في التحرر من ألم تشعر به، واللذة إنما تَحدث بشعور التحرر من هذا الألم عند مباشرة الفعل نفسه، فالألم الذي تُحدثه الرغبة في التبادل البعولي هو لدى الواقع «فعل عكسي بسيط» يدفع الأحياء إليه، أما حفظ النوع فأمر يتولد عن ذلك الفعل، وبذلك يكون حفظ النوع عبارة عن «فعل عكسي متحول» على مقتضى تطبيقات پافلوف وهذا يزيد الهيدونية قوة، ويكسبها ضد النقد مناعة كبرى.
نقد الهيدونية ونشوء مشاعر الغيرية
يعتقد الأستاذ جومبرتز بأنَّ للنقد الذي مضى فيه صلةً بالوجه الثاني من أوجه العلاقة بين الذاتية والغيرية؛ أي بحث العنصر الأخلاقي الذي يولد المشاعر الغيرية، وهو يقول بأنَّ ظاهر الأشياء يدل على أن مكتشفات العلم الحديث تؤيد النظريات الهيدونية، وتزودها بعناصر جديدة على أعظم جانب من القوة، وكل هذا حق، غير أننا نعجب كيف أنه لم يلاحظ أنه بنقده الأول يعاند حقيقة يقول فيها هنا إنها من أكبر مؤيدات المذهب، ولكن السبب في هذا أن خطأه كان في التطبيق، لا في إدراك المبدأ الذي أراد أن يطبقه.
غير أننا إذا أردنا أن نستهدي بضوء هذه النظريات لم يكن لدينا من مندوحة عن أن نرجع بتصوراتنا إلى الماضي السحيق الذي نعجز — حتى إذا أحاطت به تصوراتنا — عن أن نجيب مع تصوره جوابًا مقطوعًا بصحته، إذا نحن تساءلنا عن الأصل الذي نشأت منه أو تحولت عنه المشاعر الاجتماعية. فإذا حاولنا أن نؤوِّل ذلك التصور تأويلًا حرفيًّا كان تأويلنا له سببًا في أن تَفْقِد لغة الطبيعة معناها وبلاغتها، ذلك بأنَّ هذه المشاعر قد يتفق أن تكون أصيلة كما يتفق أن تكون متحولة عن غيرها، وإذا خيِّل إلينا أنها أصيلة في الإنسان، فهل يبعد أن تكون في غرارتها الأولى مشاعر متحولة اكتسبها أصل قديم من أصولنا المتوحشة؟
التطور والآداب
لما أن ضرب الإنسان بقدمه الثابت في مدارج المدنية، واتحدت الفصائل الصغيرة فكونت جماعات كبيرة، همس وحي الغريزة في ضمير كل فرد من أفراد تلك الجماعات، بأنه ملزم بأن يمدَّ بيد الحب والعطف وبكل ما أوتي من الغرائز الاجتماعية إلى كل أعضاء الجماعة التي هو تابع لها، ولو لم يكن على صلة مباشرة بهم، أما وقد وصلت الإنسانية إلى هذا الحد، فلم يبقَ أمامها من حائل يصد موجة الحب الأخوي والعطف المتبادل أن تطمو على خبائث الطبع الحيواني، اللهم إلا حوائل مصطنعة مفتعلة.
ومن هنا نستدل على أن (دروين) يتنبَّأ بأنَّ المستقبل كفيل بتحطيم تلك الحوائل التي تقيمها القوميات، إذا ما وجهت الإنسانية نحو العمل على سعادة النوع البشري، ومن هنا نعرف أن تعاليم الأديان العظمى جميعها لا تتنافى مع ما يؤدي إليه قانون الارتقاء التدرجي من النتائج.
ولدينا باعث آخر ظل عاملًا على صد تيار التقدم الإنساني نحو المثل الأسمى من الآداب، ذلك باعث المؤثرات السيئة التي تنتج عن البيئات المصطنعة التي نخلقها من حولنا، فلقد أظهر (دروين) تأثير البيئات المصطنعة وما لها من الأثر في تغاير صفات الصور العضوية، إذا ما وقعت تحت تأثير الإيلاف، والإنسان المتمدين لن يفلت من مؤثرات ما تُحدث تلك العوامل.
ولقد جهر فرنسيس دروين في خطاب الرئاسة الذي ألقاه في مجمع العلوم البريطاني الذي التأم في «دبلن» أنه من أنصار سيمون. كما أن العلَّامة هيكل لم يتردد في أن يعبر عن اعتقاده الثابت في أن مذهب سيمون يُعد أكبر دعامة ترتكز عليها نظرية دروين في الانتخاب الطبيعي.
ولكن ألا يمكن أن تكون نظرية سيمون هذه فيها أصول تَمُتُّ إليها تطبيقات پافلوف بأقوى الأسباب؟ هذا ما يحتاج إلى درس ليس هنا موضعه، ولكن يكفي أن نقول في تطبيق مبدأ سيمون على الأخلاق والآداب، إننا لا نجد صعوبة تحول دون القول بأن تكرار «الفعل الأدبي» حادثًا بما تبعث في النفس قوة الإرادة من عوامل «التنبه»؛ لا يقتصر على أن يصبح عادة ثابتة في الفرد، بل يحدث تغييرًا ثابتًا في طبيعته تتوارثه الأجيال المتعاقبة، ماضيًا في الارتقاء جيلًا بعد جيل.
وهنا يجدر بنا أن نذكر أن «الذاكرة اللاشعورية» قد خرجت من حيز النظريات إلى حيز العلم التجريبي. فقد سبق لنا أن شرحنا تطبيقات پافلوف في الأفعال العكسية «المتحولة»، ولنا اليوم أن نقول إن هذه التطبيقات أخذت تتدخل في العلوم الأخرى، فإن الدكتور متالنيكوف أحد علماء معهد پاستور بباريس استطاع أن يولد في الأجسام الحية «ذاكرة لا شعورية» بها يمكن أن تتقى الأمراض، وكانت الطريقة التي اتبعها هي نفس الطريقة التي اتبعها پافلوف في الاستعانة بمنبه خاص عند العمل على توليد فعل عكسي متحول.
على هذه القاعدة التي تلتئم ومذهب دروين، وتؤيد نزعة القورينيين في الوقت نفسه تقضي بأنَّ ارتقاء الفرد من حيث الإحساس الأدبي ارتقاءً راجعًا إلى جهاده المستمر في سبيل التخلص من بواعث الاستغواء ونزعاته — لا بد من أن يكون قد حفز الإنسان إلى منازل ذات بال من الرقي فرديًّا واجتماعيًّا، ما دام قد ثبت لدينا أن كل فعل تَنبُّهيٍّ ممثل لقوة تبعثها في الإنسان حواسه الأدبية، محتوم أن تحتفظ به الطبيعة كأثر ثابت في الأفراد، ينتقل إلى أعقابهم بالوراثة.