تفنن عرب الأندلس
لم تقف همة الأندلسيين عند حد الإبداع في هندسة الدور والمصانع، وعمل النقش والتزويق، وتنجيد البناء والزخرف فيه، وبناء الجسور وتعبيد الطرق، وإنشاء السكور والسدود. فإن هذه الأعمال في العمران كانت نتائج لازمة للثروة العظيمة التي فاضت عليهم من زراعاتهم وصناعاتهم ومتاجرهم. فقد تفننوا أنواع التفنن في الزراعة، ونقلوا إلى الأندلس من الشام أنواعًا من الأشجار والأزهار والغراس والبقول لم يكن لإسبانيا عهد بها، ومنها انتقلت إلى أوروبا الغربية، ومن جملة ما أدخلوه من أنواع الشجر والنبات الفستق والموز والنخيل والأرز والقطن والتوت وقصب السكر والزعفران والهيلون وزهر الكاميليا الحمراء والبيضاء والورد الياباني وغير ذلك، وتفننوا في هذا تفنن الغربيين لعهدنا بزروعهم وورودهم وثمارهم وبقولهم حتى كانت الأندلس المعتدلة الأقاليم الحسنة المناخ تعطي ثلاثة مواسم في السنة؛ لحسن استثمارها، فتدر على أهلها أخلاف الرزق والغنى سواء في العناية عندهم الأعذاء؛ أي الأراضي التي تسقى بالأمطار أو التي تسقى سيحًا؛ أي بماء الأنهار؛ ذلك لأنهم حفروا آبارًا، وأسالوا المياه من القاصية، وعملوا خزانات وسدودًا.
وكان الديباج والوشي يعمل أولًا في قرطبة، ثم غلبت عليها ألمرية، فلم يتفق في الأندلس من يجيد عمل الديباج إجادة أهل ألمرية، وانفردت سرقسطة بصنعة السمور ولطف تدبيره وهي الثياب الرقيقة المعروفة بالسرقسطة خصوصية لأهل هذا الصقع «وفي جميع نواحيها يعمل الكتان والحرير الفائق» وكان في جيان ٦٠٠ نول للحرير، ويعمل السجاد في رية والسلاح والحلي في قرطبة ومرسية وطليطلة وسرقسطة، وأخذت شاطبة تصدر الورق بكثرة منذ سنة ١٠٠٩، قال ياقوت: وفي شاطبة يعمل الكاغد الجيد، ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس، وبالجملة فلأهل هذه الديار «خصائص كثيرة، ومحاسن لا تحصى، وإتقان لجميع ما يصنعون» قال ميجون: كانت في الأندلس عدة معامل مشهورة لصنع الفسيفساء، ويسمونه المفصص، ونقلت صناعة الفسيفساء عن الرومان.
وهكذا رسخت الصنائع في أمصار الأندلس برسوخ الحضارة، وطول أمدها، قال ابن خلدون: «فإنا نجد في الأندلس رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطبخ، وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص، وتنفيذ الفرش في القصور، وحسن الترتيب والأوضاع في البناء، وصوغ الآنية من المعادن والخزف، وجمع المواعين، وإقامة الولائم والأعراس، وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده، فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها، ونجد صنائعها مستحكمة لديهم، فهم على حصة موفورة من ذلك وحفظ متميز بين جميع الأمصار.»
وذكر سيديليون أن العرب من حيث الأخلاق والعلم والصناعة كانوا أرقى بكثير من الإسبان، وهم أمتن أخلاقًا وطبائع، وفيهم الكرم والإخلاص والإحسان الذي لم يكن عند عداتهم، كما أن فيهم عزة النفس التي امتازوا بها في كل زمن، وكان الإفراط المضر فيها داعيًا إلى إحداث البراز، وساعد على عظمة العرب في إسبانيا انتشار الآداب والعلوم والفنون على عهدهم انتشارًا كبيرًا، وكذلك الزراعة والصناعة، وعم الذوق في اللذائذ العقلية جميع طبقات المجتمع، والشعر يرقي النفوس، وغدت المنافسة الشريفة على أتمها في الأفكار، وكانوا يكتبون على جميع المصانع اسم من أمر ببنائها واسم بانيها، والأمة تمدح المحسن لبنائها، وارتقت عندهم الهندسة والموسيقى والرقص إلى درجة ذات بال، ولا يزال إلى اليوم في الغرب يدرس أسلوب بنائهم، ويعجب بما نقشوه فيها من النقوش، وكان لدولة الموحدين في الأندلس ذوق خاص في البناء؛ أنشئوا الجوامع والمآذن والأماكن العامة والمستشفيات والرباطات في كل بلد من بلادهم، وأقاموا الطرق والجسور والسدود، وحفروا الآبار، وأجروا الأنهار. ا.ﻫ.
ولقد كانوا يستخرجون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، ويستقطرون السكر، ويعملون اللبود «المشهور في جميع الأرض بالجودة والصبغ والحسن. ولهم من الألوان والأصباغ والحشائش التي يلون بها الحرير وأنواع الصوف والثياب ما ليس في بلد من بلدان الأرض له نظير حسنًا وكثرة»، ويحملون حاصلاتهم ومصنوعاتهم إلى أقطار المملكة العربية؛ بل إلى أقاصي البلاد الشرقية والغربية في البحار على سفن الأندلسيين التجارية، وكان لهم أساطيل في كل فرضة من فرضهم تقلع على الدوام من مواني الأندلس؛ لتحمل إلى شواطئ إفريقية وآسيا وأوروبا ما يروج فيها من سلعهم ومعادنهم وثمارهم وحبوبهم.
قال كاباتون: كانت مدنية العرب في إسبانيا ظاهرة في الأمور المادية، وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البائرة في الأندلس من الأساليب العلمية التي اتخذوها لريها، وهي أساليب إن لم تكن من اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها، وأحسنوا استخدامها، كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبللور وغزال الصوف والقطن والكتان والقصب، وأقاموا ما لا يحصى من المعاهد العامة، وفيها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من إنشائه. ا.ﻫ.
وقال أحد علماء الفرنجة: كان في الأندلس على عهد الحضارة العربية أربعون مليون نسمة من أرباب الصنائع والعمل (سكان إسبانيا اليوم ٢١ مليونًا، وسكان البرتغال ٦ ملايين) وعلى ذلك العهد قامت فيها المدن المهمة التي يعجب الناس إلى اليوم بحرائبها، وعلى ذاك العهد كانت الزراعة ناجحة، وبفضل هندسة العرب كانت المياه تجري إلى كل مكان في بسائطها فتحمل الخصب والإمراع، وقال آخر: إن عهد استيلاء العرب على إسبانيا كان أسعد أيامها؛ لنجاح زراعتها بما قام فيها من أعمال السقيا، وبفضل غراسهم وزروعهم، وحسن استثمارهم لمعادن الأرض ومناجمها، ولما اغتنت البلاد كثر فيها سكان الدساكر والقرى كما كثر سكان المدن الكبرى.
كان للأندلسيين حذق باستخراج العلوم واستنباطها، من ذلك: أن عباس بن فرناس حكيم الأندلس صنع في بيته هيئة السماء، وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود، وهو الذي استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال (؟) ليعرف الأوقات على غير مثال، واحتال في تطيير جثمانه، وكسا نفسه الريش، ومد له جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة، ثم سقط؛ فهو أول من حاول الطيران من بني الإنسان.
وكان أهل قرطبة أول من عني بتبليط المدن، وكذلك إنارة الطرق في الليل عرفت لأول مرة في قرطبة أيضًا، ولما ارتقت العلوم على عهد بني الأحمر في غرناطة اكتشفوا بل اخترعوا بارود المدافع، وعرف منذ ذاك العهد، ولا تزال مدافعهم التي دافعوا بها عن غرناطة محفوظة إلى اليوم في أحد متاحف إسبانيا.
وفي الأندلس: عُرف الطبع؛ فكان أحد أبنائها هو السابق في مضمار هذا الاختراع الذي لم تنتفع الإنسانية بأفيد منه. فكانت لهم فيه طريقة لم ينته إلينا خبرها بالتفصيل؛ بل عرف إجمالًا أن عبد الرحمن بن بدر من وزراء الناصر من أهل المائة الرابعة «كان ينفرد بالولايات فتكتب السجلات في داره، ثم يبعثها للطبع فتطبع، وتخرج إليه، فتبعث في العمال، وينفذون على يديه» فإذا كان هذا هو الطبع المعروف وما نظنه إلا هو، فيكون ابن المنذر بدر العربي قد سبق الألماني مخترع الطباعة بنحو أربعة قرون.
وذكروا أن ملوك غرناطة فرضوا جوائز للمخترعين؛ لينشطوهم، ويلقوا المنافسة بينهم، وربما ميزوهم بامتيازات خاصة على نحو ما فعل لويز الرابع عشر وكولبر في فرنسا، وعني الأندلسيون بتأليف رسائل يفهمها كل إنسان تكون معوانًا على الانتفاع بالأعمال العامة، وهم أنشئوا دساتير سهلة التناول يتدارسها الصناع والعملة، فتفيدهم فيما هم بسبيله.
واخترع الأندلسيون الخطوط المخصوصة بهم، كما اخترعوا الموشحات التي استحسنها أهل المشرق، وصاروا ينزعون منزعها، وكانت طبقاتهم في نظمهم ونثرهم لا تخفى على بصير، ولم يكن يخلو بلد من كاتب بليغ وشاعر مفلق، بل «كان من مدنهم مثل شلب قل أن ترى من أهلها من لا يقول شعرًا، ولا يعاني الأدب، ولو مررت بالفلاح خلف فدانه وسألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه، وأي معنى طلبته منه» وخص أهل وادي آش بالأدب وحب الشعر، وعلل ذلك أحد العارفين بقوله: إن أهل الأندلس أشعر الناس؛ لما كثر الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكئوس لا ينازعهم أحد في هذا الشأن.
وكانت للأندلسيين عناية بنقد الشعر لا يجوز عليهم ساقطه، ونبغ كثيرون منهم في هذا المعنى، وألفوا فيه التآليف الممتعة، وكانت لهم مدارس لتعليم القرآن والكتابة والحساب وتعلم العلوم على اختلاف ضروبها في الجوامع من غير نكير يعلمون الفلك والجغرافيا واللغة والطب والنحو ومبادئ الطبيعة والكيمياء والمواليد الثلاثة. ذكروا أنه كان في قرطبة ثمانون مدرسة عامة، وسكانها مليون نسمة، وأن الموحدين أنشئوا في الأندلس مدارس عامة ومدارس عليا، وأغدقوا إحسانهم على العلماء، يريدون أن يعيدوا إلى الأندلس بهاءها على عهد الأمويين وأن الحكم أنشأ في قرطبة سبعًا وعشرين مدرسة اتخذ لها المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن، وأجرى عليهم المرتبات، وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله العظيم، وفي ذلك يقول ابن شخيص:
وأحدث رضوان النصري (٧٦٠) المدرسة بغرناطة، ولم تكن بها، وكانوا كما قال ابن سعيد: يقرءون في جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرءون لأن يعملوا لا لأن يأخذوا جاريًا، فالعالم منهم بارع؛ لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على ذلك أن يترك الشغل الذي يستفيد منه وينفق من عنده حتى يعلم.
وكان تعليم البنات شائعًا عندهم، وكثير منهن يحفظن بضعة دواوين من دواوين العرب، وينظمن ويترسلن كالأوروبيات اليوم، وإذا عرفت أن المدارس كانت مبذولة في المدن والقرى فلا تستغرب بعد ذلك أن قال أحد مؤرخي الإفرنج: إن سكان إسبانيا الإسلامية إلا قليلًا كانوا يقرءون ويكتبون على حين كان أهل الطبقة العليا في أوروبا المسيحية أميين لا يقرءون ما عدا أفرادًا قلائل من الشمامسة جعلوا الكتابة من شأنهم.
وكان للأندلسيين غرام بتسبيل الكتب على المطالعة، ولهم خزائن كتب عامة وخاصة، وكانت قرطبة أكثر بلاد الأندلس كتبًا، وأهلها أشد الناس اعتناءً بخزائن الكتب صار ذلك عندهم من آلات التعيين والرئاسة، فلا يكاد يخلو دار من خزانة فيها كتب قيمة، وقد أنشأ الحكم الثاني عدة مكاتب للمطالعين فكان يرسل وكلاءه إلى المشرق يستنسخون الأسفار فما هو إلا أن يؤلف المؤلف تصنيفه حتى تستنسخ منه نسخة أو تنسخ لتحمل إلى خليفة الأندلس، ولا يفوت بلاده شيء من حركة العقول، وكانت دار كتبه تحتوي على أربعمائة ألف مجلد جاء فهرسها في أربعة وأربعين مجلدًا، ولطالما أجزل ملوك الأندلس الصلات لبعض مؤلفي الشرق والأندلس حتى يذكروا في مقدمتها أنهم ألفوها برسم خزائنهم، ومن المؤلفين من كانوا يرضون بذلك، ومنهم من لا يرضون به يقصدون أن يكون لمن يستفيد منه.
وكان للعلماء والمؤرخين والشعراء والأدباء في الأندلس مجامع علمية وأدبية أشبه بالمجامع أو الأكاديميات في هذا العصر، وذلك لنشر العلم والمعارف، ومفاوضة الحكمة بينهم، فتنتج من اجتماعهم فوائد مهمة للعلم والمدنية، وكان المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس من أعلم الملوك بالأدب، وله التصنيف المترجم بالتذكرة، والمشتهر بالكتاب المظفري في خمسين مجلدًا في الفنون والعلوم، واستأدب لبنيه أبا عبد الله بن يونس، وكان يحضره، وأبا الحزم بن عليم وأمثالهما للمذاكرة والمباحثة فيفيد ويستفيد، وكان لأبي عامر أمير الأندلس في دولة هشام المؤيد مجلس معروف في الأسبوع يجتمع فيه أهل العلوم للكلام فيها بحضرته.
وقد أنشأ الحكم مجمعًا في قصر مروان وقلده غيره من أمراء الأندلس فأنشئوا مجامع لهم، وأنشأ أحمد بن سعيد النصري مجمعًا في طليطلة فكان يجتمع عنده أربعون عالمًا من طليطلة والبلاد المجاورة ثلاثة أشهر في السنة؛ أي في شهر تشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني يعقدون اجتماعاتهم في ردهة فرشت أحسن فرش، فيبدءون عملهم بتلاوة آيات من الكتاب العزيز، ثم يتذاكرون في تفسير ما قرءوا، ويأخذ بهم الاستطراد إلى البحث في فنون شتى من العلم والحكمة.
كان أهل دانية أقرأ أهل الأندلس؛ لأن مجاهدًا العامري كان يستجلب القراء، ويفضل عليهم، وينفق الأموال فكانوا يقصدونه ويقيمون عنده فكثروا في بلاده. قلنا: وإذا كان عرض للأندلس في بعض أدوارها ما فرق جامعتها السياسية فاستفاد من ذلك أعداؤها فقد كان لتفريقهم إلى ممالك صغرى داعيًا إلى التنافس أحيانًا حتى صار لكل إقليم مزية ليست لغيره، واختص كل ملك بشيء فاتخذ أسباب النجاح فيه، واستدعى أهل الأخصاء من رجاله.
ومن لطيف تدبيرهم في الإنفاق على الجند دون تحميل الأمة أعباءه وهو تحت السلاح ما عمله ابن جهود رئيس قرطبة من جعل أهل الأسواق جندًا، وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم محصاة عليهم يأخذون ربحها فقط، ورءوس الأموال باقية محفوظة يؤخذون بها، ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، وأمرهم بتفريقه في الدكاكين وفي البيوت، حتى إذا هم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه.
ومن أجمل أعمالهم في إقامة قسطاس العدل: أن هشام بن عبد الرحمن الداخل كان يبعث إلى البكور قومًا عدولًا يسألون الناس عن سير العمال، ثم ينصرفون إليه بما عندهم، واعترض له يومًا متظلم من أحد عماله فبدر إلى الشاكي، وقال له: احلف على كل ما ظلمك فيه فإن كان ضربك فاضربه أو هتك لك سترًا فاهتك ستره أو أخذ لك مالًا فخذ من ماله مثله إلا أن يكون أصاب منك حدًّا من حدود الله، فجعل الرجل لا يحلف على شيء إلا أقيد منه.
ولقد بنى الخليفة عبد الله بن محمد الساباط بين القصر والجامع بمدينة قرطبة، وكان يقف فيه قبل صلاة الجمعة وبعدها فيرى الناس، ويشرف على اجتهادهم وحركاتهم، ويسر بجماعاتهم، ويسمع قول المتظلم، ولا يخفى عليه شيء من أمور الناس، وكان يقعد أيضًا على الأبواب في أيام معلومة فترفع إليه فيه الظلامات، وتصل إليه الكتب على باب حديد قد صنع مشربًا مستطيلًا؛ لذلك فلا يتعذر على ضعيف إيصال بطاقته بيده، ولا إنهاء مظلمة على لسانه، وفتح بابًا في قصره سماه باب العدل، وكان يعقد فيه للناس يومًا معلومًا في الجمعة؛ ليباشر أحوال الناس بنفسه، ولا يجعل بينه وبين المظلوم سترًا. فكانت سيرة عمالهم مع الرعايا أن يتحفظوا من كل أمر يوجب الشكوى منهم، وينقبضون عن التحامل على من دونهم.
وهكذا فإنه لا يكاد يخطر ببالك شيء من أدوات الحضارة ومقومات العمران وأساليب العلم والمعرفة إلا قام به أو ببعضه ملوك الأندلس وأهلها حتى التماثيل فإنها كانت في قصور العظماء والصور تزين بها غرفهم وردهاتهم؛ لذلك أبقوا على أكثر ما كان في البلاد قبل الفتح من التماثيل للاعتبار بها خصوصًا بعد أن انغمسوا في الحضارة، قال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة:
أما الموسيقى: فقد كان زرياب أدخلها الأندلس، فكان يجري عندهم مجرى الموصلي في الغناء، وله طريق أخذت عنه، وأصوات استفيدت منه، وعلا عند الملوك، وأحسنوا إليه حتى كادوا يفرطون، وشهر شهرة ضرب بها المثل، ولا عجب إذا قلنا إن تفرق الأندلس أصقاعًا وممالك كان أشبه بتفرق ألمانيا وإيطاليا قبل وحدتهما إلى إمارات صغيرة تتنافس في مضمار العلم والصنائع والعمران.