مدينة مجريط
سار بنا القطار من باريز إلى جنوبي فرنسا مارًّا بأرض عامرة بزراعتها دالة على سلامة ذوق أهلها، وتفننهم في ضرب الحياة المادية والأدبية، ولما اجتزنا جبال البيرنات «جبل الثنايا» دخلنا ليلًا محطة إرون الإسبانية قاصدين إلى مجريط عاصمة إسبانيا الحديثة كثرت لواعج الأشواق إلى الصقع الأندلسي، واشتدت تباريح الذكرى.
تمثلت للعين تلك الأمة العربية الغربية، وما أثلته من الأمجاد في هذه البلاد، وظهرت فيه من مظاهر الحياة الراقية، تذكرت جيلًا عظيمًا، لم يبق سوى التحدث بطيب أخباره، والتطلع إلى جميل آثاره، ذكرت عشرات الألوف من العظماء، ضمت الأندلس أعظمهم، وكان كل واحد أمة برأسه، ومنهم من لم ينبغ أمثال لهم في أمة في القرون المتواصلة، ووددت لو أمكن العمل بحكمة المعري حين قال:
مدينة مجريط أو مدريد هي عاصمة إسبانيا منذ سنة ١٥٦٠، وسكانها اليوم يقربون من سبعمائة ألف، وهي العاصمة التي اختارها فيليب الثاني؛ لتوسطها من البلاد، وكانت على عهد العرب حصنًا أو بليدة، ولم ترزقها الطبيعة نهرًا كبيرًا، ولا ضاحية بديعة مشجرة مثمرة؛ بل كان قديمًا في أرباضها بعض الغابات فحطمت، ولم يبق منها إلا القليل. على أن فيها اليوم ما في جميع عواصم الغرب من المرافق والمصانع. زرت بعضها وهي لا تختلف عن مصانع الأمم اللاتينية إلا قليلًا بل هي أقل عظمة من مصانع إيطاليا وفرنسا، وليس في مجريط أثر يعتد به من آثار العرب، وأما آثار الإسبانيين الحديثة: فليست مما يعجب به كثيرًا؛ لأنها حديثة عهد على الأغلب، وتكاد تكون الصنعة الدينية متجلية في كل مصنع من مصانعهم.
وأكثر أحياء المدينة ضيقة، وبيوتها مزدحمة كسائر المدن المنحطة في أوروبا إلا أن بعض الأحياء والدور المستحدثة هي على الطراز الغربي الجديد، ولها حدائق وساحات على جانب من السعة مستوفاة شروط الصحة، وقد أنشئت في زمن الحرب العامة في مجريط وغيرها من مدن إسبانيا بيوت أقامها أغنياء الحرب؛ أي الذين اتجروا فيها وربحوا، وربحت بهم إسبانيا لحيادها، وقد أحسنت لنفسها بالتزامها خطة المسالمة، ومن هذه البيوت ما يقتضي ألوفًا من الليرات. فلما اشتدت الأزمة على أوروبا عامة لحق إسبانيا من أثرها شيء بالطبع فوقف العمل في بعض تلك البنايات، وكذلك كثير من المشاريع والمعامل التي أحدثوها مغتنمين فرصة تقاتل جيرانهم.