دير الأسكوريال
أهم ما في ضاحية مجريط دير الأسكوريال على واحد وخمسين كيلومترًا منها بناء فيليب الثاني، ونجزت عمارته سنة ١٥٨٤، وعمر فيه حفيده فيليب الرابع البانتيون مدفن العظماء من الآل الملوكي، وقيل: إنه أنفق على الدير خمسة عشر مليونًا ونصف مليون من البستاس أي الفرنك الإسباني.
والأسكوريال كما قال عنه واصفوه من الإفرنج مثال مما تعمله الإدارة ومما لا تعمله، فقد قيل: إن الإدارة قادرة في بعض الأحوال وعاجزة عن إيجاد عمل واحد يدل على نبوغ وعبقرية، وهذه الشعلة الإلهية قد نقصت في عمل باني الدير. فمن شقائه أنه نشأ في عهد لم يشتهر بقوة الإيجاد ولا بسلامة الذوق فجاء بناؤه جافًّا رغم ما تعاوزه من أيدي المهندسين لم ينم عن لطف ولا حوى أسباب الجمال، وغلب على البناء تصنع الملك فيليب في مظاهر أبهته وعظمته، ولطالما ضيق صدور أسرته وحاشيته منه في هذا الشأن فلم يكن لهم هم إلا أن يدهنوه، وكان من طبعه أن يتدخل فيما لا يعلم حتى أفسد على المهندسين عملهم أو كاد، وجاء العمل الذي أبقاه للأعقاب حتى يفتخروا به، وليس فيه كبير أمر من جمال الهندام والنظام أشبه بسجن مظلم وديماس منحوت.
وأهم ما يلفت النظر في هذا الدير دار كتبه، وفيها خمسة وأربعون ألفًا من المجلدات حوت كثيرًا من المخطوطات والنقوش والرسوم، ومنها الكتاب المقدس الذي كان يقرأ فيه بعض ملوك إسبانيا في القرون الوسطى، وبعضها كتب باللاتينية، ومنها ما كتب بالإسبانيولية أو اليونانية، ومنها المزين بأجمل الرسوم، ومنها المذهب المكتوب على ورق، ويهمنا من هذه المكتبة مجموعة الكتب العربية وهي ألفا مجلد كانت السفن الإسبانية غنمتها من مركب لأحد ملوك مراكش المتأخرين، وكان في هذا الدير قبل القرن السابع عشر نحو ثلاثة آلاف مخطوط عربي، فالتهمتها النار في الحريق الذي نشب في الدير مع ما التهمت من الكتب الأخرى.
فليست الكتب العربية في خزانة الأسكوريال إسبانية المصدر كلها كما أكد لنا أحد علماء الإسبان، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، أخبرني أن الإسبان غنموا هذه الكتب من سفينة كانت لأحد سلاطين الغرب الأقصى فوقعت في أيدي الإسبان، وقال آخران: أصل هذه المجموعة كانت لأحد سفراء إسبانيا لدى الباب العالي، ولما غادر الآستانة أهداها لملكه فوضعها هذا في الدير الذي كان ملكًا له ولآله من بعده، والرواية الأولى أصح.
وقد وصف هذه الكتب باللاتينية أحد رهبان الموارنة من سنة ١٧٤٩–١٧٥٣ وفيها ١٩٥٥ مخطوطًا رأيت نموذجات منها، وقرأت وصف الأخير فيما كتبه أحد علماء المشرقيات من الفرنسيس، ولا سيما القسم الذي يهمني منها.
عراني في هذا الدير ما عرا كثيرين قبلي من السويداء، ثم السكون والراحة والبرودة التي تدعو إلى العزلة والتفكر والانكماش والدروس، وإنك لتشعر وأنت تسير تحت قباب الأسكوريال العارية من التفنن والزينة بهواء بارد من حياة الأديار كما تشعر في مدارس أكسفورد وبِيَعِها، والنازل هنا بطبيعته يرى دافعًا من نفسه يدفعه إلى أن يشغل نفسه بشيء من ملجأ أوفق لنسيان العالم يحمل ساكنه على البحث عن الحقائق، وعلى الصبر في كشف المسائل المتعذرة المبهمة المجهولة مثل هذه المعاهد.