مدينة إشبيلية
على شاطئ الوادي الكبير في أجمل بقاع الأندلس وأعدلها هواءً وأزكاها تربةً قامت هذه العاصمة التي كانت من أعظم مدن الأندلس بعد سقوط قرطبة في أيدي الإسبان، وكانت مدينة الحظ والسرور على اختلاف الدهور والعصور، وليس اليوم في إشبيلية بقايا كثيرة من آثار العرب إلا الجيرالد أو منارة الجامع الأعظم وهي أعجوبة إشبيلية ترى من مكان بعيد، بناها مهندس عربي من سنة ١١٨٤–١١٩٦ لأبي يوسف بن يوسف من دولة الموحدين، وهي من الآجر، يدق حجمها كلما ارتقت في الهواء، وقاعدتها عبارة عن مربع ذي ١٣مترًا و٥٥ سنتيمترًا، ويزيد سمك الجدران على مترين، وقد تشوهت بما زاد عليها الإسبان بعد خروجها من أيدي العرب، وهي الآن قبة جرس البيعة الكبرى.
قال في ذيل اللباب: فدخل (يعني أمير المؤمنين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن) إشبيلية في غرة صفر سنة ٥٩٣ فأخذ في إتمام بناء الجامع، وتشييد منارة، وعمل التفافيح من أملح ما يكون من عظمة لا أعرف له قدرًا إلا أن الوسط منها لم يدخل على باب المؤذن حتى قطع الرخامة من أسفلها، وزنة العمود الذي ركب عليه أربعون ربعًا من الحديد، وكان الذي صنعها ورفعها في أعلى المنار المعلم أبو الليث الصقلي، وموهت تلك التفافيح بمائة ألف دينار ذهبًا. ا.ﻫ.
ومن أجمل ما في كنيسة إشبيلية اليوم والجامع أمس ناووس من الصلب فيه بقايا خريستوف كولمبس الملاح الجنوبي الذي اكتشف أميركا يحمله من أربعة أطراف ملك قشتالة وملك أرغون وملك ليون وملك نافار، وهو من صنع ميليدا سنة ١٨٩٢ كان في كنيسة هافان، ثم نقل إلى إشبيلية سنة ١٨٩٨ بعد أن تحررت كوبا من إسبانيا.
تقرب إشبيلية من البحر، ولا ترتفع عن سطحه أكثر من ثمانية أمتار، وقد قال الفرنجة فيها: ليست الجيرالدا ولا سائر مصانع إشبيلية، ولا كنوز آثارها وجميل نقوشها على الحيطان هي التي اشتهرت بها إشبيلية البديعة، ورددت المثل الذي سار فيها: «من لم ير إشبيلية لم ير غريبة.» بل إن ما اشتهرت به في جميع إسبانيا مظاهر سرور الحياة فيها من مراقص وأفراح ومواسم وحركة البهجة الدائمة التي تنبعث من سكانها على الدوام.
جرت مناظرة بين يدي منصور بن عبد المؤمن بين العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر؛ فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه: ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية، وبهذا عرفت أن إشبيلية بلدة طرب وسرور في معظم أدوارها، ولطبيعة الإقليم دخل كبير في هذا الشأن.
في إشبيلية قصور كما في قرطبة مصايف زرتها وزرت حدائقها، وطوفت في أعطافها، وهي ملك لأناس من أغنياء البلاد تتناقل من سيد فيهم إلى سيد، ومنها ما جعل كما هو بيت بيلاتوس على الداخل إليه جعل يتقاضاه الحارس؛ ليصرف على الفقراء، كما جعلت الحكومة على كل داخل إلى معهد من معاهد العرب وغيرهم جعلًا من النقود؛ لتصرف منه على الترميم، فليس في البلاد ما يعفي الناظر إليه والزائر له من دفع النقود من متاحف وآثار إلا إذا كان بعض المغاور والحصون والسدود الخربة التي قامت في كل ناحية من أنحاء البلاد التي ظل فيها حكم العرب نافذًا دهرًا طويلًا.
كانت إشبيلية تعد من العواصم بكثرة سكانها، ولما سقطت في أيدي الأعداء هاجر من مسلميها فقط زهاء ثلاثمائة ألف مسلم إلى قرطبة وجيان وبلنسية وغرناطة؛ حيث كانت راية بني نصر تخفق، وناهيك ببلدة يهاجر من سكانها هذا العدد، وسكانها اليوم ١٤٨ ألفًا، وتعد من المدن المتجددة، وليس لها مسحة من القديم إلا ما كان من بعد عهد العرب، وقد سقطت من بعد جلائهم عنها إلى الحضيض.